[آل عمران : 135] وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
(والذين إذا فعلوا فاحشة) ذنباً قبيحاً كالزنا (أو ظلموا أنفسهم) بما دونه كالقبلة (ذكروا الله) أي وعيده (فاستغفروا لذنوبهم ومن) أي لا (يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا) يداوموا (على ما فعلوا) بل أقلعوا عنه (وهم يعلمون) أن الذي أتوه معصية
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه : "والذين إذا فعلوا فاحشة"، أن الجنة التي وصف صفتها أعدت للمتقين ، المنفقين في السراء والضراء، والذين إذا فعلوا فاحشة. وجميع هذه النعوت من صفة "المتقين"، الذين قال تعالى ذكره: "وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين"، كما:
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت البناني قال : سمعت الحسن قرأ هذه الآية : "الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين"، ثم قرأ : "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم" إلى "أجر العاملين"، فقال : إن هذين النعتين لنعت رجل واحد.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد: "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم"، قال : هذان ذنبان ، الفاحشة، ذنب، وظلموا أنفسهم ذنب.
أما الفاحشة ، فهي صفة لمتروك ، ومعنى الكلام : والذين إذا فعلوا فعلة فاحشة.
ومعنى الفاحشة، الفعلة القبيحة الخارجة عما أذن الله عز وجل فيه. وأصل الفحش: القبح ، والخروج عن الحد والمقدار في كل شيء. ومنه قيل للطويل المفرط الطول: إنه لفاحش الطول، يراد به : قبيح الطول، خارج عن المقدار المستحسن. ومنه قيل للكلام القبيح غير القصد: كلام فاحش، وقيل للمتكلم به : أفحش في كلامه، إذا نطق بفحش.
وقيل : إن الفاحشة في هذا الموضع ، معني بها الزنا.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا العباس بن عبد العظيم قال، حدثنا حبان قال، حدثنا حماد، عن ثابت، عن جابر: "والذين إذا فعلوا فاحشة"، قال: زنى القوم ورب الكعبة.
حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "والذين إذا فعلوا فاحشة"، أما الفاحشة، فالزنا.
وقوله : "أو ظلموا أنفسهم"، يعني به : فعلوا بأنفسهم غير الذي كان ينبغي لهم أن يفعلوا بها. والذي فعلوا من ذلك ، ركوبهم من معصية الله ما أوجبوا لها به عقوبته، كما:
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قوله: "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم"، قال : الظلم من الفاحشة، والفاحشة من الظلم.
وقوله: "ذكروا الله"، يعني بذلك : ذكروا وعيد الله على ما أتوا من معصيتهم إياه ، "فاستغفروا لذنوبهم"، يقول: فسألوا ربهم أن يستر عليهم ذنوبهم بصفحه لهم عن العقوبة عليها، "ومن يغفر الذنوب إلا الله"، يقول: وهل يغفر الذنوب -أي يعفو عن راكبها فيسترها عليه- إلا الله ، "ولم يصروا على ما فعلوا"، يقول: ولم يقيموا على ذنوبهم التي أتوها، ومعصيتهم التي ركبوها، "وهم يعلمون"، يقول: لم يقيموا على ذنوبهم عامدين للمقام عليها، وهم يعلمون أن الله قد تقدم بالنهي عنها، وأوعد عليها العقوبة من ركبها.
وذكر أن هذه الآية أنزلت خصوصاً بتخفيفها ويسرها أمتنا، مما كانت بنو إسرائيل ممتحنة به من عظيم البلاء في ذنوبها.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، "عن عطاء بن أبي رباح: أنهم قالوا : يا نبي الله ، بنو إسرائيل أكرم على الله منا! كانوا إذا أذنب أحدهم أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه: اجدع أذنك، اجدع أنفك، افعل! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين" إلى قوله: "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بخير من ذلك؟ فقرأ هؤلاء الآيات".
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني عمر بن أبي خليفة العبدي قال ، حدثنا علي بن زيد بن جدعان قال : قال ابن مسعود: كانت بنو إسرائيل إذا أذنبوا أصبح مكتوباً على بابه الذنب وكفارته، فأعطينا خيراً من ذلك ، هذه الآية.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا جعفر بن سليمان، عن ثابت البناني قال: لما نزلت : "ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه"، بكى إبليس فزعاً من هذه الآية.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا جعفر بن سليمان عن ثابت البناني قال: بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية: "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم"، بكى.
حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة قال ، سمعت عثمان مولى آل أبي عقيل الثقفي قال: سمعت علي بن ربيعة يحدث ، عن رجل من فزارة يقال له أسماء -و: ابن أسماء- عن علي قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً نفعني الله بما شاء أن ينفعني [منه]، فحدثني أبو بكر -وصدق أبو بكر- "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من عبد -قال شعبة: وأحسبه قال: مسلم- يذنب ذنباً، ثم يتوضأ، ثم يصلي ركعتين ، ثم يستغفر الله لذلك الذنب [إلا غفر له]"، وقال شعبة: وقرأ إحدى هاتين الآيتين: "من يعمل سوءا يجز به" [النساء: 123] "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم".
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، وحدثنا الفضل بن إسحق قال ، حدثنا وكيع ، عن مسعر وسفيان ، عن عثمان بن المغيرة الثقفي، عن علي بن ربيعة الوالبي ، عن أسماء بن الحكم الفزاري، عن علي بن أبي طالب قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدثني عنه غيره استحلفته، فإذا حلف لي صدقته . وحدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر، أنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من رجل يذنب ذنباً، ثم يتوضأ، ثم يصلي -قال أحدهما: ركعتين، وقال الآخر: ثم يصلي- ويستغفر الله، إلا غفر له".
حدثنا الزبير بن بكار قال ، حدثني سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أخيه ، عن جده ، عن علي بن أبي طالب أنه قال: ما حدثني أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سألته أن يقسم لي بالله لهو سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أبا بكر، فإنه كان لا يكذب. قال علي رضي الله عنه: فحدثني أبو بكر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من عبد يذنب ذنباً، ثم يقوم عند ذكر ذنبه فيتوضأ، ثم يصلي ركعتين ، ويستغفر الله من ذنبه ذلك، إلا غفره الله له".
وأما قوله: "ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم"، فإنه كما بينا تأويله.
وبنحو ذلك كان أهل التأويل يقولون:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثنا ابن إسحق: "والذين إذا فعلوا فاحشة"، أي : إن أتوا فاحشة، "أو ظلموا أنفسهم"، بمعصية، ذكروا نهي الله عنها، وما حرم الله عليهم ، فاستغفروا لها، وعرفوا أنه لا يغفر الذنوب إلا هو.
وأما قوله : "ومن يغفر الذنوب إلا الله"، فإن اسم "الله" مرفوع ولا جحد قبله ، وإنما يرفع ما بعد "إلا" بإتباعه ما قبله إذا كان نكرة ومعه جحد، كقول القائل: ما في الدار أحد إلا أخوك. فأما إذا قيل : قام القوم إلا أباك، فإن وجه الكلام في الأب النصب . ومن بصلته في قوله : "ومن يغفر الذنوب إلا الله"، معرفة. فإن ذلك إنما جاء رفعاً، لأن معنى الكلام: وهل يغفر الذنوب أحد، أو: ما يغفر الذنوب أحد إلا الله. فرفع ما بعد "إلا" من [اسم] الله، على تأويل الكلام لا على لفظه.
وأما قوله : "ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون"، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويل الإصرار، ومعنى هذه الكلمة.
فقال بعضهم: معنى ذلك : لم يثبتوا على ما أتوا من الذنوب ولم يقيموا عليه ، ولكنهم تابوا واستغفروا، كما وصفهم الله به.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون"، فإياكم والإصرار، فإنما هلك المصرون ، الماضون قدماً، لا تنهاهم مخافة الله عن حرام حرمه الله عليهم ، ولا يتوبون من ذنب أصابوه ، حتى أتاهم الموت وهم على ذلك.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون"، قال : قدماً قدماً في معاصي الله!! لا تنهاهم مخافة الله ، حتى جاءهم أمر الله.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق: "ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون"، أي: لم يقيموا على معصيتي ، كفعل من أشرك بي ، فيما عملوا به من كفر بي.
وقال آخرون: معنى ذلك : لم يواقعوا الذنب إذا هموا به.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: "ولم يصروا على ما فعلوا"، قال : إتيان العبد ذنباً إصرار، حتى يتوب.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: "ولم يصروا على ما فعلوا"، قال: لم يواقعوا.
وقال آخرون: معنى الإصرار، السكوت على الذنب وترك الاستغفار.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي: "ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون"، أما "يصروا" فيسكتوا ولا يستغفروا.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا، قول من قال: الإصرار، الإقامة على الذنب عامداً، وترك التوبة منه. ولا معنى لقول من قال: الإصرار على الذنب هو مواقعته، لأن الله عز وجل مدح بترك الإصرار على الذنب مواقع الذنب ، فقال: "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون"، ولو كان المواقع الذنب مصراً بمواقعته إياه ، لم يكن للاستغفار وجه مفهوم. لأن الاستغفار من الذنب إنما هو التوبة منه والندم، ولا يعرف للاستغفار من ذنب لم يواقعه صاحبه ، وجه.
وقد روي "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة".
حدثني بذلك الحسين بن يزيد السبيعي قال ، حدثنا عبد الحميد الحماني، عن عثمان بن واقد، عن أبي نصيرة، عن مولى لأبي بكر، عن أبي بكر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلو كان مواقع الذنب مصراً، لم يكن لقوله: "ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة"، معنى. لأن مواقعة الذنب إذا كانت هي الإصرار، فلا يزيل الاسم الذي لزمه معنى غيره ، كما لا يزيل عن الزاني اسم زان وعن القاتل اسم قاتل، توبته منه ، ولا معنى غيرها. وقد أبان هذا الخبر أن المستغفر من ذنبه غير مصر عليه ، فمعلوم بذلك أن الإصرار غير المواقعة، وأنه المقام عليه ، على ما قلنا قبل.
واختلف أهل التأويل، في تأويل قوله : "وهم يعلمون". فقال بعضهم : معناه : وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: أما "وهم يعلمون"، فيعلمون أنهم قد أذنبوا ، ثم أقاموا فلم يستغفروا.
وقال آخرون: معنى ذلك : وهم يعلمون أن الذي أتوا معصية لله.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق: "وهم يعلمون"، قال: يعلمون ما حرمت عليهم من عبادة غيري.
قال أبو جعفر: وقد تقدم بياننا أولى ذلك بالصواب.
قوله تعالى:" والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم" ذكر الله تعالى في هذه الآية صنفاً، هم دون الصنف الأول فألحقهم به برحمته ومنه، فهؤلاء هم التوابون. قال ابن عباس في رواية عطاء:
نزلت هذه الآية فين نبهان التمار-وكنيته أبو مقبل- أتته امرأة حسناء باع منها تمراً، فضمها إلى نفسه وقبلها فندم على ذلك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فنزلت هذه الآية. وذكر أبو داود الطيالسي في مسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: حدثني أبو بكر- وصدق ابو بكر-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(ما من عبد يذنب ذنباً ثم يتوضأ ويصلى ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر له-ثم تلا هذه الآية- والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم-الآية، والآية الأخرى- ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه). وخرجه الترمذي وقال: حديث حسن. وهذا عام. وقد تنزل الآية بسبب خاص ثم تتناول جميع من فعل ذلك أو أكثر منه. وقد قيل: إن سبب نزولها:
أن ثقفياً خرج في غزاة وخلف صاحباً له أنصارياً على أهله، فخانه فيها بأن اقتحم عليها فدافعت عن نفسها فقبل يدها، فندم على ذلك فخرج يسيح في الأرض نادماً تائباً، فجاء الثقفي فأخبرته زوجته بفعل صاحبه، فخرج في طلبه فأتى به إلى أبي بكر وعمر رجاء أن يجد عندهما فرجاً فوبخاه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بفعله، فنزلت هذه الآية. والعموم أولى للحديث. وروي عن ابن مسعود أن الصاحبة قالوا:
يا رسول الله، كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا، حيث كان المذنب منهم تبصبح عقوبته مكتوبة على باب داره، وفي رواية: كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة داره: اجدع أنفك، اقطع أذنك، افعل كذا، فأنزل الله تعالى هذه الآية توسعة ورحمة وعوضاً من ذلك الفعل ببني إسرائيل.
ويروى: أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية. والفاحشة تطلق على معصية، وقد كثر اختصاصها بالزنا حتى فسر جابر بن عبدالله والسدي هذه الآية بالزنا. و(أو) في قوله " أو ظلموا أنفسهم" قيل هي بمعنى الواو، والمراد ما دون الكبائر. "ذكروا الله" معناه بالخوف من عقابه والحياء منه. الضحاك: ذكروا العرض الأكبر على الله. وقيل تفكروا أن الله سائلهم عنه، قاله الكلبي ومقاتل. وعن مقاتل أيضاً: ذكروا الله باللسان عند الذنوب. " فاستغفروا لذنوبهم" أي طلبوا الغفران لأجل ذنوبهم. وكل دعاء فيه هذا المعنى أو لفظة فهو استغفار. وقد تقدم في صدر هذه السورة سيد الاستغفار، وأن وقته الأسحار. فالاستغفار عظيم وثوابه جسيم، حتى لقد روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
( من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان قد فر من الزحف). وروى مكحول عن أبي هريرة قال:
ما رأيت أكثر استغفاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال مكحول: ما رأيت أكثر استغفاراً من أبي هريرة. وكان مكحول كثير الاستغفار. قال علماؤنا: الاسغفار المطلوب هو الذي يحل عقد الإصرار ويثبت معناه في الجنان، لا التلفظ باللسان. فأما من قال بلسانه: أستغفر الله، وقلبه مصر على معصيته فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار، وصغيرته لاحقة بالكبائر. وروي عن الحسن البصري أنه قال: استغفارنا يحتاج إلى استغفار.
قلت: هذا يقوله في زمانه، فكيف في زماننا هذا الذي يرى فيه الإنسان مكباً على الظلم! حريصاً عليه لا يقلع، والسبحة في يده زاعماً أنه يستغفر من ذنبه وذلك استهزاء منه واستخفاف. وفي التنزيل" ولا تتخذوا آيات الله هزوا" [البقرة:231]. وقد تقدم.
الثانية: قوله تعالى: " ومن يغفر الذنوب إلا الله" أي ليس أحد يغفر المعصية ولا يزيل عقوبتها إلا الله. " ولم يصروا" أي ولم يثبتوا ويعزموا على ما فعلوا. وقال مجاهد: أي ولم يمضوا. وقال معبد بن صبيح: صليت خلف عثمان وعلي إلى جانبي، فأقبل علينا فقال: صليت بغير وضوء ثم ذهب فتوضأ وصلى." ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون" الإصرار هو العزم بالقلب على الأمر وترك الإقلاع عنه. ومنه صر الدنانير أي الربط عليها، قال الحطيئة يصف الخيل:
عوابس بالشعث الكماة إذا ابتغوا علالتها بالمحصدات أصرت
أي ثبتت على عدوها. وقال قتادة: الإصرار الثبوت على المعاصي، قال الشاعر:
يصر بالليل ما تخفي شواكله يا ويح كل مصر القلب ختار
قال سهل بن عبدالله: الجاهل ميت، والناسي نائم، والعاصي سكران، والمصر هالك، والإصرار هو التسويف، والتسويف أن يقول: أتوب غداً، وهذا دعوى النفس، كيف يتوب غداً وغداً لا يملكه! وقال غير سهل: الإصرار هو أن ينوي ألا يتوب فإذا نوى التوبة النصوح خرج عن الإصرار. وقول سهل أحسن. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لاتوبة مع إصرار).
الثالثة: قال علماؤنا: الباعث على التوبة وحل الإصرار إدامة الفكر في كتاب الله العزيز الغفار، وما ذكره الله سبحانه من تفاصيل الجنة ووعد به المطيعين، وما وصفه من عذاب النار وتهدد به العاصين، ودام على ذلك حتى قوي خوفه ورجاؤه فدعا الله رغباً الموفق للصواب. وقد قيل: إن الباعث على ذلك تنبيه إلهي ينبه به من أراد سعادته، لقبح الذنوب وضررها إذ هي سموم مهلكة.
قلت: وهذا خلاف في اللفظ لا في المعنى، فإن الإنسان لايتفكر في وعد الله ووعيده إلا بتنبيهه، فإذا نظر العبد بتوفيق الله تعالى إلى نفسه فوجدها مشحونة بذنوب اكتسبها وسيئات اقترفها، وانبعث منه الندم ما فرط، وترك مثل ما سبق مخافة عقوبة الله تعالى صدق عليه أنه تائب، فإن لم يكن كذلك كان مصراً على المعصية وملازماً لأسباب الهلكة. قال سهل بن عبدالله: علامة التائب أن يشغله الذنب على الطعام والشراب: كالثلاثة الذين خلفوا.
الرابعة: قوله تعالى:" وهم يعلمون" فيه أقوال. فقيل: أي يذكرون ذنوبهم فيتوبون منها. قال النحاس: وهذا قول حسن. وقيل:" وهم يعلمون" أني أعاقب على الإصرار. وقال عبدالله بن عبيد بن عمير" وهم يعلمون" أنهم إن تابوا تاب الله عليهم. وقيل:(يعلمون) أنهم إن استغفروا غفر لهم. وقيل: (يعلمون) بما حرمت عليهم، قاله ابن اسحاق. وقال ابن عباس والحسن ومقاتل والكلبي: "وهم يعلمون" أن الإصرار ضار، وأن تركه خير من التمادي. وقال الحسن بن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال:
(أذنب عبد ذنباً فقال اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي- فذكر مثله مرتين، وفي آخره: اعمل ما شئت فقد غفرت لك). أخرجه مسلم. وفيه دليل على صحة التوبة من نقصها بمعاودة الذنب، لأن التوبة الأولى طاعة وقد انقضت وصحت، وهو محتاج بعد مواقعة الذنب الثاني إلى توبة أخرى مستأنفة، والعود إلى الذنب إن كان أقبح من ابتدائه، لأنه أضاف إلى الذنب نقض التوبة، فالعود إلى التوبة أحسن من ابتدائها، لأنه أضاف إليها ملازمة الإلحاح بباب الكريم، وأنه لا غافر للذنوب سواه. وقوله في آخر الحديث(اعمل ماشئت) أمر معناه الإكارم في أحد الأقوال، فيكون من باب قوله:" ادخلوها بسلام" [الحجر:46] وآخر الكلام خبر عن حال المخاطب بأنه مغفور له ما سلف من ذنبه، ومحفوظ إن شاء الله تعالى فيما يستقبل من شأنه. ودلت الآية والحديث على عظيم فائدة الاعتراف بالذنب والاستغفار منه، قال صلى الله عليه وسلم :
(إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه). أخرجاه في الصحيحين. وقال:
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف بما جنى من الذنوب واقترف
وقال آخر:
أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزه إن الجحود جحود الذنب ذنبان
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم). وهذه فائدة اسم الله تعالى الغفار والتواب، على ما بيناه في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى.
الخامسة: الذنوب التي يتاب منهاإما كفر أوغيره، فتوبة الكافر إيمانه مع ندمه على ما سلف من كفره، وليس مجرد الإيمان نفس توبة، وغير الكفر إما حق لله تعالى، وإما حق لغيره، فحق الله تعالى يكفي في التوبة من الترك، غيرأن منها ما لم يكتف الشرع فيها بمجرد الترك بل أضاف إلى ذلك في بعضها قضاء كالصلاة والصوم، ومنها ما أضاف إليها كفارة كالحنث في الأيمان والظهار وغير ذلك، وأما حقوق الآدميين فلا بد ما عليه لإعسار فعفو الله مأمول، وفضله مبذول، فكم ضمن من التبعات وبدل من السيئات بالحسنات. وستأتي زيادة بيان لهذا المعنى.
السادسة - ليس على الإنسان إذا لم يذكر ويعلمه ان يتوب منه بعينه، ولكن يلزمه إذا ذكر ذنباً تاب منه. وقد تأول كثير من الناس فيما ذكر شيخنا أبو محمد عبدالمعطي الأسكندارني رضي الله عنه ان الإمام المحاسبي رحمه الله يرى أن التوبة من أجناس المعاصي لاتصح، وأن الندم على جملتها لا يكفي، بل لا بد ان يتوب من كل فعل بجارحته وكل عقد بقلبه على التعيين. ظنوا ذلك من قوله، وليس هذا مراده، ولا يقتضيه كلامه، بل حكم المكلف إذا عرف حكم أفعاله، وعرف المعصية من غيرها، صحت منه التوبة من جملة ما عرف، فإنه أن لم يعرف كون فعله الماضي معصية لا يمكنه أن يتوب منه لا على الجملة ولا على التفصيل، ومثاله رجل يتعاطى باباً من أبواب الربا ولا يعرف أنه ربا فإذا سمع كلام الله عز وجل:" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله " [البقرة:288-279]. عظم عليه هذا التهديد، وظن انه سالم من الربا، فإذا علم حقيقة الربا الآن، ثم تفكر فيما مضى من أيامه وعلم أنه لابس منه شيئاً كثيراً في أوقات متقدمة، صح أن يندم عليه الآن جملة، ولا يلزمه تعيين أوقاته، وهكذا كل ما واقع من الذنوب والسيئات كالغيبة والنميمة وغير ذلك من المحرمات التي لم يعرف كونها محرمة، فإذا فقه العبد وتفقد ما مضى من كلامه تاب من ذلك جملة، وندم على ما فرط فيه من حق الله تعالى، وإذا استحل من كان ظلمه فحالله على الجملة وطابت نفسه بترك حقه جاز، لأنه من باب هبة المجهول، هذا مع شح العبد وحرصه على طلب حقه، فكيف بأكرم الأكرمين المتفضل بالطاعات وأسبابها والعفو عن المعاصي صغارها وكبارها. قال شيخنا رحمه الله تعالى: هذا مراد الإمام، والذي يدل عليه كلامه لمن تفقده، وما ظنه به الظان من أنه لا يصح الندم إلا على فعل فعل وحركة حركة وسكنة سكنة على التعيين هو من بال تكليف ما لا يطاق، الذي لم يقع شرعاً وإن جاز عقلاً، ويلزم عنه أن يعرف كم جرعة جرعها في شرب الخمر، وكم حركة تحركها في الزنا، وكم خطوة مشاها إلى محرم، وهذا ما لا يطيعه أحد، ولا تتأتى منه توبة على التفصيل. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان من أحكام التوبة شروطها في (النساء) وغيرها إن شاء الله تعالى.
السابعة: في قوله تعالى:" ولم يصروا" حجة واضحة ودلالة قاطعة لما قاله سيف السنة، ولسان الأمة القاضي أبو بكر بن الطيب: إن الإنسان يؤاخذ بما وطن عليه بضميره، وعزم عليه بقلبه من المعصية.
قلت: وفي التنزيل " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم"[الحج:25] وقال" فأصبحت كالصريم". فعوقبوا قيل فعلهم بعزمهم وسيأتي بيانه. وفي البخاري:
(إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار(قالوا: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: (إنه كان حريصاً على قتل صاحبه). فعلق الوعيد على الحرص وهو العزم وألغى إظهار السلاح، وأنص من هذا ما خرجه الترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري وصححه مرفوعاً:
(إنما الدنيا لأربعة نفر: رجل أعطاه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقاً فهذا بأفضل المنازل، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو صادق النية يقول لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان فهو نيته فأجرهما سواء، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي في ربه ولايصل به رحمه ولا يعلم لله فيه حقاً فهذا بأخبث المنازل، ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علماً فهو يقول لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان فهو نيته فوزرهما سواء). وهذا الذي صار إليه القاضي هو الذي عليه عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، ولايلتفت إلى خلاف من زعم ان ما يهم الإنسان به وإن وطن عليه لا يؤاخذ به. ولا حجة له في قوله عليه السلام:
(من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه فإن عملها كتبت سيئة واحدة). لأن معنى (فلم يعملها) فلم يعزم على عملها بدليل ما ذكرنا، ومعنى (فإن عملها) أي أظهرها أو عزم عليها بدليل ما وصفنا. وبالله توفيقنا.
يقول تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافاً مضاعفة كما كانوا في الجاهلية يقولون: إذا حل أجل الدين, إما أن تقضي وإما أن تربي, فإن قضاه, وإلا زاده في المدة, وزاده الاخر في القدر, وهكذا كل عام فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيراً مضاعفاً, وأمر تعالى عباده بالتقوى لعلهم يفلحون في الأولى والأخرى, ثم توعدهم بالنار وحذرهم منها, فقال تعالى: " واتقوا النار التي أعدت للكافرين * وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون "ثم ندبهم إلى المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة إلى نيل القربات, فقال تعالى: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين" أي كما أعدت النار للكافرين, وقد قيل إن معنى قوله "عرضها السموات والأرض" تنبيهاً على اتساع طولها, كما قال في صفة فرش الجنة "بطائنها من إستبرق" أي فما ظنك بالظهائر ؟, وقيل: بل عرضها كطولها لأنها قبة تحت العرش, والشيء المقبب والمستدير عرضه كطوله, وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح "إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة وسقفها عرش الرحمن" وهذه الاية كقوله تعالى في سورة الحديد "سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض" الاية, وقد روينا في مسند الإمام أحمد " أن هرقل كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنك دعوتني إلى جنة عرضها السموات والأرض, فأين النار ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار ؟" وقد رواه ابن جرير فقال: حدثني يونس , أنبأنا ابن وهب , أخبرني مسلم بن خالد عن أبي خثيم , عن سعيد بن أبي راشد , عن يعلى بن مرة , قال: " لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص شيخاً كبيراً قد فسد, فقال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل فناول الصحيفة رجلاً عن يساره, قال: قلت: من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا: معاوية , فإذا كتاب صاحبي: إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين, فأين النار ؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحان الله, فأين الليل إذا جاء النهار ؟" وقال الأعمش وسفيان الثوري وشعبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب : إن ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن جنة عرضها السموات والأرض, فأين النار ؟ فقال لهم عمر : أرأيتم إذا جاء النهار أين الليل ؟ وإذا جاء الليل أين النهار ؟ فقالوا: لقد نزعت مثلها من التوراة, رواه ابن جرير من ثلاثة طرق, ثم قال: حدثنا أحمد بن حازم , حدثنا أبو نعيم , حدثنا جعفر بن برقان , أنبأنا يزيد بن الأصم : أن رجلاً من أهل الكتاب قال: يقولون "جنة عرضها السموات والأرض" فأين النار ؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه: أين يكون الليل إذا جاء النهار, وأين يكون النهار إذا جاء الليل ؟ وقد روي هذا مرفوعاً, فقال البزار : حدثنا محمد بن معمر , حدثنا المغيرة بن سلمة أبو هشام , حدثنا عبد الواحد بن زياد عن عبيد الله بن عبد الله بن الأصم , عن عمه يزيد بن الأصم , عن أبي هريرة , قال: " جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: أرأيت قوله تعالى: "جنة عرضها السموات والأرض" فأين النار ؟ قال: أرأيت الليل إذا جاء لبس كل شيء, فأين النهار ؟ قال: حيث شاء الله, قال وكذلك النار تكون حيث شاء الله عز وجل" وهذا يحتمل معنيين (أحدهما) أن يكون المعنى في ذلك أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار أن لا يكون في مكان, وإن كنا لا نعلمه, وكذلك النار تكون حيث يشاء الله عز وجل, وهذا أظهر كما تقدم في حديث أبي هريرة عن البزار .
(الثاني) أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب, فإن الليل يكون من الجانب الاخر, فكذلك الجنة في أعلى عليين فوق السموات تحت العرش وعرضها, كما قال الله عز وجل "كعرض السماء والأرض" والنار في أسفل سافلين فلا تنافي بين كونها كعرض السموات والأرض وبين وجود النار, والله أعلم.
ثم ذكر تعالى صفة أهل الجنة فقال "الذين ينفقون في السراء والضراء" أي في الشدة والرخاء والمنشط والمكره والصحة والمرض وفي جميع الأحوال, كما قال "الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية" والمعنى أنهم لا يشغلهم أمر عن طاعة الله تعالى والإنفاق في مراضيه. والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البر. وقوله تعالى: "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس" أي إذا ثار بهم الغيظ كظموه بمعنى كتموه فلم يعملوه, وعفوا مع ذلك عمن أساء إليهم. وقد ورد في بعض الاثار " يقول الله تعالى: يا ابن آدم اذكرني إذا غضبت, أذكرك إذا غضبت فلا أهلكك فيمن أهلك", رواه ابن أبي حاتم , وقد قال أبو يعلى في مسنده: حدثنا أبو موسى الزمن, حدثنا عيسى بن شعيب الضرير أبو الفضل , حدثني الربيع بن سليمان الجيزي عن أبي عمرو بن أنس بن مالك , عن أبيه , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كف غضبه, كف الله عنه عذابه, ومن خزن لسانه, ستر الله عورته, ومن اعتذر إلى الله, قبل الله عذره " وهذا حديث غريب, وفي إسناده نظر, وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن , حدثنا مالك عن الزهري , عن سعيد بن المسيب , عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ليس الشديد بالصرعة, ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" وقد رواه الشيخان من حديث مالك . وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو معاوية , حدثنا الأعمش عن إبراهيم التيمي , عن الحارث بن سويد , عن عبد الله وهو ابن مسعود رضي الله عنه, قال: قال رسول الله "أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله قال: قالوا: يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه, قال اعلموا أنه ليس منكم أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله, مالك من مالك إلا ما قدمت, ومال وارثك ما أخرت قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تعدون الصرعة فيكم ؟ قلنا: الذي لا تصرعه الرجال. قال لا ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تعدون فيكم الرقوب ؟ قلنا: الذي لا ولد له. قال لا, ولكن الرقوب الذي لم يقدم من ولده شيئاً" أخرج البخاري الفصل الأول منه, وأخرج مسلم أصل هذا الحديث, من رواية الأعمش به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر , حدثنا شعبة سمعت عروة بن عبد الله الجعفي يحدث عن حصبة أو ابن أبي حصين , عن رجل شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب, فقال " تدرون ما الرقوب ؟ قلنا: الذي لا ولد له, قال الرقوب كل الرقوب الذي له ولد فمات ولم يقدم منهم شيئاً قال تدرون ما الصعلوك ؟ قالوا: الذي ليس له مال, فقال النبي صلى الله عليه وسلم الصعلوك كل الصعلوك الذي له مال فمات ولم يقدم منه شيئاً قال: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم ما الصرعة ؟ قالوا: الصريع قال فقال صلى الله عليه وسلم الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ويقشعر شعره فيصرع غضبه".
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير , حدثنا هشام بن عروة عن أبيه , عن الأحنف بن قيس , عن عم له يقال له جارية بن قدامة السعدي , " أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله, قل لي قولاً ينفعني وأقلل علي لعلي أعيه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تغضب فأعاد عليه حتى أعاد عليه مراراً كل ذلك يقول لا تغضب", وهكذا رواه عن أبي معاوية عن هشام به, ورواه أيضاً عن يحيى بن سعيد القطان عن هشام به, " أن رجلاً قال: يا رسول الله, قل لي قولاً وأقلل علي لعلي أعقله, فقال لا تغضب" الحديث, انفرد به أحمد .
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق , أنبأنا معمر عن الزهري , عن حميد بن عبد الرحمن , " عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رجل: يا رسول الله أوصني, قال: لا تغضب. قال الرجل: ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال, فإذا الغضب يجمع الشر كله " , انفرد به أحمد .
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية , حدثنا داود بن أبي هند , عن أبي ابن حرب بن أبي الأسود , عن أبي الأسود , عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كان يسقي على حوض له فجاء قوم فقالوا: أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه ؟ فقال رجل: أنا, فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقه, وكان أبو ذر قائماً فجلس ثم اضطجع فقيل له: يا أبا ذر لم جلست ثم اضطجعت, فقال: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس, فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع", ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل بإسناده إلا أنه وقع في روايته عن أبي حرب عن أبي ذر , والصحيح ابن أبي حرب عن أبيه عن أبي ذر , كما رواه عبد الله بن أحمد عن أبيه .
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن خالد , حدثنا أبو وائل الصنعاني , قال: كنا جلوساً عند عروة بن محمد إذ دخل عليه رجل فكلمه بكلام أغضبه, فلما أن أغضبه قام ثم عاد إلينا وقد توضأ, فقال: حدثني أبي عن جدي عطية هو ابن سعد السعدي ـ وقد كانت له صحبة ـ قال: " قال رسول الله إن الغضب من الشيطان, وإن الشيطان خلق من النار, وإنما تطفأ النار بالماء فإذا أغضب أحدكم فليتوضأ". وهكذا رواه أبو داود من حديث إبراهيم بن خالد الصنعاني عن أبي وائل القاص المرادي الصنعاني , قال أبو داود : أراه عبد الله بن بحير .
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد , حدثنا نوح بن جعونة السلمي , عن مقاتل بن حيان , عن عطاء , عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنظر معسراً أو وضع له, وقاه الله من فيح جهنم, ألا إن عمل الجنة حزن بربوة ـ ثلاثاً ـ ألا إن عمل النار سهل بسهوة. والسعيد من وقي الفتن, وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد ما كظمها عبد لله إلا ملأ جوفه إيماناً " , انفرد به أحمد , وإسناده حسن ليس فيه مجروح, ومتنه حسن.
(حديث آخر في معناه) ـ قال أبو داود : حدثنا عقبة بن مكرم , حدثنا عبد الرحمن يعني ابن مهدي عن بشر يعني ابن منصور , عن محمد بن عجلان , عن سويد بن وهب , عن رجل من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, عن أبيه, قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه, ملأه الله أمناً وإيماناً, ومن ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر عليه ـ قال بشر: أحسبه قال: تواضعاً ـ كساه الله حلة الكرامة ومن زوج لله كساه الله تاج الملك".
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد قال: حدثنا سعيد , حدثني أبو مرحوم عن سهل بن معاذ بن أنس , عن أبيه " أن رسول الله قال من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء" ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث سعيد بن أبي أيوب به, وقال الترمذي : حسن غريب.
(حديث آخر) ـ قال عبد الرزاق : أنبأنا داود بن قيس عن زيد بن أسلم , عن رجل من أهل الشام يقال له عبد الجليل , عن عم له, عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله تعالى: "والكاظمين الغيظ" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمناً وإيماناً" رواه ابن جرير .
(حديث آخر) ـ قال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن محمد بن زياد , أنبأنا يحيى بن أبي طالب , أنبأنا علي بن عاصم , أخبرني يونس بن عبيد عن الحسن , عن ابن عمر رضي الله عنهما, قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تجرع عبد من جرعة أفضل أجراً من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله" وكذا رواه ابن ماجه عن بشر بن عمر , عن حماد بن سلمة , عن يونس بن عبيد به, فقوله تعالى: "والكاظمين الغيظ" أي لا يعملون غضبهم في الناس بل يكفون عنهم شرهم, ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل. ثم قال تعالى: "والعافين عن الناس" أي مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد, وهذا أكمل الأحوال, ولهذا قال "والله يحب المحسنين" فهذا من مقامات الإحسان, وفي الحديث "ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة, وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً, ومن تواضع لله رفعه الله", وروى الحاكم في مستدركه من حديث موسى بن عقبة عن إسحاق بن يحيى بن طلحة القرشي , عن عبادة بن الصامت , عن أبي بن كعب أن رسول الله, " قال: من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات, فليعف عمن ظلمه, ويعط من حرمه, ويصل من قطعه " ثم قال: صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه وقد أورده ابن مردويه من حديث علي وكعب بن عجرة وأبي هريرة وأم سلمة رضي الله عنهم بنحو ذلك. وروي عن طريق الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم القيامة نادى مناد يقول: أين العافون عن الناس ؟ هلموا إلى ربكم وخذوا أجوركم, وحق على كل امريء مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة" وقوله تعالى: "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم" أي إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار. قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد , حدثنا همام بن يحيى عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة , عن عبد الرحمن بن أبي عمرة , عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم " قال إن رجلاً أذنب ذنباً فقال: رب إني أذنبت ذنباً فاغفره, فقال الله عز وجل: عبدي عمل ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به, قد غفرت لعبدي, ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب إني عملت ذنباً فاغفره, فقال تبارك وتعالى: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به, قد غفرت لعبدي, ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب إني عملت ذنباً فاغفره لي, فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب, إني عملت ذنباً فاغفره, فقال عز وجل: عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به, أشهدكم أني قد غفرت لعبدي فليعمل ماشاء". أخرجه في الصحيح من حديث إسحاق بن أبي طلحة بنحوه.
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر وأبو عامر , قالا: حدثنا زهير , حدثنا سعد الطائي , حدثنا أبو المدله مولى أم المؤمنين, سمع أبا هريرة , قلنا: " يا رسول الله, إذا رأيناك رقت قلوبنا, وكنا من أهل الاخرة, وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا, وشممنا النساء والأولاد, فقال لو أنكم تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم, ولزارتكم في بيوتكم. ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم. قلنا: يا رسول الله, حدثنا عن الجنة ما بناؤها ؟ قال لبنة ذهب ولبنة فضة, وملاطها المسك الأذفر, وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت, وترابها الزعفران, من يدخلها ينعم ولا يبأس, ويخلد ولا يموت لا تبلى ثيابه, ولا يفنى شبابه, ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل, والصائم حتى يفطر, ودعوة المظلوم تحمل على الغمام وتفتح لها أبواب السماء, ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين", ورواه الترمذي وابن ماجه من وجه آخر من حديث سعد به, ويتأكد الوضوء وصلاة ركعتين عند التوبة لما رواه الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا وكيع , حدثنا مسعر وسفيان الثوري عن عثمان بن المغبرة الثقفي , عن علي بن ربيعة , عن أسماء بن الحكم الفزاري عن علي رضي الله عنه, قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً, نفعني الله بما شاء منه. وإذا حدثني عنه غيره استحلفته, فإذا حلف لي صدقته, وإن أبا بكر رضي الله عنه حدثني ـ وصدق أبو بكر ـ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم, " قال ما من رجل يذنب ذنباً فيتوضأ فيحسن الوضوء ـ قال مسعر ـ فيصلي ـ وقال سفيان ـ ثم يصلي ركعتين, فيستغفر الله عز وجل إلا غفر له " وهكذا رواه علي بن المديني والحميدي وأبو بكر بن أبي شيبة وأهل السنن و ابن حبان في صحيحه و البزار والدارقطني من طرق عن عثمان بن المغيرة به, وقال الترمذي : هو حديث حسن, وقد ذكرنا طرقه, والكلام عليه مستقصى في مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه, وبالجملة فهو حديث حسن, وهو من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن خليفة النبي أبي بكر الصديق رضي الله عنهما. ومما يشهد بصحة هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ ـ أو فيسبغ ـ الوضوء, ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية, يدخل من أيها شاء" وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه توضأ لهم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم, ثم قال: " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه, غفر له ما تقدم من ذنبه" فقد ثبت هذا الحديث من رواية الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين, عن سيد الأولين والاخرين, ورسول رب العالمين, كما دل عليه الكتاب المبين, من أن الاستغفار من الذنب ينفع العاصين, وقد قال عبد الرزاق : أنبأنا جعفر بن سليمان عن ثابت , عن أنس بن مالك رضي الله عنه, قال: بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الاية "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم" الاية, بكى. وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محرز بن عون , حدثنا عثمان بن مطر , حدثنا عبد الغفور عن أبي نصيرة , عن أبي رجاء , عن أبي بكر رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم, " قال عليكم بلا إله إلا الله, والاستغفار, فأكثروا منهما, فإن إبليس قال: أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار, فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء, فهم يحسبون أنهم مهتدون " عثمان بن مطر وشيخه ضعيفان. وروى الإمام أحمد في مسنده من طريق عمرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العتواري عن أبي سعيد , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "قال إبليس: يا رب وعزتك لا أزال أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم, فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني". وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثنى , حدثنا عمر بن أبي خليفة , سمعت أبا بدر يحدث عن ثابت , عن أنس , قال: " جاء رجل فقال: يا رسول الله, أذنبت ذنباً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أذنبت فاستغفر ربك. قال: فإني أستغفر ثم أعود فأذنب قال: فإذا أذنبت فعد فاستغفر ربك, فقالها في الرابعة استغفر ربك حتى يكون الشيطان هو المحسور" وهذا حديث غريب من هذا الوجه. وقوله تعالى: "ومن يغفر الذنوب إلا الله" أي لا يغفرها أحد سواه, كما قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن مصعب , حدثنا سلام بن مسكين والمبارك عن الحسن عن الأسود بن سريع " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بأسير, فقال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عرف الحق لأهله" وقوله "ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون" أي تابوا من ذنوبهم ورجعوا إلى الله عن قريب, ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقلعين عنها, ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه, كما قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل وغيره, قالوا: حدثنا أبو يحيى عبد الحميد الحماني عن عثمان بن واقد , عن أبي نصيرة , عن مولى لأبي بكر, عن أبي بكر رضي الله عنه, قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة" ورواه أبو داود والترمذي والبزار في مسنده من حديث عثمان بن واقد ـ وقد وثقه يحيى بن معين به ـ وشيخه أبو نصيرة الواسطي واسمه مسلم بن عبيد , وثقه الإمام أحمد وابن حبان , وقول علي بن المديني والترمذي : ليس إسناد هذا الحديث بذاك, فالظاهر أنه لأجل جهالة مولى أبي بكر , ولكن جهالة مثله لا تضر لأنه تابعي كبير, ويكفيه نسبته إلى أبي بكر , فهو حديث حسن, والله أعلم. وقوله "وهم يعلمون" قال مجاهد وعبد الله بن عبيد بن عمير "وهم يعلمون" أن من تاب تاب الله عليه, وهذا كقوله تعالى: "ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده" وكقوله "ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً" ونظائر هذا كثيرة جداً. وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد , أنبأنا جرير , حدثنا حبان هو ابن زيد الشرعبي عن عبد الله بن عمرو , عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه قال وهو على المنبر ارحموا ترحموا, واغفروا يغفر لكم, ويل لأقماع القول, ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون" تفرد به أحمد . ثم قال تعالى بعد وصفهم بما وصفهم به "أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم" أي جزاؤهم على هذه الصفات "مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار" أي من أنواع المشروبات "خالدين فيها" أي ماكثين فيها "ونعم أجر العاملين" يمدح تعالى الجنة.
قوله 135- "والذين إذا فعلوا فاحشة" هذا مبتدأ وخبره "أولئك" وقيل: معطوف على المتقين. والأول أولى، وهؤلاء هم صنف دون الصنف الأول ملحقين بهم وهم التوابون، وسيأتي ذكر سبب نزولها، والفاحشة وصف لموصوف محذوف: أي فعلة فاحشة وهي تطلق على كل معصية. وقد كثر اختصاصها بالزنا. وقوله "أو ظلموا أنفسهم" أي: باقتراف ذنب من الذنوب، وقيل: أو بمعنى الواو. والمراد ما ذكر، وقيل: الفاحشة الكبيرة، وظلم النفس الصغيرة، وقيل غير ذلك. قوله "ذكروا الله" أي: بألسنتهم أو أخطروه في قلوبهم أو ذكروا وعده ووعيده " فاستغفروا لذنوبهم " أي: طلبوا المغفرة لها من الله سبحانه، وتفسيره بالتوبة خلاف معناه لغة، وفي الاستفهام بقوله "ومن يغفر الذنوب إلا الله" من الإنكار مع ما يتضمنه من الدلالة على أنه المختص بذلك سبحانه دون غيره: أي لا يغفر جنس الذنوب أحد إلا الله، وفيه ترغيب لطلب المغفرة منه سبحانه وتنشيط للمذنبين أن يقفوا في مواقف الخضوع والتذلل، وهذه الجملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه. وقوله "ولم يصروا على ما فعلوا" عطف على فاستغفروا: أي لم يقيموا على قبيح فعلهم. وقد تقدم تفسير الإصرار. والمراد به هنا العزم على معاودة الذنب وعدم الإقلاع عنه بالتوبة منه. وقوله "وهم يعلمون" جملة حالية: أي لم يصروا على فعلهم عالمين بقبحه.
135-قوله تعالى: " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم" الآية قال ابن مسعود: قال المؤمنون :يارسول الله كانت بنو اسرائيل أكرم على الله منا ، كان أحدهم إذا أذنب أصبحت كفارة ذنبة مكتوبة في عتبة بابه، اجدع أنفك وأذنك ،أفعل كذا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال عطاء : نزلت في نبهان التمار، وكنيته ابو معبد ، أتته امرأة حسناء ، تبتاع منه تمراً فقال لها ان هذا التمر ليس بجيد، وفي البيت أجود منه، فذهب بها الى بيته فضمها الى نفسه وقبلها ، فقالت له :اتق الله ، فتركها وندم على ذلك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له ، فنزلت هذه الآية.
وقال مقاتلوالكلبي :آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين أحدهما من الأنصار والآخر من ثقيف فخرج الثقفي في غزاة واستخلف الأنصاري على أهله فاشترى لهم اللحم ذات يوم ، فلما أرادت المرأة أن تأخذ منه دخل على أثرها وقبل يدها، ثم ندم وانصرف ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه ، فلما رجع الثقفي لم يستقبله الأنصاري فسأل امرأته عن حالة ، فقالت : لا أكثر الله في الإخوان مثله ووصفت له الحال، والأنصاري يسيح في الجبال تائباً مستغفراً، فطلبه الثقفي حتى وجده فأتى به أبا بكر رجاء ان يجد عنده راحة وفرجاً.فقال الأنصاري : هلكت: وذكر له القصة ، فقال ابو بكر : ويحك أما علمت ان الله تعالى يغار للغازي مالا يغار للمقيم ، ثم أتيا عمر رضي الله عنه فقال مثل ذلك ، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مثل مقاتلهما ،فأنزل الله تعالى هذه الآية " والذين إذا فعلوا فاحشة " يعني: قبيحة خارجة عما أذن الله تعالى له فيه ، وأصل الفحش القبح والخروج عن الحد ، قال جابر : الفاحشة الزنا.
"أو ظلموا أنفسهم" مادون الزنا من القبلة والمعانقة والنظر واللمس.
وقال مقاتلوالكلبي : الفاحشة ما دون الزنا من قبلة او لمسة او نظرة فيما لايحل او ظلموا انفسهم بالمعصية.
وقيل: فعلوا فاحشة بالكبائر، او ظلموا أنفسهم بالصغائر.
وقيل: فعلوا فاحشة فعلاً او ظلموا أنفسهم قولاً.
"ذكروا الله " أي : ذكروا وعيد الله ، وأن الله سائلهم ، وقال مقاتل بن حيان : ذكروا الله باللسان عند الذنوب.
"فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله"أي: وهل يغفر الذنوب إلا الله.
" ولم يصروا على ما فعلوا " أي: لم يقيموا ولم يثبتوا عليه ، ولكن تابوا وأنابوا واستغفروا ، وأصل الإصرار : الثبات على الشئ وقال الحسن : إتيان العبد ذنباً عمداً إصراراً حتى يتوب.
وقال السدي : الإصرار:السكوت وترك الاستغفار. أخبرناعبد الواحد المليحيأخبرناابو منصور السمعاني أخبرنا ابو جعفر الرياني أخبرناحميد بن زنجويه أنايحيى بن يحيى أناعبد الحميد بن عبد الرحمن عن عثمان بن واقد العمري عنابي نصيرة قال: لقيت مولى لأبي بكر رضي الله عنه فقلت له: أسمعت من أبي بكر شيئاً؟قال: نعم سمعته يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"ما أصر من استغفر ، وإن عاد في اليوم سبعين مرة".
" وهم يعلمون" قال ابن عباس والحسن ومقاتل والكلبي : وهم يعلمون أنها معصية ، وقيل : وهم يعلمون ان الإصرار ضار، وقال الضحاك : وهم يعلمون ان الله يملك مغفرة الذنوب ، وقال الحسين بن الفضل وهم يعلمون أن لهم رباً يغفر الذنوب ، وقيل: وهم يعلمون ان الله لا يتعاظمه العفو عن الذنوب وإن كثرت ، وقيل: وهم يعلمون أنهم إن استغفروا غفر لهم .
135" والذين إذا فعلوا فاحشة " فعلة بالغة في القبح كالزنى. " أو ظلموا أنفسهم" بأن أذنبوا أي ذنب كان وقيل الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة، ولعل الفاحشة ما يتعدى وظلم النفس ما ليس كذلك. "ذكروا الله" تذكروا وعيده أو حكمه أو حقه العظيم. "فاستغفروا لذنوبهم" بالندم والتوبة. " ومن يغفر الذنوب إلا الله " استفهام بمعنى النفي معترض بين المعطوفين، والمراد به وصفه تعالى بسعة الرحمة وعموم المغفرة والحث على الاستغفار والوعد بقبول التوبة " ولم يصروا على ما فعلوا " ولم يقيموا على ذنوبهم غير مستغفرين لقوله صلى الله عليه وسلم "ما أصر من استغفر وان عاد في اليوم سبعين مرة". "وهم يعلمون" حال من يصروا أي ولم يصروا على قبيح فعلهم عالمين به.
135. And those who, when they do an evil thing or wrong themselves, remember Allah and implore forgiveness for their sins. Who forgiveth sins save Allah only?. and will not knowingly repeat (the wrong) they did.
135 - And those who, having done something to be ashamed of, or wronged their own souls, and ask for forgiveness for their sins, and who can forgive sins except God? and are never obstinate in persisting knowingly in (the wrong) they have done