[العنكبوت : 57] كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
57 - (كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون) بالتاء والياء بعد البعث
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب نبيه: هاجروا من أرض الشرك من مكة، إلى أرض الإسلام المدينة، فإن أرضي واسعة، فاصبروا على عبادتي، وأخلصوا طاعتي، فإنكم ميتون، وصائرون إلي، لأن كل نفس حية ذائقة الموت، ثم إلينا بعد الموت تردون، ثم أخبرهم جل ثناؤه عما أعد للصابرين منهم على طاعته، من كرامته عنده،
قوله تعالى : " كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون " تقدم في (آل عمران ) وإنما ذكره هاهنا تحقيراً لأمر الدنيا ومخاوفها . كأن بعض المؤمنين نظر في عاقبة تلحقه في خروجه من وطنه من مكة أنه يموت أو يجوع أو نحو هذا ، فحقر الله شأن الدنيا . أي أنتم لا محالة ميتون ومحشرون إلينا ، فالبدار إلى طاعة الله والهجرة إليه وإلى ما يتمتثل . ثم وعد المؤمنين العاملين بسكنى الجنة تحريضاً منه تعالى ، وذكر الجزاء الذي ينالونه ، ثم نعتهم بقوله ،" الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون " وقرأ أبو عمر و يعقوب و الجحدري و ابن أبي إسحاق و ابن محيصن و الأعمش و حمزة و الكسائي و خلف : ( يا عبادي ) بإسكان الياء . وفتحها الباقون . ( إن أرضي ) فتحها ابن عامر وسكنها الباقون . وروي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " : من فر بدينه من أرض إلى أرض ولو قيد شبر استوجب الجنة وكان رفيق محمد وإبراهيم " عليهما السلام . ( ثم إلينا ترجعون ) وقرأ السلمي و أبي بكر عن عاصم : ( يرجعون ) بالياء ، لقوله : " كل نفس ذائقة الموت " وقرأ الباقون بالتاء ، لقوله : " يا عبادي الذين آمنوا " وأنشد بعضهم :
الموات في كل حين ينشد الكفنا ونحن في غفلة عما يراد بنا
لا تركنن إلى الدنيا وزهرتها وإن توشحت من أثوابها الحسنا
أي الأحبة والجيران ما فعلوا أين الذين همو كانوا لها سكنا هت
سقاهم الموت كأساً غير صافية صيرهم تحت أطباق الثرى رهنا .
هذا أمر من الله تعالى المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين إلى أرض الله الواسعة حيث يمكن إقامة الدين, بأن يوحدوا الله ويعبدوه كما أمرهم, ولهذا قال تعالى: "يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون" قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه , حدثنا بقية بن الوليد , حدثني جبير بن عمرو القرشي , حدثني أبو سعد الأنصاري عن أبي يحيى مولى الزبير بن العوام عن الزبير بن العوام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البلاد بلاد الله, والعباد عباد الله, فحيثما أصبت خيراً فأقم" ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها, خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك, فوجدوا خير المنزلين هناك: أصحمة النجاشي ملك الحبشة رحمه الله تعالى, فآواهم وأيدهم بنصره, وجعلهم سيوماً ببلاده, ثم بعد ذلك هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الباقون إلى المدينة النبوية يثرب المطهرة.
ثم قال تعالى: "كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون" أي أينما كنتم يدرككم الموت, فكونوا في طاعة الله وحيث أمركم الله, فهو خير لكم, فإن الموت لا بد منه ولا محيد عنه, ثم إلى الله المرجع والمآب, فمن كان مطيعاً له جازاه أفضل الجزاء, ووافاه أتم الثواب ولهذا قال تعالى: "والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفاً تجري من تحتها الأنهار" أي لنسكننهم منازل عالية في الجنة تجري من تحتها الأنهار على اختلاف أصنافها من ماء وخمر وعسل ولبن, يصرفونها ويجرونها حيث شاؤوا "خالدين فيها" أي ماكثين فيها أبداً لا يبغون عنها حولا "نعم أجر العاملين" نعمت هذه الغرف أجراً على أعمال المؤمنين "الذين صبروا" أي على دينهم. وهاجروا إلى الله ونابذوا الأعداء, وفارقوا الأهل والأقرباء ابتغاء وجه الله ورجاء ما عنده وتصديق موعده.
وقال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا أبي , أخبرنا صفوان المؤذن , أخبرنا الوليد بن مسلم , أخبرنا معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام عن جده أبي سلام الأسود , حدثني أبو معاوية الأشعري أن أبا مالك الأشعري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, حدثه أن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها, وباطنها من ظاهرها, أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام, وأطاب الكلام, وتابع الصلاة والصيام, وقام بالليل والناس نيام "وعلى ربهم يتوكلون" في أحوالهم كلها في دينهم ودنياهم ثم أخبرهم تعالى أن الرزق لا يختص ببقعة, بل رزقه تعالى عام لخلقه حيث كانوا وأين كانوا, بل كانت أرزاق المهاجرين حيث هاجروا أكثر وأوسع وأطيب, فإنهم بعد قليل صاروا حكام البلاد في سائر الأقطار والأمصار, ولهذا قال تعالى: "وكأين من دابة لا تحمل رزقها" أي لا تطيق جمعه وتحصيله ولا تدخر شيئاً لغد "الله يرزقها وإياكم" أي الله يقيض لها رزقها على ضعفها وييسره عليها, فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه حتى الذر في قرار الأرض, والطير في الهواء والحيتان في الماء. قال تعالى: "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين".
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي , حدثنا يزيد يعني ابن هارون , حدثنا الجراح بن منهال الجزري ـ هو أبو العطوف ـ عن الزهري عن رجل عن ابن عمر قال: " خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل بعض حيطان المدينة, فجعل يلتقط من التمر ويأكل, فقال لي: يا ابن عمر ما لك لا تأكل ؟ قال: قلت لا أشتهيه يا رسول الله, قال لكني أشتهيه, وهذا صبح رابعة منذ لم أذق طعاماً ولم أجده, ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم بضعف اليقين ؟ قال: فوالله ما برحنا ولا رمنا حتى نزلت "وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل لم يأمرني بكنز الدنيا, ولا باتباع الشهوات, فمن كنز دنياه يريد بها حياة باقية, فإن الحياة بيد الله, ألا وإني لا أكنز ديناراً ولا درهماً ولا أخبأ رزقاً لغد" هذا حديث غريب, وأبو العطوف الجزري ضعيف, وقد ذكروا أن الغراب إذا فقس عن فراخه البيض خرجوا وهم بيض, فإذا رآهم أبواهم كذلك نفرا عنهم أياماً حتى يسود الريش, فيظل الفرخ فاتحاً فاه يتفقد أبويه فيقيض الله تعالى طيراً صغاراً كالبرغش, فيغشاه فيتقوت به تلك الأيام حتى يسود ريشه, والأبوان يتفقدانه كل وقت, فكلما رأوه أبيض الريش نفرا عنه, فإذا رأوه قد اسود ريشه عطفا عليه بالحضانة والرزق, ولهذا قال الشاعر:
يا رازق النعاب في عشه وجابر العظم الكسير المهيض
وقد قال الشافعي في جملة كلام له في الأوامر كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "سافروا تصحوا وترزقوا" قال البيهقي : أخبرنا إملاء أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان , أخبرنا أحمد بن عبيد , أخبرنا محمد بن غالب , حدثني محمد بن سنان , أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن رداد شيخ من أهل المدينة, حدثنا عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سافروا تصحوا وتغنموا" قال: ورويناه عن ابن عباس : وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة , أخبرنا ابن لهيعة عن دراج عن عبد الرحمن بن حجيرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سافروا تربحوا وصوموا تصحوا, واغزوا تغنموا" وقد ورد مثل حديث ابن عمر عن ابن عباس مرفوعاً, وعن معاذ بن جبل موقوفاً, وفي لفظ "سافروا مع ذوي الجد والميسرة" قال: ورويناه عن ابن عباس : وقوله: "وهو السميع العليم" أي السميع لأقوال عباده العليم بحركاتهم وسكناتهم.
ثم خوفهم سبحانه بالموت ليهون عليهم أمر الهجرة فقال: 57- "كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون" أي كل نفس من النفوس واجدة مرارة الموت لا محالة، فلا يصعب عليكم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان والخلان، ثم إلى الله المرجع بالموت والبعث لا إلى غيره، فكل حي في سفر إلى دار القرار وإن طال لبثه في هذه الدار.
57- "كل نفس ذائقة الموت"، خوفهم بالموت ليهون عليهم الهجرة، أي: كل واحد ميت أينما كان فلا تقيموا بدار الشرك خوفاً من الموت، "ثم إلينا ترجعون"، فنجزيكم بأعمالكم، وقرأ أبو بكر: يرجعون بالياء.
57ـ " كل نفس ذائقة الموت " تناله لا محالة . " ثم إلينا ترجعون " للجزاء ومن هذا عاقبته ينبغي أن يجتهد في الاستعداد له وقرأ أبو بكر بالياء .
57. Every soul will taste of death. Then unto Us ye will be returned.
57 - Every soul shall have a taste of death in the end to Us shall ye be brought back.