[العنكبوت : 3] وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ
3 - (ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا) في إيمانهم علم مشاهدة (وليعلمن الكاذبين) فيه
يقول تعالى ذكره: ولقد اختبرنا الذين من قبلهم من الأمم، ممن أرسلنا إليهم رسلنا، فقالوا مثل ما قالته أمتك يا محمد بأعدائهم، وتمكيننا إياهم من أذاهم، كموسى إذ أرسلناه إلى نبي إسرائيل، فابتليناهم بفرعون وملئهم، وكعيسى إذ أرسلناه إلى بني إسرائيل، فابتلينا من اتبعه بمن تولى عنه، فكذلك ابتلينا أتباعك بمخالفيك من أعدائك " فليعلمن الله الذين صدقوا " منهم في قيلهم آمنا " وليعلمن الكاذبين " منهم في قيلهم ذلك، والله عالم بذلك منهم قبل الاختبار، وفي حال الاختبار، وبعد الاختبار، ولكن معنى ذلك: وليظهرن الله صدق الصادق منهم في قيله آمنا بالله من كذب الكاذب منهم بابتلائه إياه بعدوه، ليعلم صدقه من كذبه أولياؤه، على نحو ما قد بيناه فيما مضى قبل.
وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين عذبهم المشركون، ففتن بعضهم، وصبر بعضهم على أذاهم حتى أتاهم الله بفرج من عنده.
ذكر الرواية بذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير يقول: نزلت، يعني هذه الآية " الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا " ... إلى قوله: " وليعلمن الكاذبين " في عمار بن ياسر، إذ كان يعذب في الله.
وقال آخرون: بل نزل ذلك من أجل قوم كانوا قد أظهروا الإسلام بمكة، وتخلفوا عن الهجرة، والفتنة التي فتن بها هؤلاء القوم على مقالة هؤلاء، هي الهجرة التي امتحنوا بها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن مطر، عن الشعبي، قال: إنها نزلت، يعني " الم * أحسب الناس أن يتركوا " الآيتين في أناس كانوا بمكة أقروا بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب محمد نبي الله صلى الله عليه وسلم من المدينة: إنه لا يقبل منكم إقراراً بالإسلام حتى تهاجروا، فخرجوا عامدين إلى المدينة، فاتبعهم المشركون، فردوهم، فنزلت فيهم هذه الآية، فكتبوا إليهم: إنه قد نزلت فيكم آية كذا وكذا، فقالوا: نخرج، فإن اتبعنا أحد قاتلناه، قال: فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم ثم، فمنهم من قتل، ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم " ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم " ( النحل: 110)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: " ولقد فتنا " قال: ابتلينا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن مجاهد " ولقد فتنا الذين من قبلهم " قال: ابتلينا الذين من قبلهم.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أبي هاشم، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: " ولقد فتنا الذين من قبلهم " أي ابتلينا.
قوله تعالى : " ولقد فتنا الذين من قبلهم " أي ابتلينا الماضين كالخليل ألقي في الناء ، وكقوم نشروا بالمناشر في دين الله فلم يرجعوا عنه . وروى البخاري "عن خباب بن الأرت : قالوا شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ، فقلنا له : ألا تسنصر لها ؟ ألا تدعو لنا .فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه فما يصرفه ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون " . وخرج ابن ماجة " عن أبي سعيد الخدري قال : دخلت على النبي يص وهو يوعك ، فوضعت يدي عليه ، فجدت حره بين يدي فوق اللحاف . فقلت : يا رسول الله ما أشدها عليك . قال : إنا كذلك يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر " قالت : يا رسول الله أي الناس أشد بلاء ؟ قال : ( الأنبياء ) قلت : ثم من ؟ قال : " ثم الصالحون أن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحبوها وأن كان أحدهم ليفرح بالبلا ء كما يفرح أحدكم بالرخاء " "وروى سعيد بن أبي وقاص قال :قلت : يا رسول الله أي الناس أشد بلا ء ؟ قال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان فيدينه صلباً اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه فما يبرح البلا ء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة " . "وروى عبد الرحمن بن زيد أن عيسى عليه السلام كان له وزير ، فركب يواما ً فأخذه السبع فأكله ، فقال عيسى : يا رب وزيري في دينك ، وعوني على بني إسرائيل ، وخليفتي فيهم ، سلطت عليه كلباً فاكله . قال :نعم كانت له عندي منزلة رفيعة لم أجد عمله يبلغها فابتليته بذلك لأبلغه تلك المنزلة " . وقال وهب : قرأت في كتاب رجل من الحواريين : إذا سلك بك سبيل البلا ء فقر عيناً ، فإنه سبلك بك سبيل الأنبياء والصالحين ، وإذا سلك بك سبيل الرخاء فابك على نفسك ، فقد خولف بك عن سبيله .
قوله تعالى : " فليعلمن الله الذين صدقوا " أي فليرين الله الذين صدقوا في إيمانهم . ويد مضى هذا المعنى في ( البقرة ) وغيرها .قال الزجاج : ليعلم صدق الصادق بوقوع صدقه منه ، وقد علم الصادق من الكاذب قبل أن يخلقهما ، ولكن القصد قصد وقوع العلم بما يجازى عليه ، وإنما يعلم صدق الصادق واقعاً كائناً وقوعه ، وقد علم أنه سيقع . وقال النحاس : فيه قولان : أحدهما : أن يكون (صدقوا ) مشتقاً من الصدق و( الكاذبين ) مشتقاً من الكذب الذي هو ضد الصدق ، ويكون المعنى ، فليبين الله الذين صدقوا فقالوا نحن مؤمنون واعتقدوا مثل ذلك ، والذين كذبوا حين اعتقدوا غير ذلك . والقول الآخر : أن يكون صدقوا مشتقاً من الصدق وهو الصلب ، والكاذبين مشتقاً من كذب إذاا انهزم ، فيكون المعنى ، فلعلمن الله الذي ثبتوا في الحرب ، والذين انهزموا ، كما قال الشاعر :
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ه ما الليث كذب عن أقرانه صدقا فجعل ( لعلمن ) في موضع فليبينن مجازاً . وقراءة الجماعة : ( فليعلمن ) بفتحالياء واللا م . وقرأ علي بن أبي طالب بضم الياء وكسر اللام وهي تبين معنى ما قاله النحاس . ويحتمل ثلاثة معان : الأول : أن يعلم في الأخرة هؤلا ء الصادقين والكاذبين بمنازلهم من ثوابه وعقابه وبأعمالهم في الدنيا ، بمعنى يوقفهم على ما كان منهم .الثاني : أن يكون المفعول الأول محذوفاً تقديره ، فليعلمن الناس والعالم هؤلاء الصادقين والكاذبين ، أي يفضحهم ويشرهم ، هؤلاء في الخير وهؤلا ء في الشر ، وذلك في الدنيا والآ خرة الثالث : أن يكون ذلك من العلامة ، أي يضع لكل طائفية علامة يشتهر بها .فالآية على هذا تنظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم " من أسر سريرة ألبسه الله رداءها " .
أما الكلام على الحروف المقطعة, فقد تقدم في أول سورة البقرة. وقوله تعالى: " أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون " استفهام إنكار, ومعناه أن الله سبحانه وتعالى لابد أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان, كما جاء في الحديث الصحيح "أشد الناس بلاء الأنبياء, ثم الصالحون, ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه, فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء" وهذه الاية كقوله: " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين " ومثلها في سورة براءة. وقال في البقرة: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب" ولهذا قال ههنا "ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين" أي الذين صدقوا في دعوى الإيمان ممن هو كاذب في قوله ودعواه, والله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون, وما لم يكن لو كان كيف يكون. وهذا مجمع عليه عند أئمة السنة والجماعة, وبهذا يقول ابن عباس وغيره في مثل قوله: "إلا لنعلم" إلا لنرى وذلك لأن الرؤية إنما تتعلق بالموجود, والعلم أعم من الرؤية, فإنه يتعلق بالمعدوم والموجود.
وقوله تعالى: "أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون" أي لا يحسبن الذين لم يدخلوا في الإيمان أنهم يتخلصون من هذه الفتنة والامتحان, فإن من ورائهم من العقوبة والنكال ما هو أغلظ من هذا وأطم, ولهذا قال: "أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا" أي يفوتونا "ساء ما يحكمون" أي بئس ما يظنون.
3- "ولقد فتنا الذين من قبلهم" أي هذه سنة الله في عباده وأنه يختبر مؤمني هذه الأمة كما اختبر من قبلهم من الأمم كما جاء به القرآن في غير موضع من قصص الأنبياء وما وقع مع قومهم من المحن وما اختبر الله به أتباعهم ومن آمن بهم من تلك الأمور التي نزلت بهم "فليعلمن الله الذين صدقوا" في قولهم: آمنا "وليعلمن الكاذبين" منهم في ذلك، قرأ الجمهور " فليعلمن " بفتح الياء واللام في الموضعين: أي ليظهرن الله الصادق والكاذب في قولهم ويميز بينهم، وقرأ علي بن أبي طالب في الموضعين بضم الياء وكسر اللام. والمعنى أي يعلم الطائفتين في الآخرة بمنازلهم، أو يعلم الناس بصدق من صدق ويفضح الكاذبين بكذبهم، أو يضع لكل طائفة علامة تشتهر بها وتتميز عن غيرها.
ثم عزاهم فقال 3- "ولقد فتنا الذين من قبلهم"، يعني الأنبياء والمؤمنين، فمنهم من نشر بالمنشار ومنهم من قتل، وابتلي بنو إسرائيل بفرعون فكان يسومهم سوء العذاب/، "فليعلمن الله الذين صدقوا"، في قولهم آمناً، "وليعلمن الكاذبين"، والله أعلم بهم قبل الاختيار. ومعنى الآية: فليظهرن الله الصادقين من الكاذبين حتى يوجد معلومه، وقال مقاتل: فليرين الله. وقيل: ليميزن الله كقوله: "ليميز الله الخبيث من الطيب" الأنفال-38.
3ـ " ولقد فتنا الذين من قبلهم " متصل بـ " أحسب " أو بـ " لا يفتنون " ، والمعنى أن ذلك سنة قديمة جارية في الأمم كلها فلا ينبغي أن يتوقع خلافه . " فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين " فليتعلقن علمه بالامتحان تعلقاً حالياً يتميز به الذين صدقوا في الإيمان والذين كذبوا فيه ، وينوط به ثوابهم وعقابهم ولذلك قيل المعنى وليميزن أو ليجازين ، وقرئ (( وليعلمن )) من الإعلام أي وليعرفنهم الله الناس أو ليسمنهم بسمة يعرفون بها يوم القيامة كبياض الوجوه وسوادها .
3. Lo! We tested those who were before you. Thus Allah knoweth those who are sincere, and knoweth those who feign.
3 - We did test those Before them, and God will certainly know those who are true from those who are false.