[النمل : 21] لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
21 - قال (لأعذبنه عذابا) تعذيبا (شديدا) بنتف رأسه وذنبه ورميه في الشمس فلا يمتنع من الهوام (أو لأذبحنه) بقطع حلقومه (أو ليأتيني) بنون مشددة مكسورة أو مفتوحة يليها نون مكسورة (بسلطان مبين) ببرهان بين ظاهر على عذره
القول في تأويل قوله تعالى : " لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين " .
الرابعة : قوله تعالى : " لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه " دليل على أن الحد على قدر الذنب لا على قدر الجسد ، أما أنه يرفق بالمحدود في الزمان والصفة . روي عن ابن عباس و مجاهد و ابن جريج أن تعذيبه للطير كان بأن ينتف ريشه . قال ابن جريج : ريشه أجمع . وقال يزيد بن رمان : جناحاه . فعل سليمان هذا بالهدهد إغلاظاً على العاصين ، وعقاباً على إخلاله بنوبته ورتبته ، وكأن الله أباح له ذلك ، كما أباح ذبح البهائم والطير للأكل وغيره من المنافع . والله أعلم . وفي ( نوادر الأصول ) قال : حدثنا سليمان بن حميد أبو الربيع الإيادي ، قال : حدثنا عون بن عمارة ، عن الحسين الجعفي ، عن الزبير بن الخريت ، عن بعكرمة ، قال : إنما صرف الله شر سليمان عن الهدهد لأن كان باراً بوالديه . وسيأتي . وقيل : تعذيبه أن يجعل مع أضداده . وعن بعضهم : أضيق السسجون معاشرة الأضداد . وقيل : لألزمنه خدمة أقرأنه . وقيل : إيداعه القفص . وقيل : بأن يجعله للشمس بعد نتفه . وقيل : بتبعيده عن خدمتي ، والملوك يؤدبون بالهجران الجسد بتفريق إلفه . وهو مؤكذ بالنون الثقيلة ، وهي لازمة هي أو الخفيفة . قال أبو حاتم : ولو قرئت ( لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه ) جاز . " أو ليأتيني بسلطان مبين " أي بحجة بينة . ولسيت اللام في " ليأتيني " لام القسم لأنه لا يقسم سليمان على فعل الهدهد ولكن لما حاء في أثر قوله : " لأعذبنه " وهو مما جاز به القسم أجراه مجراه . وقرأ ابن كثير وحده : ( ليأتينني ) بنونين ) .
قال مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما عن ابن عباس وغيره: كان الهدهد مهندساً يدل سليمان عليه السلام على الماء إذا كان بأرض فلاة طلبه, فنظر له الماء في تخوم الأرض, كما يرى الإنسان الشىء الظاهر على وجه الأرض, ويعرف كم مساحة بعده من وجه الأرض, فإذا دلهم عليه, أمر سليمان عليه السلام الجان فحفروا له ذلك المكان حتى يستنبط الماء من قراره, فنزل سليمان عليه السلام يوماً بفلاة من الأرض فتفقد الطير ليرى الهدهد فلم يره "فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين" حدث يوماً عبد الله بن عباس بنحو هذا, وفي القوم رجل من الخوارج يقال له نافع بن الأزرق وكان كثير الاعتراض على ابن عباس , فقال له: قف يا ابن عباس غلبت اليوم, قال: ولم ؟ قال: إنك تخبر عن الهدهد أنه يرى الماء في تخوم الأرض, وإن الصبي ليضع له الحبة في الفخ ويحثو على الفخ تراباً, فيجىء الهدهد ليأخذها فيقع في الفخ فيصيده الصبي, فقال ابن عباس , لولا أن يذهب هذا فيقول رددت على ابن عباس لما أجبته, ثم قال له: ويحك إنه إذا نزل القدر عمي البصر وذهب الحذر, فقال له نافع : والله لا أجادلك في شيء من القرآن أبداً.
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله البرزي من أهل برزة في غوطة دمشق, وكان من الصالحين يصوم الاثنين والخميس, وكان أعور قد بلغ الثمانين فروى ابن عساكر بسنده إلى أبي سليمان بن زيد أنه سأله عن سبب عوره, فامتنع عليه, فألح عليه شهوراً, فأخبره أن رجلين من أهل خراسان نزلا عنده جمعة في قرية برزة, وسألاه عن واد بها فأريتهما إياه, فأخرجا مجامر وأوقدا فيها بخوراً كثيراً حتى عجعج الوادي بالدخان, فأخذا يعزمان والحيات تقبل من كل مكان إليهما, فلا يلتفتان إلى شيء منها, حتى أقبلت حية نحو الذراع وعيناها تتوقدان مثل الدينار, فاستبشرا بها عظيماً, وقالا الحمد لله الذي لم يخيب سفرنا من سنة, وكسرا المجامر, وأخذا الحية, فأدخلا في عينها ميلا فاكتحلا به, فسألتهما أن يكحلاني فأبيا, فألححت عليهما وقلت: لا بد من ذلك وتوعدتهما بالدولة, فكحلا عيني الواحدة اليمنى, فحين وقع في عيني نظرت إلى الأرض تحتي مثل المرآة أنظر ما تحتها كما ترى المرآة, ثم قالا لي: سر معنا قليلاً, فسرت معهما وهما يحدثاني حتى إذا بعدت عن القرية أخذاني فكتفاني, وأدخل أحدهما يده في عيني ففقأها ورمى بها ومضيا, فلم أزل كذلك ملقى مكتوفاً حتى مر بي نفر ففك وثاقي, فهذا ما كان من خبر عيني.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين , حدثنا هشام بن عمار , حدثنا صدقة بن عمرو الغساني , حدثنا عباد بن ميسرة المنقري عن الحسن قال: اسم هدهد سليمان عليه السلام عنبر, وقال محمد بن إسحاق : كان سليمان عليه السلام إذا غدا إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه تفقد الطير, وكان فيما يزعمون يأتيه نوب من كل صنف من الطير كل يوم طائر, فنظر فرأى من أصناف الطير كلها من حضره إلا الهدهد "فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين" أخطأه بصري من الطير, أم غاب فلم يحضر.
وقوله: "لأعذبنه عذاباً شديداً" قال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد عن ابن عباس : يعني نتف ريشه, وقال عبد الله بن شداد : نتف ريشه وتشميسه, وكذا قال غير واحد من السلف أنه نتف ريشه وتركه ملقى يأكله الذر والنمل. وقوله: "أو لأذبحنه" يعني قتله "أو ليأتيني بسلطان مبين" بعذر بين واضح, وقال سفيان بن عيينة و عبد الله بن شداد : لما قدم الهدهد قالت له الطير: ما خلفك ؟ فقد نذر سليمان دمك, فقال: هل استثنى ؟ قالوا: نعم. قال: "لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين" قال: نجوت إذاً, قال مجاهد : إنما دفع الله عنه ببره بأمه.
21- "لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه".
اختلفوا في هذا العذاب الشديد ما هو؟ فقال مجاهد وابن جريج: هو أن ينتف ريشه جميعاً. وقال يزيد بن رومان: هو أن ينتف ريش جناحيه، وقيل هو أن يحبسه مع أضداده، وقيل أن يمنعه من خدمته، وفي هذا دليل على أن العقوبة على قدر الذنب لا على قدر الجسد. وقوله عذاباً اسم مصدر أو مصدر على حذف الزوائد كقوله: "أنبتكم من الأرض نباتاً"، "أو ليأتيني بسلطان مبين" قرأ ابن كثير وحده بنون التأكيد المشددة بعدها نون الوقاية، وقرأ الباقون بنون مشددة فقط، وهي نون التوكيد، وقرأ عيسى بن عمر بنون مشددة مفتوحة غير موصلة بالياء، والسلطان المبين هو الحجة البينة في غيبته.
ثم أوعده على غيبته، فقال:
21- "لأعذبنه عذاباً شديداً"، واختلفوا في العذاب الذي أوعده به، فأظهر الأقاويل أن ينتف ريشه وذنبه ويلقيه في الشمس ممعطاً، لا يمتنع من النمل ولا من هوام الأرض. وقال مقاتل بن حيان: لأطلينه بالقطران ولأشمسنه. وقيل: لأودعنه القفص. وقيل: لأفرقن بينه وبين إلفه. وقيل: لأحبسنه مع ضده. "أو لأذبحنه"، لأقطعن حلقه، "أو ليأتيني بسلطان مبين"، بحجة بينة في غيبته، وعذر ظاهر، قرأ ابن كثير: "ليأتيني" بنونين، الأولى/ مشددة، وقرأ الآخرون بنون واحدة مشددة.
وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكره العلماء: أن سليمان لما فرغ من بناء بيت المقدس عزم على الخروج إلى أرض الحرم، فتجهز للمسير، واستصحب من الجن والإنس والشياطين والطيور والوحوش ما بلغ معسكره مائة فرسخ، فحملهم الريح، فلما وافى الحرم أقام به ما شاء الله أن يقيم، وكان ينحر كل يوم بمقامه بمكة خمسة آلاف ناقة ويذبح خمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة، وقال لمن حضره من أشراف قومه: إن هذا مكان يخرج منه نببي عربي صفته كذا وكذا، يعطى النصر على جميع من ناوأه، وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد عنده في الحق سواء، لا تأخذه في الله لومة لائم. قالوا فبأي دين يدين يا نبي الله؟ قال: يدين بدين الحنفية، فطوبى لمن أدركه وآمن به، فقالوا: كم بيننا وبين خروجه يا نبي الله؟ قال مقدار ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل، قال: فأقام بمكة حتى قضى نسكه، ثم خرج من مكة صباحاً، وسار نحو اليمن فوافى صنعاء وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضاً حسناء تزهو خضرتها فأحب النزول بها ليصلي ويتغدى، فلما نزل قال الهدهد: إن سليمان قد اشتغل بالنزول فارتفع نحو السماء فانظر إلى طول الدنيا وعرضها، ففعل ذلك، فنظر يميناً وشمالاً، فرأى بستاناً لبلقيس، فمال إلى الخضرة فوقع فيه فإذا هو بهدهد فهبط عليه، وكان اسم هدهد سليمان يعفور واسم هدهد اليمن عنفير، فقال عنفير اليمن ليعفور سليمان: من أين أقبلت وأين تريد؟ قال: أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود. فقال: ومن سليمان؟ قال ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحوش والرياح، فمن أين أنت؟ قال: أنا من هذه البلاد، قال: ومن ملكها؟ قال: امرأة يقال لها بلقيس، وإن لصاحبكم ملكاً عظيماً ولكن ليس ملك بلقيس دونه، فإنها ملكة اليمن كلها، وتحت يدها إثنا عشر ألف قائد، تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل، فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها؟ قال: أخاف أن يتفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء، قال الهدهد اليماني: إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة، فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها، وما رجع إلى سليمان إلا في وقت العصر. قال: فلما نزل سليمان ودخل عليه وقت الصلاة وكان نزل على غير ماء، فسأل الإنس والجن والشياطين عن الماء فلم يعلموا، فتفقد الطير، ففقد الهدهد، فدعا عريف الطير -وهو النسر- فساله عن الهدهد، فقال: أصلح الله الملك، ما أدري أين هو، وما أرسلته مكاناً، فغضب عند ذلك سليمان، وقال: "لأعذبنه عذاباً شديداً" الآية. ثم دعا العقاب سيد الطير فقال: علي الهدهد الساعة، فرفع العقاب نفسه دون السماء حتى التزق بالهواء فنظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم ثم التفت يميناً وشمالاً فإذا هو بالهدهد مقبلاً من نحو اليمن، فانقض العقاب نحوه يريده، فلما رأى الهدهد ذلك علم أن العقاب يقصده بسوء فناشده، فقال: بحق الله الذي قواك وأقدرك علي إلا رحمتني ولم تتعرض لي بسوء، قال: فولى عنه العقاب، وقال له: ويلك ثكلتك أمك، إن نبي الله قد حلف أن يعذبك أو يذبحك، ثم طارا متوجهين نحو سليمان، فلما انتهيا إلى المعسكر تلقاه النسر والطير، فقالوا له: ويلك أين غبت في يومك هذا؟ ولقد توعدك نبي الله، وأخبراه بما قال، فقال الهدهد: أو ما استثنى رسول الله؟ قالوا: بلى، قال: أو ليأتيني بسلطان مبين، قال: فنجوت إذاً، ثم طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان وكان قاعداً على كرسيه، فقال العقاب قد أتيتك به يا نبي الله، فلما قرب الهدهد رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعاً لسليمان، فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه وقال: أين كنت؟ لأعذبنك عذاباً شديداً، فقال الهدهد: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى، فلما سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه، ثم سأله فقال: ما الذي أبطأ بك عني؟
21 -" لأعذبنه عذاباً شديداً " كنتف رشه وإلقائه في الشمس ، أو حيث النمل يأكله أو جعله مع ضده في قفص . " أو لأذبحنه " ليعتبر به أبناء جنسه . " أو ليأتيني بسلطان مبين " بحجة تبين عذره ، والحلف في الحقيقة على أحد الأولين بتقدير عدم الثالث لكن لما اقتضى ذلك وقوع أحد الأمور الثلاثة ثلث المحذوف عليه بعطفه عليهما ، وقرأ ابن كثير أو (( ليأتينني )) بنونين الأولى مفتوحة مشددة .
21. I verily will punish him with hard punishment or I verily will slay him, or he verily shall bring me a plain excuse.
21 - I will certainly punish him with a severe penalty, or execute him, unless he bring me a clear reason (for absence).