[الشعراء : 57] فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
57 - (فأخرجناهم) أي فرعون وقومه من مصر ليلحقوا موسى وقومه (من جنات) بساتين كانت على جانبي النيل (وعيون) أنهار جارية في الدور من النيل
يقول تعالى ذكره : فأخرجنا فرعون وقومه من بساتين وعيون ماء ، وكنوز وفضة ، ومقام كريم . قيل : إن ذلك المقام الكريم : المنابر . وقوله " كذلك " يقول : أخرجناهم من ذلك كما وصفت لكم في هذه الآية والتي قبلها " وأورثناها " يقول : وأورثنا تلك الجنات التي أخرجناهم منها والعيون والكنوز والمقام الكريم عنهم بهلاكهم بني إسرائيل . وقوله " فأتبعوهم مشرقين " فأتبع فرعون وأصحابه بني إسرائيل ، مشرقين حين أشرقت الشمس ، وقيل حين أصبحوا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثني أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " فأتبعوهم مشرقين " قال : خرج موسى ليلا فكسف القمر وأظلمت الأرض ، وقال أصحابه : إن يوسف أخبرنا أنا سننجى من فرعون ، وأخذ علينا العهد لنخرجن بعظامه معنا ، فخرج موسى ليلته يسأل عن قبره ، فوجد عجوزا بيتها على قبره . فأخرجته له بحكمها ، وكان حكمها أو كلمة تشبه هذا ، أن قالت : احملني فأخرجني معك ، فجعل عظام يوسف في كسائه ، ثم حمل العجوز على كسائه ، فجعله على رقبته ، وخيل فرعون هي ملء أعنتها حضرا في أعينهم ، ولا تبرح حبست عن موسى وأصحابه حتى تواروا .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثي حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله " فأتبعوهم مشرقين " قال : فرعون وأصحابه ، وخيل فرعون في ملء أعنتها في رأي عيونهم ، ولا تبرح حبست عن موسى وأصحابه حتى تواروا .
قوله تعالى : " فأخرجناهم من جنات وعيون " يعني من أرض مصر . وعن عبد الله بن عمرو قال ك كانت الجنات بحافتي النيل في الشقتين جميعاً من أسوان إلى رشيد ، وبين الجنات زروع . والنيل سبعة خلجان : خليج الإسكندرية ، وخليج سخا ، وخليج دمياط ، وخليج سردوس ، وخليج منف ، وخليج الفيوم ، وخليج المنهى متصلة لا من ستة عشر ذراعاً بما دبروا وقدروا من قناطير وجسورها وخلجانها ، ولذلك سمي النيل إذا غلق ستة عشر ذراعاً نيل السلطان ، ويخلع على ابن أبي الرداد ، وهذه الحال مستمرة إلى الآن . وإنما قيل نيل السلطان لأنه حينئذ يجب الخراج على الناس . وكانت أرض مصر جميعها تروى من إصبع واحدة من سبعة عشر ذراعاً ، وكانت إذا غلق النيل سبعة عشر ذراعاً ونودي عليه إصبع واحد من ثمانية عشر ذراعاً ، ازداد في خراجها ألف ألف دينار . فإذا خرج عن ذلك ونودي عليه إصبعاً واحداً من تسعة عشر ذراعاً نقص خراجها ألف ألف دينار . وسبب هذا ما كان ينصرف في المصالح والخلجان والجسور والاهتمام بعمارتها . فأما الآن فإن أكثرها لا يروى حاتى ينادى إصبع من تسعة عشر ذراعاً بمقياس مصر . وأما أعمال الصعيد الأعلى ، فإن بها ما لا يتكامل ريه إلا بعد دخول الماء في الذراع الثاني والعشرين بالصعيد الأعلى .
قلت : أما أرض مصر فلا تروى جميعها الآن إلا من عشرين ذراعاً وأصابع ، لعلو الأرض وعدم الاهتمام بعمارة جسورها ، وهو من عجائب الدنيا ، وذلك أنه يزيد إذا انصبت المياه في جميع الأرض حتى يسيح على جميع أرض مصر ، وتبقى البلاد كالأعلام لا يوصل إليها إلا بالمراكب والقياسات . وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : نيل مصر يسد الأنهار ، سخر الله له كل نهر بين المشرق والمغرب ، وذلل الله ما الأنهار ، فإذا أراد الله أن يجري نيل مصر أمر كل نهر أن يمده ، فأمدته الأنهار بمائها ، وفجر الله له عيوناً ، فإذا انتهى إلى ما أراد الله عز وجل ، أوحى الله تبارك وتعالى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره . وقال قيس بن الحجاج : لما افتتحت مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل بئونة من أشهر القبط فقالوا له : أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها فقال لهم : وما ذاك ؟ فقالوا : إذا كان لا ثنتي عشرة ليلة تخلوا من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها ، أرضينا أبويها ، وحملنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ، ثم ألقيناها في هذا النيل ، فقال لهم عمرو : هذا لا يكون في الإسلام وإن الإسلام ليهدم ما قبله . فأقاموا أبيب ومسرى لا يجري قليل ولا كثير ، وهموا بالجلاء . فلما ارى ذلك عمرو بن العاص كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، فأعمله بالقصة ، فكتب إليه عمر بن الخطاب : إنك قد أصبت بالذي فعلت ، وإن الإسلام يهدم ما قبله ولا يكون هذا . وبعث إليه ببطاقة في داخل كتابه . وكتب إلى عمرو : إني قد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي ، فألقها في النيل إذا أتاك كتابي . فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو بن العاص أخذ البطاقة ففتحها فإذا فيها : من عبد الله أمير المؤمنين عمر إلى نيل مصر _ أما بعد_ فإن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجر وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك . قال : فألقى البطاقة في النيل قبل الصليب بيوم وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها ، لأنه لا تقوم مصلحتهم فيها إلا بالنيل . فلما ألقى البطاقة في النيل . أصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله في ليلة واحدة ستة عشر ذراعاً ، وقطع الله تلك السيرة عن أهل مصر من تلك السنة . قال كعب الأحبار : أربعة أنهار من الجنة وضعها الله في الدنيا سيحان وجيجان والنيل والفرات . فسبحان نهر الماء في الجنة ، وجيحان نهر اللبن في الجنة ، والنيل نهر العسل والفرات . فسيحان نهر الماء في الجنة ، وجيحان نهر اللبن في الجنة ، والنيل نهر العسل في الجنة ، والفرات نهر الخمر في الجنة . وقال ابن لهيعة : الدجلة نهر اللبن في الجنة .
قلت : الذي في الصحيح من هذا حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة " لفظ مسلم . وفي حديث الإسراء من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رجل من قومه قال : " وحدث نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت يا جبريل ما هذه الأنهار قال : أما النهران الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات " لفظ مسلم . وقال البخاري من طريق شريك عن أنس : " فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان فقال : ما هذان النهران يا جبريل قال هذا النيل والفرات عنصرهما ثم مضى في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من اللؤلؤ والزبرجد فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر فقال ما هذا يا جبريل فقال هذا هو الكوثر الذي خبأ لك ربك " وذكر الحديث . والجمهور على أن المراد بالعيون عيون الماء . وقال سعيد بن جبير : المراد عيون الذهب . وفي الدخان " كم تركوا من جنات وعيون * وزروع " [ الدخان : 25_ 26] قيل : إنهم كانوا يزرعون ما بين الجبلين من أول مصر إلى آخرها . وليس في الدخان " وكنوز " . " وكنوز " جمع كنز ، وقد مضى هذا في سورة ( براءة ) والمارد بها هاهنا الخزائن . وقيل : الدفائن . وقال الضحاك : الأنهار ، وفيه نظر ، لأن العيون تشملها .
لما طال مقام موسى عليه السلام ببلاد مصر, وأقام بها حجج الله وبراهينه على فرعون وملئه, وهم مع ذلك يكابرون ويعاندون, لم يبق لهم إلا العذاب والنكال, فأمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً من مصر, وأن يمضي بهم حيث يؤمر, ففعل موسى عليه السلام ما أمره به ربه عز وجل, خرج بهم بعد ما استعاروا من قوم فرعون حلياً كثيراً, وكان خروجه بهم فيما ذكره غير واحد من المفسرين وقت طلوع القمر, وذكر مجاهد رحمه الله أنه كسف القمر تلك الليلة, فالله أعلم, وأن موسى عليه السلام سأل عن قبر يوسف عليه السلام, فدلته امرأة عجوز من بني إسرائيل عليه, فاحتمل تابوته معهم, ويقال: إنه هو الذي حمله بنفسه عليهما السلام, وكان يوسف عليه السلام قد أوصى بذلك, إذا خرج بنو إسرائيل أن يحملوه معهم.
وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي حاتم رحمه الله فقال: حدثنا علي بن الحسين , حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان بن صالح , حدثنا ابن فضيل عن يونس بن أبي إسحاق , عن ابن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى قال: " نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعرابي فأكرمه, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم تعاهدنا ؟ فأتاه الأعرابي, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حاجتك ؟ قال: ناقة برحلها وأعنز يحتلبها أهلي, فقال أعجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل ؟ فقال له أصحابه: وما عجوز بني إسرائيل يا رسول الله ؟ قال إن موسى عليه السلام لما أراد أن يسير ببني إسرائيل أضل الطريق, فقال لبني إسرائيل: ما هذا ؟ فقال له علماء بني إسرائيل: نحن نحدثك أن يوسف عليه السلام لما حضرته الوفاة أخذ علينا موثقاً من الله أن لا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته معنا, فقال لهم موسى: فأيكم يدري أين قبر يوسف ؟ قالوا: ما يعلمه إلا عجوز لبني إسرائيل, فأرسل إليها فقال لها: دليني على قبر يوسف, فقالت: والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي, فقال لها: وما حكمك ؟ قالت: حكمي أن أكون معك في الجنة, فكأنه ثقل عليه ذلك, فقيل له: أعطها حكمها ـ قال ـ فانطلقت معهم إلى بحيرة ـ مستنقع ماء ـ فقالت لهم: انضبوا هذا الماء, فلما أنضبوه قالت: احفروا, فلما حفروا استخرجوا قبر يوسف, فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار" وهذا حديث غريب جداً, والأقرب أنه موقوف, والله أعلم, فلما أصبحوا وليس في ناديهم داع ولا مجيب, غاظ ذلك فرعون, واشتد غضبه على بني إسرائيل لما يريد الله به من الدمار, فأرسل سريعاً في بلاده حاشرين, أي من يحشر الجند ويجمعه كالنقباء والحجاب, ونادى فيهم "إن هؤلاء" يعني بني إسرائيل "لشرذمة قليلون" أي لطائفة قليلة "وإنهم لنا لغائظون" أي كل وقت يصل منهم إلينا ما يغيظنا "وإنا لجميع حاذرون" أي نحن كل وقت نحذر من غائلتهم, وإني أريد أن أستأصل شأفتهم, وأبيد خضراءهم, فجوزي في نفسه وجنده بما أراد لهم, قال الله تعالى: "فأخرجناهم من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم" أي فخرجوا من هذا النعيم إلى الجحيم, وتركوا تلك المنازل العالية والبساتين والأنهار والأموال والأرزاق, والملك والجاه الوافر في الدنيا "كذلك وأورثناها بني إسرائيل" كما قال تعالى: "وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها" الاية, وقال تعالى: "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين" الايتين.
57- " فأخرجناهم من جنات وعيون ".
57- "فأخرجناهم من جنات"، وفي القصة: البساتين كانت ممتدة على حافتي النيل، "وعيون"، أنهار جارية.
57 -" فأخرجناهم " بأن خلقنا داعية الخروج بهذا السبب فحملتهم عليه . " من جنات وعيون " .
57. Thus did We take them away from gardens and water springs,
57 - But we are a multitude amply fore warned.