[النور : 37] رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ
37 - (رجال) فاعل يسبح بكسر الباء وعلى فتحها نائب الفاعل له ورجال فاعل فعل مقدر جواب سؤال مقدر كأنه قيل من يسبحه (لا تلهيهم تجارة) شراء (ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة) حذف هاء إقامة تخفيف (وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب) تضطرب (فيه القلوب والأبصار) من الخوف القلوب بين النجاة والهلاك والأبصار بين ناحيتي اليمين والشمال هو يوم القيامة
وقوله " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " يقول تعالى ذكره : لا يشغل هؤلاء الرجال الذين يصلون في هذه المساجد ، التي أذن الله أن ترفع ، عن ذكر الله فيها ، وإقام الصلاة ، تجارة ولا بيع .
كما حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن سعيد بن أبي الحسن عن رجل نسي اسمه في هذه الآية " في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " إلى قوله " والأبصار " قال : هم قوم في تجاراتهم وبيوعهم ، لا تلهيهم تجاراتهم ولا بيوعهم عن ذكر الله .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا جعفر بن سليمان ، عن عمرو بن دينار ، عن سالم بن عبد الله ، أنه نظر إلى قوم من السوق ، قاموا وتركوا بياعاتهم إلى الصلاة ، فقال : هؤلاء الذين ذكر الله في كتابه " لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " .
قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، عن سيار ، عمن حدثه ، عن ابن مسعود ، نحو ذلك .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، عن سيار ، قال حدثت عن ابن مسعود ، أنه رأى قوما من أهل السوق حيث نودى بالصلاة ، تركوا بياعاتهم ، ونهضوا إلى الصلاة ، فقال عبد الله : هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه " لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " .
وقال بعضهم : معنى ذلك " لا تلهيهم تجارة ولا بيع " عن صلاتهم المفروضة عليهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قال : ثم قال " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " يقول : عن الصلاة المكتوبة .
وقوله " وإقام الصلاة " يقول : ولا يشغلهم ذلك أيضا عن إقام الصلاة بحدودها في أوقاتها .
وبنحو قولنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا محمد ، قال : ثنا عوف ، عن سعيد بن أبي الحسن ، عن رجل نسي عوف اسمه في " وإقام الصلاة " مصدرا من قوله أقمت ؟ قيل : بلى . فغن قال : أو ليس المصدر منه إقامة ، كالمصدر من آجرت إجارة ؟ قيل : بلى . فإن قال : وكيف قال " وإقام الصلاة " ، أو تجيز أن نقول : أقمت إقاما ؟ قيل : ولكني أجيز أعجبني إقام الصلاة . فإن قيل : وما وجه جواز ذلك ؟ قيل : إن الحكم في أقمت إذا جعل منه مصدر ، أن يقال إقواما ، كما يقال : أقعدت فلانا إقعادا ، وأعطيته إعطاء . ولكن العرب لما سكنت الواو من أقمت ، فسقطت لاجتماعها وهي ساكنة ، والميم وهي ساكنة ، بنوا المصدر على ذلك ، إذ جاءت الواو ساكنة قبل ألف الإفعال وهي ساكنة ، فسقطت الأولى منهما ، فأبدلوا منها هاء في آخر الحرف ، كالتكثير للحرف ، كما فعلوا ذلك في قولهم : وعدته عدة ، ووزنته زنة ، إذ ذهبت الواو من أوله ، كثروه من آخره بالهاء ، فلما أضيفت الإقامة إلى الصلاة ، حذفوا الزيادة التي كانوا زادوها للتكثير ، وهي الهاء في آخرها ، لأن الخافض وما خفض عندهم كالحرف الواحد ، فاستغنوا بالمضاف إليه من الحرف الزائد ، وقد قال بعضهم في نظير ذلك :
إن الخليط أجدوا البين فانجردوا وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا
يريد : عدة الأمر ، فأسقط الهاء من العدة لما أضافها ، فكذلك ذلك في إقام الصلاة .
وقوله " وإيتاء الزكاة " قيل : معناه : وإخلاص الطاعة لله ز
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " (البقرة : 43-83-110-النور : 56-المزمل : 200 ) وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة ، وقوله " وأوصاني بالصلاة والزكاة " مريم : 31 وقوله "ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا " النور : 21 ، وقوله " وحنانا من لدنا وزكاة " مريم : 13 ونحو هذا في القرآن ، قال : يعني بالزكاة : طاعة الله والإخلاص ، وقوله " يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار " يقول : يخافون يوما تتقلب فيه القلوب من هوله ، بين طمع بالنجاة ، وحذر بالهلاك . " والأبصار " : أي ناحية يؤخذ بهم : أذات اليمين أم ذات الشمال ؟ ومن أين يؤتون كتبهم : أمن قبل الأيمان ، أم من قبل الشمائل ؟ وذلك يوم القيامة .
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الله بن عياش ، قال زيد بن أسلم ، في قول الله " في بيوت أذن الله أن ترفع " إلى قوله " تتقلب فيه القلوب والأبصار " يوم القيامة .
السادسة عشرة: لما قال تعالى: " رجال " وخصهم بالذكر دل على أن النساء لا حظ لهن في المساجد، إذ لا جمعة عليهن ولا جماعة، وأن صلاتهن في بيوتهن أفضل. روى أبو داود عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها ".
السابعة عشرة: قوله تعالى: " لا تلهيهم " أي لا تشغلهم. " تجارة ولا بيع عن ذكر الله " خص التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل بها الإنسان عن الصلاة. فإن قيل: فلم كرر ذكر البيع والتجارة يشمله. قيل له: أراد بالتجارة الشراء لقوله: " ولا بيع ". نظيره قوله تعالى: " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها " [الجمعة: 11] قاله الواقدي . وقال الكلبي : التجار هم الجلاب المسافرون، والباعة هم المقيمون. " عن ذكر الله " اختلف في تأويله، فقال عطاء : يعني حضور الصلاة، وقاله ابن عباس، وقال: المكتوبة. وقيل عن الآذان، ذكره يحيى بن سلام. وقيل: عن ذكره بأسمائه الحسنى، أي يوحدونه ويمجدونه. والآية نزلت في أهل الأسواق، قاله ابن عمر. قال سالم: جاز عبد الله بن عمر بالسوق وقد أغلقوا حوانيتهم وقاموا ليصلوا في جماعة فقال: فيهم نزلت " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع " الآية. وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ". وقيل: إن رجلين كانا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أحدهما بياعاً فإذا سمع النداء بالصلاة فإن كان الميزان بيده طرحه ولا يضعه وضعاً، وإن كان بالأرض لم يرفعه. وكان الآخر قيناً يعمل السيوف للتجارة، فكان إذا كانت مطرقته على السندان أبقاها موضوعة، وإن كان قد رفعها ألقاها من وراء ظهره إذا سمع الأذان، فأنزل الله تعالى هذا ثناء عليهما وعلى كل من اقتدى بهما.
الثامنة عشرة: قوله تعالى: " وإقام الصلاة " هذا يدل على أن المراد بقوله: " عن ذكر الله " غير الصلاة، لأنه يكون تكراراً. يقال: أقام الصلاة إقامةً، والأصل إقواماً فقلبت حركة الواو على القاف فانقلبت الواو ألفاً وبعدها ألف ساكنة فحذفت إحداهما، وأثبتت الهاء لئلا تحذفها فتجحف، فلما أضيفت قام المضاف مقام الهاء فجاز حذفها، وإن لم تضف لم يجز حذفها، ألا ترى أنك تقول: وعد عدة، ووزن وزنة، فلا يجوز حذف الهاء لأنك قد حذفت واواً، لأن الأصل وعد وعدةً، ووزن وزنة، فإن أضفت حذفت الهاء، وأنشد الفراء:
إن الخليط أجدوا البين فانجردوا وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا
يريد عدة، فحذف الهاء لما أضاف. وروي من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يأتي الله يوم القيامة بمساجد الدنيا كأنها نجب بيض قوائمها من العنبر وأعناقها من الزعفران ورؤوسها من المسك وأذمتها من الزبرجد الأخضر وقوامها والمؤذنون فيها يقودونها وأئمتها يسوقونها وعمارها متعلقون بها فتجوز عرصات القيامة كالبرق الخاطف فيقول أهل الموقف هؤلاء ملائكة مقربون أو أنبياء مرسلون فينادى ما هؤلاء بملائكة ولا أنبياء ولكنهم أهل المساجد والمحافظون على الصلوات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ". وعن علي رضي الله عنه أنه قال: يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، يعمرون مساجدهم وهي من ذكر الله خراب، شر أهل ذلك الزمن علماؤهم، منهم تخرج الفتنة وإليهم تعود، يعني أنهم يعلمون ولا يعملون بواجبات ما علموا.
التاسعة عشرة: قوله تعالى: " وإيتاء الزكاة " قيل: الزكاة المفروضة، قاله الحسن . وقال ابن عباس: الزكاة هنا طاعة الله تعالى والإخلاص، إذ ليس لكل مؤمن مال. " يخافون يوما " يعني يوم القيامة. " تتقلب فيه القلوب والأبصار " يعني من هوله وحذر الهلاك. والتقلب التحول، والمراد قلوب الكفار وأبصارهم. فتقلب القلوب انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر، فلا هي ترجع إلى أمكانها ولا هي تخرج. وأما تقلب الأبصار فالزرق بعد الكحل والعمى بعد البصر. وقيل: تتقلب القلوب بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك، والأبصار تنظر من أي ناحية يعطون كتبهم، وإلى أي ناحية يؤخذ بهم. وقيل: إن قلوب الشاكين تتحول عما كانت عليه من الشك، وكذلك أبصارهم لرؤيتهم اليقين، وذلك مثل قوله تعالى: " فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " [ق: 22]، فما كان يراه في الدنيا غياً يراه رشداً، إلا أن ذلك لا ينفعهم في الآخرة. وقيل: تقلب على جمر جهنم، كقوله تعالى: " يوم تقلب وجوههم في النار " [الأحزاب: 66]، " ونقلب أفئدتهم وأبصارهم " [الأنعام: 110]. في قول من جعل المعنى تقلبها على لهب النار. وقيل: تقلب بأن تلفحها النار مرة وتنضجها مرة. وقيل إن تقلب القلوب وجيبها، وتقلب الأبصار النظر بها إلى نواحي الأهوال.
لما ضرب الله تعالى مثل قلب المؤمن وما فيه من الهدى والعلم بالمصباح في الزجاجة الصافية المتوقد من زيت طيب وذلك كالقنديل, ذكر محلها وهي المساجد التي هي أحب البقاع إلى الله تعالى من الأرض وهي بيوته التي يعبد فيها ويوحد فقال تعالى: "في بيوت أذن الله أن ترفع" أي أمر الله تعالى بتعاهدها وتطهيرها من الدنس واللغو والأقوال والأفعال التي لا تليق فيها. كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الاية الكريمة "في بيوت أذن الله أن ترفع" قال نهى الله سبحانه عن اللغو فيها, وكذا قال عكرمة وأبو صالح والضحاك ونافع بن جبير وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة وسفيان بن حسين وغيرهم من العلماء المفسرين.
وقال قتادة : هي هذه المساجد أمر الله سبحانه وتعالى ببنائها وأخر بعمارتها ورفعها وتطهيرها. وقد ذكر لنا أن كعباً كان يقول: مكتوب في التوراة ألا إن بيوتي في الأرض المساجد وإنه من توضأ فأحسن وضوءه ثم زارني في بيتي أكرمته وحق على المزور كرامة الزائر رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره. وقد وردت أحاديث كثيرة في بناء المساجد واحترامها وتوقيرها وتطييبها وتبخيرها وذلك له محل مفرد يذكر فيه وقد كتبت في ذلك جزءاً على حدة, و لله الحمد والمنة, ونحن بعون الله تعالى نذكر هاهنا طرفاً من ذلك إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان, فعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنها قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة" أخرجاه في الصحيحين .
وروى ابن ماجه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من بنى مسجداً يذكر فيه اسم الله بنى الله له بيتاً في الجنة" و للنسائي عن عمرو بن عنبسة مثله, والأحاديث في هذا كثيرة جداً, وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب. رواه أحمد وأهل السنن إلا النسائي , ولأحمد وأبي داود عن سمرة بن جندب نحوه, وقال البخاري : قال عمر : ابن للناس ما يكنهم, وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس, وروى ابن ماجه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم" وفي إسناده ضعف.
وروى أبو داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أمرت بتشييد المساجد" قال ابن عباس أزخرفها كما زخرفت اليهود والنصارى. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد". رواه أحمد وأهل السنن إلا الترمذي . وعن بريدة أن رجلاً أنشد في المسجد فقال من دعا إلى الجمل الأحمر فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم "لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له" رواه مسلم , وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيع والابتياع وعن تناشد الأشعار في المساجد " . رواه أحمد وأهل السنن وقال الترمذي حسن.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد, فقولوا لا أربح الله تجارتك, وإذا رأيتم من ينشد ضالة في المسجد فقولوا لا رد الله عليك" رواه الترمذي وقال حسن غريب, وقد روى ابن ماجه وغيره من حديث ابن عمر مرفوعاً قال: خصال لا تنبغي في المسجد: لا يتخذ طريقاً ولا يشهر فيه سلاح ولا ينبض فيه بقوس ولا ينثر فيه نبل ولا يمر فيه بلحم نيء ولا يضرب فيه حد ولا يقتص فيه أحد ولا يتخذ سوقاً, وعن واثلة بن الأسقع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "جنبوا المساجد صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر وجمروها في الجمع" ورواه ابن ماجه أيضاً وفي إسنادهما ضعف, أما أنه لا يتخذ طريقاً فقد كره بعض العلماء المرور فيه إلا لحاجة إذا وجد مندوحة عنه, وفي الأثر إن الملائكة لتتعجب من الرجل يمر بالمسجد لا يصلي فيه, وأما أنه لا يشهر فيه السلاح ولا ينبض فيه بقوس ولا ينثر فيه نبل, فلما يخشى من إصابة بعض الناس به لكثرة المصلين فيه, ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر أحد بسهام أن يقبض على نصالها لئلا يؤذي أحداً, كما ثبت ذلك في الصحيح , وأما النهي عن المرور باللحم النيء فيه فلما يخشى من تقاطر الدم منه كما نهيت الحائض عن المرور فيه إذا خافت التلويث, وأما أنه لا يضرب فيه حد أو يقتص فلما يخشى من إيجاد النجاسة فيه من المضروب أو المقطوع, وأما أنه لا يتخذ سوقاً فلما تقدم من النهي عن البيع والشراء فيه فإنه إنما بني لذكر الله والصلاة فيه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد "إن المساجد لم تبن لهذا, إنما بنيت لذكر الله والصلاة فيها" ثم أمر بسجل من ماء فأهريق على بوله. وفي الحديث الثاني "جنبوا مساجدكم صبيانكم" وذلك لأنهم يلعبون فيه ولا يناسبهم, وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا رأى صبياناً يلعبون في المسجد ضربهم بالمخفقة وهي الدرة, وكان يفتش المسجد بعد العشاء فلا يترك فيه أحداً "ومجانينكم" يعني لأجل ضعف عقولهم وسخر الناس بهم فيؤدي إلى اللعب فيها ولما يخشى من تقذيرهم المسجد ونحو ذلك "وبيعكم وشراءكم" كما تقدم "وخصوماتكم" يعني التحاكم والحكم فيه, ولهذا نص كثير من العلماء على أن الحاكم لا ينتصب لفصل الأقضية في المسجد بل يكون في موضع غيره لما فيه من كثرة الحكومات والتشاجر والالفاظ التي لا تناسبه, ولهذا قال بعده "ورفع أصواتكم".
وقال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله , حدثنا يحيى بن سعيد , حدثنا الجعيد بن عبد الرحمن قال: حدثني يزيد بن حفصة عن السائب بن يزيد الكندي قال: كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال: اذهب فائتني بهذين فجئته بهما فقال من أنتما ؟ أو من أين أنتما ؟ قالا من أهل الطائف. قال لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال النسائي : حدثنا سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك عن شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: سمع عمر صوت رجل في المسجد فقال: أتدري أين أنت ؟ وهذا أيضاً صحيح. وقوله "وإقامة حدودكم وسل سيوفكم" تقدما. وقوله "واتخذوا على أبوابها المطاهر" يعني المراحيض التي يستعان بها على الوضوء وقضاء الحاجة. وقد كانت قريباً من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم آبار يستقون منها فيشربون ويتطهرون ويتوضؤون وغير ذلك.
وقوله "وجمروها في الجمع" يعني بخروها في أيام الجمع لكثرة اجتماع الناس يومئذ, وقد قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عبيد الله , حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن عمر كان يجمر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كل جمعة. إسناده حسن لا بأس به والله أعلم, وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً" وذلك أنه إذا توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة. فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه,اللهم ارحمه. ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة. وعند الدار قطني مرفوعاً "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" وفي السنن "بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة" ويستحب لمن دخل المسجد أن يبدأ برجله اليمنى وأن يقول كما ثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد يقول "أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم, وسلطانه القديم, من الشيطان الرجيم" (قال: أقط قال نعم) قال فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم.
وروى مسلم بسنده عن أبي حميد أو أبي أسيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك فضلك" ورواه النسائي عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم. وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم" ورواه ابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا ليث بن أبي سليم عن عبد الله بن حسين عن أمه فاطمة بنت حسين عن جدتها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم ثم قال: "اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك" وإذا خرج صلى على محمد وسلم ثم قال "اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك" ورواه الترمذي وابن ماجه , وقال الترمذي هذا حديث حسن, وإسناده ليس بمتصل لأن فاطمة بنت حسين الصغرى لم تدرك فاطمة الكبرى فهذا الذي ذكرناه مع ما تركناه من الأحاديث الواردة في ذلك كله محاذرة الطول داخل في قوله تعالى "في بيوت أذن الله أن ترفع".
وقوله "ويذكر فيها اسمه" أي اسم الله كقوله "يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد" وقوله "وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين" وقوله "وأن المساجد لله" الاية. وقوله تعالى: "ويذكر فيها اسمه" قال ابن عباس يعني فيها يتلى كتابه, وقوله تعالى: " يسبح له فيها بالغدو والآصال " أي في البكرات والعشيات. والاصال جمع أصيل وهو آخر النهار. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : كل تسبيح في القرآن هو الصلاة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني بالغدو صلاة الغداة ويعني بالاصال صلاة العصر وهما أول ما افترض الله من الصلاة فأحب أن يذكرهما وأن يذكر بهما عباده. وكذا قال الحسن والضحاك " يسبح له فيها بالغدو والآصال " يعني الصلاة, ومن قرأ من القراء " يسبح له فيها بالغدو والآصال " بفتح الباء من "يسبح" على أنه مبني لما لم يسم فاعله وقف على قوله " والآصال " وقفا تاما وابتدأ بقوله "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" وكأنه مفسر للفاعل المحذوف كما قال الشاعر:
ليبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح
كأنه قال: من يبكيه ؟ قال هذا يبكيه, وكأنه قيل من يسبح له فيها ؟ قال رجال. وأما على قراءة من قرأ "يسبح" بكسر الباء فجعله فعلاً وفاعله "رجال" فلا يحسن الوقف إلا على الفاعل لأنه تمام الكلام فقوله تعالى: "رجال" فيه إشعار بهممهم السامية ونياتهم وعزائمهم العالية التي بها صاروا عماراً للمساجد التي هي بيوت الله في أرضه ومواطن عبادته وشكره وتوحيده وتنزيهه كما قال تعالى: "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه" الاية, وأما النساء فصلاتهن في بيوتهن أفضل لهن لما رواه أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها, وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها".
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن غيلان , حدثنا رشدين , حدثني عمرو عن أبي السمح عن السائب مولى أم سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير مساجد النساء قعر بيوتهن" وقال أحمد أيضاً: حدثنا هارون , أخبرني عبد الله بن وهب , حدثنا داود بن قيس عن عبد الله بن سويد الأنصاري عن عمته أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني أحب الصلاة معك. قال "قد علمت أنك تحبين الصلاة معي, وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك, وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك, وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك, وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي" قال: فأمرت فبني لها مسجد في أقصى بيت من بيوتها وأظلمه فكانت والله تصلي فيه حتى لقيت الله تعالى, لم يخرجوه. هذا ويجوز لها شهود جماعة الرجال بشرط أن لا تؤذي أحداً من الرجال بظهور زينة ولا ريح طيب, كما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" رواه البخاري ومسلم , ولأحمد وأبي داود "وبيوتهن خير لهن". وفي رواية "وليخرجن وهن تفلات" أي لا ريح لهن. وقد ثبت في صحيح مسلم عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً". وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم يرجعن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس, وفي الصحيحين عنها أيضاً أنها قالت: لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد كما منعت نساء بين إسرائيل.
وقوله تعالى: "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" كقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله" الاية. وقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع" الاية, يقول تعالى لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها وملاذ بيعها وربحها عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم, والذين يعلمون أن الذي عنده هو خير لهم وأنفع مما بأيديهم, لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق, ولهذا قال تعالى: "لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة" أي يقدمون طاعته ومراده ومحبته على مرادهم ومحبتهم, قال هشيم عن شيبان قال: حدثت عن ابن مسعود أنه رأى قوماً من أهل السوق حيث نودي للصلاة المكتوبة تركوا بياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة, فقال عبد الله بن مسعود : هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" الاية, وهكذا روى عمرو بن دينار القهرماني عن سالم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة, فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد فقال ابن عمر : فيهم نزلت "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" رواه ابن أبي حاتم وابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا محمد بن عبد الله بن بكير الصنعاني , حدثنا أبو سعيد مولى بن هاشم , حدثنا عبد الله بن بجير , حدثنا أبو عبد ربه قال: قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إني قمت على هذا الدرج أبايع عليه, أربح كل يوم ثلثمائة دينار, أشهد الصلاة في كل يوم في المسجد, أما إني لا أقول إن ذلك ليس بحلال, ولكني أحب أن أكون من الذين قال الله فيهم "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" وقال عمرو بن دينار الأعور : كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد المسجد فمررنا بسوق المدينة وقد قاموا إلى الصلاة وخمروا متاعهم, فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد, فتلا سالم هذه الاية "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" ثم قال, هم هؤلاء, وكذا قال سعيد بن أبي الحسن والضحاك : لا تلهيهم التجارة والبيع أن يأتوا الصلاة في وقتها. وقال مطر الوراق : كانوا يبيعون ويشترون, ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه وأقبل إلى الصلاة.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" يقول عن الصلاة المكتوبة, وكذا قال مقاتل بن حيان والربيع بن أنس . وقال السدي : عن الصلاة في جماعة. وقال مقاتل بن حيان : لا يلهيهم ذلك عن حضور الصلاة وأن يقيموها كما أمرهم الله, وأن يحافظوا على مواقيتها وما استحفظهم الله فيها. وقوله تعالى: "يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار" أي يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار, أي من شدة الفزع وعظمة الأهوال, كقوله " وأنذرهم يوم الآزفة " الاية.
وقوله "إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار" وقال تعالى: " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا * إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا * فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا * وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا ". وقوله تعالى ههنا: "ليجزيهم الله أحسن ما عملوا" أي هؤلاء من الذين يتقبل حسناتهم ويتجاوز عن سيئاتهم. وقوله "ويزيدهم من فضله" أي يتقبل منهم الحسن ويضاعفه لهم, كما قال تعالى: "إن الله لا يظلم مثقال ذرة" الاية, وقال تعالى: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" الاية, وقال "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً" الاية, وقال "والله يضاعف لمن يشاء" وقال ههنا "والله يرزق من يشاء بغير حساب". وعن ابن مسعود أنه جيء بلبن فعرضه على جلسائه واحداً واحداً, فكلهم لم يشربه لأنه كان صائماً, فتناوله ابن مسعود فشربه لأنه كان مفطراً, ثم تلا قوله "يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار" رواه النسائي وابن أبي حاتم من حديث الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عنه.
وقال أيضاً: حدثنا أبي , حدثنا سويد بن سعيد , حدثنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق , عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا جمع الله الأولين والاخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق: سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم, ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله, فيقومون وهم قليل, ثم يحاسب سائر الخلائق" وروى الطبراني من حديث بقية عن إسماعيل بن عبد الله الكندي عن الأعمش عن أبي وائل , عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله" قال: أجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة لمن وجبت له الشفاعة لمن صنع لهم المعروف في الدنيا.
وهو ما ذكرناه 37- "لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" هذه الجملة صفة لرجال: أي لا تشغلهم التجارة والبيع عن الذكر، وخص التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الذكر. وقال الفراء: التجارة لأهل الجلب، والبيع ما باعه الرجل على بدنه، وخص قوم التجارة هاهنا بالشراء لذكر البيع بعذها، وبمثل قول الفراء. قال الواقدي: فقال التجار هم الجلاب المسافرون والباعة هم المقيمون، ومعنى عن ذكر الله: هو ما تقدم في أوله "ويذكر فيها اسمه" وقيل المراد الأذان، وقيل عن ذكره بأسمائه الحسنى: أي يوحدونه ويمجدونه. وقيل المراد عن الصلاة، ويرده ذكر الصلاة بعد الذكر هنا. والمراد بإقام الصلاة إقامتها لمواقيتها من غير تأخير، وحذفت التاء لأن الإضافة تقوم مقامها في ثلاث كلمات جمعها الشاعر في قوله:
ثلاثـــة تـحذف تاآتهــا مضافــة عنـد جمــع النحــاة
وهي إذا شئت أبو عذرها وليت شعري وإقام الصلاة
وأنشد الفراء في الاستشهاد للحذف المذكور في هذه الآية قول الشاعر:
إن الخليط أجدوا البين وانجردوا وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا
أي عدة الأمر، وفي هذا البيت دليل على أن الحذف مع الإضافة لا يختص بتلك الثلاثة المواضع. قال الزجاج: وإنما حذفت الهاء لأنه يقال أقمت الصلاة إقامة، وكان الأصل إقواماً، ولكن قلبت الواو ألفاً فاجتمعت ألفان فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين فبقي أقمت الصلاة إقاماً فأدخلت الهاء عوضاً عن المحذوف وقامت الإضافة هاهنا في التعويض مقام الهاء المحذوفة، وهذا إجماع من النحويين انتهى. وقد احتاج من حمل ذكر الله على الصلاة المفروضة أن يحمل إقام الصلاة على تأديتها في أوقاتها فراراً من التكرار ولا ملجىء إلى ذلك، بل يحمل الذكر على معناه الحقيقي كما قدمنا. والمراد بالزكاة المذكورة هي المفروضة، وقيل المراد بالزكاة طاعة الله والإخلاص، إذ ليس لكل مؤمن مال "يخافون يوماً" أي يوم القيامة، وانتصابه على أنه مفعول للفعل لا ظرف له، ثم وصف هذا اليوم بقوله: "تتقلب فيه القلوب والأبصار" أي تضطرب وتتحول، قيل المراد بتقلب القلوب انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر فلا ترجع إلى أماكنها ولا تخرج، والمراد بتقلب الأبصار هو أن تصير عمياء بعد أن كانت مبصرة. وقيل المراد بتقلب القلوب أنها تكون متقلبة بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك، وأما تقلب الأبصار فهو نظرها من أي ناحية يؤخذون، وإلى أي ناحية يصيرون. وقيل المراد تحول قلوبهم وأبصارهم عما كانت عليه من الشك إلى اليقين، ومثله قوله: "فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد" فما كان يراه في الدنيا غياً يراه في الآخرة رشداً. وقيل المراد التقلب على جمر جهنم، وقيل غير ذلك.
37- "رجال"، قيل: خص الرجال بالذكر في هذه المساجد لأنه ليس على النساء جمعة ولا جماعة في المسجد، "لا تلهيهم"، لا تشغلهم، "تجارة"، قيل خص التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الصلاة والطاعات، وأراد بالتجارة الشراء وإن كان اسم التجارة يقع على البيع والشراء جميعاً لأنه ذكر البيع بعد هذا، كقوله: "وإذا رأوا تجارة" (الجمعة-11) يعني: الشراء، وقال الفراء: التجارة لأهل الجلب والبيع ما باعه الرجل على يديه. قوله: "ولا بيع عن ذكر الله"، عن حضور المساجد لإقامة الصلاة، "وإقام"، أي: لإقامة، "الصلاة"، حذف الهاء وأراد أداءها في وقتها، لأن من أخر الصلاة عن وقتها لا يكون من مقيمي الصلاة، وأعاد ذكر إقامة الصلاة مع أن المراد من ذكر الله الصلوات الخمس لأنه أراد بإقام الصلاة حفظ المواقيت.
روى سالم عن ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة فقام الناس وأغلقوا حوانيتهم فدخلوا المسجد، فقال ابن عمر: فيهم نزلت: "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام".
"وإيتاء الزكاة"، المفروضة، قال ابن عباس رضي الله عنه: إذا حضر وقت أداء الزكاة لم يحبسوها. وقيل: هي الأعمال الصالحة. "يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار"، قيل: تتقلب القلوب عما كانت عليه في الدنيا من الشرك والكفر، وتنفتح الأبصار من الأغطية. وقيل: تتقلب القلوب عما كانت عليه في الدنيا من الشرك والكفر، وتنفتح الأبصار من الأغطية. وقيل: تتقلب القلوب بين الخوف والرجاء تخشى الهلاك وتطمع في النجاة، وتقلب الأبصار من هوله أي: ناحية يؤخذ بهم ذات اليمين أم ذات الشمال، ومن أين يؤتون الكتب من قبل الأيمان أم من قبل الشمائل، وذلك يوم القيامة. وقيل: تتقلب القلوب في الجوف فترتفع إلى الحنجرة فلا تنزل ولا تخرج، وتقلب البصر شخوصه من هول الأمر وشدته.
37 -" رجال لا تلهيهم تجارة " لا تشغلهم معاملة رابحة . " ولا بيع عن ذكر الله " مبالغة بالتعميم بعد التخصيص إن أريد به مطلق المعارضة ، أو بإفراد ما هو الأهم من قسمي التجارة فإن الربح يتحقق بالبيع ويتوقع بالشراء ، وقيل المراد بالتجارة الشراء فإنه أصلها ومبدؤها ، وقيل الجلب لأنه الغالب فيها ومنه يقال تجر في كذا إذا جلبه وفيه إيماء بأنهم تجار . " وإقام الصلاة " عوض فيه الإضافة من التاء المعوضة عن العين الساقطة بالإعلال كقوله :
وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا
" وإيتاء الزكاة " ما يجب إخراجه من المال للمستحقين . " يخافون يوماً " مع ما هم عليه من الذكر والطاعة . " تتقلب فيه القلوب والأبصار " تضطرب وتتغير من الهول ، أو تتقلب أحوالها فتفقه القلوب ما لم تكن تفقه وتبصر الأبصار ما لم تكن تبصره ، أو تتقلب القلوب مع توقع النجاة وخوف الهلاك والأبصار من أي ناحية يؤخذ بهم ويؤتى كتبهم .
37. Men whom neither merchandise nor sale beguileth from remembrance of Allah and constancy in prayer and paying to the poor their due; who fear a day when hearts and eyeballs will be overturned;
37 - By men whom neither traffic nor merchandise can divert from the Remembrance of God, nor from regular Prayer, nor from the practice of regular Charity: their (only) fear is for the Day when hearts and eyes will be transformed (in a world wholly new),