[النور : 31] وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
31 - (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) عما لايحل لهن نظره (ويحفظن فروجهن) عما لا يحل لهن فعله بها (ولا يبدين) يظهرن (زينتهن إلا ما ظهر منها) وهو الوجه والكفان فيجوز نظره لأجنبي إن لم يخف فتنة في أحد وجهين والثاني يحرم لأنه مظنة الفتنة ورجح حسما للباب (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) أي يسترن الرؤوس والأعناق والصدور بالمقانع (ولا يبدين زينتهن) الخفية وهي ما عدا الوجه والفين (إلا لبعولتهن) جمع بعل أي زوج (أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن) فيجوز لهم نظره إلا ما بين السرة والركبة فيحرم نظره لغير الأزواج وخرج بنسائهن الكافرات فلا يجوز للمسلمات الكشف لهن وشمل ما ملكت أيمانهن العبيد (أو التابعين) في فضول الطعام (غير) بالجر صفة والنصب استثناء (أولي الإربة) أصحاب الحاجة إلى النساء (من الرجال) بأن لم ينتشرذكر كل (أو الطفل) بمعنى الأطفال (الذين لم يظهروا) يطلعوا (على عورات النساء) للجماع فيجوز أن يبدين لهم ما عدا بين السرة والركبة (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) من خلخال يتقعقع (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون) مما وقع لكم من النظر الممنوع منه ومن غيره (لعلكم تفلحون) تنجون من ذلك لقبول التوبة منه وفي الآية تغليب الذكور على الإناث
قوله تعالى وقل للمؤمنات الآية أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال بلغنا أن جابر بن عبد الله حدث أن أسماء بنت مرثد كانت في نخل لها فجعل النساء يدخلن عليها غير متأزرات فيبدو ما في أرجلهن يعني الخلاخل وتبدو صدورهن وذوائبهن فقالت أسماء ما أقبح هذا فأنزل الله في ذلك وقل للمؤمنات الآية
وأخرج ابن جرير عن حضرمي أن إمرأة اتخذت صرتين من فضة واتخذت جزعا فمرت على قوم فضربت برجلها فوقع الخلخال على الجزع فصوت فأنزل الله ولا يضربن بأرجلهن
يقول تعالى ذكره : والذين يتبعونكم لطعام يأكلونه عندكم ، من لا أرب له في النساء من الرجال ولا حاجة به إليهن ، ولا يردهن .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال " قال : كان الرجل يتبع الرجل في الزمان الأول لا يغار عليه ولا ترهب المرأة أن تضع خمارها عنده ، وهو الأحمق الذي لا حاجة له في النساء .
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : " أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال " فهذا الرجل يتبع القوم ، وهو مغفل في علقه ، لا يكترث للنساء ، ولا يشتهيهن ، فالزينة التي تبديها لهؤلاء : قرطاها ، وقلادتها ، وسوارها ، وأما خلخالاها ، ومعضداها ، ونحرها ، وشعرها ، فإنها لا تبديه إلا لزوجها .
حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله " أو التابعين " قال : هو التابع يتبعك يصيب من طعامك .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا إسماعيل بن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال " قال : الذي يريد الطعام ، ولا يريد النساء .
قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ،وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : " أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال " الذين لا يهمهم إلا بطونهم ، ولا يخافون على النساء .
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا إسماعيل بن موسى السدي ، قال : ثنا شريك ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : " غير أولي الإربة " قال : الأبلة .
حدثنا أبو كريب قال : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا ، عن مجاهد قوله : " غير أولي الإربة " قال : هو الأبلة ، الذي لا يعرف شيئا من النساء .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " غير أولي الإربة من الرجال " الذي لا أرب له بالنساء مثل فلان .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن عطية ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق عمن حدثه ، عن ابن عباس " غير أولي الإربة " قال : هو الذي لا تستحيي منه النساء .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي " غير أولي الإربة " قال : من تبع الرجل وحشمه : الذي لم يبلغ أربه أن يطلع على عورة النساء .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، عن المغيرة ، عن الشعبي " غير أولي الإربة " قال : الذي لا أرب له في النساء .
قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، قال : المعتوه .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري في قوله " أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال " قال : هو الأحمق ، الذي لا همة له بالنساء ولا أرب .
وبه عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، في قوله " غير أولي الإربة من الرجال " يقول : الأحمق ، الذي ليست له همة في النساء .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : الذي لا حاجة له في النساء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال " قال : هو الذي يتبع القوم ، حتى كأنه كان منهم ، ونشأ فيهم ، وليس يتبعهم لإربة نسائهم ، وليس له في نسائهم إربة ، وإنما يتبعهم لإرفاقهم إياه .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، " عن عائشة قالت : كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث ، فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة ، فدخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو عند بعض نسائه ، وهو ينعت امرأة ، فقال : إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع ، وإذا أدبرت أدبرت بثمان ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا أرى هذا يعلم ما ها هنا ، لا يدخلن هذا عليكم فحجبوه " .
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري ، قال : ثنا حفص بن عمر العدني ، قال : ثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله " أو التابعين غير أولي الإربة " قال : هو المخنث ، الذي لا يقوم زبه .
واختلف القراء في قوله " غير أولي الإربة " فقرأ ذلك بعض أهل الشام ، وبعض أهل المدينة والكوفة غير أولي الإربة بنصب غير ، ولنصب غير ها هنا وجهان : أحدهما على القطع من التابعين ، لأن التابعين معرفة وغير نكرة ، والآخرة على الاستثناء ، وتوجيه غير إلى معنى إلا فكأنه قيل : إلا . وقرأ غير من ذكرت بخفض " غير " على أنها نعت للتابعين ، وجاز نعت التابعين بغير ، والتابعون معرفة ، وغير نكرة ، لأن التابعين معرفة غير مؤقتة . فتأويل الكلام على هذه القراءة ، أو الذين هذه صفتهم .
والقول في ذلك عندي : أنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، مستفيضة القراءة بهما في الأمصار ، فبأيتهما قرا القارئ فمصيب ، غير أن الخفض في غير : أقوى في العربية ، فالقراءة به أعجب إلى ، والإربة : الفعلة من الأرب ، مثل الجلسة من الجلوس ، والمشية من المشي ، وهي الحاجة ، يقال : لا أرب لي فيك : لا حاجة لي فيك ، وكذا أربت لكذا وكذا : إذا احتجت إليه ، فأنا آرب له أربا . فأما الأربة ، بضم الألف : فالعقدة .
وقوله " أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء " يقول تعالى ذكره: أو الطفل الذين لم يكشفوا عن عورات النساء بجماعهن ، فيظهروا عليهن ، لصغرهن .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل :
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثتا الحسن ، قال ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله " على عورات النساء " قال : لم يدروا ما ثم ، من الصغر قبل الحلم .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقوله " ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن " يقول تعالى ذكره : ولا يجعلن في أرجلهن من الحلي ، ما إذا مشين أو حركنهن ، علم الناس الذين مشين بينهم ، ما يخفين من ذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : زعم حضرمي ، أن امرأة اتخذت برتين من فضة ، واتخذت جزعا ، فمرت على قوم ، فضربت برجلها ، فوقع الخلخال على الجزع ، فصوت ، فأنزل الله " ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن " .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك " ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن " قال : كان في أرجلهن خرز ، فكن إذا مررن بالمجالس ، حرن أرجلهن ، ليعلم ما يخفين من زينتهن .
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس "ولا يضربن بأرجلهن " فهو أن تقرع الخلخال بالآخر عند الرجال ، ويكون في رجليها خلاخل ، فتحركهن عند الرجال ، فنهى الله سبحانه وتعالى عن ذلك ، لأنه من عمل الشيطان .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة " ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن " قال : هو الخلخال ، لا تضرب امرأة برجلها ، ليسمع صوت خلخالها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قالب ابن زيد ، في قوله " ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن " قال : الأجراس من حليهن يجعلنها في أرجلهن ، في مكان الخلاخل ، فنهاهن الله أن يضربن بأرجلهن، لتسمع تلك الأجراس .
وقوله " وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون " يقول تعالى ذكره : وارجعوا أيها المؤمنون إلى طاعة الله فيما أمركم ونهاكم ، من غض البصر ، وحفظ الفرج ، وترك دخول بيوت غير بيوتكم ، من غير استئذان ولا تسليم ، وغير ذلك من أمره ونهيه " لعلكم تفلحون " يقول : لتفلحوا وتدركوا طلباتكم لديه ، إذا أنتم أطعتموه فيما أمركم ونهاكم .
قوله تعالى: " وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن " إلى قوله: " من زينتهن " فيه ثلاث وعشرون مسألة:
الأولى: قوله تعالى: " وقل للمؤمنات " خص الله سبحانه وتعالى الإناث هنا بالخطاب على طريق التأكيد، فإن قوله: " قل للمؤمنين " يكفي، لأنه قول عام يتناول الذكر والأنثى من المؤمنين، حسب كل خطاب عام في القرآن. وظهر التضعيف في " يغضضن " ولم يظهر في " يغضوا " لأن لام الفعل من الثاني ساكنة ومن الأول متحركة، وهما في موضع جزم جواباً. وبدأ بالغض قبل الفرج لأن البصر رائد للقلب، كما أن الحمى رائد الموت. وأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال:
ألم تر أن العين للقلب رائد فما تألف العينان فالقلب آلف
وفي الخبر:
" النظر سهم من سهام إبليس مسموم فمن غض بصره أورثه الله الحلاوة في قلبه ". وقال مجاهد : إذا أقبلت المرأة جلس الشيطان على رأسها فزينها لمن ينظر، فإذا أدبرت جلس على عجزها فزينها لمن ينظر. وعن خالد بن أبي عمران قال: لا تتبعن النظرة النظرة فربما نظر العبد نظرةً نغل منها قلبه كما ينغل الأديم فلا ينتفع به. فأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار عما لا يحل، فلا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة، ولا المرأة إلى الرجل، فإن علاقتها به كعلاقته بها، وقصدها منه كقصده منها. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فالعينان تزنيان وزناهما النظر... " الحديث. وقال الزهري في النظر إلى التي لم تحض من النساء: لا يصلح النظر إلى شيء منهن ممن يشتهى النظر إليهن وإن كانت صغيرة. وكره عطاء النظر إلى الجواري اللاتي يبعن بمكة إلا أن يريد أن يشتري. وفي الصحيحين عنه عليه السلام أنه صرف وجه الفضل عن الخثعمية حين سألته، وطفق الفضل ينظر إليها. وقال عليه السلام: " الغيرة من الإيمان والمذاء من النفاق ". والمذاء هو أن يجمع الرجل بين النساء والرجال ثم يخليهم يماذي بعضهم بعضاً، مأخود من المذي. وقيل: هو إرسال الرجال إلى النساء، من قولهم: مذيت الفرس إذا أرسلتها ترعى. وكل ذكر يمذي، وكل أنثى تقذي، فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تبدي زينتها إلا لمن تحل له، أو لمن هي محرمة عليه على التأبيد، فهو آمن أن يتحرك طبعه إليها لوقوع اليأس له منها.
الثانية: روى الترمذي " عن نبهان مولى أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها ولميمونة وقد دخل عليها ابن أم مكتوم: احتجيا، فقالتا: إنه أعمى، قال: أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه ". فإن قيل: هذا الحديث لا يصح عند أهل النقل لأن راويه عن أم سلمة نبهان مولاها وهو ممن لا يحتج بحديثه. وعلى تقدير صحته فإن ذلك منه عليه السلام تغليظ على أزواجه لحرمتهن كما غلظ عليهن أمر الحجاب، كما أشار إليه أبو داود وغيره من الأئمة. وبقى معنى الحديث الصحيح الثابت وهو "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال:
تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك ولا يراك ". قلنا: قد استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن المرأة يجوز لها أن تطلع من الرجل على ما لا يجوز للرجل أن يطلع من المرأة كالرأس ومعلق القرط، وأما العورة فلا. فعلى هذا يكون مخصصاً لعموم قوله تعالى: " وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن "، وتكون " من " للتبعيض كما هي في الآية قبلها. قال ابن العربي : وإنما أمرها بالانتقال من بيت أم شريك إلى بيت ابن أم مكتوم لأن ذلك أولى بها من بقائها في بيت أم شريك، إذ كانت أم شريك مؤثرة بكثرة الداخل إليها، فيكثر الرائي لها، وفي بيت ابن أم مكتوم لا يراها أحد، فكان إمساك بصرها عنه أقرب من ذلك وأولى، فرخص لها في ذلك، والله أعلم.
الثالثة: أمر الله سبحانه وتعالى النساء بألا يبدين زينتهن للناظرين، إلا ما استثناه من الناظرين في باقي الآية حذاراً من الافتتان، ثم استثنى ما يظهر من الزينة، واختلف الناس في قدر ذلك، فقال ابن مسعود: ظاهر الزينة هو الثياب. وزاد ابن جبير الوجه. وقال سعيد بن جبير أيضاً و عطاء و الأوزاعي : الوجه والكفان والثياب. وقال ابن عباس و قتادة والمسور بن مخرمة: ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب إلى نصف الذراع والقرطة والفتخ، ونحو هذا فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس. وذكر الطبري عن قتادة في معنى نصف الذراع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آخر عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت أن تظهر إلا وجهها ويديها إلى هاهنا " وقبض على نصف الذراع. قال ابن عطية : ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بألا تبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه، أو إصلاح شأن ونحو ذلك. فـ" ما ظهر " على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه.
قلت: هذا قول حسن، إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادةً وعبادةً وذلك في الصلاة والحج، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعاً إليهما. يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها " أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه عليه وسلم وقال لها: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا ، وأشار إلى وجهه وكفيه ". فهذا أقوى في جانب الاحتياط، ولمراعاة فساد الناس فلا تبدي المرأة من زينتها إلا ما ظهر من وجهها وكفيها، والله الموفق لا رب سواه. وقد قال ابن خويزمنداد من علمائنا: إن المرأة إذا كانت جميلة وخيف من وجهها وكفيها الفتنة فعليها ستر ذلك، وإن كانت عجوزاً أو مقبحة جاز أن تكشف وجهها وكفيها.
الرابعة: الزينة على قسمين: خلقية ومكتسبة، فالخلقية وجهها فإنه أصل الزينة وجمال الخلقة ومعنى الحيوانية، لما فيه من المنافع وطرق العلوم. وأما الزينة المكتسبة فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خلقتها، كالثياب والحلي والكحل والخضاب، ومنه قوله تعالى: " خذوا زينتكم " [الأعراف: 31]. وقال الشاعر:
يأخذن زينتهن أحسن ما ترى وإذا عطلن فهن خير عواطل
الخامسة: من الزينة ظاهر وباطن، فما ظهر فمباح أبداً لكل الناس من المحارم والأجانب، وقد ذكرنا ما للعلماء فيه. وأما ما بطن فلا يحل إبداؤه إلا لمن سماهم الله تعالى في هذه الآية، أو حل محلهم. واختلف في السوار، فقالت عائشة: هي من الزينة الظاهرة لأنها في اليدين. وقال مجاهد : هي من الزينة الباطنة، لأنها خارج عن الكفين وإنما تكون في الذراع. قال ابن العربي : وأما الخضاب فهو من الزينة الباطنة إذا كان في القدمين.
السادسة: قوله تعالى: " وليضربن بخمرهن على جيوبهن " قرأ الجمهور بسكون اللام التي هي للأمر. وقرأ أبو عمرو في رواية ابن عباس بكسرها على الأصل، لأن الأصل في لام الأمر الكسر، وحذفت الكسرة لثقلها، وإنما تسكينها لتسكين عضد وفخذ. و " يضربن " في موضع جزم بالأمر، إلا أنه بني على حالة واحدة إتباعاً للماضي عند سيبويه. وسبب هذه الآية أن النساء كن في ذلك الزمان إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة وهي المقانع سدلنها من وراء الظهر. قال النقاش : كما يصنع النبط، فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر على ذلك، فأمر الله تعالى بلي الخمار على الجيوب، وهيئة ذلك أن تضرب المرأة بخمارها على جيبها لتستر صدرها. روى البخاري عن عائشة أنها قالت:
رحم الله نساء المهاجرات الأول، لما نزل: " وليضربن بخمرهن على جيوبهن " شققن أزرهن فاختمرن بها. ودخلت على عائشة حفصة بنت أخيها عبد الرحمن رضي الله عنهم وقد اختمرت بشيء يشف عن عنقها وما هنا لك، فشقته عليها وقالت: إنما يضرب بالكثيف الذي يستر.
السابعة: الخمر: جمع الخمار، وهو ما تغطي به رأسها، ومنه اختمرت المرأة وتخمرت، وهي حسنة الخمرة. والجيوب: جمع الجيب، وهو موضع القطع من الدرع والقيمص، وهو من الجوب وهو القطع. ومشهور القراءة ضم الجيم من " جيوبهن ". وقرأ بعض الكوفيين بكسرها بسبب الياء، كقراءتهم ذلك في: بيوت وشيوخ. والنحويون القدماء لا يجيزون هذه القراءة ويقولون: بيت وبيوت كفلس وفلوس. وقال الزجاج : يجوز على أن تبدل من الضمة كسرة، فأما ما روي عن حمزة من الجمع بين الضم والكسر فمحال، لا يقدر أحد ان ينطق به إلا على الإيماء إلى ما لا يجوز. وقال مقاتل : " على جيوبهن " أي على صدورهن، يعني على مواضع جيوبهن.
الثامنة: في هذه الآية دليل على أن الجيب إنما يكون في الثوب موضع الصدر. وكذلك كانت الجيوب في ثياب السلف رضوان الله عليهم، على ما يصنعه النساء عندنا بالأندلس وأهل الديار المصرية من الرجال والصبيان وغيرهم. وقد ترجم البخاري رحمه الله تعالى عليه (باب جيب القميص من عند الصدر وغيره) وساق حديث أبي هريرة قال:
" ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما ... " الحديث، وقد تقدم بكماله، وفيه: " قال أبو هريرة: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأصبعيه هكذا في جيبه، فلو رأيته يوسعها ولا تتوسع ". فهذا يبين لك أن جيبه عليه السلام كان في صدره، لأنه لو كان في منكبه لم تكن يداه مضطرة إلى ثدييه وتراقيه. وهذا استدلال حسن.
التاسعة: قوله تعالى: " إلا لبعولتهن " البعل هو الزوج والسيد في كلام العرب، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل:
" إذا ولدت الأمة بعلها " يعني سيدها، إشارة إلى كثرة السراري بكثرة الفتوحات، فيأتي الأولاد من الإماء فتعتق كل أم بولدها وكأنه سيدها الذي من عليها بالعتق، إذ كان العتق حاصلاً لها من سببه، قاله ابن العربي .
قلت: ومنه " قوله عليه السلام في مارية: أعتقها ولدها " فنسب العتق إليه. وهذا من أحسن تأويلات هذا الحديث. والله أعلم.
مسألة: فالزوج والسيد يرى الزينة من المرأة وأكثر من الزينة إذ كل محل من بدنها حلال له لذةً ونظراً. ولهذا المعنى بدأ بالبعولة، لأن اطلاعهم يقع على أعظم من هذا، قال الله تعالى: " والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين " [المؤمنون: 5 - 6].
العاشرة: اختلف الناس في جواز نظر الرجل إلى فرج المرأة، على قولين: أحدهما: يجوز، لأنه إذا جاز له التلذذ به فالنظر أولى. وقيل: لا يجوز، " لقول عائشة رضي الله عنها في ذكر حالها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيت ذلك منه ولا رأى ذلك مني ". والأول أصح، وهذا محمول على الأدب، قاله ابن العربي . وقد قال أصبغ من علمائنا: يجوز له أن يلحسه بلسانه. وقال ابن خويزمنداد: أما الزوج والسيد فيجوز له أن ينظر إلى سائر الجسد وظاهر الفرج دون باطنه. وكذلك المرأة يجوز أن تنظر إلى عورة زوجها، والأمة إلى عورة سيدها.
قلت: وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" النظر إلى الفرج يورث الطمس " أي العمى، أي في الناظر. وقيل: إن الولد بينهما يولد أعمى. والله أعلم.
الحادية عشرة: لما ذكر الله تعالى الأزواج وبدأ بهم ثنى بذوي المحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة، ولكن تختلف مراتبهم بحسب ما في نفوس البشر.. فلا مرية أن كشف الأب والأخ على المرأة أحوط من كشف ولد زوجها. وتختلف مراتب ما يبدى لهم، فيبدى للأب ما لا يجوز إبداؤه لولد الزوج. وقد ذكر القاضي إسماعيل عن الحسن والحسين رضي الله عنهما أنهما كانا لا يريان أمهات المؤمنين. وقال ابن عباس: إن رؤيتهما لهن تحل. قال إسماعيل: أحسب أن الحسن والحسين ذهبا في ذلك إلى أن أبناء البعولة لم يذكروا في الآية التي في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي قول تعالى: " لا جناح عليهن في آبائهن " [الأحزاب: 55]. وقال في سورة النور: " ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن " الآية.. فذهب ابن عباس إلى هذه الآية، وذهب الحسن والحسين إلى الآية الأخرى.
الثانية عشرة: قوله تعالى: " أو أبناء بعولتهن " يريد ذكور أولاد الأزواج، ويدخل فيه أولاد الأولاد وإن سفلوا، من ذكران كانوا أو إناث، كبني البنين وبني البنات. وكذلك آباء البعولة والأجداد وإن علوا من جهة الذكران لآباء الآباء وآباء الأمهات، وكذلك أبناؤهن وإن سفلوا. وكذلك أبناء البنات وإن سفلن، فيستوي فيه أولاد البنين وأولاد البنات. وكذلك أخواتهن، وهم من ولده الآباء والأمهات أو أحد الصنفين. وكذلك بنو الإخوة وبنو الأخوات وإن سفلوا من ذكران كانوا أو إناث كبني بني الأخوات وبني بنات الأخوات. وهذا كله في معنى ما حرم من المناكح، فإن ذلك على المعاني في الولادات وهؤلاء محارم، وقد تقدم في ((النساء)). والجمهور على أن العم والخال كسائر المحارم في جواز النظر لهما إلى ما يجوز لهم. وليس في الآية ذلك الرضاع، وهو كالنسب على ما تقدم. وعند الشعبي وعكرمة ليس العم والخال من المحارم. وقال عكرمة: لم يذكرها في الآية لأنهما تبعان لأبنائهما.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: " أو نسائهن " يعني المسلمات، ويدخل في هذا الإماء المؤمنات، ويخرج منه نساء المشركين من أهل الذمة وغيرهم، فلا يحل لامرأة مؤمنة أن تكشف شيئاً من بدنها بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون أمة لها،' فذلك قوله تعالى: " أو ما ملكت أيمانهن ". وكان ابن جريج وعباد بن نسي وهشام القارىء يكرهون أن تقبل النصرانية المسلمة أو ترى عورتها، ويتأولون " أو نسائهن ". وقال عبادة بن نسي: وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح: أنه بلغني أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمامات مع نساء المسلمين، فامنع من ذلك، وحل دونه، فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عرية المسلمة. قال: فعند ذلك قام أبو عبيدة وابتهل وقال: أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر لا تريد إلا أن تبيض وجهها فسود الله وجهها يوم تبيض الوجوه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يحل للمسلمة أن تراها يهودية أو نصرانية، لئلا تصفها لزوجها. وفي هذه المسألة خلاف للفقهاء. فإن كانت الكافرة أمةً لمسلمة جاز أن تنظر إلى سيدتها، وأما غيرها فلا، لانقطاع الولاية بين أهل الإسلام وأهل الكفر، ولما ذكرناه. والله أعلم.
الرابعة عشرة: قوله تعالى: " أو ما ملكت أيمانهن " ظاهر الآية يشمل العبيد والإماء المسلمات والكتابيات. وهو قول جماعة من أهل العمل، وهو الظاهر من مذهب عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما. وقال ابن عباس: لا بأس أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته. وقال أشهب: سئل مالك اتلقي المرأة خمارها بين يدي الخصي؟ فقال نعم: إذا كان مملوكاً لها أو لغيرها، وأما الحر فلا. وإن كان فحلاً كبيراً وغذاً تملكه، لا هيئة له ولا منظر فلينظر إلى شعرها. قال أشهب قال مالك : ليس بواسع أن تدخل جارية الولد أو الزوجة على الرجل المرحاض، قال الله تعالى: " أو ما ملكت أيمانكم ". وقال أشهب عن مالك : ينظر الغلام الوغد إلى شعر سيدته، ولا أحبه لغلام الزوج. وقال سعيد بن المسيب: لا تغرنكم هذه الآية " أو ما ملكت أيمانهن " إنما عنى بها الإمام ولم يعن بها العبيد. وكان الشعبي يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته. وهو قول مجاهد و عطاء . وروى أبو داود عن أنس.
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها، قال:
وعلى فاطمة ثوب إذا غطت به رأسها لم يبلغ إلى رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ إلى رأسها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى من ذلك قال: إنه لا بأس عليك أنما هو أبوك وغلامك ".
الخامسة عشرة: قوله تعالى: " أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال " أي غير أولي الحاجة. والإربة الحاجة، يقال: أربت كذا آرب أرباً. والإرب والإربة والمأربة والأرب: الحاجة، والجمع مآرب، أي حوائج. ومنه قوله تعالى: " ولي فيها مآرب أخرى " [طه: 18] وقد تقدم. وقال طرفة:
إذا المرء قال الجهل والحوب والخنا تقدم يوماً ثم ضاعت مآربه. واختلف الناس في معنى قوله: " أو التابعين غير أولي الإربة " فقيل: هو الأحمق الذي لا حاجة به إلى النساء. وقيل الأبله. وقيل: الرجل يتبع القوم فيأكل معهم ويرتفق بهم، وهو ضعيف لا يكترث للنساء ولا يشتهيهن. وقيل العنين. وقيل الخصي. وقيل المخنث. وقيل الشيخ الكبير، والصبي الذي لم يدرك. وهذا الاختلاف كله متقارب المعنى، ويجتمع فيمن لا فهم له ولا همة ينتبه بها إلى أمر النساء. وبهذه الصفة.
" كان هيت المخنث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمع منه ما سمع من وصف محاسن المرأة: بادية ابنة غيلان، أمر بالاحتجاب منه ". أخرج حديثه مسلم و أبو داود و مالك في الموطأ وغيرهم عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة. قال أبو عمر: ذكر عبد الملك بن حبيب عن حبيب كاتب مالك قال: قلت لمالك : إن سفيان زاد في حديث ابنة غيلان: " أن مخنثاً يقال له هيت " وليس في كتابك هيت؟ فقال مالك : صدق، هو كذلك وغربه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحمى وهو موضع من ذي الحليفة ذات الشمال من مسجدها. قال حبيب وقلت لمالك : وقال سفيان في الحديث: إذا قعدت تبنت، وإذا تكلمت تغنت. قال مالك : صدق، هو كذلك. قال أبو عمر: ما ذكره حبيب كاتب مالك عن سفيان أنه قال في الحديث يعني حديث هشام بن عروة " أن مخنثاً يدعى هيتاً " فغير معروف عند أحد من رواته عن هشام، ولا ابن عيينة ولا غيره، ولم يقل في نسق الحديث " إن مخنثاً يدعى هيتاً "، وإنما ذكره عن ابن جريج بعد تمام الحديث، وكذلك قوله عن سفيان أنه يقول في الحديث: إذا قعدت تبنت وإذا تكلمت تغنت، هذا ما لم يقله سفيان ولا غيره في حديث هشام بن عروة، وهذا اللفظ لا يوجد إلا من رواية الواقدي، والعجب أنه يحكيه عن سفيان ويحكي عن مالك أنه كذلك، فصارت رواية عن مالك ، ولم يروه عن مالك غير حبيب ولا ذكره عن سفيان غيره أيضاً، والله أعلم. وحبيب كاتب مالك متروك الحديث ضعيف عند جميعهم، لا يكتب حديثه ولا يلتفت إلى ما يجيء به. ذكر الواقدي و الكلبي أن هيتاً المخنث قال لعبد الله بن أمية المخزومي وهو أخو أم سلمة لأبيها وأمه عاتكة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له وهو في بيت أخته أم سلمة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع: إن فتح الله عليكم الطائف فعليك ببادية بنت غيلان بن سلمة الثقفي، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، مع ثغر كالأقحوان، إن جلست تبنت وإن تكلمت تغنت، بين رجليها كالإناء المكفوء، وهي كما قال قيس بن الخطيم:
تغترق الطرف وهي لاهية كأنما شف وجهها نزف
بين شكول النساء خلقتها قصد فلا جبلة ولا قضف
تنام عن كبر شأنها فإذا قامت رويداً تكاد تنقصف
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لقد غلغلت النظر إليها يا عدو الله. ثم أجلاه عن المدينة إلى الحمى. قال: فلما افتتحت الطائف تزوجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له منه بريهة، في قول الكلبي . ولم يزل هيت بذلك المكان حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ولي أبو بكر كلم فيه فأبى أن يرده، فلما ولي عمر كلم فيه فأبى، ثم كلم فيه عثمان بعد. وقيل: إنه قد كبر وضعف واحتاج، فأذن له أن يدخل كل جمعة فيسأل ويرجع إلى مكانه. قال: وكان هيت مولى لعبد الله بن أبي أمية المخزومي، وكان له طويس أيضاً، فمن ثم قبل الخنث. قال أبو عمر: يقال: ((بادية)) بالياء و((بادنة)) بالنون، والصواب فيه عندهم بالياء، وهو قول أكثرهم، وكذلك ذكره الزبيري بالياء.
السادسة عشرة: وصف التابعين بـ" غير " لأن التابعين غير مقصودين بأعيانهم، فصار اللفظ كالنكرة. و " غير " لا يتمحض نكرة فجاز أن يجرى وصفاً على المعرفة. وإن شئت قلت هو بدل. والقول فيها كالقول في " غير المغضوب عليهم ". وقرأ عاصم وابن عامر " غير " بالنصب فيكون استثناء، أي يبدين زينتهن للتابعين إلا ذا الإربة منهم. ويجوز أن يكون حالاً، أي والذي يتبعونهن عاجزين عنهن، قاله أبو حاتم. وذو الحال ما في التابعين من الذكر.
السابعة: عشرة: قوله تعالى: " أو الطفل " اسم جنس بمعنى الجمع، والدليل على ذلك نعته بـ"الذين ". وفي مصحف حفصة أو الأطفال على الجمع. ويقال: طفل ما لم يراهق الحلم. و " يظهروا " معناه يطلعوا بالوطء، أي لم يكشفوا عن عوراتهن للجماع لصغرهن. وقيل: لم يبلغوا أن يطيقوا النساء، يقال: ظهرت على كذا أي علمته، وظهرت على كذا أي قهرته. والجمهور على سكون الواو كم " عورات " لاستثقال الحركة على الواو. وروي عن ابن عباس فتح الواو، مثل جفنة وجفنات. وحكى الفراء أنها لغة قيس " عورات " بفتح الواو. النحاس : وهذا هو القياس، لأنه ليس بنعت، كما تقول: جفنة وجفنات، إلا أن التسكين أجود في " عورات " وأشبهاهه، لأن الواو إذا تحركت وتحرك ما قبلها قبلت ألفاً، فلو قيل هذا لذهب المعنى.
الثامنة عشرة: اختلف العلماء في وجوب ستر ما سوى الوجه والكفين منه على قولين: أحدهما: لا يلزم، لأنه لا تكليف عليه، وهو الصحيح. والآخر: يلزمه، لأنه قد يشتهى وقد تشتهى أيضاً هي، فإن راهق فحكمه حكم البالغ في وجوب الستر. ومثله الشيخ الذي سقطت شهوته، اختلف فيه أيضاً على قولين كما في الصبي، والصحيح بقاء الحرمة، قاله ابن العربي .
التاسعة عشرة: أجمع المسلمون على أن السوءتين عورة من الرجل والمرأة، وأن المرأة كلها عورة، إلا وجهها ويديها فإنهم اختلفوا فيهما. وقال أكثر العلماء في الرجل: من سرته إلى ركبته عورة، لا يجوز أن ترى. وقد مضى في ((الأعراف)) القول في هذا مستوفى.
الموفية عشرين: قال أصحاب الرأي: عورة المرأة مع عبدها من السرة إلى الركبة. ابن العربي وكأنهم ظنوها رجلاً أو ظنوه امرأة، والله تعالى قد حرم المرأة على الإطلاق لنظر أو لذة، ثم استثنى اللذة للأزواج وملك اليمين، ثم استثنى الزينة لاثني عشر شخصاً العبد منهم، فما لنا ولذلك! هذا نظر فاسد واجتهاد عن السداد متباعد. وقد تأول بعض الناس قوله: " أو ما ملكت أيمانهن " على الإماء دون العبيد، منهم سعيد بن المسيب، فكيف يحملون على العبيد ثم يلحقون بالنساء، هذا بعيد جداً! وقد قيل: إن التقدير أو ما ملكت أيمانهن من غير أولي الإربة أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال، حكاه المهدوي .
الحادية والعشرون: قوله تعالى: " ولا يضربن بأرجلهن " الآية، أي لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت لتسمع صوت خلخالها، فإسماع صوت الزينة كإبداء الزينة وأشد، والغرض التستر. أسند الطبري عن المعتمر عن أبيه أنه قال: زعم حضرمي أن امرأة اتخذت برتين من فضة واتخذت جزعاً فجعلت في ساقها فمرت على القوم فضربت برجلها الأرض فوقع الخلخال على الجزع صوت، فنزلت هذه الآية، وسماع هذه الزينة أشد تحريكاً للشهوة من إبدائها، قاله الزجاج .
الثانية والعشرون: من فعل ذلك منهن فرحاً بحليهن فهو مكروه. ومن فعل ذلك منهن تبرجاً وتعرضاً للرجال فهو حرام مذموم. وكذلك من ضرب بنعله من الرجال، إن فعل ذلك تعجباً حرم، فإن العجب كبيرة. وإن فعل ذلك تبرجاً لم يجز.
الثالثة والعشرون: قال مكي رحمه الله تعالى: ليس في كتاب الله تعالى آية أكثر ضمائر من هذه، جمعت خمسة وعشرين ضميراً للمؤمنات من مخفوض ومرفوع.
قوله تعالى: " وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون " فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: " وتوبوا " أمر. ولا خلاف بين الأمة في وجوب التوبة، وأنها فرض متعين، وقد مضى الكلام فيها في ((النساء)) وغيرها فلا معنى لإعادة ذلك. والمعنى: وتوبوا إلى الله فإنكم لا تخلون من سهو وتقصير في أداء حقوق الله تعالى، فلا تتركوا التوبة في كل حال.
الثانية: قرأ الجمهور " أيه " بفتح الهاء. وقرأ ابن عامر بضمها، ووجهه أن تجعل الهاء من نفس الكلمة، فيكون إعراب المنادى فيها. وضعف أبو علي ذلك جداً وقال: آخر الاسم هو الياء الثانية من أي، فالمضموم ينبغي أن يكون آخر الاسم، ولو جاز ضم الهاء هاهنا لاقترانها بالكلمة لجاز ضم الميم في " اللهم " لاقترانها بالكلمة في كلام طويل. والصحيح أنه إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءة فليس إلا اعتقاد الصحة في اللغة، فإن القرآن هو الحجة. وأنشد الفراء :
يأيه القلب اللجوج النفس أفق عن البيض الحسان اللعس
اللعس: لون الشفة إذا كانت تضرب إلى السواد قليلاً، وذلك يستملح، يقال: شفة لعساء، وفتية ونسوة لعس. وبعضهم يقف " أيه ". وبعضهم يقف " أيها " بالألف، لأن علة حذفها في الوصل إنما هو سكونها وسكون اللام، فإذا كان الوقف ذهبت العلة فرجعت الألف كما ترجع الياء إذا وقفت على " محلي " من قوله تعالى: " غير محلي الصيد " [المائدة: 1]. وهذا الاختلاف الذي ذكرناه هو في " يا أيها الساحر " [الزخرف: 49]. " أيها الثقلان " [الرحمن: 31].
هذا أمر من الله تعالى للنساء المؤمنات وغيرة منه لأزواجهن عباده المؤمنين وتمييز لهن عن صفة نساء الجاهلية وفعال المشركين وكان سبب نزول هذه الاية ما ذكره مقاتل بن حيان قال: بلغنا ـ والله أعلم ـ أن جابر بن عبد الله الأنصاري حدث أن أسماء بنت مرثد كانت في محل لها في بني حارثة, فجعل النساء يدخلن عليها غير متأزرات فيبدو ما في أرجلهن من الخلاخل وتبدو صدورهن وذوائبهن فقالت أسماء : ما أقبح هذا فأنزل الله تعالى: "وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن" الاية, فقوله تعالى: "وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن" أي عما حرم الله عليهن من النظر إلى غير أزواجهن, ولهذا ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجال الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلاً.
واحتج كثير منهم بما رواه أبو داود والترمذي من حديث الزهري عن نبهان مولى أم سلمة أنه حدث أن أم سلمة حدثته أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة قالت " فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه وذلك بعدما أمرنا بالحجاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجبا منه فقلت يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوعمياوان أنتما ؟ أوألستما تبصرانه" ثم قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وذهب آخرون من العلماء إلى جواز نظرهن إلى الأجانب بغير شهوة كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ينظر إلى الحبشة وهم يلعبون بحرابهم يوم العيد في المسجد وعائشة أم المؤمنين تنظر إليهم من ورائه وهو يسترها منهم حتى ملت ورجعت.
وقوله "ويحفظن فروجهن" قال سعيد بن جبير : عن الفواحش. وقال قتادة وسفيان : عما لا يحل لهن. وقال مقاتل : عن الزنا, وقال أبو العالية : كل آية نزلت في القرآن يذكر فيها حفظ الفروج فهو من الزنا إلا هذه الاية "ويحفظن فروجهن" أن لا يراها أحد, وقوله تعالى: "ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها" أي لا يظهرن شيئاً من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه. قال ابن مسعود : كالرداء والثياب يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها وما يبدو من أسافل الثياب. فلا حرج عليها فيه لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها وما لايمكن إخفاؤه. وقال بقول ابن مسعود الحسن وابن سيرين وأبو الجوزاء وإبراهيم النخعي وغيرهم.
وقال الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها" قال: وجهها وكفيها والخاتم. وروي عن ابن عمر وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء والضحاك وإبراهيم النخعي وغيرهم نحو ذلك, وهذا يحتمل أن يكون تفسيراً للزينة التي نهين عن إبدائها, كما قال أبو إسحاق السبقي عن أبي الأحوص عن عبد الله قال في قوله "ولا يبدين زينتهن" الزينة القرط والدملج والخلخال والقلادة. وفي رواية عنه بهذا الإسناد قال: الزينة زينتان: فزينة لا يراها إلا الزوج: الخاتم والسوار, وزينة يراها الأجانب وهي الظاهر من الثياب. وقال الزهري لا يبدين لهؤلاء الذين سمى الله ممن لا تحل له إلا الأسورة والأخمرة والأقرطة من غير حسر وأما عامة الناس فلا يبدين منها إلا الخواتم.
وقال مالك عن الزهري " إلا ما ظهر منها " الخاتم والخلخال. ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير ماظهر منها بالوجه والكفين وهذا هو المشهور عند الجمهور, ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود في سننه حدثنا يعقوب بن كعب الانطاكي ومؤمل بن الفضل الحراني قالا: حدثنا الوليد عن سعيد بن بشير عن قتادة عن خالد بن دريك عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر " دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أي يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفيه " , لكن قال أبو داود وأبو حاتم الرازي هذا مرسل ، خالد بن دريك لم يسمع من عائشة رضي الله عنها, والله أعلم.
وقوله تعالى: "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" يعني المقانع يعمل لها صفات ضاربات على صدورهن لتواري ما تحتها من صدرها وترائبها ليخالفن شعار نساء أهل الجاهلية فإنهن لم يكن يفعلن ذلك بل كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها, فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن كما قال تعالى: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين" وقال في هذه الاية الكريمة "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" والخمر جمع خمار وهو ما يخمر به أي يغطى به الرأس وهي التي تسميها الناس المقانع.
قال سعيد بن جبير "وليضربن" وليشددن "بخمرهن على جيوبهن" يعني على النحر والصدر فلا يرى منه شيء وقال البخاري حدثنا أحمد بن شبيب حدثنا أبي عن يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" شققن مروطهن فاختمرن بها. وقال أيضاً حدثنا أبو نعيم , حدثنا إبراهيم بن نافع عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: لما نزلت هذه الاية "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا الزنجي بن خالد حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن صفية بنت شيبة قالت: بينا نحن عند عائشة قالت فذكرنا نساء قريش وفضلهن, فقالت عائشة رضي الله عنها إن لنساء قريش لفضلاً وإني والله مارأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً بكتاب الله ولا إيماناً بالتنزيل لقد أنزلت سورة النور "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" انقلب إليهن رجالهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه, فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان. ورواه أبو داود من غير وجه عن صفية بنت شيبه به.
وقال ابن جرير حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب أن قرة بن عبد الرحمن أخبره عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: يرحم الله النساء المهاجرات الأول لما أنزل الله "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" شققن أكتف مروطهن فاختمرن بها, ورواه أبو داود من حديث ابن وهب به, وقوله تعالى "ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن" أي أزواجهن " أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن " كل هؤلاء محارم للمرأة يجوز لها أن تظهر عليهم بزينتها ولكن من غير اقتصاء وتبهرج. وقد روى ابن المنذر حدثنا موسى يعني ابن هارون حدثنا أبو بكر يعني ابن أبي شيبة حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا داود عن الشعبي وعكرمة في هذه الاية " ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن " حتى فرغ منها وقال لم يذكر العم ولا الخال لأنهما ينعتان لأبنائهما ولا تضع خمارها عند العم والخال, فأما الزوج فإنما ذلك كله من أجله فتتصنع له بما لا يكون بحضرة غيره.
وقوله "أو نسائهن" يعني تظهر بزينتها أيضاً للنساء المسلمات دون نساء أهل الذمة لئلا تصفهن لرجالهن. وذلك وإن كان محذوراً في جميع النساء إلا أنه في نساء أهل الذمة أشد فإنهن لا يمنعهن من ذلك مانع وأما المسلمة فإنها تعلم أن ذلك حرام فتنزجر عنه, وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لاتباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها" أخرجاه في الصحيحين عن ابن مسعود وقال سعيد بن منصور في سننه حدثنا إسماعيل بن عياش عن هشام بن الغازي عن عبادة بن نسي عن أبيه عن الحارث بن قيس قال: كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة : أما بعد فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك فإنه من قبلك فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الاخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها. وقال مجاهد في قوله "أو نسائهن" قال نساؤهن المسلمات ليس المشركات من نسائهن, وليس للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي مشركة, وروى عبد الله في تفسيره عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس "أو نسائهن" قال هن المسلمات لا تبديه ليهودية و لانصرانية وهو النحر والقرط والوشاح وما لا يحل أن يراه إلا محرم.
وروى سعيد حدثنا جرير عن ليث عن مجاهد قال لاتضع المسلمة خمارها عند مشركة لأن الله تعالى يقول: "أو نسائهن" فليست من نسائهن, وعن مكحول وعبادة بن نسي أنهما كرها أن تقبل النصرانية واليهودية والمجوسية المسلمة, فأما مارواه ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا أبو عمير حدثنا ضمرة قال: قال ابن عطاء عن أبيه قال: لما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المقدس كان قوابل نسائهن اليهوديات والنصرانيات, فهذا إن صح فمحمول على حال الضرورة أو أن ذلك من باب الامتهان, ثم إنه ليس فيه كشف عورة ولا بد, والله أعلم.
وقوله تعالى: "أو ما ملكت أيمانهن" قال ابن جرير : يعني من نساء المشركين, فيجوز لها أن تظهر زينتها لها, وإن كانت مشركة لأنها أمتها, وإليه ذهب سعيد بن المسيب , وقال الأكثرون: بل يجوز أن تظهر على رقيقها من الرجال والنساء, واستدلوا بالحديث الذي رواه أبو داود : حدثنا محمد بن عيسى , حدثنا أبو جميع سالم بن دينار عن ثابت , عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها, قال: وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها, وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها, فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى, قال "إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك".
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه في ترجمة خديج الحمصي مولى معاوية : أن عبد الله بن مسعدة الفزاري كان أسود شديد الأدمة, وأنه قد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهبه لابنته فاطمة, فربته ثم أعتقته, ثم قد كان بعد ذلك كله برز مع معاوية أيام صفين, وكان من أشد الناس على علي بن أبي طالب رضي الله عنه, وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري , عن نبهان , عن أم سلمة , ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا كان إحداكن مكاتب, وكان له ما يؤدي فلتحتجب منه" ورواه أبو داود عن مسدد, عن سفيان به. وقوله تعالى: "أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال" يعني كالأجراء والأتباع الذين ليسوا بأكفاء, وهم مع ذلك في عقولهم وله وحوب, ولا همة لهم إلى النساء ولا يشتهونهن, قال ابن عباس : هو المغفل الذي لا شهوة له.
وقال مجاهد : هو الأبله, وقال عكرمة : هو المخنث الذي لا يقوم ذكره, وكذلك قال غير واحد من السلف, وفي الصحيح من حديث الزهري عن عروة , عن عائشة , أن مخنثاً كان يدخل على أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة, فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينعت امرأة يقول: إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع, وإذا أدبرت أدبرت بثمان, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا أرى هذا يعلم ما ههنا لا يدخلن عليكم" فأخرجه, فكان بالبيداء يدخل كل يوم جمعة ليستطعم.
وروى الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية , حدثنا هشام بن عروة عن أبيه , عن زينب بنت أبي سلمة , عن أم سلمة أنها قالت: دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندها (أخوها) مخنث, وعندها عبد الله بن أبي أمية , والمخنث يقول: يا عبد الله , إن فتح الله عليكم الطائف غداً فعليك بابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان, قال: فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأم سلمة "لا يدخلن هذا عليك" أخرجاه في الصحيحين من حديث هشام بن عروة . وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق , حدثنا معمر عن الزهري , عن عروة بن الزبير , عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث, وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة, فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة, فقال إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع, وإذا أدبرت أدبرت بثمان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ألا أرى هذا يعلم ما ههنا لا يدخلن عليكم هذا" فحجبوه, ورواه مسلم وأبو داود والنسائي من طريق عبد الرزاق به عن أم سلمة .
وقوله تعالى: "أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء" يعني لصغرهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن من كلامهن الرخيم وتعطفهن في المشية وحركاتهن وسكناتهن, فإذا كان الطفل صغيراً لا يفهم ذلك: فلا بأس بدخوله على النساء, فأما إن كان مراهقاً, أو قريباً منه, بحيث يعرف ذلك ويدريه ويفرق بين الشوهاء والحسناء, فلا يمكن من الدخول على النساء, وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "إياكم والدخول على النساء قيل: يا رسول الله, أفرأيت الحمو ؟ قال الحمو الموت".
وقوله تعالى "ولا يضربن بأرجلهن" الاية, كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت تمشي في الطريق وفي رجلها خلخال صامت لا يعلم صوته, ضربت برجلها الأرض, فيعلم الرجال طنينه, فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك, وكذلك إذا كان شيء من زينتها مستوراً فتحركت بحركة لتظهر ما هو خفي دخل في هذا النهي لقوله تعالى: "ولا يضربن بأرجلهن" إلى آخره ومن ذلك أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها ليشتم الرجال طيبها, فقد قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا محمد بن بشار , حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن ثابت بن عمارة الحنفي , عن غنيم بن قيس , عن أبي موسى رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "كل عين زانية والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية " , قال وفي الباب عن أبي هريرة : وهذا حسن صحيح, رواه أبو داود والنسائي من حديث ثابت بن عمارة به.
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن كثير , أخبرنا سفيان عن عاصم بن عبيد الله , عن عبيد مولى أبي رهم , عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لقيته امرأة وجد منها ريح الطيب ولذيلها إعصار, فقال: يا أمة الجبار جئت من المسجد ؟ قالت: نعم. قال لها: وله تطيبت ؟ قالت: نعم, قال: إني سمعت حبي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقبل الله صلاة امرأة تطيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة". ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة , عن سفيان هو ابن عيينة به. وروى الترمذي أيضاً من حديث موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد , عن ميمونة بنت سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الرافلة في الزينة في غير أهلها كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها", ومن ذلك أيضاً أنهن ينهين عن المشي في وسط الطريق لما فيه من التبرج.
قال أبو داود : حدثنا التغلبي , حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد عن ابن أبي اليمان عن شداد بن أبي عمرو بن حماس , عن أبيه , عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد, وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء "استأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق, عليكن بحافات الطريق" فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به. وقوله تعالى: "وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون" أي افعلوا ما أمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة, فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهيا عنه, والله تعالى هو المستعان.
وفي ذلك وعيد لمن لم يغض بصره ويحفظ فرجه 31 - "وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن" خص سبحانه الإناث بهذا الخطاب على طريق التأكيد لدخولهن تحت خطاب المؤمنين تغليباً كما في سائر الخطابات القرآنية، وظهر التضعيف في يغضض ولم يظهر في يغضوا، لأن لام الفعل من الأول متحركة ومن الثاني ساكنة وهما في موضع جزم جواباً للأمر، وبدأ سبحانه بالغض في الموضعين قبل حفظ الفرج، لأن النظر وسيلة إلى عدم حفظ الفرج، والوسيلة مقدمة على المتوسل إليه، ومعنى: يغضضن من أبصارهن كمعنى يغضوا من أبصارهم، فيستدل به على تحريم نظر النساء إلى ما يحرم عليهن، وكذلك يجب عليهن حفظ فروجهن على الوجه الذي تقدم في حفظ الرجال لفروجهم "ولا يبدين زينتهن" أي ما يتزين به من الحلية وغيرها، وفي النهي عن إبداء مواضعها من أبدانهن بالأولى. ثم استثنى سبحانه من هذا النهي، فقال: "إلا ما ظهر منها".
واختلف الناس في ظاهر الزينة وما هو؟ فقال ابن مسعود وسعيد بن جبير: ظاهر الزينة هو الثياب وزاد سعيد بن جبير الوجه. وقال عطاء والأوزاعي: الوجه والكفان. وقال ابن عباس وقتادة والمسور بن مخرمة: ظاهر الزينة هو الكحل والسواك والخضاب إلى نصف الساق ونحو ذلك، فإنه يجوز للمرأة أن تبديه. وقال ابن عطية إن المرأة لا تبدي شيئاً من الزينة وتخفي كل شيء من زينتها، ووقع الاستثناء فيما يظهر منها بحكم الضرورة. ولا يخفى عليك أن ظاهر النظم القرآني النهي عن إبداء الزينة إلا ما ظهر منها كالجلباب والخمار ونحوهما مما على الكف والقدمين من الحلية ونحوها، وإن كان المراد بالزينة مواضعها كان الاستثناء راجعاً إلى ما يشق على المرأة ستره كالكفين والقدمين ونحو ذلك. وهكذا إذا كان النهي عن إظهار الزينة يستلزم النهي عن إظهار مواضعها بفحوى الخطاب، فإنه يحمل الاستثناء على ما ذكرناه في الموضعين، وأما إذا كانت الزينة تشمل مواضع الزينة وما تتزين به النساء فالأمر واضح، والاستثناء يكون من الجميع. قال القرطبي في تفسيره: الزينة على قسمين: خلقية، ومكتسبة، فالخلقية وجهها فإنه أصل الزينة، والزينة المكتسبة ما تحاوله المرأة في تحسين خلقها كالثياب
والحلي والكحل والخضاب، ومنه قوله تعالى "خذوا زينتكم" وقول الشاعر:
يأخذن زينتهن أحسن ما ترى وإذا عطلن فهن خير عواطل
"وليضربن بخمرهن على جيوبهن" قرأ الجمهور بإسكان اللام التي للأمر. وقرأ أبو عمرو بكسرها على الأصل لأن أصل لام الأمر الكسر، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس، والخمر جمع خمار، وهو ما تغطي به المرأة رأسها، ومنه اختمرت المرأة وتخمرت. والجيوب: جمع جيب، وهو موضع القطع من الدرع والقميص، مأخوذ من الجوب وهو القطع. قال المفسرون: إن نساء الجاهلية كن يسدلن خمرهن من خلفهن، وكانت جيوبهن من قدام واسعة، فكانت تنكشف نحورهن وقلائدهن، فأمرن أن يضربن مقانعهن على الجيوب لتستر بذلك ما كان يبدوا، وفي لفظ الضرب مبالغة في الإلقاء الذي هو الإلصاق. قرأ الجمهور "بخمرهن" بتحريك الميم، وقرأ طلحة ابن مصرف بسكونها. وقرأ الجمهور "جيوبهن" بضم الجيم، وقرأ ابن كثير وبعض الكوفيين بكسرها، وكثير من متقدمي النحويين لا يجوزون هذه القراءة. وقال الزجاج: يجوز أن يبدل من الضمة كسرة، فأما ما روي عن حمزة من الجمع بين الضم والكسر فمحال لا يقدر أحد أن ينطق به إلا على الإيماء، وقد فسر الجمهور الجيوب بما قدمنا وهو المعنى الحقيقي. وقال مقاتل: إن معنى على "جيوبهن": على صدورهن، فيكون في الآية مضاف محذوف: أي على مواضع جيوبهن. ثم كرر سبحانه النهي عن إبداء الزينة لأجل ما سيذكره من الاستثناء فقال: "ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن" البعل هو الزوج والسيد في كلام العرب، وقدم البعولة لأنهم المقصودون بالزينة، ولأن كل بدن الزوجة والسرية حلال لهم، ومثل قوله سبحانه: " والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين " ثم لما استثنى سبحانه الزوج أتبعه باستثناء ذوي المحارم فقال: "أو آبائهن أو آباء بعولتهن" إلى قوله، "أو بني أخواتهن" فجوز للنساء أن يبدين الزينة لهؤلاء لكثرة المخالطة وعدم خشية الفتنة لما في الطباع من النفرة عن القرائب. وقد روي عن الحسن والحسين رضي الله عنهما أنهما كانا لا ينظران إلى أمهات المؤمنين ذهاباً منهما إلى أن أبناء البعولة لم يذكروا في الآية التي في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهي قوله: "لا جناح عليهن في آبائهن" والمراد بأبناء بعولتهن ذكور أولاد الأزواج، ويدخل في قوله: "أو أبنائهن" أولاد الأولاد وإن سفلوا وأولاد بناتهن وإن سفلوا، وكذا آباء البعولة وآباء الآباء وآباء الأمهات وإن علوا، وكذلك أبناء البعولة وإن سفلوا، وكذلك أبناء الأخوة والأخوات. وذهب الجمهور إلى أن العم والخال كسائر المحارم في جواز النظر إلى ما يجوز لهم، وليس
في الآية ذكر الرضاع، وهو كالنسب. وقال الشعبي وعكرمة: ليس العم والخال من المحارم، ومعنى "أو نسائهن" هن المختصات بهن الملابسات لهن بالخدمة أو الصحبة، ويدخل في ذلك الإماء، ويخرج من ذلك نساء الكفار من أهل الذمة وغيرهم، فلا يحل لهن أن يبدين زينتهنلهن لأنهن لا يتحرجن عن وصفهن للرجال. وفي هذه المسألة خلاف بين أهل العلم، وإضافة النساء إليهن تدل على اختصاص ذلك بالمؤمنات "أو ما ملكت أيمانهن" ظاهر الآية يشمل العبيد والإماء من غير فرق بين أن يكونوا مسلمين أو كافرين، وبه قال جماعة من أهل العلم، وإليه ذهبت عائشة وأم سلمة وابن عباس ومالك. وقال سعيد بن المسيب: لا تغرنكم هذه الآية "أو ما ملكت أيمانهن" إنما عنى بها الإماء ولم يعن بها العبيد. وكان الشعبي يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته، وهو قول عطاء ومجاهد والحسن وابن سيرين، وروي عن ابن مسعود، وبه قال أبو حنيفة وابن جريح "أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال" قرأ الجمهور "غير" بالجر. وقرأ أبو بكر وابن عامر بالنصب على الاستثناء، وقيل على القطع، والمراد بالتابعين هم الذين يتبعون القوم فيصيبون من طعامهم لا همة لهم إلا ذلك ولا حاجة لهم في النساء قاله مجاهد وعكرمة والشعبي، ومن الرجال في محل نصب على الحال. وأصل الإربة والأرب والمأربة الحاجة والجمع مآرب: أي حوائج، ومنه قوله سبحانه: "ولي فيها مآرب أخرى" ومنه قول طرفة:
إذا المرء قال الجهل والحوب والخنا تقدم يوماً ثم ضاعت مآربه
وقيل المراد بغير أولي الأربة من الرجال الحمقى الذين لا حاجة لهم في النساء، وقيل البله، وقيل العنين، وقيل الخصي، وقيل المخنث، وقيل الشيخ الكبير، ولا وجه لهذا التخصيص، بل المراد بالآية ظاهرها وهم من يتبع أهل البيت، ولا حاجة له في النساء، ولا يحصل منه ذلك في حال من الأحوال، فيدخل من هؤلاء من هو بهذه الصفة ويخرج من عداه "أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء" الطفل يطلق على المفرد والمثنى والمجموع، أو المراد به هنا الجنس الموضوع موضع الجمع بدلالة وصفه بوصف الجمع، وفي مصحف أبي أو الأطفال على الجمع، يقال للإنسان طفل ما لم يراهق الحلم ومعنى لم يظهروا: لم يطلعوا، من الظهور بمعنى الاطلاع، قاله ابن قتيبة. وقيل معناه: لم يبلغوا حد الشهوة للجماع، قاله الفراء والزجاج، يقال ظهرت على كذا: إذا غلبته وقهرته. والمعنى: لم يطلعوا على عورات النساء ويكشفوا عنها للجماع، أو لم يبلغوا حد الشهوة للجماع. قراءة الجمهور "عورات" بسكون الواو تخفيفاً، وهي لغة جمهور العرب. وقرأ ابن عامر في رواية بفتحها. وقرأ بذلك ابن أبي إسحاق والأعمش. ورويت هذه القراءة عن ابن عباس، وهي لغة هذيل بن مدركة، ومنه قول الشاعر الذي أنشده الفراء:
أخو بيضات رائح متأوب رفيق لمسح المنكبين سبوح
واختلف العلماء في وجوب ستر ما عدا الوجه والكفين من الأطفال، فقيل لا يلزم لأنه لا تكليف عليه وهو الصحيح، وقيل يلزم لأنها قد تشتهي المرأة. وهكذا اختلف في عروة الشيخ الكبير الذي قد سقطت شهوته، والأولى بقاء الحرمة كما كانت، فلا يحل النظر إلى العورة ولا يحل له أن يكشفها.
وقد اختلف العلماء في حد العروة. قال القرطبي: أجمع المسلمون على أن السوءتين عورة من الرجل والمرأة، وأن المرأة كلها عورة إلا وجهها ويديها على خلاف ذلك. وقال الأكثر: إن عروة الرجل من سرته إلى ركبته "ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن" أي لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت ليسمع صوت خلخالها من يسمعه من الرجال فيعلمون أنها ذات خلخال. قال الزجاج: وسماع هذه الزينة أشد تحريكاً للشهوة من إبدائها. ثم أرشد عباده إلى التوبة عن المعاصي فقال سبحانه: " وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون " فيه الأمر بالتوبة، ولا خلاف بين المسلمين في وجوبها وأنها فرض من فرائض الدين. وقد تقدم الكلام على التوبة في سورة النساء. ثم ذكر ما يرغبهم في التوبة، فقال: "لعلكم تفلحون" أي تفوزون بسعادة الدنيا والآخرة، وقيل إن المراد بالتوبة هنا هي عما كانوا يعملونه في الجاهلية، والأول أولى لما تقرر في السنة أن الإسلام يجب ما قبله.
وقد أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال:" مر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرقات المدينة، فنظر إلى المرأة ونظرت إليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجاباً به، فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائط وهو ينظر إليها، إذ استقبله الحائط فشق أنفه، فقال: والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلمه أمري، فأتاه فقص عليه قصته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:هذا عقوبة ذنبك، وأنزل الله "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم" الآية". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم" قال: يعني من شهواتهم مما يكره الله. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي والبيهقي في سننه عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسل: "لا تتبع النظرة النظرة، فإن الأولى لك وليست لك الأخرى" وفي مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي عن جرير البجلي قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري" وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد قال:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياكم والجلوس على الطرقات، فقالوا: يا رسول الله ما لنا من مجالسنا نتحدث فيها، فقال:إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حقه يا رسول الله؟ قال:غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر". وأخرج البخاري وأهل السنن وغيرهم عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال "قلت: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال:احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك. قلت: يا نبي الله إذا كان القوم بعضهم في بعض، قال: إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها، قلت: إذا كان أحدنا خالياً، قال: فالله أحق أن يستحيا منه من الناس" وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كتب الله على ابن آدم حظه من الزنا أدرك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، وزنا الأذنين السماع وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين الخطو، والنفس تتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه". وأخرج الحاكم وصححه عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة، فمن تركها من خوف الله أثابه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه" والأحاديث في هذا الباب كثيرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: بلغنا والله أعلم أن جابر بن عبد الله الأنصاري حدث أن أسماء بنت يزيد كانت في نخل لها لبني حارثة، فجعل النساء يدخلن عليها غير متزرات فيبدو ما في أرجلهن، يعني الخلاخل، وتبدو صدورهن وذوائبهن، فقالت أسماء: ما أقبح هذا، فأنزل الله ذلك "وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن" الآية، وفيه مع كونه مرسلاً مقاتل. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وبعد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله: "ولا يبدين زينتهن" قال: الزينة السوار والدملج والخلخال والقرط والقلادة "إلا ما ظهر منها" قال: الثياب والجلباب. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عنه قال: الزينة زينتان زينة ظاهرة وزينة باطنة لا يراها إلا الزوج، فأما الزينة الظاهرة فالثياب، وأما الزينة الباطنة فالكحل السوار والخاتم. ولفظ ابن جرير: فالظاهرة منها الثياب، وما خفي الخلخالان والقرطان والسواران. وأخرج ابن المنذر عن أنس في قوله: "إلا ما ظهر منها" قال: الكحل والخاتم. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه عن ابن عباس "ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها" قال: الكحل والخاتم والقرط والقلادة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عنه قال: هو خضاب الكف والخاتم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن ابن عمر قال: الزينة الظاهرة الوجه والكفان. وأخرجا عن ابن عباس قال: إلا ما ظهر منها وجهها وكفاها والخاتم، وأخرجا أيضاً عنه قال: رقعة الوجه وباطن الكف. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عائشة أنها سئلت عن الزينة الظاهرة قال: القلب والفتخ وضمت طرف كمها. وأخرج أبو داود وابن مردويه والبيهقي عن عائشة: أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها وقال: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا، وأشار إلى وجهه وكفه. قال أبو داود وأبو حاتم الرازي: هذا مرسل لأنه من طريق خالد بن دريك عن عائشة ولم يسمع منها. وأخرج البخاري وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عائشة: قالت: رحم الله نساء المهاجرات الأولات لما أنزل الله "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" شققن أكثف مروطهن فاختمرن به. وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه عنها بلفظ: أخذ النساء أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها" والزينة الظاهرة الوجه وكحل العينين وخضاب الكف والخاتم، فهذا تظهره في بيتها لمن دخل عليها. ثم قال، "ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن" الآية، والزينة التي تبديها لهؤلاء قرطها وقلادتها وسوارها، فأما خلخالها ومعضدها ونحرها وشعرها فإنها لا تبديه إلا لزوجها. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس "أو نسائهن" قال: هن المسلمات لا تبديه ليهودية ولا نصرانية وهو النحر والقرط والوشاح، وما يحرم أن يراه إلا محرم. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أبي عبيدة: أما بعد، فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك، فانه من قبلك عن ذلك، فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس قال: لا بأس أن يرى العبد شعر سيدته. وأخرج أبو داود وابن مردويه والبيهقي عن أنس "أن النبي
صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهب لها وعلى فاطمة ثوب إذا قنع به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك" وإسناده في سنن أبي داود هكذا: حدثنا محمد بن عيسى حدثنا أبو جميع سالم بن دينار عن ثابت عن أنس فذكره. وأخرج عبد الرزاق وأحمد عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان لإحداكن مكاتب، وكان له ما يؤدي فلتحتجب منه"، وإسناد أحمد هكذا: حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن نبهان أن أم سلمة فذكره. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس في قوله: "أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال" قال: هذا الذي لا تستحي منه النساء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في الآية قال: هذا الرجل يتبع القوم وهو مغفل في عقله، لا يكترث للنساء ولا يشتهي النساء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في الآية قال: كان الرجل يتبع الرجل في الزمان الأول لا يغار عليه ولا ترهب المرأة أن تضع خمارها عنده، وهو الأحمق الذي لا حاجة له في النساء. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال: هو المخنث الذي لا يقوم زبه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن عائشة قالت: " كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث، فكانوا يدعونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة قال: إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أرى هذا يعرف ما هاهنا لا يدخلن عليكم فحجبوه". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولا يضربن بأرجلهن" وهو أن تقرع الخلخال بالآخر عند الرجال، أو يكون في رجلها خلاخل فتحركهن عند الرجال، فنهى الله عن ذلك، لأنه من عمل الشيطان.
قوله عز وجل: 31- "وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن"، عما لا يحل، "ويحفظن فروجهن"، عمن لا يحل. وقيل أيضاً: يحفظن فروجهن يعني: يسترنها حتى لا يراها أحد.
وروي "عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه، وذلك بعدما أمرنا بالحجاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احتجبا منه، فقلت: يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفعمياوان أنتما، أنستما تبصرانه"؟.
قوله تعالى: "ولا يبدين زينتهن"، أي لا يظهرن زينتهن لغير محرم، وأراد بها الزينة الخفية، وهما زينتان خفية وظاهرة، فالخفية: مثل الخلخال، والخضاب في الرجل، والسوار في المعصم، والقرط والقلائد، فلا يجوز لها إظهارها، ولا للأجنبي النظر إليها، والمراد من الزينة موضع الزينة.
قوله تعالى: "إلا ما ظهر منها"، أراد به الزينة الظاهرة.
واختلف أهل العلم في هذه الزينة الظاهرة التي استثناها الله تعالى: قال سعيد بن جبير والضحاك والأوزاعي: هو الوجه والكفان. وقال ابن مسعود: هي الثياب بدليل قوله تعالى: "خذوا زينتكم عند كل مسجد" (الأعراف-31)، وأراد بها الثياب. وقال الحسن: الوجه والثياب. وقال ابن عباس: الكحل والخاتم والخضاب في الكف.
فما كان من الزينة الظاهرة جاز للرجل الأجنبي النظر إليه إذا لم يخف فتنة وشهوة، فإن خاف شيئاً منها غض البصر، وإنما رخص في هذا القدر أن تبديه المرأة من بدنها لأنه ليس بعورة وتؤمر بكشفه في الصلاة، وسائر بدنها عورة يلزمها ستره.
قوله عز وجل: "وليضربن بخمرهن"، أي: ليلقين بمقانعهن، "على جيوبهن"، وصدورهن ليسترن بذلك شعورهن وصدورهن وأعناقهن وأقراطهن. قالت عائشة/: رحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله عز وجل: "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" شققن مروطهن فاختمرن بها.
"ولا يبدين زينتهن" يعني: الزينة الخفية التي لم يبح لهن كشفها في الصلاة ولا للأجانب، وهو ما عدا الوجه والكفين "إلا لبعولتهن"، قال ابن عباس ومقاتل: يعني لا يضعن الجلباب ولا الخمار إلا لبعولتهن، أي إلا لأزواجهن، "أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن"، فيجوز لهؤلاء أن ينظروا إلى الزينة الباطنة، ولا ينظرون إلى ما بين السرة والركبة، ويجوز للزوج أن ينظر إلى جميع بدنها غير أنه يكره له النظر إلى فرجها.
قوله تعالى: "أو نسائهن" أراد أنه يجوز للمرأة أن تنظر إلى بدن المرأة إلا ما بين السرة والركبة كالرجل المحرم، هذا إذا كانت المرأة مسلمة، فإن كانت كافرة فهل يجوز للمسلمة أن تنكشف لها؟
اختلف العلماء فيه، فقال بعضهم: يجوز كما يجوز أن تنكشف للمرأة المسلمة لأنها من جملة النساء، وقال بعضهم: لا يجوز لأن الله تعالى قال: أو نسائهن والكافرة ليست من نسائنا ولأنها أجنبية في الدين، فكانت أبعد من الرجل الأجنبي. كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح أن يمنع نساء أهل الكتاب أن يدخلن الحمام مع المسلمات.
قوله تعالى: "أو ما ملكت أيمانهن"، اختلفوا فيها، فقال قوم: عبد المرأة محرم لها، فيجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفاً، وأن ينظر إلى بدن مولاته إلا ما بين السرة والركبة، كالمحارم وهو ظاهر القرآن.
وروي ذلك عن عائشة وأم سلمة، وروي ثابت عن أنس "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها، وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك".
وقال قوم: هو كالأجنبي معها، وهو قول سعيد بن المسيب، وقال: المراد من الآية الإماء دون العبيد. وعن ابن جريج أنه قال: أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أنه لا يحل لامرأة مسلمة أن تتجرد بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون تلك المرأة المشركة أمةً لها.
قوله عز وجل: "أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال"، قرأ أبو جعفر وابن عامر وأبو بكر غير بنصب الراء على القطع لأن التابعين معرفة وغير نكرة. وقيل: بمعنى إلا فهو استثناء، معناه: يبدين زينتهن للتابعين إلا ذا الإربة منهم فإنهن لا يبدين زينتهن لمن كان منهم ذا إربة.
وقرأ الآخرون بالجر على نعت التابعين والإربة والأرب: الحاجة.
والمراد بـالتابعين غير أولي الإربة هم الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فل طعامهم لا همة لهم إلا ذلك، ولا حاجة لهم في النساء، وهو قول مجاهد وعكرمة والشعبي. وعن ابن عباس أنه الأحمق العنين. وقال الحسن: هو الذي لا ينتشر ولا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن. وقال سعيد بن جبير: هو المعتوه، وقال عكرمة: المجبوب. وقيل: هو المخنث. وقال مقاتل: الشيخ الهرم والعنين والخصي والمجبوب ونحوه.
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أحمد بن الحسين الحيري، أخبرنا محمد ابن أحمد بن محمد بن معقل بن محمد الميداني، أخبرنا محمد بن يحيى، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، "عن عائشة قالت: كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة فقال: إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أرى هذا يعلم ما ها هنا لا يدخلن عليكن هذا، فحجبوه".
"أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء"، أراد بالطفل الأطفال، يكون واحداً وجمعاً، أي: لم يكشفوا عن عورات النساء للجماع فيطلعوا عليها. وقيل: لم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر، وهو قول مجاهد. وقيل: لم يطيقوا أمر النساء. وقيل: لم يبلغوا حد الشهوة.
"ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن"، كانت المرأة إذا مشت ضربت برجلها ليسمع صوت خلخالها أو يتبين خلخالها، فنهيت عن ذلك.
"وتوبوا إلى الله جميعاً"، من التقصير الواقع في أمره ونهيه. وقيل: راجعوا طاعة الله فيما أمركم به ونهاكم عنه من الآداب المذكورة في هذه السورة، "أيها المؤمنون لعلكم تفلحون"، قرأ ابن عامر: أيه المؤمنون ووبآية الساحر وأيه الثقلان بضم الهاء فيهن، ويقف بلا ألف على الخط، وقرأ الآخرون بفتح الهاءات على الأصل.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أخبرنا وهب بن جرير، أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة، عن أبي بردة أنه سمع الأغر يحدث عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فإني أتوب إلى ربي كل يوم مائة مرة".
أخبرنا أبو الحسن عن عبد الرحمن بن محمد الداودي، أخبرنا محمد بن عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن حزيم الشاشي، أخبرنا أبو محمد عبد بن حميد الكشي، حدثني ابن أبي شيبة، أخبرنا عبد الله بن تمير، عم مالك بن مغول، عن محمد بن سوقة، عن نافع، "عن ابن عمر قال: إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس يقول: رب اغفر لي، وتب علي، إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة".
وجملة الكلام في بيان العورات: أنه لا يجوز للناظر أن ينظر إلى عورة الرجل، وعورته ما بين السرة والركبة، وكذلك المرأة مع المرأة، ولا بأس بالنظر إلى سائر البدن إذا لم يكن خوف فتنة.
وقال مالك وابن أبي ذئب: الفخذ ليس بعورة لما روي عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال "أجرى نبي الله صلى الله عليه وسلم فرساً في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس/ فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم".
وأكثر أهل العلم على أن الفخذ عورة، لما أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الحزقي، أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري، حدثنا أحمد بن علي الكشميهني، قال: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على معمر وفخذاه مكشوفتان، قال: يا معمر غط فخذيك، فإن الفخذين عورة" وروي عن ابن عباس وجرهد بن خويلد، كان من أصحاب الصفة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الفخذ عورة".
قال محمد بن إسماعيل: وحديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط.
أما المرأة مع الرجل فإن كانت أجنبيةً حرةً: فجميع بدنها في حق الأجنبي عورة، ولا يجوز النظر إلى شيء منها إلا الوجه والكفين، وإن كانت أمة: فعورتها مثل عورة الرجل، ما بين السرة إلى الركبة، وكذلك المحارم بعضهم مع بعض. والمرأة في النظر إلى الرجل الأجنبي كهو معها. ويجوز للرجال أن ينظر إلى جميع بدن امرأته وأمته التي تحل له، وكذلك هي منه إلا نفس الفرج فإنه يكره النظر إليه، وإذا زوج الرجل أمته حرم عليه النظر إلى عورتها كالأمة الأجنبية، وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زوج أحدكم عبده أمته فلا ينظرن إلى ما دون السرة وفوق الركبة".
31 -" وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن " فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من الرجال . " ويحفظن فروجهن " بالتستر أو التحفظ عن الزنا ، وتقديم الغض لأن النظر بريد الزنا . " ولا يبدين زينتهن " كالحلي والثياب والأصباغ فضلاً عن مواضعها لمن لا يحل أن تبدي له . " إلا ما ظهر منها " عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم فإن نفي سترها حرجاً ، وقيل المراد بالزينة مواضعها على حذف المضاف أو ما يعم المحاسن الخلقية والتزيينية ، والمستثنى هو الوجه والكفان لأنها ليست بعورة والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة . " وليضربن بخمرهن على جيوبهن " ستراص لأعناقهن . وقرأ نافع و عاصم و أبو عمرو و هشام بضم الجيم . " ولا يبدين زينتهن " كرره لبيان من يحل الإبداء ومن لا يحل له . " إلا لبعولتهن " فإنهم المقصودون بالزينة ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج بكره . " أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن " لكثرة مداخلتهم عليهن وإحتياجهن إلى مداخلتهم وقلة توقع الفتنة من قبلهم لما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب ، ولهم أن ينظروا منهن ما يبدو عند المهنة والخدمة وإنما لم يذكر الأعمام والأخوال لأنهم في معنى الإخوان أولان الأحوط أن يتسترن عنهم حذراً أن يصفوهن لأبنائهم " أو نسائهن " يعني المؤمنات فإن الكافرات لا يتحرجن عن وصفهن للرجال أو النساء كلهن ، وللعلماء في ذلك خلاف . " أو ما ملكت أيمانهن " يعم الإماء والعبيد ، لما روي " أنه عليه الصلاة والسلام أتى فاطمة بعبد وهبه لها وعليها ثوب ، إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها فقال عليه الصلاة والسلام : إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك " . وقيل المراد بها الإماء وعبد المرأة كالأجنبي منها . " أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال " أي أولي الحاجة إلى النساء وهم الشيوخ الهم والممسوحون ، وفي المجبوب والخصي خلاف وقيل البله الذين يتبعون الناس لفضل طعامهم ولا يعرفون شيئاً من أمور النساء ، وقرأ ابن عامر و أبو بكر غير بالنصب على الحال . " أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء " لعدم تمييزهم من الظهور بمعنى الإطلاع ، أو لعدم بلوغهم حد الشهوة من الظهور بمعنى الغلبة والطفل جنس وضع موضع الجمع اكتفاء بدلالة الوصف . " ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن " ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال فإن ذلك يورث ميلاً في الرجال ، وهو أبلغ من النهي عن إظهار الزينة وأدل على المنع من رفع الصوت . " وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون " إذ لا يكاد يخلو أحد منكم من تفريط سيما في الكف عن الشهوات ، وقيل توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية فإنه وإن جب بالإسلام لكنه يجب الندم عليه والعزم على الكف عنه كلما يتذكر ، وقرأ ابن عامر (( أيه المؤمنون )) وفي (( الزخرف )) " يا أيها الساحر " وفي (( الرحمن )) " أيها الثقلان " بضم الهاء في الوصل في الثلاثة والباقون بفتحها ، ووقف أبو عمرو و الكسائي عليهن بالألف ، ووقف الباقون بغير الألف . " لعلكم تفلحون " بسعادة الدارين .
31. And tell the believing women to lower their gaze and be modest, and to display of their adornment only that which is apparent, and to draw their veils over their bosoms, and not to reveal their adornment save to their own husbands or fathers or husbands fathers, or their sons or their husbands' sons, or their brothers or their brothers' sons or sisters sons, or their women, or their slaves, or male attendants who lack vigor, or children who know naught of women's nakedness. And let them not stamp their feet so as to reveal what they hide of their adornment. And turn unto Allah together, O believers, in order that ye may succeed.
31 - And say to the believing women that they should lower their gaze and guard their modesty; that they should not display their beauty and ornaments except what (must ordinarily) appear thereof; that they should draw their veils over their bosoms and not display their beauty except to their husbands, their fathers, their husband's fathers, their sons, their husband's sons, their brothers or their brother's sons, or their sister's sons, or their women, or the slaves whom their right hands possess, or male servants free of physical needs, or small children who have no sense of the shame of sex; and that they should not strike their feet in order to draw attention to their hidden ornaments. And O ye Believers! Turn ye all together towards God, that ye may attain Bliss.