[الحج : 27] وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ
27 - (وأذن) ناد (في الناس بالحج) فنادى على جبل أبي قبيس يا أيها الناس إن ربكم بنى بيتا وأوجب عليكم الحج إليه فأجيبوا ربككم والتفت بوجهه يمينا وشمالا وشرقا وغربا فأجابه كل من كتب له أن يحج من أصلاب الرجال وأرحام الأمهات لبيك اللهم لبيك وجواب الأمر (يأتوك رجالا) مشاة جمع راجل كقائم وقيام وركبانا (وعلى كل ضامر) أي بعير مهزول وهو يطلق على الذكر والأنثى (يأتين) أي الضوامر حملا على المعنى (من كل فج عميق) طريد بعيد
قوله تعالى وعلى كل ضامر الآية أخرج ابن جرير عن مجاهد قال كانوا لا يركبون فأنزل الله يأتوك رجالا وعلى كل ضامر فأمرهم بالزاد ورخص لهم في الركوب والمتجر
يقول تعالى ذكره : عهدنا إليه أيضا أن أذن في الناس بالحج : يعني بقوله " و أذن " أعلم وناد في الناس أن حجوا أيها الناس بيت الله الحرام " يأتوك رجالا " يقول : فإن الناس يأتون البيت الذي تأمرهم بحجة مشاه على أرجلهم " و على كل ضامر " يقول : وركبانا على كل ضامر ، و هي الإبل المهازيل " يأتين من كل فج عميق " يقول : يأتين ، فجمع لأنه أريد بكل ضامر : النوق . و معنى الكل : الجمع ، فذلك قيل : يأتين . و قد زعم الفراء أنه قليل في كلام العرب : مررت على كل رجل قائمين . قال: و هو صواب ، و قول الله " و على كل ضامر يأتين " ينبئ عن صحة جوازه . و ذكر أن إبراهيم صلوات الله عليه لما أمره الله بالتأذين بالحج ، قام على مقامه فنادى : يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا بيته العتيق .
و قد اختلف في صفة تأذين إبراهيم بذلك .
فقال بعضهم : نادى بذلك كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له " أذن في الناس بالحج " قال : رب و ما يبلغ صوتي ؟ قال: أذن ، و علي البلاغ فنادى إبراهيم : أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فحجوا - قال : فسمعه ما بين السماء و الأرض ، أفلا ترى الناس يجيئون من أقصى الأرض يبلون .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال: ثنا محمد بن فضيل بن غزوان الضبي ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما بنى إبراهيم البيت أوحى الله إليه ، أن أذن في الناس بالحج ، قال : فقال إبراهيم : ألا إن ربكم قد اتخذ بيتا ، و أمركم أن تحجوه ، فاستجاب له ما سمعه من شيء من حجر و شجر و أكمة أو تراب أو شيء : لبيك اللهم لبيك .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا ابن واقد ، عن أبي الزبير ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قوله " و أذن في الناس بالحج " قال : قام إبراهيم خليل الله على الحجر ، فنادى : يا أيها الناس كتب عليكم الحج ، فأسمع من في أصلاب الرجال و أرحام النساء ، فأجابه من آمن ممن سبق في علم الله أن يحج إلى يوم القيامة : لبيك اللهم لبيك . حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبدالرحمن ، قال : ثنا سفيان ،عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، " وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا " قال: و قرت في قلب كل ذكر و أنثى .
حدثني ابن حميد ، قال: ثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، قال : لما فرغ إبراهيم من بناء البيت ، أوحى الله إليه ، أذن في الناس بالحج ، قال : فخرج فنادى في الناس : يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه ، فلم يسمعه يومئذ من إنس ، و لا جن ، و لا شجر ، و لا أكمة ، و لا تراب ، ولا جبل ، ولا ماء و لا شيء إلا قال: لبيك اللهم لبيك .
قال: ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله " و أذن في الناس بالحج " قال : قام إبراهيم على مقامه ، فقال : يا أيها الناس أجيبوا ربكم ، فقالوا : لبيك اللهم لبيك ، فمن حج اليوم فهو ممن أجاب إبراهيم يومئذ .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عدي ، عن داود ، عن عكرمة بن خالد المخزومي ، قال : لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت ، قام على المقام ، فنادى نداء سمعه أهل الأرض : إن ربكم قد بنى لكم بيتا فحجوه . قال داود : فأرجو من حج اليوم من إجابة إبراهيم عليه السلام .
حدثني محمد بن سنان القزاز ، قال : ثنا حجاج ، قال: ثنا حماد ، عن أبي عاصم الغنوي ، عن أبي الطفيل ، قال: قال ابن عباس : هل تدري كيف كانت التلبية ؟ قلت : و كيف كانت التلبية ، قال : إن إبراهيم لما أمر أن يؤذن في الناس بالحج ، خفضت له الجبال سهلا ، ورفعت القرى ، فأذن في الناس .
حدثنا ابن حميد ، قال: ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، قوله " وأذن في الناس بالحج " قال إبراهيم : كيف أقول يا رب ؟ قال : قل : يا أيها الناس استجيبوا لربكم ، قال : وقرت في قلب كل مؤمن .
و قال آخرون في ذلك ، ما :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن سلمة ، عن مجاهد ، قال : قيل لإبراهيم ، أذن في الناس بالحج ، قال : يا رب كيف أقول ؟ قال : قل لبيك اللهم لبيك . قال : فكانت أول التلبية .
و كان ابن عباس ، يقول : عني بالناس في هذا الموضع : أهل القبلة .
ذكر الرواية بذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال: ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " و أذن في الناس بالحج " يعني بالناس : أهل القبلة ، ألم تسمع أنه قال : " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا" آل عمران : 96 ... إلى قوله "ومن دخله كان آمنا " آل عمران : 97 يقول : و من دخله من الناس الذين أمر أن يؤذن فيهم ، و كتب عليهم الحج ، فإنه آمن ، فعظموا حرمات الله تعالى ،فإنها من تقوى القلوب .
و أما قوله " يأتوك رجالا و على كل ضامر " فإن أهل التأويل قالوا فيه نحو قولنا .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال: قال: ابن عباس " يأتوك رجالا " قال : مشاة .
قال : ثنا الحسين ، قال: ثنا أبو معاوية عن الحجاج بن أرطأة ، قال: قال ابن عباس : ما آسى على شيء فاتني ، إلا أن أكون حججت ماشيا ، سمعت الله يقول " يأتوك رجالا " .
قال: ثنا الحسين ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : حج إبراهيم و إسماعيل ماشيين .
حدثنا ابن عبد الأعلى ،قال: ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن ابن عباس ، " يأتوك رجالا " قال : على أرجلهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال: ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " و على كل ضامر " قال : الإبل .
حدثنا القاسم ، قال: ثنا الحسين ، قال: ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس " وعلى كل ضامر " قال : الإبل .
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : ثنا المحاربي ، عن عمر بن ذر ، قال : قال : مجاهد : كانوا لا يركبون ، فأنزل الله " يأتوك رجالا و على كل ضامر " قال : فأمرهم بالزاد ، ورخص لهم في الركوب و المتجر .
و قوله " من كل فج عميق " .
حدثني محمد بن سعد ، قال: ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، " من كل فج عميق " يعني : من مكان بعيد .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس " من كل فج عميق " قال : بعيد .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، " فج عميق " قال : مكان بعيد .
حدثنا الحسن ، قال: أخبرنا عبد الرزاق ، قال :أخبرنا معمر ، عن قتادة مثله .
و قوله " ليشهدوا منافع لهم " اختلف أهل التأويل في معنى المنافع التي ذكرها الله في هذا الموضع فقال بعضهم : هي التجارة و منافع الدنيا .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال: ثنا حكام ، قال : ثنا عمرو عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس " ليشهدوا منافع لهم " قال : هي الأسواق .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة عن جابر بن الحكم ، عن مجاهد عن ابن عباس ، قال : تجارة .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن عاصم بن بهدلة ، عن أبي رزين ، في قوله " ليشهدوا منافع لهم " قال: أسواقهم .
قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان ، عن واقد ، عن سعيد بن جبير " ليشهدوا منافع لهم " قال: التجارة .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا إسحاق عن سفيان ، عن واقد ، عن سعيد بن جبير ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن واقد ، عن سعيد ، مثله .
حدثني الحارث ، قال: ثنا الحسن ، قال: ثنا سنان ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي رزين ، " ليشهدوا منافع لهم " قال : الأسواق .
و قال آخرون : هي الأجر في الآخرة ، و التجارة في الدنيا .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، و سوار بن عبد الله ، قالا: ثنا يحيى بن سعيد ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " ليشهدوا منافع لهم " قال : التجارة ، و ما يرضى الله من نأمر الدنيا و الآخرة .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : ثنا إسحاق ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : ثنا سفيان ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن أبي بشر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله " ليشهدوا منافع لهم " قال : الأجر في الآخرة ، و التجارة في الدنيا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال: ثنا أبو عاصم ، قال: ثنا عيسى ، و حدثني الحارث ، قال: ثنا الحسن ، قال ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
و قال آخرون : بل هي العفو و المغفرة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، " ليشهدوا منافع لهم " قال : العفو .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، قال: قال محمد بن علي : مغفرة .
و أولى الأقوال بالصواب قول من قال: عنى بذلك : ليشهدوا منافع لهم من العمل الذي يرضي الله و التجارة ، و ذلك أن الله عم لهم منافع جميع ما يشهد له الموسم ، و يأتي له مكة أيام الموسم من منافع الدنيا و الآخرة ، ولم يخصص من ذلك شيئا من منافعهم بخبر ولا عقل ، فذلك على العموم في المنافع التي وصفت .
و قوله " ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام " يقول تعالى ذكره : و كي يذكروا اسم الله على ما رزقهم من الهدايا و البدن التي أهدوها من الإبل و البقر و الغنم ، في أيام معلومات ، وهن أيام التشريق في قول بعض أهل التأويل . و في قول بعضهم أيام العشر . و في قول بعضهم : يوم النحر و أيام التشريق .
وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في ذلك بالروايات . و بينا الأولى بالصواب منها في سورة البقرة ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع ، غير أني أذكر بعض ذلك أيضا في هذا الموضع .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله " ويذكروا اسم الله في أيام معلومات " يعني أيام التشريق
حدثت عن الحسين ، قال: سمعت أبا معاذ ، يقول: ثنا عبيد بن سليمان ، قال: سمعت الضحاك ، في قوله " أيام معلومات " يعني أيام التشريق ، " على ما رزقهم من بهيمة الأنعام " يعني البدن .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال: ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، " في أيام معلومات " قال : أيام العشر ، والمعدودات : أيام التشريق .
وقوله " فكلوا منها " يقول : كلوا من بهائم الأنعام التي ذكرتم اسم الله عليها أيها الناس هنالك . وهذا الأمر من الله جل ثناؤه أمر إباحة ، لا أمر إيجاب ، وذلك أنه لا خلاف بين جميع الحجة ، أن ذابح هديه أو بدنته هنالك ، إن لم يأكل من هديه ، أنه لم يضيع له فرضا كان واجبا عليه ، فكان معلوما بذلك أنه غير واجب .
ذكر الرواية عن بعض من قال ذلك من أهل العلم :
حدثنا سوار بن عبدالله ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قوله " فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير " قال : كان لا يرى الأكل منها واجبا .
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قالك : أخبرنا حصين ، عن مجاهد ، أنه قال : هي رخصة : إن شاء أكل ، وإن شاء لم يأكل ، وهي كقوله "وإذا حللتم فاصطادوا " المائدة : 2 ، " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض " الجمعة : 10 يعني قوله " فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر " الحج : 36 .
قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، في قوله " فكلوا منها " قال : هي رخصة : فإن شاء أكل ، وإن شاء لم يأكل .
قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء في قوله " فكلوا منها " قال : هي رخصة فإن شاء أكلها ، وإن شاء لم يأكل .
حدثني علي بن سهل ، قال : ثنا زيد قال : ثنا سفيان ، عن حصين ، عن مجاهد ، في قوله " فكلوا منها " قال : إنما هي رخصة .
وقوله " وأطعموا البائس الفقير " يقول : وأطعموا مما تذبحون أو تنحرون هنالك من بهيمة الأنعام ، من هديكم وبدنكم البائس ، وهو الذي به ضر الجوع والزمانة والحاجة . الفقير : الذي لا شيء له .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل :
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير " يعني : الزمن الفقير .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن رجل ، عن مجاهد " البائس الفقير " : الذي يمد إليك يده .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله " البائس الفقير " قال : هو القانع .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عمر بن عطاء ، عن عكرمة ، قال : البائس : المضطر الذي عليه البؤس ، والفقير : المتعفف .
قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله " البائس " الذي يبسط يديه . وقوله " ثم ليقضوا تفثهم " يقول تعالى ذكره : ثم ليقضوا ما عليهم من مناسك حجهم : من حلق شعر ، وأخذ شارب ، ورمي جمرة ، وطواف بالبيت .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل :
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : ثني يزيد ، قال : أخبرنا الأشعث بن سوار ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه قال " ثم ليقضوا تفثهم " قال : ما هم عليه في الحج .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : ثنا يزيد ، قال ثني الأشعث ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : التفث : المناسك كلها .
قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، أنه قال ، في قوله " ثم ليقضوا تفثهم " قال : التفث : حلق الرأس ، وأخذ من الشاربين ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وقص الأظفار ، والأخذ من العارضين ، ورمي الجمار ، والموقف بعرفة والمزدلفة .
حدثنا حميد ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، قال : ثنا خالد ، عن عكرمة ، قال : التفث : الشعر والظفر .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن خالد ، عن عكرمة ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي ، أنه كان يقول في هذه الآية " ثم ليقضوا تفثهم " : رمي الجمار ، وذبح الذبيحة ، وأخذ من الشاربين واللحية والأظفار ، والطواف بالبيت وبالصفا والمروة .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد أنه قال في هذه الآية " ثم ليقضوا تفثهم " قال : هو حلق الرأس . وذكر أشياء من الحج ، قال شعبة لا أحفظها .
قال : ثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " ثم ليقضوا تفثهم " قال : حلق الرأس ، وحلق العانة ، وقص الأظفار ، وقص الشارب ، ورمي الجمار ، وقص اللحية .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله . إلا أنه لم يقل في حديثه : وقص اللحية .
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : ثنا المحاربي ، قال : سمعت رجلا يسأل ابن جريج ، عن قوله " ثم ليقضوا تفثهم " قال : الأخذ من اللحية ، ومن الشارب ، وتقليم الأظفار ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، ورمي الجمار .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا منصور ، عن الحسن ، وأخبرنا جويبر ، عن الضحاك أنهما قالا : حلق الرأس .
حدثت عن الحسين ، قال سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله " ثم ليقضوا تفثهم " يعني : حلق الرأس .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : التفث : حلق الرأس ، وتقليم الظفر .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن ابيه ، عن ابن عباس ، قوله " ثم ليقضوا تفثهم " يقول : نسكهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " ثم ليقضوا تفثهم " قال : التفث : حرمهم .
حدثني علي ، قال : ثنا عبدالله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله " ثم ليقضوا تفثهم " قال : يعني بالتفث : وضع إحرامهم من حلق الرأس ولبس الثياب ، وقص الأظفار ونحو ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، قال : التفث : حلق الشعر ، وقص الأظفار والأخذ من الشارب ، وحلق العانة ، وأمر الحج كله .
وقوله " وليوفوا نذورهم " يقول : وليوفوا الله بما نذروا من هدي وبدنة وغير ذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل :
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله " وليوفوا نذورهم " نحر ما نذروا من البدن .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى - وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " وليوفوا نذورهم " نذر الحج والهدي ، وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد " وليوفوا نذورهم " قال : نذر الحج والهدي ، وما نذر الإنسان على نفسه من شيء يكون في الحج .
وقوله " وليطوفوا بالبيت العتيق " يقول : وليطوفوا ببيت الله الحرام .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله " العتيق " في هذا الموضع ، فقال بعضهم : قيل ذلك لبيت الله الحرام ، لأن الله أعتقه من الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه وهدمه .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، أن ابن الزبير قال : إنما سمي البيت العتيق ، لأن الله أعتقه من الجبابرة .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن الزبير ، مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : إنما سمي العتيق ، لأنه أعتق من الجبابرة .
قال : ثنا سفيان ، قال : ثنا أبو هلال ، عن قتادة " وليطوفوا بالبيت العتيق " قال : أعتق من الجبابرة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ،قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله البيت العتيق قال : أعتقه الله من الجبابرة ، يعني الكعبة .
وقال آخرون : قيل له عتيق ، لأنه لم يملكه أحد من الناس .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن عبيد ، عن مجاهد ، قال : إنما سمي البيت العتيق لأنه ليس لأحد فيه شيء .
وقال آخرون : سمي بذلك لقدمه .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله
البيت العتيق قال : العتيق : القديم ، لأنه قديم ، كما يقال : السيف العتيق ، لأنه أول بيت وضع للناس بناه آدم ، وهو أول من بناه ، ثم بوأ الله موضعه لإبراهيم بعد الغرق ، فبناه إبراهيم وإسماعيل .
قال أبو جعفر : ولكل هذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه في قوله البيت العتيق وجه صحيح ، غير أن الذي قاله ابن زيد أغلب معانيه عليه في الظاهر ، غير أن الذي روي عن ابن الزبير أولى بالصحة ، إن كان ما :
حدثني به محمد بن سهل البخاري ، قال : ثنا عبدالله بن صالح ، قال : أخبرني الليث ، عن عبد الرحمن بن خالد بن مسفر ، عن الزهري ، عن محمد بن عروة ، عن عبدالله بن الزبير ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما سمي البيت العتيق لأن الله أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه قط " صحيحا .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال الزهري : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنما سمي البيت العتيق لأن الله أعتقه " ثم ذكر مثله .
وعني بالطواف الذي أمر جل ثناؤه حاج بيته العتيق به في هذه الآية طواف الإفاضة الذي يطاف به بعد التعريف ، إما يوم النحر ، وإما بعده ، لا خلاف بين أهل التأويل في ذلك .
ذكر الرواية عن بعض من قال ذلك :
حدثنا عمرو بن سعيد القرشي ، قال : ثنا الأنصاري ، عن أشعث ، عن الحسن " وليطوفوا بالبيت العتيق " قال : طواف الزيارة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا خالد ، قال : ثنا الأشعث ، أن الحسن قال في قوله " وليطوفوا بالبيت العتيق " يعني : للطواف الواجب .
حدثني علي ، قال : ثنا عبدالله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله " وليطوفوا بالبيت العتيق " يعني : زيارة البيت .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، عن حجاج و عبد الملك ، عن عطاء ، في قوله " وليطوفوا بالبيت العتيق " قال : طواف يوم النحر .
حدثني أبو عبد الرحمن البرقي ، قال : ثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : سألت زهيرا عن قول الله : " وليطوفوا بالبيت العتيق " قال : طواف الوداع .
واختلف القراء في قراءة هذه الحروف ، فقرأ ذلك عامة قراء الكوفة " ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا " بتسكين اللام في كل ذلك طلب التخفيف ، كما فعلوا في هو إذا كانت قبلها واو ، فقالوا وهو عليم بذات الصدور الحديد : 6 فسكنوا الهاء ، وكذلك يفعلون في لام الأمر إذا كان قبلها حروف من حروف النسق كالواو والفاء وثم ، وكذلك قرأت عامة قرأ أهل البصرة ، غير أن أبا عمرو بن العلاء كان يكسر اللام من قوله ثم ليقضوا خاصة من أجل أن الوقوف على ثم دون ليقضوا حسن ، وغير جائز الوقوف على الواو والفاء ، وهذا الذي اعتل به أبو عمرو لقراءته عليه حسنة من جهة القياس ، غير أن أكثر القراء على تسكينها .
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك عندي ، أن التسكين في لام ليقضوا والكسر قراءتان مشهورتان ولغتان سائرتان ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب ، غير أن الكسر فيها خاصة أقيس ، لما ذكرنا لأبي عمرو من العلة ، لأن من قرأ "وهو عليم بذات الصدور " الحديد : 6 فهو بتسكين الهاء مع الواو والفاء ، ويحركها في قوله " ثم هو يوم القيامة من المحضرين " القصص : 61 فذلك الواجب عليه أن يفعل في قوله " ثم ليقضوا تفثهم " فيحرك اللام إلى الكسر مع ثم ، وإن سكنها في قوله " وليوفوا نذورهم " وقد ذكر عن أبي عبد الرحمن السلمي و الحسن البصري تحريكها مع ثم والواو ، وهي لغة مشهورة غير أن أكثر القراء مع الواو والفاء على تسكينها ، هي أشهر اللغتين في العرب وأفصحها ، فالقراءة بها أعجب إلي من كسرها .
فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: " وأذن في الناس بالحج " قرأ جمهور الناس " وأذن " بتشديد الذال. وقرأ الحسن بن أبي الحسن و ابن محيصن وآذن بتخفيف الذال ومد الألف. ابن عطية : وتصحف هذا على ابن جني، فإنه حكى عنهما وآذن على أنه فعل ماض، وأعرب على ذلك بأن جعله عطفاً على " بوأنا ". والأذان الإعلام، وقد تقدم في ((براءة)).
الثانية: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت، وقيل له: أذن في الناس بالحج، قال: يا رب! وما يبلغ صوتي؟قال: أذن وعلي الإبلاغ، فصعد إبراهيم خليل الله جبل أبي قبيس وصاح: يا أيها الناس! إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار، فحجوا، فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك! فمن أجاب يومئذ حج على قدر الإجابة، إن أجاب مرة فمرة، وإن أجاب مرتين فمرتين، وجرت التلبية على ذلك ، قاله ابن عباس وابن جبير. وروي عن أبي الطفيل قال: قال لي ابن عباس: أتدري ما كان أصل التلبية؟ قلت: لا! قال: لما أمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج خفضت الجبال رؤوسها ورفعت له القرى، فنادى في الناس بالحج فأجابه كل شيء: لبيك اللهم لبيك. وقيل: إن الخطاب لإبراهيم عليه السلام تم عند قوله " السجود "، ثم أعلمهم أن عليهم الحد. وقول ثالث: إن الخطاب من قوله " أن لا تشرك " مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا قول أهل النظر، لأن القرآن أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فكل ما فيه من المخاطبة فهي له إلا أن يدل دليل قاطع على غير ذلك. وهاهنا دليل آخر يدل على أن المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو " أن لا تشرك بي " بالتاء، وهذا مخاطبة لمشاهد، وإبراهيم عليه السلام غائب، فالمعنى على هذا: وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت فجعلنا لك الدلائل على توحيد الله تعالى وعلى أن إبراهيم كان يعبد الله وحده. وقرأ جمهور الناس " بالحج " بفتح الحاء. وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها. وقيل: إن نداء إبراهيم من جملة ما أمر به من شرائع الدين. والله أعلم.
الثالثة: قوله تعالى: " يأتوك رجالا وعلى كل ضامر " وعده إجابة الناس إلى حج البيت ما بين راجل وراكب، وإنما قال: " يأتوك " وإن كانوا يأتون الكعبة لأن المنادى إبراهيم، فمن أتى الكعبة حاجاً فكأنما أتى إبراهيم، لأنه أجاب نداءه، وفيه تشريف إبراهيم، ابن عطية : " رجالا " جمع راجل مثل تاجر وتجار، وصاحب وصحاب. وقيل: الرجال جمع رجل، والرجل جمع راجل، مثل تجار وتجر وتاجر، وصحاب وصحب وصاحب. وقد يقال في الجمع: رجال، بالتشديد، مثل كافر وكفار. وقرأ ابن أبي إسحاق وعكرمة " رجالا " بضم الراء وتخفيف الجيم، وهو قليل في أبنية الجمع، ورويت عن مجاهد. وقرأ مجاهد رجالى على وزن فعالى، فهو مثل كسارى. قال النحاس : في جمع راجل خمسة أوجه، رجال مثل ركاب، وهو الذي روي عن عكرمة، ورجال مثل قيام، ورجلة، ورجل، ورجالة. والذي روي عن مجاهد رجالاً غير معروف، والأشبه به أن يكون غير منون مثل كسالى وسكارى، ولو نون لكان على فعالى، وفعال في الجمع قليل. وقدم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي. " وعلى كل ضامر يأتين " لأن معنى " ضامر " معنى ضوامر. قال الفراء : ويجوز " يأتي " على اللفظ. والضامر: البعير المهزول الذي أتعبه السفر، يقال: ضمر يضمر ضموراً، فوصفها الله تعالى بالمآل الذي انتهت عليه إلى مكة. وذكر سبب الضمور فقال: " يأتين من كل فج عميق " أي أثر فيها طول السفر. ورد الضمير إلى الإبل تكرمة لها لقصدها الحج مع أربابها، كما قال: " والعاديات ضبحا " [العاديات: 1] في خيل الجهاد تكرمة لها حين سعت في سبيل الله.
الرابعة: قال بعضهم: إنما قال " رجالا " لأن الغالب خروج الرجال إلى الحج دون الإناث، فقوله: " رجالا " من قولك: هذا رجل، وهذا فيه بعد، لقوله: " وعلى كل ضامر " يعني الركبان، فدخل فيه الرجال والنساء. ولما قال تعالى: " رجالا " وبدأ بهم دل ذلك على أن حج الراجل أفضل من حج الراكب. قال ابن عباس: ما آسى على شيء فاتني إلا أن لا أكون حججت ماشياً، فإني سمعت الله عز وجل يقول: " يأتوك رجالا " وقال ابن أبي نجيح: حج إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ماشيين. وقرأ أصحاب ابن مسعود " يأتون " وهي قراءة ابن أبي عبلة و الضحاك ، والضمير للناس.
الخامسة: لا خلاف في جواز الركوب والمشي، واختلفوا في الأفضل منهما، فذهب مالك و الشافعي في آخرين إلى أن الركوب أفضل، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولكثرة النفقة ولتعظيم شعائر الحج بأهبة الركوب. وذهب غيرهم إلى أن المشي أفضل ما فيه من المشقة على النفس، ولحديث أبي سعيد قال:
" حج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة، وقال: اربطوا أوساطكم بأزركم، ومشى خلط الهرولة "، خرجه ابن ماجة في سننه. ولا خلاف في أن الركوب عند مالك في المناسك كلها أفضل، للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
السادسة: استدل بعض العلماء بسقوط ذكر البحر من هذه الآية على أن فرض الحج بالبحر ساقط. قال مالك في الموازية: لا أسمع للبحر ذكراً، وهذا تأنس، لا أنه يلزم من سقوط ذكره سقوط الفرض فيه، وذلك أن مكة ليست في ضفة بحر فيأتيها الناس في السفن، ولا بد لمن ركب البحر أن يصير في إتيان مكة إما راجلاً وإما على ضامر، فإنما ذكرت حالتا الوصول، وإسقاط فرض الحج بمجرد البحر ليس بالكثير ولا بالقوي. فأما إذا اقترن به عدو وخوف أو هول شديد أو مرض يلحق شخصاً، فمالك و الشافعي وجمهور الناس على سقوط الوجوب بهذه الأعذار، وأنه ليس بسبيل يستطاع. قال ابن عطية : وذكر صاحب الاستظهار في هذا المعنى كلاماً، ظاهره أن الوجوب لا يسقط بشيء من هذه الأعذار، وهذا ضعيف.
قلت: وأضعف من ضعيف، وقد مضى في ((البقرة)) بيانه. والفج: الطريق الواسعة، والجمع فجاج. وقد مضى في ((الأنبياء)). والعميق معناه البعيد. وقراءة الجماعة " يأتين ". وقرأ أصحاب عبد الله " يأتون " وهذا للركبان و " يأتين " للجمال، كأنه قال: وعلى إبل ضامرة يأتين " من كل فج عميق " أي بعيد، ومنه بئر عميقة أي بعيدة القعر، ومنه:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق
السابعة: واختلفوا في الواصل إلى البيت، هل يرفع يديه عند رؤيته أم لا، فروى أبو داود قال:
" سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يرى البيت ويرفع يديه فقال: ما كنت أرى أن أحداً يفعل هذا إلا اليهود، وقد حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نكن نفعله ". و" روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
ترفع الأيدي في سبعة مواطن افتتاح الصلاة واستقبال البيت والصفا والمروة والموقفين والجمرتين". وإلى حديث ابن عباس هذا ذهب الثوري و ابن مبارك و أحمد وإسحاق وضعفوا حديث جابر، لأن مهاجراً المكي راويه مجهول. وكان ابن عمر يرفع يديه عند رؤية البيت. وعن ابن عباس مثله.
هذا فيه تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله وأشرك به من قريش في البقعة التي أسست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له, فذكر تعالى أنه بوأ إبراهيم مكان البيت, أي أرشده إليه وسلمه له وأذن له في بنائه, واستدل به كثير ممن قال: إن إبراهيم عليه السلام هو أول من بنى البيت العتيق, وأنه لم يبن قبله, كما ثبت في الصحيحين عن أبي ذر , قلت: " يا رسول الله أي مسجد وضع أول ؟ قال المسجد الحرام. قلت: ثم أي ؟ قال: بيت المقدس. قلت: كم بينهما ؟ قال: أربعون سنة". وقد قال الله تعالى: "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً" الايتين, وقال تعالى: "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود" وقد قدمنا ذكر ما ورد في بناء البيت من الصحاح والاثار بما أغنى عن إعادته ههنا, وقال تعالى ههنا "أن لا تشرك بي شيئاً" أي ابنه على اسمي وحدي "وطهر بيتي" قال قتادة ومجاهد : من الشرك "للطائفين والقائمين والركع السجود" أي اجعله خالصاً لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له, فالطائف به معروف, وهو أخص العبادات عند البيت, فإنه لا يفعل ببقعة من الأرض سواها "والقائمين" أي في الصلاة, ولهذا قال: "والركع السجود" فقرن الطواف بالصلاة لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت, فالطواف عنده والصلاة إليه في غالب الأحوال, إلا ما استثني من الصلاة عند اشتباه القبلة وفي الحرب وفي النافلة في السفر, والله أعلم.
وقوله: "وأذن في الناس بالحج" أي ناد في الناس بالحج, داعياً لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه, فذكر أنه قال: يا رب وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم ؟ فقال: ناد وعلينا البلاغ, فقام على مقامه, وقيل على الحجر, وقيل على الصفا, وقيل على أبي قبيس, وقال: يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه, فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض, وأسمع من في الأرحام والأصلاب, وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر, ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة, لبيك اللهم لبيك, وهذا مضمون ما روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف, والله أعلم, أوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة.
وقوله: "يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر" الاية, قد يستدل بهذه الاية من ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشياً لمن قدر عليه أفضل من الحج راكباً, لأنه قدمهم في الذكر, فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم وشدة عزمهم, وقال وكيع عن أبي العميس , عن أبي حلحلة , عن محمد بن كعب , عن ابن عباس قال: ما أساء علي شيء إلا أخي وددت أني كنت حججت ماشياً, لأن الله يقول: "يأتوك رجالاً" والذي عليه الأكثرون أن الحج راكباً أفضل, اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه حج راكباً مع كمال قوته عليه السلام. وقوله: "يأتين من كل فج" يعني طريق, كما قال: "وجعلنا فيها فجاجاً سبلاً" وقوله: "عميق" أي بعيد, قاله مجاهد وعطاء والسدي وقتادة ومقاتل بن حيان والثوري وغير واحد, وهذه الاية كقوله تعالى إخباراً عن إبراهيم حيث قال في دعائه: "فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم" فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحن إلى رؤية الكعبة والطواف, فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار.
27- "وأذن في الناس بالحج" قرأ الحسن وابن محيصن " وأذن " بتخفيف الذال والمد. وقرأ الباقون بتشديد الذال، والأذان الإعلام، وقد تقدم في براءة.
قال الواحدي: قال جماعة المفسرين: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت جاءه جبريل فأمره أن يؤذن في الناس بالحج، فقال: يا رب من يبلغ صوتي؟ فقال الله سبحانه: أذن وعلي البلاغ، فعلا المقام فأشرف به حتى صار كأعلى الجبال، فأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يميناً أو شمالاً وشرقاً وغرباً وقال: يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت فأجيبوا ربكم، فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك. وقيل إن الخطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. والمعنى: أعلمهم يا محمد بوجوب الحج عليهم، وعلى هذا فالخطاب لإبراهيم انتهى عند قوله: "والركع السجود" وقيل إن خطابه انقضى عند قوله: "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت" وأن قوله: "أن لا تشرك بي" وما بعده خطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقرأ الجمهور "بالحج" بفتح الحاء، وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها "يأتوك رجالاً" هذا جواب الأمر، وعد الله إجابة الناس له إلى حج البيت ما بين راجل وراكب، فمعنى رجالاً مشاة جمع راجل، وقيل جمع رجل. وقرأ ابن أبي إسحاق رجالاً بضم الراء وتخفيف الجيم، وقرأ مجاهد رجالى على وزن فعالى مثل كسالى، وقدم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي، وقال: يأتوك وإن كانوا يأتون البيت، لأن من أتى الكعبة حاجاً فقد أتى إبراهيم، لأنه أجاب نداءه "وعلى كل ضامر" عطف على رجالاً: أي وركباناً على كل بعير، والضامر البعير المهزول الذي أتعبه السفر، ويقال ضمر يضمر ضموراً، ووصف الضامر بقوله يأتين باعتبار المعنى، لأن الضامر في معنى ضوامر، وقرأ أصحاب ابن مسعود وابن أبي عبلة والضحاك يأتون على أنه صفة لرجالاً. والفج الطريق الواسع الجمع فجاج، والعميق البعيد.
27. " وأذن في الناس " أي: أعلم وناد في الناس، " بالحج "، فقال إبراهيم وما يبلغ صوتي؟ فقال: عليك الأذان وعلي البلاغ، فقام إبراهيم على المقام فارتفع المقام حتى صار كأطول الجبال فأدخل أصبعيه في أذنيه، وأقبل بوجهه يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً وقال: يا أيها الناس ألا إن ربكم قد بنى بيتاً وكتب عليكم الحج إلى البيت فأجيبوا ربكم، فأجابه كل من كان يحج من أصلاب الآباء وأرحام الأمهات: لبيك اللهم لبيك، قال ابن عباس: فأول من أجابه أهل اليمن فهم أكثر الناس حجاً.
وروي أن إبراهيم صعد أبا قبيس ونادى. وقال ابن عباس عنى بالناس في هذه الآية أهل القبلة، وزعم الحسن أن قوله: " وأذن في الناس بالحج " كلام مستأنف وأن المأمور بهذا التأذين محمد صلى الله عليه وسلم أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع.
وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا ".
قوله تعالى: " يأتوك رجالاً "، مشاة على أرجلهم جمع راجل، مثل قائم وقيام وصائم وصيام، " وعلى كل ضامر "، أي: ركباناً على كل ضامر، والضامر: البعير المهزول. " يأتين من كل فج عميق " أي: من كل طريق بعيد، وإنما جمع ((يأتين)) لمكان كل وإرادة النوق.
27ـ " وأذن في الناس " ناد فيهم وقرئ (( وآذن )) . " بالحج " بدعوة الحج والأمر به . "روي أنه عليه الصلاة والسلام صعد أبا قبيس فقال : يا أيها الناس حجوا بيت ربكم ، فأسمعه الله من أصلاب الرجال وأرحام النساء فيما بين المشرق والمغرب ممن سبق في علمه أن يحج " . وقيل الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بذلك في حجة الوداع . " يأتوك رجالاً " مشاة جمع راجل كقائم وقيام ، وقرئ بضم الراء مخفف الجيم ومثقله ورجالى كعجالى . " وعلى كل ضامر " أي وركباناً على كل بعير مهزل أتعبه بعد السفر فهزله . " يأتين " صفة لـ " ضامر " محمولة على معناه ، وقرئ (( يأتون )) صفة للرجال والركبان أو استئناف فيكون الضمير لـ " الناس " "من كل فج " طريق. " عميق " بعيد ، وقرئ (( معيق )) يقال بئر بعيدة العمق والمعق بمعنى .
27. And proclaim unto mankind the Pilgrimage. They will come unto thee on foot and on every lean camel; they will come from every deep ravine.
27 - And proclaim the pilgrimage among men: they will come to thee on foot and (mounted) On every kind of camel, lean on account of journeys through deep and distant mountain highways;