[البقرة : 88] وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ
(وقالوا) للنبي استهزاء (قلوبنا غلف) جمع أغلف أي مغشاة بأغطية فلا تعي ما تقول قال تعالى: (بل) للإضراب (لعنهم الله) أبعدهم من رحمته وخذلهم عن القبول (بكفرهم) وليس عدم قبولهم لخلل في قلوبهم (فقليلا ما يؤمنون) ما زائدة لتأكيد القلة أي: إيمانهم قليل جدا
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه بعضهم:"وقالوا قلوبنا غلف" مخففة اللام ساكنة. وهي قراءة عامة الأمصار في جميع الأقطار.
وقرأه بعضهم:"وقالوا قلوبنا غلف" مثقلة اللام مضمومة.
فأما الذين قرأوها بسكون اللام وتخفيفها، فإنهم تأولوها، أنهم قالوا: قلوبنا في أكنة وأغطية وغلف. والغلف على قراءة هؤلاء جمع أغلف، وهو الذي في غلاف وغطاء، كما يقال للرجل الذي لم يختتن، أغلف، والمرأة غلفاء. وكما يقال للسيف إذا كان في غلافه: سيف أغلف وقوس غلفاء وجمعها غلف. وكذلك جمع ما كان من النعوت ذكره على أفعل وأنثاه على فعلاء، يجمع على فعل مضمومة الأول ساكنة الثاني، مثل:أحمر وحمر، وأصفر وصفر، فيكون ذلك جماعًا للتأنيث والتذكير. ولا يجوز تثقيل عين فعل منه، إلا في ضرورة شعر، كما قال طرفة بن العبد:
أيها الفتيان في مجلسنا جردوا منها ورادًا وشقر
يريد: شقرًا، إلا أن الشعر اضطره إلى تحريك ثانيه فحركه. ومنه الخبر الذي:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير بن سلمان قال، حدثنا عمرو بن قيس الملائي، عن عمرو بن مرة الجملي، عن أبي البختري، عن حذيفة قال: القلوب أربعة ثم ذكرها فقال فيما ذكر: وقلب أغلف معصوب عليه، فذلك قلب الكافر.
ذكر من قال ذلك يعني: أنها في أغطية:
حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس:"وقالوا قلوبنا غلف"، أي في أكنة.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"قلوبنا غلف"، أي في غطاء.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وقالوا قلوبنا غلف"، فهي القلوب المطبوع عليها.
حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج: أخبرني عبدالله بن كثير، عن مجاهد قوله:"وقالوا قلوبنا غلف"، عليها غشاوة.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال، أخبرني عبدالله بن كثير، عن مجاهد:"وقالوا قلوبنا غلف"، عليها غشاوة.
حدثنا أحمد بن إسحق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك، عن الأعمش قوله:"قلوبنا غلف"، قال: هي في غلف.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "وقالوا قلوبنا غلف"، أي لا تفقه.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"وقالوا قلوبنا غلف" قال: هو كقوله: "قلوبنا في أكنة" (فصلت:5).
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة في قوله:"قلوبنا غلف" قال: عليها طابع، قال: هو كقوله: "قلوبنا في أكنة".
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:"قلوبنا غلف"، أي لا تفقه.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وقالوا قلوبنا غلف"، قال: يقولون: عليها غلاف، وهو الغطاء.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"قلوبنا غلف"، قال يقول: قلبي في غلاف فلا يخلص إليه مما تقول شيء، وقرأ "وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه" (فصلت: 6).
قال أبو جعفر: وأما الذين قرأوها غلف بتحريك اللام وضمها، فإنهم تأولوها أنهم قالوا: قلوبنا غلف للعلم، بمعنى أنها أوعية.
قال: والغلف على تأويل هؤلاء جمع غلاف. كما يجمع الكتاب كتب، والحجاب حجب، والشهاب شهب. فمعنى الكلام على تأويل قراءة من قرأ غلف بتحريك اللام وضمها، وقالت اليهود: قلوبنا غلف للعلم وأوعية له ولغيره. ذكر من قال ذلك:
حدثني عبيد بن أسباط بن محمد قال، حدثنا أبي، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية: "وقالوا قلوبنا غلف"، قال: أوعية للذكر.
حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيدالله بن موسى قال، أخبرنا فضيل، عن عطية في قوله: " قلوبنا غلف"، قال: أوعية للعلم.
حدثنا أحمد بن إسحق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل، عن عطية مثله.
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:"وقالوا قلوبنا غلف"، قال: مملوءة علمًا، لا تحتاج إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره.
والقراءة التي لا يجوز غيرها في قوله:"قلوبنا غلف"، هي قراءة من قرأ "غلف" بتسكين اللام بمعنى أنها في أغشية وأغطية، لاجتماع الحجة من القرأة وأهل التأويل على صحتها، وشذوذ من شذ عنهم بما خالفه، من قراءة ذلك بضم اللام.
وقد دللنا على أن ما جاءت به الحجة متفقة عليه، حجة على من بلغه. وما جاء به المنفرد، فغير جائز الاعتراض به على ما جاءت به الجماعة التي تقوم بها الحجة نقلاً وقولاً وعملاً، في غير هذا الموضع، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا المكان.
القول في تأويل قوله تعالى: "بل لعنهم الله بكفرهم ".
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه:"بل لعنهم الله"، بل أقصاهم الله وأبعدهم وطردهم وأخزاهم وأهلكهم بكفرهم، وجحودهم آيات الله وبيناته، وما ابتعث به رسله، وتكذيبهم أنبياءه. فأخبر تعالى ذكره أنه أبعدهم منه ومن رحمته بما كانوا يفعلون من ذلك.
وأصل اللعن الطرد والإبعاد والإقصاء يقال: لعن الله فلانًا يلعنه لعنًا، وهو ملعون. ثم يصرف مفعول: فيقال: هو لعين. ومنه قول الشماخ بن ضرار:
ذعرت به القطا ونفيت عنه مكان الذئب كالرجل اللعين
قال أبو جعفر: في قول الله تعالى ذكره "بل لعنهم الله بكفرهم" تكذيب منه للقائلين من اليهود: "قلوبنا غلف". لأن قوله: "بل" دلالة على جحده جل ذكره وإنكاره ما ادعوا من ذلك، إذ كانت"بل" لا تدخل في الكلام إلا نقضاً لمجحود. فإذ كان ذلك كذلك، فبين أن معنى الآية: وقالت اليهود: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه يا محمد. فقال الله تعالى ذكره: ما ذلك كما زعموا، ولكن الله أقصى اليهود وأبعدهم من رحمته، وطردهم عنها، وأخزاهم بجحودهم له ولرسله، فقليلاً ما يؤمنون.
القول في تأويل قوله تعالى "فقليلا ما يؤمنون".
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"فقليلا ما يؤمنون"، فقال بعضهم، معناه فقليل منهم من يؤمن، أي لا يؤمن منهم إلا قليل. ذكر من قال ذلك:حدثنا بشربن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون"، فلعمري لمن رجع من أهل الشرك أكثر ممن رجع من أهل الكتاب، إنما آمن من أهل الكتاب رهط يسير.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة: "فقليلا ما يؤمنون"، قال: لا يؤمن منهم إلا قليل.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم. ذكر من قال ذلك:حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتاده "فقليلا ما يؤمنون"، قال: لا يؤمن منهم إلا قليل. قال معمر: وقال غيره: لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في قوله: "فقليلا ما يؤمنون" بالصواب، ما نحن متقنوه إن شاء الله. وهو أن الله جل ثناؤه أخبر أنه لعن الذين وصف صفتهم فى هذه الآية، ثم أخبر عنهم أنهم قليلو الإيمان بما أنزل الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. ولذلك نصب قوله: "فقليلا"، لأنه نعت للمصدر المتروك ذكره. ومعناه: بل لعنهم الله بكفرهم، فإيماناً قليلاً ما يؤمنون. فقد تبين إذا بما بينا فساد القول الذي روي عن قتادة في ذلك. لأن معنى ذلك، لو كان على ما روي من أنه يعني به: فلا يؤمن منهم إلا قليل، أو فقليل منهم من يؤمن، لكان القليل مرفوعاً لا منصوبًا. لأنه إذا كان ذلك تأويله، كان القليل حينئذ مرافعًا ما. فإذ نصب القليل وما في معنى من أوالذي فقد، بقيت ما لا مرافع لها. وذلك غير جائز في لغة أحد من العرب.
فأما أهل العربية فإنهم اختلفوا في معنى ما التي في قوله: " فقليلا ما يؤمنون". فقال بعضهم: هي زائدة لا معنى لها، وإنما تأويل الكلام: فقليلاً يؤمنون، كما قال جل ذكره ‎"فبما رحمة من الله لنت لهم" (آل عمران: 159) وما أشبه ذلك، فزعم أن ما في ذلك زائدة، وأن معنى الكلام: فبرحمة من الله لنت لهم، وأنشد في ذلك محتجًا لقوله ذلك بيت مهلهل:
لو بأبانين جاء يخطبها خضب ما أنف خاطب بدم
وزعم أنه يعني: خضب أنف خاطب بدم، وأن ما زائدة.
وأنكر آخرون ما قاله قائل هذا القول في ما، في الآية وفي البيت الذي أنشده، وقالوا: إنما ذلك من المتكلم على ابتداء الكلام بالخبر عن عموم، جميع الأشياء، إذ كانت ما كلمة تجمع كل الأشياء، ثم تخص وتعم ما عمته بما تذكره بعدها.
وهذا القول عندنا أولى بالصواب. لأن زيادة ما لا يفيد من الكلام معنى في الكلام، غير جائز إضافته إلى الله جل ثناؤه.
ولعل قائلاً أن يقول: هل كان للذين أخبر الله عنهم أنهم قليلاً ما يؤمنون من الإيمان قليل أو كثير، فيقال فيهم: "فقليلا ما يؤمنون" ؟
قيل: إن معنى الإيمان هو التصديق. وقد كانت اليهود التي أخبر الله عنها هذا الخبر تصدق بوحدانية الله، وبالبعث والثواب والعقاب، وتكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ونبوته، وكل ذلك كان فرضاً عليهم الإيمان به، لأنه في كتبهم، ومما جاءهم به موسى، فصدقوا ببعض وذلك هو القليل من إيمانهم وكذبوا ببعض، فذلك هو الكثير الذي أخبر الله عنهم أنهم يكفرون به.
وقد قال بعضهم: إنهم كانوا غير مؤمنين بشيء، وإنما قيل: "فقليلا ما يؤمنون"، وهم بالجميع كافرون، كما تقول العرب: قلما رأيت مثل هذا قط . وقد روي عنها سماعًا منها: مررت ببلاد قلما تنبت إلا الكراث والبصل يعني: ما تنبت غير الكراث والبصل، وما أشبه ذلك من الكلام الذي ينطق به بوصف الشيء بـ القلة، والمعنى فيه نفي جميعه.
قوله تعالى "وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون" .
قوله تعالى : "وقالوا" يعني اليهود "قلوبنا غلف" بسكون الام جمع أغلف ، أي عليها أغطية . وهو مثل قوله "قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه" أي في أوعية . قال مجاهد :"غلف" عليها غشاوة . وقال عكرمة : عليها طابع . وحكى أهل اللغة غلفت السيف جعلت له غلافاً ، فقلب أغلف ، أي مستور عن الفهم والتمييز . وقرأ ابن عباس والأعرج وابن محيصن غلف بضم اللام . قال ابن عباس : أي قلوبنا ممتلئة علماً لا تحتاج إلى علم محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره . وقيل : هو جمع غلاف ، مثل خمار وخمر ، أي قلوبنا أوعية للعلم فما بالها لا تفهم عنك وقد وعينا علماً كثيراً ‍، وقيل : المعنى فكيف يعزب عنها علم محمد صلى الله عليه وسلم . فرد الله تعالى عليهم بقوله :"بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون" ثم بين ان السبب في نفورهم عن الإيمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترائهم ، وهذا هو الجزاء على الذنب بأعظم منه . وأصل اللعن في كلام العرب الطرد والإبعاد . ويقال للذئب : لعين . وللرجل الطريد : لعين ، وقال الشماخ :
‌ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين‌
ووجه الكلام : مقام الذئب اللعين كالرجل ، فالمعنى أبعدهم الله من رحمته .
وقيل : من توفيقه وهدايته . وقيل : من كل خير ، وهذا عام . فقليلا نعت لمصدر محذوف ، تقديره : فإيماناً قليلاً ما يؤمنون . وقال معمر : المعنى لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم ويكفرون بأكثره ، ويكون قليلاً منصوب بنزع حرف الصفة . و ما صلة ، أي فقليلاً يؤمنون . وقال الواقدي : معناه لا يؤمنون قليلاً ولا كثيراً ، كما تقول : ما أقل ما يفعل كذا ، أي لا يفعله ألبتة . وقال الكسائي : تقول العرب مررنا بأرض قل ما تنبت الكراث والبصل ، أي لا تنبت شيئاً .
قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد، عن ابن عباس "وقالوا قلوبنا غلف" أي في أكنة، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: "وقالوا قلوبنا غلف" أي لا تفقه: وقال العوفي عن ابن عباس: "وقالوا قلوبنا غلف" هي القلب المطبوع عليها، وقال مجاهد "وقالوا قلوبنا غلف" عليه غشاوة وقال عكرمة: عليها طابع، وقال أبو العالية: أي لا تفقه، وقال السدي يقولون عليه غلاف، وهو الغطاء، وقال عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة: فلا تعي ولا تفقه، قال مجاهد وقتادة: وقرأ ابن عباس غلف، بضم اللام، وهو جمع غلاف، أي قلوبنا أوعية كل علم فلا نحتاج إلى علمك، قاله ابن عباس وعطاء "بل لعنهم الله بكفرهم" أي طردهم الله وأبعدهم من كل خير "فقليلاً ما يؤمنون" قال قتادة: معناه لا يؤمن منهم إلا القليل "وقالوا قلوبنا غلف" هو كقوله "وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه" وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله غلف، قال: تقول قلبي في غلاف فلا يخلص إليه مما تقول شيء، وقرأ "وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه" وهذا الذي رجحه ابن جرير ، واستشهد بما روي من حديث عمرو بن مرة الجملي عن أبي البختري، عن حذيفة قال: "القلوب أربعة فذكر منها وقلب أغلف مغضوب عليه وذاك قلب الكافر" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الرحمن العرزمي، أنبأنا أبي، عن جدي، عن قتادة، عن الحسن في قوله: "قلوبنا غلف" قال: لم تختن، هذا القول يرجع معناه إلى ما تقدم من عدم طهارة قلوبهم وأنها بعيدة من الخير . قول آخر ـ قال الضحاك عن ابن عباس "وقالوا قلوبنا غلف" قال: يقولون قلوبنا غلف مملوءة لا تحتاج إلى علم محمد ولا غيره. وقال عطية العوفي عن ابن عباس "وقالوا قلوبنا غلف" أي أوعية للعمل، وعلى هذا المعنى جاءت قراءة بعض الأنصار فيها، حكاه ابن جرير، وقالوا: قلوبنا غلف، بضم اللام، نقلها الزمخشري، أي جمع غلاف، أي أوعية، بمعنى أنهم ادعوا أن قلوبهم مملوءة بعلم لا يحتاجون معه إلى علم آخر كما كانوا يمنون بعلم التوراة، ولهذا قال تعالى: "بل لعنهم الله بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون" أي ليس الأمر كما ادعوا بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها، كما قال في سورة النساء: "وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً" وقد اختلفوا في معنى قوله: "فقليلاً ما يؤمنون" وقوله: "فلا يؤمنون إلا قليلاً" فقال بعضهم: فقليل من يؤمن منهم، وقليل: فقليل إيمانهم بمعنى أنهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد والثواب والعقاب، ولكنه إيمان لا ينفعهم لأنه مغمور بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: إنما كانوا غير مؤمنين بشيء، وإنما قال: فقليلاً ما يؤمنون وهم بالجميع كافرون، كما تقول العرب: قلما رأيت مثل هذا قط ، تريد ما رأيت مثل هذا قط ، وقال الكسائي: تقول العرب: من زنى بأرض قلما تنبت، أي لا تنبت شيئاً، حكاه ابن جرير رحمه الله، والله أعلم.
والغلف جمع أغلف، المراد به هنا: الذي عليه غشاوة وتمنع من وصول الكلام إليه، ومنه غلفت السيف: أي جعلت له غلافاً. قال في الكشاف: هو مستعار من الأغلف الذي لم يختن كقوله: "قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه" وقيل: إن الغلف جمع غلاف مثل حمار وحمر: أي قلوبنا أوعية للعلم فما بالها لا تفهم عنك، وقد وعينا علماً كثيراً، فرد الله عليهم ما قالوه فقال: 88- "بل لعنهم الله بكفرهم" وأصل اللعن في كلام العرب الطرد والإبعاد، ومنه قول الشماخ:
ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين
أي كالرجل المطرود. والمعنى: أبعدهم الله من رحمته، و"قليلاً" نعت لمصدر محذوف: أي إيماناً قليلاً "ما يؤمنون" وما زائدة، وصف إيمانهم بالقلة لأنهم الذين قص الله علينا من عنادهم وعجرفتهم وشدة لجاجهم، وبعدهم عن إجابة الرسل ما قصه، ومن جملة ذلك أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض. وقال معمر: المعنى لا يؤمنون إلا قليلاً مما في أيديهم ويكفرون بأكثره، وعلى هذا يكون قليلاً منصوباً بنزع الخافض. وقال الواقدي معناه لا يؤمنون قليلاً ولا كثيراً. قال الكسائي: تقول العرب مررنا بأرض قل ما تنبت الكراث والبصل أي لا تنبت شيئاً.
وقد أخرج ابن عساكر عن ابن عباس في قوله: "ولقد آتينا موسى الكتاب" يعني به التوراة جملة واحدة مفصلة محكمة "وقفينا من بعده بالرسل" يعني رسولاً يدعى أشمويل بن بابل، ورسولاً يدعى منشابيل، ورسولاً يدعى شعياء، ورسولاً يدعى حزقيل، ورسولاً يدعى أرمياء وهو الخضر، ورسولاً يدعى داود وهو أبو سليمان ورسولاً يدعى المسيح عيسى ابن مريم، فهؤلاء الرسل ابتعثهم الله وانتخبهم من الأمة بعد موسى فأخذنا عليهم ميثاقاً غليظاً أن يؤدوا إلى أمتهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم وصفة أمته. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وآتينا عيسى ابن مريم البينات" قال: هي الآيات التي وضع على يديه من إحياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير، وإبراء الأسقام. والخبر بكثير من الغيوب، وما ورد عليهم من التوراة والإنجيل الذي أحدث الله إليه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "وأيدناه" قال: قويناه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: روح من القدس الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: القدس: الله تعالى. وأخرج عن الربيع بن أنس مثله. وأخرج عن ابن عباس قال: القدس الطهر. وأخرج عن السدي قال: القدس البركة. وأخرج عن إسماعيل بن أبي خالد أن روح القدس جبريل. وأخرج عن ابن مسعود مثله. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: روح القدس جبريل. وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أيد حسان بروح القدس". وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "فريقاً" قال: طائفة. وأخرج عن ابن عباس قال: إنما سمي القلب لتقلبه. وأخرج الطبراني في الأوسط عنه أنه كان يقرأ "قلوبنا غلف" مثقلة: أي كيف نتعلم وقلوبنا غلف للحكمة: أي أوعية للحكمة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وقالوا: قلوبنا غلف" مملوءة علماً لا تحتاج إلى علم محمد ولا غيره. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "قلوبنا غلف" قال: في غطاء، وروى ابن إسحاق وابن جرير عنه أنه قال: في أكنة. وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: هي القلوب المطبوع عليها. وأخرج وكيع عن عكرمة وابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: هي التي لا تفقه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص وابن جرير عن حذيفة قال: القلوب أربعة: قلب أغلف فذلك قلب الكافر، وقلب مصفح فذلك قلب المنافق وقلب أجرد فيه مثل السراج فذلك قلب المؤمن، وقلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان كمثل شجرة يمدها ما طيب، ومثل المنافق كمثل قرحة يمدها القيح والدم. وأخرج أحمد بسند جيد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهي، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح. فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح، فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه". وأخرج ابن أبي حاتم عن سلمان الفارسي مثله سواء موقوفاً. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله: "فقليلاً ما يؤمنون" قال: لا يؤمن منهم إلا قليل.
88-" وقالوا " يعني اليهود " قلوبنا غلف " جمع الاغلف وهو الذي عليه غشاء ، معناه عليها غشاوة فلا تعي ولا تفقه ما تقول ، قاله مجاهد و قتادة ، نظيره قوله تعالى " وقالوا قلوبنا في أكنة " ( 5 - فصلت ) وقرأ ابن عباس غلف بضم اللام وهي قراءة الأعرج وهو جمع غلاف أي قلوبنا أوعية لكل علم فلا تحتاج إلى علمك قاله ابن عباس و عطاء وقال الكلبي : معناه أوعية لكل علم فلا تسمع حديثاً إلا تعيه إلا حديثك لا تعقله ولا تعيه ولو كان فيه خير لوعته وفهمته .
قال الله عز وجل : " بل لعنهم الله " طردهم الله وأبعدهم عن كل خير " بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون " قال قتادة : معناه لن يؤمن منهم إلا قليل لأن من آمن من المشركين أكثر ممن آمن من اليهود ، أي فقليلاً يؤمنون ، ونصب قليلاً [ على الحال وقال معمر : لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم ويكفرون بأكثره ، أي فقليل يؤمنون ونصب قليلاً ] بنزع الخافض ، و(ما) صلة على قولهما ، وقال الواقدي : معناه لا يؤمنون قليلاً ولا كثيراً كقول الرجل للآخر : ما أقل ما تفعل كذا أي لا تفعله أصلاً .
88-" وقالوا قلوبنا غلف " مغشاة بأغطية خلقية لا يصل إليها ما جئت به ولا تفقهه ، مستعار من الأغلف الذي لم يختن وقيل أصله غلف جمع غلاف فخفف ، والمعنى أنها أوعية للعلم لا تسمع علماً إلا وعته ، ولا تعي ما تقول . أو نحن مستغنون بما فيها عن غيره " بل لعنهم الله بكفرهم " رد لما قالوه ، والمعنى أنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق ، ولكن الله خذلهم بكفرهم فأبطل استعدادهم ، أو أنها لم تأب قبول ما تقوله لخلل فيه ، بل لأن الله تعالى خذلهم بكفرهم كما قال تعالى : " فأصمهم وأعمى أبصارهم " ، أو هم كفرة ملعونون ، فمن أين لهم دعوى العلم والاستغناء عنك ؟ " فقليلاً ما يؤمنون " فإيماناً قليلاً يؤمنون ، وما مزيده للمبالغة في التقليل ، وهو إيمانهم ببعض الكتاب . وقيل : أراد بالقلة العدم .
88. And they say: Our hearts are hardened. Nay, but Allah hath cursed them for their unbelief. Little is that which they believe.
88 - They say, our hearts are the wrappings (which preserve God's word: we need no more). nay, god's curse is on them for their blasphemy: little is it they believe.