[البقرة : 7] خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
ختم الله على قلوبهم) طبع عليها واستوثق فلا يدخلها خير (وعلى سمعهم) أي مواضعه فلا ينتفعون بما يسمعونه من الحق (وعلى أبصارهم غشاوة) غطاء فلا يبصرون الحق (ولهم عذاب عظيم) قوي دائم
قال أبو جعفر: وأصل الختم: الطبع. والخاتم هو الطابع. يقال منه: ختمت الكتاب، إذا طبعته.
فإن قال لنا قائل: وكيف يختم على القلوب، وإنما الختم طبع على الأوعية والظروف والغلف؟
قيل: فإن قلوب العباد أوعية لما أودعت من العلوم، وظروف لما جعل فيها من المعارف بالأمور. فمعنى الختم عليها وعلى الأسماع التي بها تدرك المسموعات، ومن قبلها يوصل إلى معرفة حقائق الأنباء عن المغيبات نظير معنى الختم على سائر الأوعية والظروف.
فإن قال: فهل لذلك من صفة تصفها لنا فنفهمها؟ أهي مثل الختم الذي يعرف لما ظهر للأبصار، أم هي بخلاف ذلك؟
قيل: قد اختلف أهل التأويل في صفة ذلك، وسنخبر بصفته بعد ذكرنا قولهم:فحدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي، قال: حدثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، قال: أرانا مجاهد بيده فقال: كانوا يرون أن القلب في مثل هذا يعني الكف فإذا أذنب العبد ذنبا ضم منه وقال بإصبعه الخنصر هكذا فإذا أذنب ضم وقال بإصبع أخرى فإذا أذنب ضم وقال بإصبع أخرى هكذا، حتى ضم أصابعه كلها، قال: ثم يطبع عليه بطابع. قال مجاهد: وكانوا يرون أن ذلك: الرين.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن مجاهد، قال: القلب مثل الكف، فإذا أذنب ذنبًا قبض أصبعاً حتى يقبض أصابعه كلها وكان أصحابنا يرون أنه الران.
حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، قال:حدثنا ابن جريج، قال: قال مجاهد: نبئت أن الذنوب على القلب تحف به من نواحيه حتى تلتقي عليه، فالتقاؤها عليه: الطبع، والطبع: الختم. قال ابن جريج: الختم، الختم على القلب والسمع.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: حدثني عبدالله بن كثير، أنه سمع مجاهدًا يقول: الران أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الأقفال، والأقفال أشد ذلك كله.
وقال بعضهم: إنما معنى قوله "ختم الله على قلوبهم " إخبار من الله جل ثناؤه عن تكبرهم، وإعراضهم عن الاستماع لما دعوا إليه من الحق، كما يقال: إن فلاناً لأصم عن هذا الكلام ، إذا امتنع من سماعه، ورفع نفسه عن تفهمه تكبرًا.
قال أبو جعفر: والحق في ذلك عندي ما صح بنظيره الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما:
حدثنا به محمد بن بشار قال: حدثنا صفوان بن عيسى، قال: حدثنا ابن عجلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن إذا أذنب ذنبًا كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر، صقلت قلبه، فإن زاد زادت حتى تغلق قلبه، فذلك الران الذي قال الله جل ثناؤه: " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون"" (المطففين: 14). فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله عز وجل والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك، ولا للكفر منها مخلص، فذلك هو الطبع. والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم "، نظير الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف، التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها. فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم، إلا بعد فضه خاتمه وحله رباطه عنها.
ويقال لقائلي القول الثاني، الزاعمين أن معنى قوله جل ثناؤه " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم "، هو وصفهم بالاستكبار والإعراض عن الذي دعوا إليه من الإقرار بالحق تكبراً: أخبرونا عن استكبار الذين وصفهم الله جل ثناؤه بهذه الصفة، وإعراضهم عن الإقرار بما دعوا إليه من الإيمان وسائر المعاني اللواحق به أفعل منهم، أم فعل من الله تعالى ذكره بهم؟
فإن زعموا أن ذلك فعل منهم وذلك قولهم قيل لهم: فإن الله تبارك وتعالى قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وسمعهم. وكيف يجوز أن يكون إعراض الكافر عن الإيمان، وتكبره عن الإقرار به وهو فعله عندكم ختما من الله على قلبه وسمعه، وختمه على قلبه وسمعه، فعل الله عز وجل دون الكافر؟
فإن زعموا أن ذلك جائز أن يكون كذلك لأن تكمره وإعراضه كانا عن ختم الله على قلبه وسمعه، فلما كان الختم سببًا لذلك، جاز أن يسمى مسببه به تركوا قولهم، وأوجبوا أن الختم من الله على قلوب الكفار وأسماعهم، معنى غير كفر الكافر، وغير تكبره وإعراضه عن قبول الإيمان والإقرار به. وذلك الدخول فيما أنكروه.
وهذه الآية من أوضح الدليل على فساد قول المنكرين تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله، لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه ختم على قلوب صنف من كفار عباده وأسماعهم، ثم لم يسقط التكليف عنهم، ولم يضع عن أحد منهم فرائضه، ولم يعذره في شيء مما كان منه من خلاف طاعته بسبب ما فعل به من الختم والطبع على قلبه وسمعه بل أخبر أن لجميعهم منه عذابًا عظيمًا على تركهم طاعته فيما أمرهم به ونهاهم عنه من حدوده وفرائضه، مع حتمه القضاء عليهم مع ذلك، بأنهم لا يؤمنون.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه:" وعلى أبصارهم غشاوة".
قال أبو جعفر: وقوله " وعلى أبصارهم غشاوة"، خبر مبتدأ بعد تمام الخبر عما ختم الله جل ثناؤه من جوارح الكفار الذين مضت قصصهم. وذلك أن "غشاوة" مرفوعة بقوله "وعلى أبصارهم " ، فذلك دليل على أنه خبر مبتدأ، وأن قوله "ختم الله على قلوبهم "، قد تناهى عند قوله "وعلى سمعهم ".
وذلك هو القراءة الصحيحة عندنا لمعنيين:أحدهما: اتفاق الحجة من القراء والعلماء على الشهادة بتصحيحها، وانفراد المخالف لهم في ذلك، وشذوذه عما هم على تخطئته مجمعون. وكفى بإجماع الحجة على تخطئة قراءته شاهدًا على خطئها.
والثاني: أن الختم غير موصوفة به العيون في شيء من كتاب الله، ولا في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا موجود في لغة أحد من العرب. وقد قال تبارك وتعالى في سورة أخرى: "وختم على سمعه وقلبه"، ثم قال: "وجعل على بصره غشاوة" (الجاثية: 23) فلم يدخل البصر في معنى الختم. وذلك هو المعروف في كلام العرب، فلم يجز لنا، ولا لأحد من الناس، القراءة بنصب الغشاوة، لما وصفت من العلتين اللتين ذكرت، وإن كان لنصبها مخرج معروف في العربية.
وبما قلنا في ذلك من القول والتأويل، روي الخبر عن ابن عباس:
حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي الحسين بن الحسن،عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس: "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم "، والغشاوة على أبصارهم.
فإن قال قائل: وما وجه مخرج النصب فيها؟
قيل له: أن تنصبها بإضمار (جعل)، كأنه قال: وجعل على أبصارهم غشاوة، ثم أسقط (جعل)، إذ كان في أول الكلام ما يدل عليه. وقد يحتمل نصبها على إتباعها موضع السمع، إذ كان موضعه نصبًا، وإن لم يكن حسنًا إعادة العامل، فيه على "غشاوة"، ولكن على إتباع الكلام بعضه بعضاً، كما قال تعالى ذكره: "يطوف عليهم ولدان مخلدون* بأكواب وأباريق"، ثم قال: "وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون * وحور عين"، (الواقعة: 17- 22،) فخفض اللحم والحور على العطف به على الفاكهة، إتباعاً لآخر الكلام أوله. ومعلوم أن اللحم لا يطاف به ولا بالحور العين، ولكن كما قال الشاعريصف فرسه:
‌‌‌‌‌‌‌علفتها تبنًا وماءً باردًا حتى شتت همالةً عيناها
ومعلوم أن الماء يشرب ولا يعلف به، ولكنه نصب ذلك على ما وصفت قبل، وكما قال الآخر:
‌ورأيت زوجك في الوغى متقلدًا سيفاً ورمحا
وكان ابن جريج يقول في انتهاء الخبر عن الختم إلى قوله "وعلى سمعهم "، وابتداء الخبر بعده بمثل الذي قلنا فيه، ويتأول فيه من كتاب الله " فإن يشإ الله يختم على قلبك" (الشورى24)
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: حدثنا ابن جريج،قال: الختم على القلب والسمع، والغشاوة على البصر، قال الله تعالى ذكره: " فإن يشإ الله يختم على قلبك"، وقال: "وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة" (الجاثية: 23).
والغشاوة في كلام العرب: الغطاء، ومنه قول الحارث بن خالد بن العاص:
تبعتك إذ عيني عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي ألومها
ومنه يقال: تغشاه الهم، إذا تجلله وركبه، ومنه قول نابغة بني ذبيان:
هلا سألت بني ذبيان ما حسبي إذا الدخان تغشى الأشمط البرما
يعني بذلك: تجلله وخالطه.
وإنما أخبر الله تعالى ذكره نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الذين كفروا به من أحبار اليهود، أنه قد ختم على قلوبهم وطبع عليها فلا يعقلون لله تبارك وتعالى موعظة وعظهم بها، فيما آتاهم من علم ما عندهم من كتبه، وفيما حدد في كتابه الذي أوحاه وأنزله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وعلى سمعهم، فلا يسمعون من محمد صلى الله عليه وسلم نبي الله تحذيرًا ولا تذكيرًا ولا حجة أقامها عليهم بنبوته، فيتذكروا ويحذروا عقاب الله عز وجل في تكذيبهم إياه، مع علمهم بصدقه وصحة أمره. وأعلمه مع ذلك أن على أبصارهم غشاوة عن أن يبصروا سبيل الهدى، فيعلموا قبح ما هم عليه من الضلالة والردى. وبنحو ما قلنا في ذلك، روي الخبر عن جماعة من أهل التأويل:حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة"، أي عن الهدى أن يصيبوه أبدًا بغير ما كذبوك به من الحق الذي جاءك من ربك، حتى يؤمنوا به، وإن آمنوا بكل ما كان قبلك.
حدثني موسى بن هرون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط،عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " يقول: فلا يعقلون ولا يسمعون. ويقول: وجعل على أبصارهم غشاوة يقول: على أعينهم فلا يبصرون.
وأما آخرون، فإنهم كانوا يتأولون أن الذين أخبر الله عنهم من الكفار أنه فعل ذلك بهم، هم قادة الأحزاب الذين قتلوا يوم بدر.
حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحق بن الحجاج، قال: حدثنا عبدالله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: هاتان الآيتان إلى (ولهم عذاب عظيم) هم (الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار) ( إبراهيم: 28،) وهم الذين قتلوا يوم بدر، فلم يدخل من القادة أحد في الإسلام إلا رجلان: أبو سفيان بن حرب، والحكم بن أبي العاص.
وحدثت عن عمار بن الحسن، قال حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، عن الحسن، قال: أما القادة فليس فيهم مجيب ولا ناج ولا مهتد.
وقد دللنا فيما مضى على أولى هذين التأويلين بالصواب، كرهنا إعادته.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: "ولهم عذاب عظيم ".
وتأويل ذلك عندي، كما قاله ابن عباس وتأوله:حدثنا ابن حميد ، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ولهم بما هم عليه من خلافك عذاب عظيم. قال: فهذا في الأحبار من يهود، فيما كذبوك به من الحق الذي جاءك من ربك بعد معرفتهم.
قوله تعالى : "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم" .
فيها عشر مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "ختم الله" بين سبحانه في هذه الآية المانع لهم من الإيمان بقوله : ختم الله . والختم مصدر ختمت الشيء ختماً فهو مختوم ومختم ، شدد للمبالغة ، ومعناه التغطية على الشيء والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء ، ومنه : ختم الكتاب والباب وما يشبه ذلك ، حتى لا يوصل الى ما فيه ، ولا يوضع فيه غير ما فيه .
وقال أهل المعاني : وصف الله تعالى قلوب الكفار بعشرة أوصاف : بالختم والطبع والضيق والمرض والرين والموت والقساوة والانصراف والحمية والإنكار . فقال في الإنكار : "قلوبهم منكرة وهم مستكبرون" وقال في الحمية : "إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية" . وقال في الإنصراف : "ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون" . وقال في القساوة : "فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله" . وقال : "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك" . وقال في الموت : "أو من كان ميتا فأحييناه" . وقال : "إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله" وقال في الرين : "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون" . وقال في المرض : "في قلوبهم مرض" . وقال في الضيق : "ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا" . وقال في الطبع : "فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون" . وقال : "بل طبع الله عليها بكفرهم" . وقال في الختم : "ختم الله على قلوبهم" وسيأتي بيانها كلها في مواضعها إن شاء الله تعالى .
الثانية : الختم يكون محسوساً كما بينا ، ومعنى كما في هذه الآية . فالختم على القلوب : عدم الوعي عن الحق ـ سبحانه ـ مفهوم مخاطباته والفكر في آياته . وعلى السمع . عدم فهمهم للقرآن إذا تلي عليهم أو دعوا الى وحدانيته . وعلى الأبصار : عدم هدايتها للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته ، هذا معنى قول ابن عباس وابن مسعود وقتادة وغيرهم .
الثالثة : في هذه الآية أدل دليل وأوضح سبيل على أن الله سبحانه خالق الهدى والضلال ، والكفر والإيمان ، فاعتبروا أيها السامعون ، وتعجبوا ايها المفكرون من عقول القدرية القائلين بخلق إيمانهم وهداهم ، فإن الختم هو الطبع فمن أين لهم الإيمان ولو جهدوا ، وقد طبع على قلوبهم وعلى سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة ، فمتى يهتدون ، أو من يهديهم من بعد الله إذا أضلهم وأصمهم وأعمى أبصارهم "ومن يضلل الله فما له من هاد" . وكان فعل الله ذلك عدلاً فيمن أضله وخذله ، إذ لم يمنعه حقاً وجب له فتزول صفة العدل ، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم لا ماوجب لهم .
فإن قالوا : إن معنى الختم والطبع والغشاوة التسمية والحكم والإخبار بأنهم لا يؤمنون ، لا الفعل . قلنا : هذا فاسد ، لأن حقيقة الختم والطبع إنما هو فعل ما يصير به القلب مطبوعاً مختوماً ، لا يجوز أن تكون حقيقته التسمية والحكم ، ألا ترى أنه إذا قيل : فلان طبع الكتاب وختمه ، كان حقيقة أنه فعل ما صار به الكتاب مطبوعاً ومختوماً ، لا التسمية والحكم . هذا ما لا خلاف فيه بين أهل اللغة ، ولأن الأمة مجمعة على أن الله تعالى قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم ، كما قال تعالى : "بل طبع الله عليها بكفرهم" . وأجمعت الأمة على أن الطبع والختم على قلوبهم من جهة النبي عليه السلام والملائكة والمؤمنين ممتنع ، فلو كان الختم والطبع هو التسمية والحكم لما امتنع من ذلك الأنبياء والمؤمنين ، لأنهم كلهم يسمون الكفار بأنهم مطبوع على قلوبهم ، وأنهم مختوم عليها وأنهم في ضلال لا يؤمنون ، ويحكمون عليهم بذلك . فثبت أن الختم والطبع هو معنى غير التسمية والحكم ، وإنما هو معنى يخلقه الله في القلب يمنع من الإيمان به ، دليله قوله تعالى : "كذلك نسلكه في قلوب المجرمين * لا يؤمنون به" . وقال : "وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه" . أي لئلا يفقهوه ، وما كان مثله .
الرابعة : قوله : "على قلوبهم" فيه دليل على فضل القلب على جميع الجوارح . والقلب للإنسان وغيره وخالص كل شيء وأشرفه قلبه ، فالقلب موضع الفكر . وهو في الأصل مصدر قلبت الشيء أقلبه قلباً إذا رددته على بداءته . وقلبت الإناء : رددته على وجهه . ثم نقل هذا اللفظ فسمي به هذا العضو الذي هو أشرف الحيوان ، لسرعة الخواطر إليه ، ولترددها عليه ، كما قيل :
ما سمي القلب إلا من تقلبه فاحذر على القلب من قلب وتحول
ثم لما نقلت العرب هذا المصدر لهذا العضو الشريف التزمت فيه تفخيم قافه ، تفريقاً بينه وبين أصله . روىأبن ماجة عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"مثل القلب مثل ريشة تقلبها الرياح بفلاة " . ولهذا المعني كان عليه الصلاة والسلام يقول :
"اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك" . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله مع عظيم قدره وجلال منصبه فنحن أولى بذلك اقتداء به ، قال الله تعالى : "واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه" . وسيأتي .
الخامسة : الجوارح وإن كانت تابعة للقلب فقد يتأثر القلب ـ وإن كان رئيسها وملكها ـ بأعمالها للارتباط الذي بين الظاهر والباطن ، قال صلى الله عليه وسلم :
"إن الرجل ليصدق فتنكت في قلبه نكتة بيضاء وإن الرجل ليكذب الكذبة فيسود قلبه" . وروى الترمذي وصحح عن ابي هريرة مرفوعاً .
"إن الرجل ليصيب الذنب فيسود قلبه فإن هو تاب صقل قلبه" . قال : وهو الرين الذي ذكره الله في القرآن في قوله : "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون" . وقال مجاهد : القلب كالكف منه بكل ذنب إصبع ، ثم يطبع .
قلت : وفي قول مجاهد هذا ، وقوله عليه السلام :
"إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" دليل على أن الختم يكون حقيقياً ، والله أعلم . وقد قيل : إن القلب يشبه الصنوبرة ،وهو يعضد قول مجاهد ، والله أعلم .
وقد روى مسلم " عن حذيفة قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر : حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة . ثم حدثنا عن رفع الأمانة قال : ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبراً وليس فيه شيء ـ ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله ـ فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلاً أميناً حتى يقال للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلماً ليردنه علي دينه ولئن كان نصرانياً أو يهودياً ليردنه علي ساعيه وأما اليوم فما كنت لأبايع منكم إلا فلانا وفلانا"
ففي قوله : " الوكت " وهو الأثر اليسير . ويقال للبسر إذا وقعت فيه نكتة من الإرطاب : قد وكت ، فهو موكت . وقوله . وقوله : المجل ، وهو أن يكون بين الجلد واللحم ماء ، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : كجمر دحرجته أي دورته على رجلك فنفط . فتراه منتبراً أي مرتفعاً ـ ما يدل على أن ذلك كله محسوس في القلب يفعل فيه ، وكذلك الختم والطبع ، والله أعلم . وفي حديث حذيفة قال " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض والآخر أسود مرباد كالكوز مجخياً لا يعرف معروفا ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه "... وذكر الحديث . " مجخياً " : يعني مائلاً .
السادسة : القلب قد يعبر عنه الفؤاد والصدر ، قال الله تعالى : "كذلك لنثبت به فؤادك" . وقال : "ألم نشرح لك صدرك" يعني في الموضعين قلبك . وقد يعبر به عن العقل ، قال الله تعالى : "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب" أي عقل ، لأن القلب محل العقل في قول الأكثرين . والفؤاد محل القلب ، والصدر محل الفؤاد ، والله أعلم .
السابعة : قوله تعالى : "وعلى سمعهم" استدل بها من فضل السمع على البصر لتقدمه عليه ، وقال تعالى : "قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم" . وقال : "وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة" . قال : والسمع يدرك به من الجهات الست ، وفي النور والظلمة ، ولا يدرك بالبصر إلا من الجهة المقابلة ، وبواسطة من ضياء وشعاع . وقال أكثر المتكلمين بتفضيل البصر على السمع ، لأن السمع لا يدرك به إلا الأصوات والكلام ، والبصر يدرك به الأحسام والألوان والهيئات كلها . قالوا : فلما كانت تعلقاته أكثر كان أفضل ، وأجازوا الإدراك بالبصر من الجهات الست .
الثامنة : إن قال قائل : لم جمع الأبصار ووحد السمع ؟ قيل له : إنما وحده لأنه مصدر يقع للقليل والكثير ، يقال : سمعت الشيء أسمعه سمعاً وسماعاً ، فالسمع مصدر سمعت ، والسمع ايضاً اسم للجارحة المسموع بها سميت بالمصدر . وقيل : أنه لما أضاف السمع الى الجماعة دل على أنه يراد به أسماع الجماعة ، كما قال الشاعر :
بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب
إنما يريد جلو دها فوحد ، لأنه قد علم أنه لا يكون للجماعة جلد واحد وقال آخر في مثله :
لا تنكر القتل وقد سبينا في حلقكم عظم وقد شجينا
يريد في حلوقكم . ومثله قول الآخر :
كأنه وجه تركيين قد غضبا مستهدف لطعان غير تذبيب
وإنما يريد وجهين ، فقال وجه تركيين ، لأنه قد علم أنه لا يكون للاثنين وجه واحد ، ومثله كثير جداً . وقرىء : وعلى أسماعهم ويحتمل أن يكون المعنى وعلى مواضع سمعهم ، لأن السمع لا يختم وإنما يختم موضع السمع ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وقد يكون السمع بمعنى الأستماع ، يقال : سمعك حديثي ـ أي أستماعك إلى حديثي ـ يعجبني ، ومنه قول ذي الرمة يصف ثورا تسمع إلى صوت صائد وكلاب :
وقد توجس ركزا مقفر ندس بنبأة الصوت ما في سمعة كذب
أي ما في استماعه كذب ، أي هو صادق الاستماع . والندس : الحاذق . والنبأة : الصوت الخفي ، وكذلك الركز . والسمع (بكسر السين وإسكان الميم ) : ذكر الإنسان بالجميل ، يقال : ذهب سمعه في أي ذكره . والسمع أيضاً : ولد الذئب من الضبع . والوقف هنا : وعلى سمعهم . و غشاوة رفع على الابتداء وما قبله خبر . والضمائر في قلوبهم وما عطف عليه لمن سبق في علم الله أنه لا يؤمن من كفار قريش ، وقيل من المنافقين ، وقيل من اليهود ، وقيل من الجميع ، وهو أصوب ، لأنه يعم . فالختم على القلوب والأستماع . والغشاوة على الأبصار . والغشاء : الغطاء . وهي :
التاسعة : ومنه غاشية السرج ، وغشيت الشيء أغشيه . قال النابغة :
هلا سألت بني ذبيان ما حسبي إذا الدخان تغشى الأشمط البرما
وقال آخر :
صحبتك إذ عيني غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي ألومها
قال ابن كيسان : فإن جمعت غشاوة قلت : غشاوة بحذف الهاء . وحكى الفراء : غشاوى مثل أداوى . وقرىء : غشاوة بالنصب على معنى وجعل ، فيكون من باب قوله :
علفتها تبناً وماء باردا
وقال الآخر :
ياليت زوجك قد غدا متقلدا سيفا ورمحا
المعنى واسقيتها ماء وحاملا رمحا ، لأن الرمح لا يتقلد . قال الفارسي : ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة واختيار ، فقراءة الرفع أحسن ، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة . قال : ولم أسمع من الغشاوة فعلا متصرفا بالواو . وقال بعض المفسرين : الغشاوة على الأسماع والابصار ، والوقف على قلوبهم . وقال آخرون : الختم في الجميع ، والغشاوة هي الختم ، فالوقف على هذا على غشاوة . وقرأ الحسن غشاوة بضم الغين ، وقرأ أبو حيوة بفتحها ، وروى عن أبي عمرو : غشوة ، رده إلى أصل المصدر . قال ابن كيسان : ويجوز غشوة وأجودها غشاوة ، كذلك تستعمل العرب في كل ما كان مشتملاً على الشيء ، نحو عمامة وكنانة وقلادة وعصابة وغير ذلك .
العاشرة : قوله تعالى : "ولهم" أي للكافرين المكذبين "عذاب عظيم" نعته . والعذاب مثل الضرب بالسوط والحرق بالنار والقطع بالحديد ، إلى غير ذلك مما يؤلم الإنسان . وفي التنزيل : "وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين" وهو مشتق من الحبس والمنع ، يقال في اللغة أعذبه عن كذا أي احبسه وامنعه ، ومنه سمي عذوبة الماء ، لأنها قد أعذبت . واستعذب بالحبس في الوعاء ليصفو ويفارقه ما خالطه ، ومنه قول علي رضي الله عنه : أعذبوا نساءكم عن الخروج ، أي احبسوهن . وعنه رضي الله عنه وقد شيع سرية فقال : أعذبوا عن ذكر النساء أنفسكم فإن ذلك يكسركم عن الغزو . وكل من منعته شيئاً فقد أعذبته ، وفي المثل لألجمنك لجاما معذبا أي مانعا عن ركوب الناس . ويقال : أعذب أي امتنع . وأعذب غيره ، فهو لازم ومتعد ، فسمي العذاب عذابا لأن صاحبه يحبس ويمنع عنه جميع ما يلائم الجسد من الخبر ويهال عليه أضدادها .
قال السدي ختم الله أي طبع الله وقال قتادة في هذه الاية استحوذ عليهم الشيطان إذ أطاعوه فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون هدى ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون، وقال ابن جريج: قال مجاهد ختم الله على قلوبهم قال الطبع ثبتت الذنوب على القلب فحفت به من كل نواحيه حتى تلتقي عليه فالتقاؤها عليه الطبع والطبع الختم. قال ابن جريج الختم على القلب والسمع قال ابن جريج وحدثني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهداً يقول: الران أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الإقفال، والإقفال أشد من ذلك كله، وقال الأعمش أرانا مجاهد بيده فقال كانوا يرون أن القلب في مثل هذه يعني الكف، فإذا أذنب العبد ذنباً ضم منه وقال بأصبعه الخنصر هكذا فإذا أذنب ضم وقال بأصبع أخرى فإذا أذنب ضم وقال بأصبع أخرى هكذا حتى ضم أصابعه كلها ثم قال يطبع عليه بطابع. وقال مجاهد كانوا يرون أن ذلك الرين، ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن الأعمش عن مجاهد بنحوه، قال ابن جرير وقال بعضهم إنما معنى قوله تعالى: "ختم الله على قلوبهم" إخبار من الله عن تكبرهم وإعراضهم عن الاستماع لما دعوا إليه من الحق كما يقال إن فلاناً أصم عن هذا الكلام إذا امتنع من سماعه ورفع نفسه عن تفهمه تكبراً قال وهذا لا يصح لأن الله تعالى قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم (قلت) وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما رده ابن جرير ههنا وتأول الاية من خمسة أوجه وكلها ضعيفة جداً وما جرأه على ذلك إلا اعتزاله لأن الختم على قلوبهم ومنعها من وصول الحق إليها قبيح عنده يتعالى الله عنه في اعتقاده ولو فهم قوله تعالى: "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم" وقوله: "ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون" وما أشبه من الايات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاء وفاقاً على تماديهم في الباطل وتركهم الحق وهذا عدل منه تعالى حسن وليس بقبيح فلو أحاط علماً بهذا لما قال ما قال والله أعلم.
قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل قد وصف نفسه بالختم والطبع عل قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم كما قال: "بل طبع الله عليها بكفرهم" وذكر حديث تقليب القلوب "ويا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك" وذكر حديث حذيفة الذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال "تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والاخر أسود مرباد كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً" الحديث، قال ابن جرير والحق عندي في ذلك ما صح بنظيره الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما حدثنا به محمد بن بشار حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا ابن عجلان عن القعقاع عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي قال الله تعالى: "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون" " هذا الحديث من هذا الوجه قد رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة والليث بن سعد وابن ماجه عن هشام بن عمار عن حاتم بن إسماعيل والوليد بن مسلم ثلاثتهم عن محمد بن عجلان به، وقال الترمذي حسن صحيح ثم قال ابن جرير فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله تعالى والطبع فلا يكون للإيمان إليها مسلك، ولا للكفر عنها مخلص فذلك هو الختم والطبع الذي ذكر في قوله تعالى: "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم" نظير الختم والطبع على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم وعلى سمعهم إلا بعد فض خاتمه وحل رباطه عنها.
واعلم أن الوقف التام على قوله تعالى: "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم" وقوله: "وعلى أبصارهم غشاوة" جملة تامة فإن الطبع يكون على القلب وعلى السمع، والغشاوة وهي الغطاء يكون على البصر كما قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم" يقول فلا يعقلون ولا يسمعون يقول وجعل على أبصارهم غشاوة يقول على أعينهم فلا يبصرون، وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سعد حدثنا أبي حدثني عمي الحسين بن الحسن عن أبيه عن جده عن ابن عباس ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم والغشاوة على أبصارهم قال وحدثنا القاسم حدثنا الحسين يعني ابن داود وهو سنيد حدثني حجاج وهو ابن محمد الأعور حدثني ابن جريج قال: الختم على القلب والسمع، والغشاوة على البصر قال الله تعالى: " فإن يشإ الله يختم على قلبك " وقال: "وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة" قال ابن جرير ومن نصب غشاوة من قوله تعالى وعلى أبصارهم غشاوة يحتمل أنه نصبها بإضمار فعل تقديره وجعل على أبصارهم غشاوة يحتمل أن يكون نصبها على الإتباع على محل وعلى سمعهم كقوله تعالى: "وحور عين" وقول الشاعر:
علفتها تبناً وماء بارداً حتى شتت همالة عيناها
وقال الاخر :
ورأيت زوجك في الوغى متقلداً سيفاً ورمحا
تقديره وسقيتها ماء بارداً ومعتقلاً رمحاً، لما تقدم وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آيات ثم عرف حال الكافرين بهاتين الايتين شرع تعالى في بيان حال المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ولما كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس أطنب في ذكرهم بصفات متعددة كل منها نفاق كما أنزل سورة براءة فيهم وسورة المنافقين فيهم وذكرهم في سورة النور وغيرها من السور تعريفاً لأحوالهم لتجتنب ويجتنب من تلبس بها أيضاً فقال تعالى:
وقد اختلف في قوله تعالى: 7- "وعلى سمعهم" هل هو داخل في حكم الختم فيكون معطوفاً على القلوب أو في حكم التغشية، فقيل: إن الوقف على قوله: "وعلى سمعهم" تام، وما بعده كلام مستقل، فيكون الطبع على القلوب والأسماع، والغشاوة على الأبصار كما قاله جماعة، وقد قرئ: "غشاوة" بالنصب. قال ابن جرير: يحتمل أنه نصبها بإضمار فعل تقديره: وجعل على أبصارهم غشاوة، ويحتمل أن يكون نصبها على الإتباع على محل وعلى سمعهم، كقوله تعالى: "وحور عين" وقول الشاعر:
علفتها تبناً وماء بارداً
إنما وحد السمع مع جمع القلوب والأبصار، لأنه مصدر يقع على القليل والكثير. والعذاب: هو ما يؤلم، وهو مأخوذ من الحبس والمنع، يقال في اللغة أعذبه عن كذا: حبسه ومنعه، ومنه عذوبة الماء لأنها حبست في الإناء حتى صفت. وقد أخرج ابن جريروابن أبي حاتم والطبراني في الكبير وإبن مردويه والبيهقي عن ابن عباس في قوله "سواء عليهم أأنذرتهم" قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أيضاً في تفسير الآية: أنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق، فكيف يسمعون منك إنذاراً وتحذيراً، وقد كفروا بما عندهم من علمك. "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "إن الذين كفروا" قال: نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب، وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية: "ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً"
قال: فهم الذين قتلوا يوم بدر، ولم يدخل القادة في الإسلام إلا رجلان: أبو سفيان، والحكم بن العاص. وأخرج ابن المنذر عن السدي في قوله: "أأنذرتهم أم لم تنذرهم" قال: أوعظتهم أم لم تعظهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في هذه الآية قال: أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم، فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون هدى، ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: الختم على قلوبهم وعلى سمعهم والغشاوة على أبصارهم. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال: ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم فلا يعقلون ولا يسمعون، وجعل على أبصارهم: يعني أعينهم غشاوة فهم لا يبصرون. وروى ذلك السدي عن جماعة من الصحابة. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: الختم على القلب والسمع، والغشاوة على البصر، قال الله تعالى: "فإن يشإ الله يختم على قلبك" وقال: "وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة". قال ابن جرير في معنى الختم: والحق عندي في ذلك ما صح نظيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر إسناداً متصلاً بأبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كان نكتة سوداء في
قلبه، فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تغلق قلبه" فذلك الران الذي قال الله: "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون". وقد رواه من هذا الوجه الترمذي وصححه والنسائي. ثم قال ابن جرير فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله سبحانه والطبع فلا يكون إليها مسلك ولا للكفر منها مخلص، فذلك هو الختم الذي ذكره الله في قوله: "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم" نظير الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها، فذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم إلا بعد فض خاتمه، وحل رباطه عنها.
7.فقال " ختم الله " طبع الله " على قلوبهم " فلا تعي خيراً ولا تفهمه.
وحقيقة الختم الاستيثاق من الشيء كيلا يدخله ما خرج منه ولا يخرج عنه ما فيه، ومنه الختم على الباب. قال أهل السنة: أي حكم على قلوبهم بالكفر، لما سبق من علمه الأزلي فيهم، وقال المعتزلة: جعلعلى قلوبهم علامة تعرفهم الملائكة بها. " وعلى سمعهم ": أي: على موضع سمعهم فلا يسمعون الحق ولا ينتفعون به، وأراد على أسماعهم كما قال: " على قلوبهم " وإنما وحده لأنه مصدر، والمصدر لا يثنى ولا يجمع.
" وعلى أبصارهم غشاوة " هذا ابتداء كلام. غشاوة أي: غطاء، فلا يرون الحق. وقرأ أبو عمرو و الكسائي أبصارهم بالامالة وكذا كل ألف بعدها راء مجرورة في الأسماء كانت لام الفعل يميلانها ويميل حمزة منها ما يتكرر فيه الراء كالقرار ونحوه. زاد الكسائي إمالة جبارين والجوار والجار وبارئكم ومن أنصاري ونسارع وبابه. وكذلك يميل هؤلاء كل ألف بمنزلة لام الفعل، أو كان علماً للتأنيث، إذا كان قبلها راء، فعلم التأنيث مثل: الكبرى والأخرى. ولام الفعل: مثل ترى وافترى، يكسزون الراء فيها.
" ولهم عذاب عظيم " أي: في الآخرة، وقيل: القتل والأسر في الدنيا والعذاب الدائم في العقبى. والعذاب كل ما يعني الإنسان ويشق عليه. قال الخليل : العذاب ما يمنع الإنسان عن مراده، ومنه: الماء العذب، لأنه يمنع العطش.

7-" ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة " تعليل للحكم السابق وبيان لما يقتضيه . والختم الكتم ، سمي به الاستيثاق من الشئ يضرب الخاتم عليه لأنه كتم له والبلوغ آخره نظراً إلى أنه آخر فعل يفعل في إحرازه . والغشاوة : فعالة من غشاء إذا غطاه ، بنيت لما يشتمل على الشئ ، كالعصابة والعمامة ولا تغشية على الحقيقة ، وإنما المراد بهما أن يحدث في نفوسهم هيئة تمرنهم على استحباب الكفر والمعاصي ، واستقباح الإيمان والطاعات بسبب غيهم ، وانهماكهم في التقليد ، وأعراضهم عن النظر الصحيح ، فتجعل قلوبهم بحيث لا ينفذ فيها ، وأسماعهم تعاف استماعه فتصير كأنها مستوثق منها بالختم ، وأبصارهم لا تجتلي الآيات المنصوبة لهم في الأنفس والآفاق كما تجتليها أعين المستبصرين ، فتصير كأنها غطي عليها . وحيل بينها وبين الإبصار ، وسماه على الاستعارة ختماً وتغشية . أو مثل قلوبهم ومشاعرهم المؤوفة بها بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الاستنفاع بها ختماً وتغطية ، وقد عبر عن إحداث هذه الهيئة بالطبع في قوله تعالى : " أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم " . وبالاغفال في قوله تعالى : " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا " ، وبالاقساء في قوله تعالى : " وجعلنا قلوبهم قاسية " وهي من حيث إن الممكنات بأسرها مستندا إلى الله تعالى واقعة بقدرته أسندت إليه ومن حيث إنها مسببة مما اقترفوه بدليل قوله تعالى : " بل طبع الله عليها بكفرهم " وقوله تعالى : " ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم " وردت الآية ناعية عليهم شناعة صفتهم ووخامة عاقبتهم . واضطربت المعتزلة فيه فذكروا وجوهاً من التأويل :
الأول : أن القوم لما أعرضوا عن الحق وتمكن ذلك في قلوبهم حتى صار كالطبيعة لهم ، شبه بالوصف الخلقي المجبول عليه .
الثاني : أن المراد به تمثيل حال قلوبهم بقلوب البهائم التي خلقها الله تعالى خالية عن الفطن . أو قلوب مقدر ختم الله عليها ، ونظيره : سال به الوادي إذا هلك . وطارت به العنقاء
الثالث : أن ذلك في الحقيقة فعل الشيطان أو الكافر ، لكن لما كان صدوره عنه بإقداره تعالى إياه أسند إليه إسناد الفعل إلى المسبب .
الرابع : أن أعراقهم لما رسخت في الكفر واستحكمت بحيث لم يبق طريق إلى تحصيل إيمانهم سوى الإلجاء والقسر ، ثم لم يقسرهم إبقاء على غرض التكليف ، عبر عن تركه بالختم فإنه سد لإيمانهم . وفيه إشعار على تمادي أمرهم في الغي وتناهي انهماكهم في الضلال والبغي .
الخامس : أن يكون حكاية لما كان الكفرة يقولون مثل : " قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب " تهكماً واستهزاءً بهم [ و ] كقوله تعالى : " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين " .
السادس : أن ذلك في الآخرة ، وإنما أخبر عنه بالماضي لتحققه وتيقن وقوعه ويشهد له قوله تعالى : " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكماً وصما ً " .
السابع : أن المراد بالختم وسم قلوبهم بسمة تعرفها الملائكة فيبغضونهم وينفرون عنهم ، وعلى هذا المنهاج كلامنا وكلامهم فيما يضاف إلى الله تعالى من طبع وإضلال ونحوهما .
و" على سمعهم " معطوف على قلوبهم لقوله تعالى : " وختم على سمعه وقلبه " وللوفاق على الوقف عليه ، ولأنهما لما اشتركا في الإدراك من جميع الجوانب جعل ما يمنعهما من خاص فعلهما الختم الذي يمنع من جميع الجهات ، وإدراك الأبصار لما اختص بجهة المقابلة جعل المانع لها عن فعلها الغشاوة المختصة بتلك الجهة ، وكرر الجار ليكون أدل على شدة الختم في الموضعين و استقلال كل منهما بالحكم . ووحد السمع للأمن من اللبس واعتبار الأصل ، فإنه مصدر في أصله والمصادر لا تجمع . أو على تقدير مضاف مثل وعلى حواس سمعهم .
والأبصار جمع بصر وهو : إدراك العين ، وقد يطلق مجازاً على القوة الباصرة ، وعلى العضو وكذا السمع ، ولعل المراد بهما في الآ ية العضو لأنه أشد مناسبة للختم والتغطية ، وبالقلب ما هو محل العلم وقد يطلق ويراد به العقل والمعرفة كما قال تعالى : " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب " . وإنما جاز إمالتها مع الصاد لأن الراء المكسورة تغلب المستعلية لما فيها من التكرير . وغشاوة رفع بالابتداء عند سيبويه ، وبالجار والمجرور عند الأخفش ، ويؤيد العطف على الجملة الفعلية . وقرئ بالنصب على تقدير ، وجعل على أبصارهم غشاوة ، أو على حذف الجار وإيصال الختم بنفسه إليه والمعنى . وختم على أبصارهم بغشاوة ، وقرئ بالضم والرفع ، وبالفتح والنصب وهما لغتان فيها . وغشوة بالكسر مرفوعة ، وبالفتح مرفوعة ومنصوبة وعشاوة بالعين الغير المعجمة .
" ولهم عذاب عظيم " وعيد وبيان لما يستحقونه . والعذاب كالنكال بناءً ، ومعنى تقول : عذب عن الشئ ونكل عنه إذا أمسك ، ومنه الماء لأنه يقمع العطش ويردعه ولذلك سمي نقاخاً وفراتاً ، ثم اتسع فأطلق على كل قادح وإن لم يكن نكالاً ، أي : عقاباً يردع الجاني عن المعاودة فهو أعم منهما . وقيل أشتقاقه من التعذيب الذي هو إزالة العذب كالتقذية والتمريض . والعظيم نقيض الحقير، والكبير ، نقيض الصغير ، فكما أن الحقير دون الصغير ، فالعظيم فوق الكبير ، ومعنى التوصيف به إنه إذا قيس بسائر ما يجانسه قصر عنه جميعه وحقر بالإضافة إليه ومعنى التنكير في الآية أن على أبصارهم نوع غشاوة ليس مما يتعارفه الناس ، وهو التعامي عن الآيات ، ولهم من الآلام العظام لا يعلم كنهه إلا الله .
7. Allah hath sealed their hearing and their hearts, and on their eyes there is a covering. Theirs will be an awful doom.
7 - God hath set a seal On their hearts and on their hearing, And on their eyes is a veil; Great is the penalty they (incur)