[البقرة : 57] وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
(وظللنا عليكم الغمام) سترناكم بالسحاب الرقيق من حر الشمس في التيه (وأنزلنا عليكم) فيه (المن والسلوى) هما الترنجبين والطير السماني بتخفيف الميم والقصر وقلنا : (كلوا من طيبات ما رزقناكم) ولا تدخروا فكفروا النعمة وادخروا فقطع عنهم (وما ظلمونا) بذلك (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) لأن وباله عليهم
"وظللنا عليكم الغمام " عطف على قوله: "ثم بعثناكم من بعد موتكم ". فتأويل الآية: ثم بعثناكم من بعد موتكم وظللنا عليكم الغمام وعدد عليهم سائر ما أنعم به عليهم لعلكم تشكرون. و "الغمام " جمع غمامة كما السحاب جمع سحابة. و "الغمام " هو ما غم السماء فألبسها من لسحاب وقتام، وغير ذلك مما يسترها عن أعين الناظرين. وكل مغطى فالعرب تسميه مغموماً. وقد قيل إن الغمام التي ظللها الله على بني إسرائيل لم تكن سحابًا.
حدثنا أحمد بن إسحق الآهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "وظللنا عليكم الغمام "، قال: ليس بالسحاب.
حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح،عن مجاهد قوله: "وظللنا عليكم الغمام "، قال: ليس بالسحاب، هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة، لم يكن إلا لهم.
حدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه: "وظللنا عليكم الغمام "، قال: هو بمنزلة السحاب.
حدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريجقال: قال ابن عباس: "وظللنا عليكم الغمام "، قال: هو غمام أبرد من هذا وأطيب، وهو الذي يأتي الله عز وجل فيه يوم القيامة في قوله: "في ظلل من الغمام" ( البقرة: 210)، وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر. قال ابن عباس: وكان معهم في التيه.
وإذا كان معنى الغمام ما وصفنا، مما غم السماء من شيء يغطي وجهها عن الناظر إليها،فليس الذي ظلله الله عز وجل على بني إسرائيل فوصفه بأنه كان غمامًا بأولى، بوصفه إياه بذلك أن يكون سحابًا، منه بأن يكون غير ذلك مما ألبس وجه السماء من شيء.
وقد قيل: إنه ما ابيض من السحاب.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: " وأنزلنا عليكم المن ".
اختلف أهل التأويل في صفة "المن ". فقال بعضهم بما:حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: "وأنزلنا عليكم المن"، قال: المن صمغة.
حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدمثله.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "وأنزلنا عليكم المن والسلوى" يقول: كان المن ينزل عليهم مثل الثلج.
وقال آخرون: هو شراب. ذكر من قال ذلك:حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال: المن، شراب كان ينزل عليهم مثل العسل، فيمزجونه بالماء ثم يشربونه.
وقال آخرون: "المن "، عسل. ذكر من قال ذلك:حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: المن، عسل كان ينزل لهم من السماء.
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامرقال: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءًا من المن.
وقال آخرون: "المن " الخبز الرقاق. ذكر من قال ذلك:حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا إسمعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد قال: سمعت وهبا وسئل: ما المن؟ قال: خبز الرقاق، مثل الذرة ومثل النقي.
وقال آخرون: "المن "، الزنجبيل. ذكر من قال ذلك:حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:المن كان يسقط على شجر الزنجبيل.
وقال آخرون: "المن "، هو الذي يسقط على الشجر، الذي يأكله الناس. ذكر من قال ذلك:حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: كان المن ينزل على شجرهم، فيغدون عليه، فيأكلون منه ما شاؤا.
حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن مجالد، عن عامر في قوله: "وأنزلنا عليكم المن "، قال: المن الذي يقع على الشجر.
حدثت عن المنجاب بن الحارث قال، حدثنا بشربن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: "المن "، قال: المن الذي يسقط من السماء على الشجر فتأكله الناس.
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال حدثنا شريك، عن مجالد، عن عامر قال: المن، هذا الذي يقع على الشجر.
وقد قيل: إن "المن"، هو الترنجبين.
وقال بعضهم "المن "، هو الذي يسقط على الثمام والعشر، وهو حلو كالعسل وإياه عنى الأعشى ميمون بن قيس بقوله:
لو اطعموا المن والسلوى مكانهم ما أبصر الناس طعمًا فيهم نجعا
وتظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين ".وقال بعضهم: "المن " ، شراب حلو كانوا يطبخونه فيشربونه.
وأما أمية بن أبي الصلت، فإنه جعله في شعره عسلاً، فقال يصف أمرهم في التيه وما رزقوا فيه:
فرأى الله أنهم بمضيع لا بذي مزرع ولا معمورا
فنساها عليهم غاديات ومرى مزنهم خلايا وخورا
عسلاً ناطفاً، وماء فراتاً وحليبًا ذا بهجة مثمورا
المثمور: الصافي من اللبن. فجعل المن الذي كان ينزل عليهم عسلاً ناطفاً، والناطف: هو القاطر.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: "والسلوى".
قال أبو جعفر: "والسلوى" اسم طائر يشبه السمانى، واحده وجماعه بلفظ واحد، كذلك السمانى لفظ جماعها وواحدها سواء. وقد قيل: إن واحدة السلوى، سلواة.
ذكر من قال ذلك:حدثني موسى بن هرون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي،في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: السلوى، طير يشبه السمانى.
حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كان طيرًا أكبر من السمانى.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: السلوى طائر كانت تحشرها عليهم الريح الجنوب.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: السلوى طائر.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: السلوى طير.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا إسمعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد قال: سمعت وهبًا وسئل: ما السلوى؟ فقال: طير سمين مثل الحمام.
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: السلوى طير.
حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس السلوى كان طيرًا يأتيهم مثل السمانى.
حدثني المثنى، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن مجالد، عن عامر قال: السلوى السمانى.
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: السلوى، هو السمانى.
حدثنا أحمد بن إسحق قال، أخبرنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن مجالد، عن عامر قال: السلوى السمانى.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة، عن الضحاك، قال: السمانى هو السلوى.
فإن قال قائل: وما سبب تظليل الله جل ثناؤه الغمام، وإنزاله المن والسلوى على هؤلاء القوم؟
قيل: قد اختلف أهل العلم في ذلك. ونحن ذاكرون ما حضرنا منه:
فحدثنا موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي: لما تاب الله على قوم موسى، وأحيى السبعين الذين اختارهم موسى بعد ما أماتهم، أمرهم الله بالسير إلى أريحا، وهي أرض بيت المقدس. فساروا، حتى إذا كانوا قريبًا منهم، بعث موسى اثني عشر نقيبًا. فكان من أمرهم وأمر الجبارين وأمر قوم موسى، ما قد قص الله في كتابه. فقال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون . فغضب موسى فدعا عليهم فقال: رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين . فكانت عجلة من موسى عجلها، فقال الله تعالى: "إنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ". فلما ضرب عليهم التيه، ندم موسى، وأتاه قومه الذين كانوا معه يطيعونه فقالوا له: ما صنعت بنا يا موسى؟ فلما ندم، أوحى الله إليه: أن لا تأس على القوم الفاسقين أي لا تحزن على القوم الذين سميتهم فاسقين فلم يحزن، فقالوا: يا موسى كيف لنا بماء ههنا؟ أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المن فكان يسقط على شجر الترنجبين والسلوى، وهو طير يشبه السمانى، فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، إن كان سميناً ذبحه وإلا أرسله، فإذا سمن أتاه. فقالوا: هذا الطعام، فأين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، فشرب كل سبط من عين. فقالوا: هذا الطعام والشراب، فأين الظل؟ فظلل عليهم الغمام. فقالوا: هذا الظل، فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان، ولا يتخرق لهم ثوب، فذلك قوله: "وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى" وقوله: "وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم" ( البقرة: 60).
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق قال: لما تاب الله عز وجل على بني إسرائيل، وأمر موسى أن يرفع عنهم السيف من عبادة العجل، أمر موسى أن يسير بهم إلى الأرض المقدسة، وقال: إني قد كتبتها لكم دارًا وقرارًا ومنزلاً، فاخرج إليها، وجاهد من فيها من العدو، فإني ناصركم عليهم. فسار بهم موسى إلى الأرض المقدسة بأمر الله عز وجل. حتى إذا نزل التيه بين مصر والشام، وهي أرض ليس فيها خمر ولا ظل دعا موسى ربه حين آذاهم الحر، فظلل عليهم بالغمام، ودعا لهم بالرزق، فأنزل الله لهم المن والسلوى.
حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس.
وحدثت عن عماربن الحسن، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: ‎"وظللنا عليكم الغمام "، قال: ظلل عليهم الغمام في التيه، ما هو في قدر خمسة فراسخ أو ستة، كلما أصبحوا ساروا غادين، فأمسوا فإذا هم في مكانهم الذي ارتحلوا منه. فكانوا كذلك حتى مرت أربعون سنة. قال: وهم في ذلك ينزل عليهم المن والسلوى، ولا تبلى ثيابهم. ومعهم حجر من حجارة الطور يحملونه معهم، فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا إسمعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد قال، سمعت وهبًا يقول: إن بني إسرائيل لما حرم الله عليهم أن يدخلوا الأرض المقدسة أربعين سنة يتيهون في الأرض شكوا إلى موسى فقالوا: ما نأكل؟ فقال: إن الله سيأتيكم بما تأكلون. قالوا: من أين لنا؟ إلا أن يمطر علينا خبزا! قال: إن الله عز وجل سينزل عليكم خبزاً مخبوزاً. فكان ينزل عليهم المن سئل وهب: ما المن؟ قال: خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النقي قالوا: وما نأتدم؟ وهل بد لنا من لحم؟ قال: فإن الله يأتيكم به. فقالوا: من أين لنا؟ إلا أن تأتينا به الريح! قال: فإن الريح تأتيكم به. فكانت الريح تأتيهم بالسلوى فسئل وهب: ما السلوى؟ قال: طير سمين مثل الحمام، كانت تأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى سبت قالوا: فما نلبس؟ قال: لا يخلق لأحد منكم ثوب أربعين سنة. قالوا: فما نحتذي؟ قال: لا ينقطع لأحدكم شسع أربعين سنة. قالوا: فإن يولد فينا أولاد، فما نكسوهم؟ قال: ثوب الصغير يشب معه. قالوا: فمن أين لنا الماء؟ قال: يأتيكم به الله. قالوا: فمن أين؟ إلا أن يخرج لنا من الحجر فأمر الله تبارك وتعالى موسى أن يضرب بعصاه الحجر. قالوا: فما نبصر تغشانا الظلمة! فضرب لهم عمودًا من نور في وسط عسكرهم، أضاء عسكرهم كله. قالوا: فبم نستظل؟ فإن الشمس علينا شديدة! قال: يظلكم الله بالغمام.
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد، فذكر نحو حديث موسى بن هرون، عن عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدي.
حدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قال عبدالله بن عباس: خلق لهم في التيه ثياب لا تخلق ولا تدرن. قال، وقال ابن جريج: إن أخذ الرجل من المن والسلوى فوق طعام يوم فسد، إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت، فلا يصبح فاسدًا.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: " كلوا من طيبات ما رزقناكم ".
وهذا مما استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه. وذلك أن تأويل الآية: وظللنا عليكم الغمام، وأنزلنا عليكم المن والسلوى، وقلنا لكم: كلوا من طيبات ما رزقناكم. فترك ذكر قوله: وقلنا لكم ، لما بينا من دلالة الظاهر في الخطاب عليه.
وعنى جل ذكره بقوله "كلوا من طيبات ما رزقناكم": كلوا من شهيات رزقنا الذي رزقنا كموه.
وقد قيل: عنى بقوله: "من طيبات ما رزقناكم "، من حلاله الذي أبحناه لكم فجعلناه لكم رزقا.
والأول من القولين أولى بالتأويل، لأنه وصف ما كان القوم فيه من هنيء العيش الذي أعطاهم، فوصف ذلك بـ الطيب ، الذي هو بمعنى اللذة، أحرى من وصفه بأنه حلال مباح.
و ما التي مع "رزقناكم "، بمعنى الذي . كأنه قيل: كلوا من طيبات الرزق الذي رزقناكموه.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: "وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ".
وهذا أيضاً من الذي استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه. وذلك أن معنى الكلام: كلوا من طيبات ما رزقناكم. فخالفوا ما أمرناهم به وعصوا ربهم، ثم رسولنا إليهم، و "ما ظلمونا"، فاكتفي بماظهرعما ترك.
وقوله: "وما ظلمونا" يقول: وما ظلمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
ويعني بقوله: "وما ظلمونا"، وما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيانا، موضع مضرة علينا ومنقصة لنا، ولكنهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرة عليها ومنقصة لها. كما:حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون "، قال: يضرون.
وقد دللنا فيما مضى، على أن أصل الظلم : وضع الشيء في غير موضعه بما فيه الكفاية، فأغنى ذلك عن إعادته.
وكذلك ربنا جل ذكره، لا تضره معصية عاص، ولا يتحيف خزائنه ظلم ظالم، ولا تنفعه طاعة مطيع، ولا يزيد في ملكه عدل عادل، بل نفسه يظلم الظالم، وحظها يبخس العاصي، وإياها ينفع المطيع، وحظها يصيب العادل.
قوله تعالى : "وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" فيه ثمان مسائل .
الأولى : قوله تعالى : "وظللنا عليكم الغمام" أي جعلناه عليكم كالظلة . والغمام جمع غمامة ، كسحابة وسحاب ، قاله الأخفش سعيد . قال الفراء : ويجوز غمائم وهي السحاب ، لأنها تغم السماء أي تسترها ، وكل غطى فهو مغموم ، ومنه المغموم على عقله . وغم الهلال إذا غطاه الغيم . والغين مثل الغيم ، ومنه قوله عليه السلام :
"إنه ليغان على قلبي" . قال صاحب العين : غين عليه : غطى عليه . والغين : شجر متلف . وقال السدي : الغمام السحاب الأبيض . وفعل هذا بهم ليقيهم حر الشمس نهاراً ، وينجلي في آخره ليستضيئوا بالقمر ليلاً . وذكر المفسرون أن هذا جرى في التيه بين مصر والشام لما امتنعوا من دخول مدينة الجبارين وقتالهم ، وقالوا لموسى : "فاذهب أنت وربك" . فعوقبوا في ذلك الفحص أربعين سنة يتيهون في خمسة فواسخ أو ستة . روي أنهم كانوا يمشون النهار كله وينزلون للمبيت فيصبحون حيث كانوا بكرة أمس . وإذ كانوا بأجمعهم في التيه قالوا لموسى : من لنا بالطعام ! فأنزل الله عليهم المن والسلوى . قالوا : من لنا من حر الشمس ! فطلل عليهم الغمام . قالوا :فيم نستصبح ! فضرب لهم عمود نور في وسط محلتهم . وذكر مكي : عمود من نار . قالوا : من لنا بالماء ! فأمر موسى بضرب الحجر . قالوا : من لنا باللباس ! فأعطوا ألا يبلى لهم ثوب ولا يخلق ولا يدرن ، وأن تنمو صغارها حسب نمو الصبيان . والله أعلم .
الثانية : قوله تعالى : "وأنزلنا عليكم المن والسلوى" اختلف في المن ما هو وتعيينه على أقوال ، فقيل : الترنجبين ـ بتشديد الراء وتسكين النون ، ذكره النحاس ، ويقال : الطرنجبين بالطاء ـ وعلى هذا أكثر المفسرين . وقيل :صمغة حلوة . وقيل : عسل ، وقيل شراب حلو . وقيل : خبز الرقاق ، عن وهب بن منبه . وقيل : المن مصدر يعم جميع ما من الله به على عباده من غير تعب ولا زرع ، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سعيد بن زيد بن نفيل :
"الكمأة من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل وماؤها شفاء للعين" في رواية "من المن الذي أنزل الله على موسى" . رواه مسلم . قال علماؤنا : وهذا الحديث يدل على أن الكمأة مما أنزل الله على بني إسرائيل . أي مما خلقه الله لهم في التيه . قال أبو عبيد : إنما شبهها بالمن لأنه لا مؤونة فيها ببذر ولا سقي ولا علاج ، فهي منه . أي من جنس من بني إسرائيل في أنه كان دون تكلف . روي : أنه كان ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس كالثلج ، فيأخذ الرجل ما يكفيه ليومه ، فإن ادخر منه شيئاً فسد عليه ، إلا في يوم الجمعة فإنهم كانوا يدخرون ليوم السبت فلا يفسد عليهم ، لأن يوم السبت يوم عبادة ،وما كان ينزل عليهم يوم السبت شيء .
الثالثة : لما نص عليه السلام على أن :
"ماء الكمأة شفاء للعين" قال بعض أهل العلم بالطب : إما لتبريد العين من بعض ما يكون فيها من الحرارة فتستعمل بنفسها مفردة . وإما لغير ذلك فمركبة مع غيرها . وذهب أبو هريرة رضي الله عنه إلى استعمالها بحتاً في جميع مرض العين . وهذا كما استعمل أبو وجزة العسل في جميع الأمراض كلها حتى في الكحل ، على ما يأتي بيانه في سورة النحل إن شاء الله تعالى . وقال أهل اللغة : الكمء واحد ، وكمآن اثنان ، وأكمؤ ثلاثة ، فإذا زادوا قالوا : كمأة ـ بالتاء ـ على عكس شجرة وشجر . والمن اسم جنس لا واحد له من لفظه ، مثل الخير والشر ، قاله الأخفش .
الرابعة : قوله تعالى : "والسلوى" اختلف في السلوى ، فقيل : هو السمانى بعينه ، قاله الضحاك . قال ابن عطية : السلوى طير بإجماع المفسرين ، وقد غلط الهذلي فقال :
وقاسمها بالله جهدا لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها
ظن السلوى العسل .
قلت : ما ادعاه من الإجماع لا يصح ، وقد قال المؤرج احد علماء اللغة والتفسير : إنه العسل ، واستدل ببيت الهذلي ، وذكر أنه كذلك بلغة كنانة ، سمي به لأنه يسلى به ، ومنه عين السلوان ، وأنشد :
لو أشرب السلوان ما سليت ما بي غنى عنك وإن غنيت
وقال الجوهري : والسلوى العسل ، وذكر بيت الهذلي :
ألذ من السلوى إذا ما نشورها
ولم يذكر غلطا . والسلوانة ( بالضم ) : خرزة كانوا يقولون إذا صب عليها ماء المطر فشربه العاشق سلا ، قال :
شربت على سلوانة ماء مزنة فلا وجديد العيش يا مي ما أسلو
واسم ذلك الماء السلوان . وقال بعضهم السلوان دواء يسقاه الحزين فيسلوا ، والأطباء يسمونه المفرح . يقال :سليت وسلوت ، لغتان . وهو في سلوة من العيش ، أي في رغد ، عن أبي زيد .
الخامسة : واختلف في السلوى هل هو جمع أو مفرد ، فقال الأخفش : جمع لا واحد من لفظه ، مثل الخير والشر ، وهو يشبه أن يكون واحدة سلوى مثل جماعته ، كما قالوا : دفلى للواحد والجماعة ، وسمانى وشكاعى في الواحد والجميع . وقال الخليل : واحدة سلواة ، وأنشد :
وإني لتعروني لذكرك هزة كما انتفض السلواة من بلل القطر
وقال الكسائي : السلوى واحدة ، وجمعه سلاوى .
السادسة : السلوى عطف على المن ، ولم يظهر فيه الإعراب ، لأنه مقصور . ووجب هذا في المقصور كله ، لأنه لا يخلو من أن يكون في آخره ألف . قال الخليل : والألف حرف هوائي لا مستقر له ، فأشبه الحركة فاستحالت حركته . وقال الفراء لو حركت الألف صارت همزة .
السابعة : قوله تعالى : "كلوا من طيبات ما رزقناكم" كلوا فيه حذف ، تقديره وقلنا كلوا ، فحذف اختصاراً لدلالة الظاهر عليه . والطيبات هنا قد جمعت الحلال واللذيذ .
الثامنة : قوله تعالى : "وما ظلمونا" يقدر قبله فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر . "ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" لمقابلتهم النعم بالمعاصي .
لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم، شرع يذكرهم أيضاً بما أسبغ عليهم من النعم، فقال: "وظللنا عليكم الغمام" وهو جمع غمامة، سمي بذلك لأنه يغم السماء أي يواريها ويسترها، وهو السحاب الأبيض ظللوا به في التيه ليقيهم حر الشمس، كما رواه النسائي وغيره عن ابن عباس في حديث الفتون، قال: ثم ظلل عليهم في التيه بالغمام، قال ابن أبي حاتم وروي عن ابن عمر والربيع بن أنس وأبي مجلز والضحاك والسدي نحو قول ابن عباس، وقال الحسن وقتادة "وظللنا عليكم الغمام" كان هذا في البرية، ظلل عليهم الغمام من الشمس، وقال ابن جرير: قال آخرون: وهو غمام أبرد من هذا وأطيب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو حذيفة حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد "وظللنا عليكم الغمام" قال، ليس بالسحاب هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة ولم يكن إلا لهم. وهكذا رواه ابن جرير عن المثنى بن إبراهيم عن أبي حذيفة، وكذا رواه الثوري وغيره عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وكأنه يريد، والله أعلم، أن ليس من زي هذا السحاب بل أحسن منه وأطيب وأبهى منظراً، كما قال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد عن ابن جريج، قال، قال ابن عباس "وظللنا عليكم الغمام" قال، غمام أبرد من هذا وأطيب وهو الذي يأتي الله فيه في قوله: "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة" وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر . قال ابن عباس وكان معهم في التيه، وقوله تعالى: "وأنزلنا عليكم المن" اختلفت عبارات المفسرين في المن ما هو ؟ فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كان المن ينزل عليهم على الأشجار، فيغدون إليه، فيأكلون منه ما شاؤوا. وقال مجاهد: المن: صمغة، وقال عكرمة: المن: شيء أنزله الله عليهم مثل الطل شبه الرب الغليظ ، وقال السدي، قالوا: يا موسى، كيف لنا بما ههنا، أي الطعام ؟ فأنزل الله عليهم المن، فكان يسقط على شجرة الزنجبيل، وقال قتادة: كان المن ينزل عليهم في محلهم سقوط الثلج أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإذا تعدى ذلك فسد ولم يبق، حتى كان يوم سادسه يوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر معيشته ولا يطلبه لشيء، وهذا كله في البرية، وقال الربيع بن أنس: المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل فيمزجونه بالماء ثم يشربونه. وقال وهب بن منبه، وسئل عن المن، فقال، خبز رقاق مثل الذرة أو مثل النقى، وقال أبو جعفر بن جرير حدثني محمد بن إسحاق حدثنا أبو أحمد حدثنا إسرائيل عن جابر عن عامر، وهو الشعبي، قال: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءاً من المن، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أنه العسل، ووقع في شعر أمية بن أبي الصلت حيث قال:
فرأى الله أنهم بمضيع لا بذي مزرع ولا مثمورا
فسناها عليهم غاديات وترى مزنهم خلايا وخورا
عسلاً ناطفاً وماء فراتا وحليباً ذا بهجة مزمورا
فالناطف هو السائل والحليب المرمور الصافي منه، والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن، فمنهم من فسره بالطعام، ومنهم من فسره بالشراب، والظاهر، والله أعلم، أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك مما ليس لهم فيه عمل ولا كد، فالمن المشهور إن أكل وحده كان طعاماً وحلاوة، وإن مزج مع الماء صار شراباً طيباً، وإن ركب مع غيره صار نوعاً آخر، ولكن ليس هو المراد من الاية وحده، والدليل على ذلك قول البخاري: حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عبد الملك عن عمرو بن حريث عن سعيد بن زيد رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين" وهذا الحديث رواه الامام أحمد عن سفيان بن عيينة عن عبد الملك وهو ابن عمير به، وأخرجه الجماعة في كتبهم إلا أبا داود من طرق عن عبد الملك وهو ابن عمير به، وقال الترمذي: حسن صحيح، ورواه البخاري ومسلم من رواية الحكم عن الحسن العرني عن عمرو بن حريث به، وقال الترمذي: حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر ومحمود بن غيلان، قالا: حدثنا سعيد بن عامر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم، والكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" تفرد بإخراجه الترمذي ثم قال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن عمرو وإلا من حديث سعيد بن عامر عنه، وفي الباب عن سعيد بن زيد وأبي سعيد وجابر ـ كذا قال ـ وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من طريق آخر عن أبي هريرة، فقال: حدثنا أحمد بن الحسن بن أحمد البصري، حدثنا أسلم بن سهل حدثنا القاسم بن عيسى حدثنا طلحة بن عبد الرحمن عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" وهذا حديث غريب من هذا الوجه وطلحة بن عبد الرحمن هذا السلمي الواسطي يكنى بأبي محمد وقيل: أبو سليمان المؤدب قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي: روى عن قتادة أشياء لا يتابع عليها. ثم قال الترمذي: حدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة: أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: الكمأة جدري الأرض فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم" وهذا الحديث قد رواه النسائي عن محمد بن بشار به، وعنه عن غندر عن شعبة عن أبي بشر جعفر بن أياس عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة به، وعن محمد بن بشار عن عبد الأعلى عن خالد الحذاء عن شهر بن حوشب بقصة الكمأة فقط . وروى النسائي أيضاً وابن ماجه من حديث محمد بن بشار عن أبي عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد عن مطر الوراق عن شهر : بقصة العجوة عند النسائي، وبالقصتين عند ابن ماجه، وهذه الطريق منقطعة بين شهر بن حوشب وأبي هريرة، فإنه لم يسمع منه بدليل ما رواه النسائي في الوليمة من سننه عن علي بن الحسين الدرهمي عن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي هريرة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يذكرون الكمأة وبعضهم يقول: جدري الأرض، فقال "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" وروي عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر كما قال الإمام أحمد: حدثنا أسباط بن محمد حدثنا الأعمش عن جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن جابر ابن عبد الله وأبي سعيد الخدري، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وهي شفاء من السم" وقال النسائي في الوليمة أيضاً: حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" ثم رواه أيضاً وابن ماجه من طرق الأعمش عن أبي بشر عن شهر عنهما به، وقد رويا ـ أعني النسائي من حديث جرير وابن ماجه من حديث سعيد ابن أبي سلمة ـ كلاهما عن الأعمش عن جعفر بن إياس عن أبي نضرة عن أبي سعيد رواه النسائي وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين" ورواه ابن مردويه عن أحمد بن عثمان عن عباس الدوري عن لاحق بن صواب عن عمار بن زريق عن الأعمش كابن ماجة، وقال ابن مردويه أيضاً: حدثنا أحمد بن عثمان حدثنا عباس الدوري حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي سعيد الخدري، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كمآت، فقال "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" وأخرجه النسائي عن عمرو بن منصور عن الحسن بن الربيع به: ثم ابن مردويه رواه أيضاً عن عبد الله بن إسحاق عن الحسن بن سلام عن عبيد الله بن موسى، عن شيبان عن الأعمش به، وكذا رواه النسائي عن أحمد بن عثمان بن حكيم عن عبيد الله بن موسى، وقد روي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، كما قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم حدثنا حمدون بن أحمد حدثنا حوثرة بن أشرس حدثنا حماد عن شعيب بن الحبحاب عن أنس: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تدارؤوا في الشجرة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها عن قرار ، فقال بعضهم: نحسبه الكمأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم" وهذا الحديث محفوظ أصله من رواية حماد بن سلمة. وقد روى الترمذي والنسائي من طريقه شيئاً من هذا، والله أعلم. وروي عن شهر عن ابن عباس كما رواه النسائي أيضاً في الوليمة عن أبي بكر أحمد بن علي بن سعيد عن عبد الله بن عون الخراز عن أبي عبيدة الحداد عن عبد الجليل بن عطية عن شهر عن عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" فقد اختلف كما ترى فيه شهر بن حوشب ويحتمل عندي أنه حفظه ورواه من هذه الطرق كلها، وقد سمعت من بعض الصحابة وبلغه عن بعضهم، فإن الأسانيد إليه جيدة، وهو لا يتعمد الكذب، وأصل الحديث محفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم من رواية سعيد بن زيد رضي الله عنه.
وأما السلوى، فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: السلوى طائر شبه بالسماني، كانوا يأكلون منه. وقال السدي في خبره، ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: السلوى طائر يشبه السماني، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا عبد الصمد بن الوارث حدثنا قرة بن خالد عن جهضم عن ابن عباس، قال: السلوى هو السماني، وكذا قال مجاهد والشعبي والضحاك والحسن وعكرمة والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى، وعن عكرمة أما السلوى فطير كطير يكون بالجنة أكبر من العصفور أو نحو ذلك، وقال قتادة: السلوى كان من طير أقرب إلى الحمرة تحشرها عليهم الريح الجنوب وكان الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه لأنه كان يوم عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه، وقال وهب بن منبه: السلوى طير سمين مثل الحمامة كان يأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى سبت وفي رواية عن وهب قال سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام لحماً فقال الله لأطعمنهم من أقل لحم يعلم في الأرض فأرسل عليهم ريحاً فأذرت عند مساكنهم السلوى وهو السماني مثل ميل في ميل قيد رمح في السماء فخبأوا للغد فنتن اللحم وخنز الخبز، وقال السدي لما دخل بنو إسرائيل التيه قالوا لموسى عليه السلام كيف لنا بما ههنا أين الطعام ؟ فأنزل الله عليهم المن فكان ينزل على شجر الزنجبيل، والسلوى وهو طائر شبه السماني أكبر منه فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير فإن كان سميناً ذبحه وإلا أرسله فإذا سمن أتاه فقالوا: هذا الطعام. فأين الشراب ؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً فشرب كل سبط من عين، فقالوا: هذا الشراب فأين الظل ؟ فظلل عليهم الغمام، فقالوا: هذا الظل فأين اللباس ؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان ولا يخترق لهم ثوب، فذلك قوله تعالى "وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى" وقوله: " وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين " وروي عن وهب بن منبه وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ما قاله السدي، وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج قال: قال ابن عباس خلق لهم في التيه ثياب لا تخرق ولا تدرن، قال ابن جريج، فكان الرجل إذا أخذ من المن والسلوى فوق طعام يوم فسد إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت فلا يصبح فاسداً، قال ابن عطية السلوى طير بإجماع المفسرين وقد غلط الهذلي في قوله أنه العسل وأنشد في ذلك مستشهداً:
وقاسمها بالله جهداً لأنتم ألذ من السلوى إذا ما أشورها
قال فظن أن السلوى عسلاً، قال القرطبي: دعوى الإجماع لا تصح لأن المؤرخ أحد علماء اللغة والتفسير قال إنه العسل واستدل ببيت الهذلي وهذا وذكر أنه كذلك في لغة كنانة لأنه يسلي به ومنه عين سلوان، وقال الجوهري: السلوى العسل واستشهد ببيت الهذلي أيضاً، والسلوانة بالضم خرزة كانوا يقولون إذا صب عليها ماء المطر فشربها العاشق سلا، قال الشاعر:
شربت على سلوانة ماء مزنة فلا وجديد العيش يامي ما أسلو
واسم ذلك الماء السلوان، وقال بعضهم السلوان دواء يشفي الحزين فيسلوا والأطباء يسمونه (مفرج)، قالوا والسلوى جمع بلفظ الواحد أيضاً كما يقال: سماني للمفرد والجمع وويلي كذلك، وقال الخليل واحده سلواة، وأنشد:
وإني لتعروني لذكراك هزة كما انتقض السلواة من بلل القطر
وقال الكسائي: السلوى واحدة وجمعه سلاوي، نقله كله القرطبي، وقوله تعالى: "كلوا من طيبات ما رزقناكم" أمر إباحة وإرشاد وامتنان، وقوله تعالى: "وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" أي أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدوا كما قال "كلوا من رزق ربكم واشكروا له" فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم هذا مع ما شاهدوه من الايات البينات والمعجزات القاطعات، وخوراق العادات، ومن ههنا تتبين فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وثباتهم وعدم تعنتهم مع ما كانوا معه في أسفاره وغزواته منها عام تبوك في ذلك القيظ والحر الشديد والجهد لم يسألوا خرق عادة ولا إيجاد أمر مع أن ذلك كان سهلاً على النبي صلى الله عليه وسلم لكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم فجاء قدر مبرك الشاة فدعا الله فيه وأمرهم فملؤوا كل وعاء معهم وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى فجاءتهم سحابة فأمطرتهم فشربوا وسقوا الإبل وملؤوا أسقيتهم ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر . فهذا هو الأكمل في اتباع الشيء مع قدر الله مع متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله: 57- "وظللنا عليكم الغمام" أي: فعلناه كالظلة. والغمام جمع غمامة كسحابة وسحاب، قاله الأخفش. قال الفراء: ويجوز غمائم. وقد ذكر المفسرون أن هذا جرى في التيه بين مصر والشام لما امتنعوا من دخول مدينة الجبارين. والمن: قيل هو الترنجين. قال النحاس: هو بتشديد الراء وإسكان النون، ويقال: الطرنجين بالطاء، وعلى هذا أكثر المفسرين، وهو طل ينزل من السماء على شجر أو حجر ويحلو وينعقد عسلاً ويجف جفاف الصمغ، ذكر معناه في القاموس، وقيل: إن المن العسل، وقيل: الشراب حلو، وقيل: خبز الرقاق، وقيل: إنه مصدر يعم جميع ما من الله به على عباده من غير تعب ولا زرع، ومنه ما ثبت في صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الكمأة من المن الذي أنزل على موسى". وقد ثبت مثله من حديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي، ومن حديث جابر وأبي سعيد وابن عباس عند النسائي والسلوى: قيل هو السماني، كحباري طائر يذبحونه فيأكلونه. قال ابن عطية: السلوى طير بإجماع المفسرين، وقد غلط الهذلي فقال:
وقاسمهما بالله جهداً لأنتما ألذ من السلوى إذا ما أشورها
ظن أن السلوى العسل. قال القرطبي: ما ادعاه من الإجماع لا يصح. وقد قال المؤرخ أحد علماء اللغة والتفسير: إنه العسل. واستدل ببيت الهذلي، وذكر أنه كذلك بلغة كنانة، وأنشد:
لو شربت السلوى ما سلوت ما بي غنا عنك وإن غنيب
وقال الجوهري: والسلوى العسل. قال الأخفش: السلوى لا واحد له من لفظه مثل الخير والشر، وهو يشبه أن يكون واحده سلوى. وقال الخليل: واحده سلواة، وأنشد:
وإني لتعروني لذكراك سلوة كما انتفض السلواة من سلكه القطر
وقال الكسائي: السلوى واحدة وجمعه سلاوى. وقوله: "كلوا" أي قلنا لهم كلوا، وفي الكلام حذف، والتقدير: قلنا كلوا فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر فطلموا أنفسهم وما ظلمونا، فحذف هذا لدلالة "ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" عليه، وتقديم الأنفس هنا يفيد الاختصاص. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "حتى نرى الله جهرة" قال: علانية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أنس قال: هم السبعون الذين اختارهم موسى "فأخذتكم الصاعقة" قال: ماتوا "ثم بعثناكم من بعد موتكم" قال: فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: "ثم بعثناكم" نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "وظللنا عليكم الغمام" قال: غمام أبرد من هذا وأطيب، وهو الذي يأتي الله في يوم القيامة، وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر وكان معهم في التيه. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وظللنا عليكم الغمام" قال: كان هذا الغمام في البرية ظلل عليهم الغمام من الشمس، وأطعمهم المن والسلوى حين برزوا إلى البرية، فكان المن يسقط عليهم في محلتهم سقوط الثلج أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فيأخذ الرجل قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإن تعدى ذلك فسد ما يبقى عنده، لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر المعيشة ولا لطلبة شيء، وهذا كله في البرية. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: المن شيء أنزل الله عليهم مثل الطل، والسلوى طير أكبر من العصفور. وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: المن صمغة، والسلوى طائر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: قالوا يا موسى كيف لنا بما ها هنا أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المن فكان يسقط على الشجرة الترنجين. وأخرجوا عن وهب أنه سئل ما المن؟ قال: خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النقي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال: المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل، فيمزجونه بالماء ثم يشربونه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان المن ينزل عليهم بالليل على الأشجار فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا- والسلوى طائر يشبه السماني كانوا يأكلون منه ما شاءوا. وأخرج ابن جرير عنه نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في السلوى مثله. وقد روي نحو ذلك عن جماعة من التابعين ومن بعدهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وما ظلمونا" قال: نحن أعز من أن نظلم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" قال: يضرون.
57. " وظللنا عليكم الغمام " في التيه يقيكم حر الشمس، والغمام من الغم وأصله التغطية والستر سمي السحاب غماماً لأنه يغطي وجه الشمس وذلك أنه لم يكن لهم في التيه كن يسترهم فشكوا إلى موسى فأرسل الله تعالى غماماً أبيض رقيقاً أطيب من غمام المطر، وجعل لهم عموداً من نور يضيء لهم الليل إذا لم يكن لهم قمر " وأنزلنا عليكم المن والسلوى " أي في التيه، الأكثرون على أن المن هو الترنجبين، وقال مجاهد : هو شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار طعمه كالشهد، وقال وهب: هو الخبز الرقاق، قال الزجاج : جملة المن ما يمن الله به من غير تعب.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن اسماعيل أنا أبو نعيم أنا أبو سفيان عن عبد الملك هو ابن عمير عن عمرو بن حريث عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين ".
قالوا فكان المن كل ليلة يقع على أشجارهم مثل الثلج، لكل إنسان منهم صاع، فقالوا: يا موسى قتلنا هذا المن بحلاوته فادع لنا ربك أن يطعمنا اللحم فأنزل الله تعالى عليهم السلوى وهو طائر يشبه السماني، وقيل: هو السماني بعينه، بعث الله سحابة فمطرت السماني في عرض ميل وطول رمح في السماء، بعضه على بعض والسلوى: العسل، فكان الله ينزل عليهم المن والسلوى كل صباح من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فيأخذ كل واحد منهم ما يكفيه يوماً وليلة وإذا كان يوم الجمعة أخذ كل واحد منهم ما يكفيه ليومين لأنه لم يكن ينزل يوم السبت.
" كلوا " أي: وقلنا لهم: كلوا " من طيبات " حلالات " ما رزقناكم " ولا تدخروا لغد،ن ففعلوا، فقطع الله ذلك عنهم، ودود وفسد ما ادخروا، فقال الله تعالى: " وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " أي وما بخسوا بحقنا، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون باستيجابهم عذابي، وقطع مادة الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا مؤنة في الدنيا ولا حساب في العقبى.
أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي أنا أ[و بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه أنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لولا بنو اسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحم، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر ".

57-" وظللنا عليكم الغمام " سخر الله لهم السحاب يظلهم من الشمس حين كانوا في التيه .
" وأنزلنا عليكم المن والسلوى " الترنجبين والسماني . قيل كان ينزل عليهم المن مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع ، وتبعث الجنوب عليهم السماني ، وينزل بالليل عمود نار يسيرون في ضوئه ، وكانت ثيابهم لا تتسخ ولا تبلى .
" كلوا من طيبات ما رزقناكم " على إرادة القول .
" وما ظلمونا " فيه اختصار ، وأصله فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا .
" ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " بالكفران لأنه لا يتخطاهم ضرره .
57. And We caused the white cloud to overshadow you and sent down on you the manna and the quails, (saying): Eat of the good things wherewith We have provided you We wronged them not, but they did wrong themselves.
57 - And we gave you the shade of clouds and sent down to you manna and quails, saying: eat of the good things we have provided for you: (but they rebelled): to us they did no harm, but they harmed their own souls.