[البقرة : 49] وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ
(و) اذكروا (إذ نجيناكم) أي آباءكم ، والخطاب به وبما بعده للموجودين في زمن نبينا بما أنعم الله على آبائهم تذكيراً لهم بنعمة الله تعالى ليؤمنوا (من آل فرعون يسومونكم) يذيقونكم (سوء العذاب) أشده والجملة حال من ضمير نجيناكم (يذبحون) بيان لما قبله (أبناءكم) المولودين (ويستحيون) يستبقون (نساءكم) لقول بعض الكهنة له إن مولوداً يولد في بني إسرائيل يكون سبباً لذهاب ملكك (وفي ذلكم) العذاب أو الإنجاء (بلاء) ابتلاء أو إنعام (من ربكم عظيم)
أما تأويل قوله: "وإذ نجيناكم"، فإنه عطف على قوله:"يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي".
فكأنه قال:اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، واذكروا إنعامنا عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون بإنجائناكم منهم.
وأما"آل فرعون"، فإنهم أهل دينه وقوف وأشياعه.
وأصل"آل" أهل، أبدلت الهاء همزة، كما قالوا ماء فأبدلوا الهاء همزة، فإذا صغروه قالوا: مويه فردوا الهاء في التصغير، وأخرجوه على أصله. وكذلك إذا صغروا " آل "، قالوا أهيل. وقد حكي سماعًا من العرب في تصغير " آل " أويل . وقد قيل:فلان من آل النساء، يراد به أنه منهن خلق. ويقال ذلك أيضًا بمعنى أنه يريدهن ويهواهن، كما قال الشاعر:
فإنك من آل النساء، وإنما يكن لأدنى لا وصال لغائب
وأحسن أماكن "آل" أن ينطق به مع الأسماء المشهورة، مثل قولهم: آل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وآل علي، وآل عباس، وآل عقيل. وغير مستحسن استعماله مع المجهول وفي أسماء الأرضين وما أشبه ذلك. غير حسن عند أهل العلم بلسان العرب أن يقال: رأيت آل الرجل ورآني آل المرأة ولا-: رأيت آل البصرة وآل الكوفة. وقد ذكر عن بعض العرب سماعًا أنها تقول: رأيت آل مكة، وآل المدينة. وليس ذلك في كلامهم بالفاشي المستعمل.
وأما "فرعون" فإنه يقال إنه اسم كانت ملوك العمالقة بمصر تسمى به، كما كانت ملوك الروم يسمى بعضهم قيصر، وبعضهم هرقل، وكما كانت ملوك فارس تسمى الأكاسرة واحدهم كسرى، وملوك اليمن تسمى التبابعة واحدهم تبع.
وأما فرعون موسى الذي أخبر الله تعالى عن بني إسرائيل أنه نجاهم منه، فإنه يقال إن اسمه الوليد بن مصعب بن الريان، وكذلك ذكر محمد بن إسحق أنه بلغه عن اسمه.
حدثنا بذلك محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق: أن اسمه الوليد بن مصعب بن الريان.
وإنما جاز أن يقال:"وإذ نجيناكم من آل فرعون"، والخطاب به لمن لم يدرك فرعون ولا المنجين منه، لأن المخاطبين بذلك كانوا أبناء من نجاهم من فرعون وقومه، فأضاف ما كان من نعمه على آبائهم إليهم، وكذلك ما كان من كفران آبائهم على وجه الإضافة، كما يقول القائل لآخر: فعلنا بكم كذا وفعلنا بكم كذا، وقتلناكم وسبيناكم، والمخبر إما أن يكون يعني قومه وعشيرته بذلك، أو أهل بلده ووطنه كان المقول له ذلك أدرك ما فعل بهم من ذلك أو لم يدركه، كما قال الأخطل يهاجي جرير بن عطية:
ولقد سما لكم الهذيل فنالكم بإراب، حيث يقسم الأنفالا
في فيلق، يدعو الأراقم، لم تكن فرسانه عزلاً ولا أكفالا
ولم يلحق جرير هذيلاً ولا أدركه، ولا أدرك إراب ولا شهده. ولكنه لما كان يومًا من أيام قوم الأخطل على قوم جرير، أضاف الخطاب إليه وإلى قومه. فكذلك خطاب الله عز وجل من خاطبه بقوله: "وإذ نجيناكم من آل فرعون"، لما كان فعله ما فعل من ذلك بقوم من خاطبه بالآية وآبائهم، أضاف فعله ذلك الذي فعله بآبائهم، إلى المخاطبين بالآية وقومهم.
القول في تأويل قوله تعالى:"يسومونكم سوء العذاب".
وفي قوله: "يسومونكم" وجهان من التأويل. أحدهما: أن يكون خبرًا مستأنفًا عن فعل فرعون ببني إسرائيل، فيكون معناه حينئذ: واذكروا نعمتبي عليكم إذ نجيتكم من آل فرعون، وكانوا من قبل يسومونكم سوء العذاب. وإذ كان ذلك تأويله، كان موضع "يسومونكم" رفعًا.
والوجه الثاني: أن يكون يسومونكم حالاً، فيكون تأويله حينئذ: وإذ نجيناكم من آل فرعون سائميكم سوء العذاب، فيكون حالاً من آل فرعون.
وأما تأويل قوله: "يسومونكم" فإنه يوردونكم، ويذيقونكم، ويولونكم. يقال منه:سامه خطة ضيم، إذا أولاه ذلك وأذاقه، كما قال الشاعر:
إن سيم خسفًا وجهه تربدا
فأما تأويل قوله:" سوء العذاب "، فإنه يعني ما ساءهم من العذاب. وقد قال بعضهم: أشد العذاب. ولو كان ذلك معناه لقيل: أسوأ العذاب.
فإن قال لنا قائل: وما ذلك العذاب الذي كانوا يسومونهم، الذي كان يسوءهم.
قيل: هو ما وصفه الله تعالى في كتابه فقال: "يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم" وقد قال محمد بن إسحق في ذلك ما:
حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، أخبرنا ابن إسحق قال: كان فرعون يعذب بني إسرائيل، فيجعلهم خدما وخولاً، وصنفهم في أعماله، فصنف يبنون،(وصنف يحرثون)، وصنف يزرعون له، فهم في أعماله. ومن لم يكن منهم في صنعة له من عمله: فعليه الجزية فسامهم كما قال الله عز وجل، سوء العذاب.
وقال السدي: جعلهم في الأعمال القذرة، وجعل يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم:
حدثني بذلك موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي.
القول في تأويل قوله تعالى: "يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم".
قال أبو جعفر: وأضاف الله جل ثناؤه ما كان من فعل آل فرعون ببني إسرائيل، من سومهم إياهم سوء العذاب، وذبحهم أبناءهم، واستحيائهم نساءهم، إليهم، دون فرعون وإن كان فعلهم ما فعلوا من ذلك كان بقوة فرعون، وعن أمره لمباشرتهم ذلك بأنفسهم. فبين بذلك أن كل مباشر قتل نفس أو تعذيب حي بنفسه، وإن كان عن أمر غيره، ففاعله المتولي ذلك هو المستحق إضافة ذلك إليه، و إن كان الآمر قاهرًا الفاعل المأمور بذلك سلطانًا كان الآمر، أو لصًا خاربًا، أو متغلبًا فاجرًا. كما أضاف جل ثناؤه ذبح أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم، إلى آل فرعون دون فرعون، وإن كانوا بقوة فرعون وأمره إياهم بذلك، فعلوا ما فعلوا، مع غلبته إياهم وقهره لهم. فكذلك كل قاتل نفسًا بأمر غيره ظلمًا، فهو المقتول عندنا به قصاصًا، وإن كان قتله إياها بإكراه غيره له على قتله.
وأما تأويل ذبحهم أبناء بني إسرائيل واستحيائهم نساءهم، فإنه كان فيما ذكر لنا عن ابن عباس وغيره، كالذي:
حدثنا به العباس بن الوليد الاملي، وتميم المنتصر الواسطي قالا، حدثنا يزيد بن هرون قال: أخبرنا الأصبغ بن زيد الجهني قال: حدثنا القاسم بن أبي أيوب قال: حدثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم خليله-: أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكًا وائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشفار، يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولودًا ذكرًا إلا ذبحوه. ففعلوا. فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، وأن الصغار يذبحون، قال: توشكون أن تفنوا بني إسرائيل، فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة ما كانوا يكفونكم فاقتلوا عامًا كل مولود ذكر، فتقل أبناؤهم ودعوا عامًا. فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان، فولدته علانية آمنة، حتى إذا كان القابل حملت بموسى.
وقد حدثنا عبدالكريم بن الهيثم قال: حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي قال: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: حدثنا أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قالت الكهنة لفرعون: انه يولد في هذا العام مولود يذهب بملكك، قال: فجعل فرعون على كل ألف امرأة مئة رجل، وعلى كل مئة عشرة، وعلى كل عشرة رجلاً، فقال: انظروا كل امرأة حامل في المدينة، فإذا وضعت حملها فانظروا إليه، فإن كان ذكرًا فاذبحوه، وإن كان أنثى فخلوا عنها. وذلك قوله: "يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم".
حدثني المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا آدم قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: "وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب"، قال: إن فرعون ملكهم أربعمئة سنة، فقالت الكهنة إنه سيولد العام بمصر غلام يكون هلاكك على يديه. فبعث في أهل مصر نساءً قوابل، فإذا ولدت امرأة غلامًا، اتي به فرعون فقتله، ويستحيي الجواري.
حدثني المثنى قال: حدثنا إسحق بن الحجاج قال: حدثنا عبدالله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله:"وإذ نجيناكم من آل فرعون" الآية، قال: إن فرعون ملكهم أربعمئة سنة، وانه أتاه آت فقال: إنه سينشأ في مصر غلام من بني إسرائيل، فيظهر عليك، ويكون هلاكك على يديه. فبعث في مصر نساء. فذكر نحو حديث آدم.
وحدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي، قال: كان من شأن فرعون أنه رأى في منامه أن نارًا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر، فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل، وأخربت بيوت مصر. فدعا السحرة والكهنة والعافة والقافة والحازة فسألهم عن رؤياه، فقالوا له: يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه يعنون بيت المقدس رجل يكون على وجهه هلاك مصر. فأمر ببني إسرائيل أن لا يولد لهم غلام إلا ذبحوه، ولا تولد لهم جارية إلا تركت، وقال للقبط: انظروا مملوكيكم الذين يعملون خارجًا فأدخلوهم، واجعلوا بني إسرائيل يلون تلك الأعمال القذرة. فجعل بني إسرائيل في أعمال غلمانهم، وأدخلوا غلمانهم. فذلك حين يقول الله تبارك وتعالى: "إن فرعون علا في الأرض" يقول: تجبر في الأرض "وجعل أهلها شيعا" يعني بني إسرائيل، حين جعلهم في الأعمال القذرة "يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم" (القصص: 4). فجعل لا يولد لبني إسرائيل مولود إلا ذبح، فلا يكبر الصغير. وقذف الله في مشيخة بني إسرائيل الموت، فأسرع فيهم. فدخل رؤوس القبط على فرعون فكلموه، فقالوا: إن هؤلاء قد وقع فيهم الموت، فيوشك أن يقع العمل على غلماننا نذبح أبناءهم، فلا تبلغ الصغار وتفنى الكبار فلو أنك كنت تبقي من أولادهم فأمر أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة. فلما كان في السنة التي لا يذبحون فيها، ولد هارون فترك. فلما كان في السنة التي يذبحون فيها، حملت بموسى.
حدثنا محمد بن حميد قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحق قال: ذكر لي أنه لما تقارب زمان موسى، أتى منجمو فرعون وحزاته إليه، فقالوا له: تعلم أنا نجد في علمنا أن مولودًا من بني إسرائيل قد أظلك زمانه الذي يولد فيه، يسلبك ملكك، ويغلبك على سلطانك، ويخرجك من أرضك، ويبدل دينك. فلما قالوا له ذلك، أمر بقتل كل مولود يولد من بني إسرائيل من الغلمان، وأمر بالنساء يستحيين. فجمع القوابل من نساء أهل مملكته، فقال لهن: لا يسقطن على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا قتلتنه. فكن يفعلن ذلك. وكان يذبح من فوق ذلك من الغلمان، ويأمر بالحبالى فيعذبن حتى يطرحن ما في بطونهن.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحق، عن عبدالله بن أبي نجيح، عن مجاهد قال: لقد ذكر لي، أنه كان ليأمر بالقصب فيشق حتى يجعل أمثال الشفار، ثم يصف بعضه إلى بعض، ثم يأتي بالحبالى من بني إسرائيل فيوقفهن عليه، فيحز أقدامهن. حتى إن المرأة منهن لتمصع بولدها فيقع من بين رجليها، فتظل تطؤه تتقي به حد القصب عن رجلها، لما بلغ من جهدها، حتى أسرف في ذلك وكاد يفنيهم. فقيل له: أفنيت الناس وقطعت النسل وإنهم خولك وعمالك فأمر أن يقتل الغلمان عامًا ويستحيوا عامًا. فولد هارون في السنة التي يستحيى فيها الغلمان، وولد موسى في السنة التي فيها يقتلون.
قال أبو جعفر: والذي قاله من ذكرنا قوله من أهل العلم: كان ذبح آل فرعون أبناء بني إسرائيل واستحياؤهم نساءهم، فتأويل قوله إذًا على ما تأوله الذين ذكرنا قولهم-:"ويستحيون نساءكم"، يستبقونهن فلا يقتلونهن.
وقد يجب على تأويل من قال بالقول الذي ذكرنا عن ابن عباس وأبي العالية والربيع بن أنس والسدي في تأويل قوله: "ويستحيون نساءكم"، أنه تركهم الإناث من القتل عند ولادتهن إياهن أن يكون جائزًا أن يسمى الطفل من الإناث في حال صباها وبعد ولادتها: امرأة، والصبايا الصغار وهن أطفال: نساء. لأنهم تأولوا قول الله عز وجل:"ويستحيون نساءكم"، يستبقون الإناث من الولدان عند الولادة فلا يقتلونهن.
وقد أنكر ذلك من قولهم ابن جريج، فقال بما:
حدثنا به القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: "ويستحيون نساءكم" قال: يسترقون نساءكم.
فحاد ابن جريج، بقوله هذا، عما قاله من ذكرنا قوله في قوله: "ويستحيون نساءكم": إنه استحياء الصبايا الأطفال، إذ لم يجدهن يلزمهن اسم نساء، ثم دخل فيما هو أعظم مما أنكر، بتأويله "ويستحيون"، يسترقون. وذلك تأويل غير موجود في لغة عربية ولا أعجمية. وذلك أن الاستحياء، استفعال، من الحياة، نظير الاستبقاء من البقاء، و الاستقساءا من السقي . وهو من معنى الاسترقاق بمعزل.
وقد تأول آخرون قوله: "يذبحون أبناءكم "، بمعنى: يذبحون رجالكم آباء أبنائكم، وأنكروا أن يكون المذبحون الأطفال، وقد قرن بهم النساء. فقالوا: في إخبار الله جل ثناؤه أن المستحيين هم النساء، الدلالة الواضحة على أن الذين كانوا يذبحون هم الرجال دون الصبيان، لأن المذبحين لو كانوا هم الأطفال، لوجب أن يكون المستحيون هم الصبايا. قالوا: وفي إخبار الله تعالى ذكره أنهم النساء، ما بين أن المذبحين هم الرجال.
قال أبو جعفر: وقد أغفل قائلو هذه المقالة مع خروجهم من تأويل أهل التأويل من الصحابة والتابعين موضع الصواب. وذلك أن الله جل ثناؤه قد أخبر عن وحيه إلى أم موسى أنه أمرها أن ترضع موسى، فإذا خافت عليه أن تلقيه في التابوت، ثم تلقيه في اليم. فمعلوم بذلك أن القوم لو كانوا إنما كانوا يقتلون الرجال ويتركون النساء، لم يكن بأم موسى حاجة إلى إلقاء موسى في اليم أو لو أن موسى كان رجلاً لم تجعله أمه في التابوت.
ولكن ذلك عندنا على ما تأوله ابن عباس ومن حكينا قوله قبل: من ذبح آل فرعون الصبيان وتركهم من القتل الصبايا. وإنما قيل: "ويستحيون نساءكم" إذ كان الصبايا داخلات مع أمهاتهن وأمهاتهن لا شك نساء في الاستحياء، لأنهم لم يكونوا يقتلون صغار النساء ولا كبارهن، فقيل: "ويستحيون نساءكم"، يعني بذلك الوالدات والمولودات، كما يقال: قد أقبل الرجال، وإن كان فيهم صبيان. فكذلك قوله: "ويستحيون نساءكم". وأما من الذكور، فإنه لما لم يكن يذبح إلا المولودون، قيل: "يذبحون أبناءكم"، ولم يقل: يذبحون رجالكم.
القول في تأويل قوله:" وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم".
أما قوله: "وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم"، فإنه يعني: وفي الذي فعلنا بكم، من انجائناكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون إياكم، على ما وصفت بلاء لكم من ربكم عظيم.
ويعني بقوله "بلاء": نعمة، كما:
حدثني المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله:"بلاء من ربكم عظيم"، قال: نعمة.
وحدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم"، أما البلاء فالنعمة.
وحدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد: "وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم"، قال: نعمة من ربكم عظيمة.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثل حديث سفيان.
حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: "وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم"، قال: نعمة عظيمة.
وأصل البلاء في كلام العرب الاختبار والامتحان، ثم يستعمل في الخير والشر. لأن الامتحان والاختبار قد يكون بالخير كما يكون بالشر، كما قال ربنا جل ثناؤه: "وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون" (الأعراف: 168)، يقول: اختبرناهم، وكما قال جل ذكره: "ونبلوكم بالشر والخير فتنة" (الأنبياء: 35). ثم تسمي العرب الخير بلاءً والشر بلاءً. غير أن الأكثر في الشر أن يقال: بلوته أبلوه بلاءً، وفي الخير: أبليته أبليه إبلاءً وبلاءً ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى:
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
فجمع بين اللغتين، لأنه أراد: فأنعم الله عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده.
فيه ثلاث عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : "وإذ نجيناكم من آل فرعون" إذ في موضع نصب عطف على "اذكروا نعمتي" وهذا وما بعده تذكير ببعض النعم التي كانت له عليهم ، أي اذكروا نعمتي بإنجائكم من عدوكم وجعل الأنبياء فيكم . والخطاب للموجودين والمراد من سلف من ألآباء ، كما قال : "إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية" أي حملنا آباءكم . وقيل : إنما قال نجياناكم لأن نجاة الآباء كانت سبباً لنجاة هؤلاء الموجودين . ومعنى نجيناكم ألقيناكم على نجوة من الأرض ، وهي ما ارتفع منها . وهذا هو الأصل ، ثم سمي كل فائز ناجياً . فالناجي من خرج من ضيق إلى سعة . وقرىء : وإذا نجيتكم على التوحيد .
الثانية : قوله تعالى : "من آل فرعون" آل فرعون قومه واتباعه وأهل دينه . وذلك آل الرسول صلى الله عليه وسلم من هو على دينه وملته في عصره وسائر الأعصار ، سوءا كان نسبياً له أو لم يكن . ومن لم يكن على دينه وملته فليس من آله ولا أهله ، وإن كان نسيبه وقريبه . خلافاً للرافضة حيث قالت : إن آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة والحسن والحسين فقط . دليلنا قوله تعالى : "وأغرقنا آل فرعون" "أدخلوا آل فرعون أشد العذاب" أي آل دينه ، إذ لم يكن له ابن ولا بنت ولا أب ولا عم ولا أخ ولا عصبة . ولأنه لا خلاف أن من ليس بمؤمن ولا موحد فإنه ليس من آل محمد وإن كان قريباً له ، ولأجل هذا يقال : إن أبا لهب وأبا جهل ليسا من آله ولا من أهله ، وإن كان بينهما وبين النبي صلى الله عليه وسلم قرابة ، ولأجل هذا قال الله تعالى في ابن نوح : "إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح" . وفي صحيح مسلم " عن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاراً غير سر يقول : ألا إن آل أبي ـ يعني فلاناً ـ ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين" . وقالت طائفة : آل محمد أزواجه وذريته خاصة ، لـ"حديث أبي حميد الساعدي أنهم قالوا : يا رسول الله كيف نصلي عليك ؟ قال : قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" . رواه مسلم . وقالت طائفة من أهل العلم : الأهل معلوم ، والآل : الأتباع . والأول أصح لما ذكرناه ،ولـ" حديث عبد الله بن أبي أوفى : أن رسول لله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : اللهم صل عليهم فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى " .
الثالثة : اختلف النحاة هل يضاف الآل إلى البلدان أو لا ؟ فقال الكسائي : إنما يقال آل فلان وآل فلانة ، ولا يقال في البلدان هو من آل حمص ولا من آل المدينة . قال الأخفش : إنما يقال في الرئيس الأعظم ، ونحو آل محمد صلى الله عليه وسلم ، وآل فرعون لأنه رئيسهم في الضلالة . قال : وقد سمعناه في البلدان قالوا : أهل المدينة وآل المدينة .
الرابعة : واختلف النحاة أيضاً هل يضاف الآل إلى المضمر أو لا ؟ فمنع من ذلك النحاس و الزبيدي و الكسائي ، فلا يقال إلا اللهم صلى على محمد وآل محمد ، ولا يقال وآله ، والصواب أن يقال : اهله . وذهبت طائفة أخرى إلى أن ذلك يقال ، منهم ابن السيد وهو الصواب ، لأن السماع الصحيح يعضده ، فإنه قد جاء في قول عبد المطلب :
لا هم إن العبد يمـ ـنع رحله فامنع حلالك
وانصر على آل الصليـ ـب وعابديه اليوم آلك
وقال ندبة :
أنا الفارس الحامي حقيقة والدي وآلي كما تحمي حقيقة آلكا
الحقيقة ( بقافين ) : ما يحق على الإنسان أن يحميه ، أي تجب عليه حمايته .
الخامسة : :واختلفوا أيضاً في أصل آل ، فقال النحاس : أصله أهل ، ثم أبدل من الهاء ألفاً ، فإن صغرته رددته إلى أصله فقتل : أهيل . وقال المهدوي : أصله أول . وقيل : أهل ، قلبت الهاء همزة ثم أبدلت الهمزة ألفاً . وجمعه آلون ، وتصغيره أويل ، فيما حكى الكسائي . وحكي غيره أهيل ، وقد ذكرناه عن النحاس . وقال أبو الحسن بن كيسان : إذا جمعت آلاً قلت آلون ، فإن جمعت آلاً الذي هو السراب قلت آوال ، مثل مال وأموال .
السادسة : قوله تعالى : "فرعون" فرعون قيل : أنه اسم ذلك الملك بعينه . وقيل إنه اسم كل ملك من ملوك العمالقة ، مثل كسرى للفرس ،وقيصر للروم ، والنجاشي للحبشة . وإن اسم فرعون موسى : قابوس ، في قول أهل الكتاب . وقال وهب :اسمه الوليد بن مصعب بن الريان ، ويكنى أبا مرة وهو من بني عمليق بن لاوذ ابن إرم بن سام بن نوح عليه السلام . قال السهيلي : وكل من ولي القبط ومصر فهو فرعون . وكان فارسياً من أهل إصطخر . قال المسعودي : لايعرف لفرعون تفسير بالعربية . قال الجوهري : فرعون لقب الوليد بن مصعب ملك مصر ، وكل عات فرعون . والعتاة : الفراعنة ، وقد تفرعن ، وهو ذو فرعنة ، أي دهاء ونكر . وفي الحديث :
أخذنا فرعون هذه الأمة . و فرعون في موضع خفض إلا أنه لا ينصرف لعجمته .
السابعة : قوله تعالى : "يسومونكم" قيل : معناه يذيقونكم ويلزمونكم إياه . وقال أبو عبيدة : يولونكم ، يقال :سامه خطة خسف إذا أولاه إياها ، ومنه قول عمرو بن كلثوم :
إذا ما الملك سام الناس خسفا أبينا أن نقر الخسف فينا
وقيل : يديمون تعذيبكم . والسوم : الدوام ، ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرعي . قال الأخفش : وهو في موضع رفع على الابتداء ، وإن شئت كان في موضع نصب على الحال ، أي سائمين لكم .
الثامنة : قوله تعالى : "سوء العذاب" مفعول ثان لـ يسومونكم ومعناه أشد العذاب . ويجوز أن يكون بمعنى سوم العذاب . وقد يجوز أن يكون نعتاً ، بمعنى سوماً سيئاً . فروي أن فرعون جعل بني إسرائيل خدماً وخولاً وصنفهم في أعماله ، فصنف يبنون ، وصنف يحرثون ويزرعون ، وصنف يتخدمون ـ وكان قومه جندا ملوكاً ـ ومن لم يكن منهم في عمل من هذه الأعمال ضربت عليه الجزية ، فلذلك سوء العذاب .
التاسعة : قوله تعالى : "يذبحون أبناءكم" يذبحون بغير واو على البدل من قوله : يسومونكم كما قال ـ أنشده سيبويه : ـ
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطباً جزلا ونارا تأججا
قال الفراء وغيره : يذبحون بغير واو على التفسير لقوله : "يسومونكم سوء العذاب" كما تقول : أتاني القوم زيد وعمرو ، فلا تحتاج إلى الواو في زيد ، ونظيره : "ومن يفعل ذلك يلق أثاما" "يضاعف له العذاب" وفي سورة إبراهيم "يذبحون" بالواو ، لأن المعنى يعذبونكم بالذبح وبغير الذبح . فقوله : "يذبحون أبناءكم" جنس آخر من العذاب ، لا تفسير لما قبله . والله أعلم .
قلت : قد يحتمل أن يقال : إن الواو زائدة بدليل سورة البقرة والواو قد تزاد ، ما قال:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
أي قد انتحى . وقال آخر :
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة ، وهو كثير .
العاشرة :قوله تعالى :"يذبحون" قراءة الجماعة بالتشديد على التكثير . وقرأ ابن محيصن يذبحون بفتح الباء . والذبح : الشق . والذبح : المذبوح . والذباح : تشقق في أصول الأصابع . وذبحت الدن : بزلته ، اي كشفته . وسعد الذابح : أحد السعود . والمذابح : المحاريب . والمذابح : جمع مذبح ، وهو إذا جاء السيل فخد في الأرض ، فما كان كالشبر ونحوه سمي مذبحاً . فكان فرعون يذبح الأطفال ويبقي البنات ، وعبر عنهم باسم النساء بالمال . وقالت طائفة : يذبحون أبناءكم يعني الرجال ، وسموا أبناء لما كانوا كذلك ، واستدل هذا القائل بقوله : نساءكم . والأول أصح ، لأنه الأظهر ، والله أعلم .
الحادية عشرة : نسب الله تعالى الفعل إلى آل فرعون ، وهم إنما كانوا يفعلون بأمره وسلطانه ، لتوليهم ذلك بأنفسهم ، وليعلم أن لمباشر مأخوذ بفعله . قال الطبري : ويقتضي أن من أمره ظالم أحد فقتله المأمور فهو المأخوذ به .
قلت : وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال : يقتلان جميعاً، هذا بأمره والمأمور بمباشرته . هكذا قال النخعي ، وقال الشافعي و مالك في تفصيل لهما . قال الشافعي إذا أمر السلطان رجلا بقتل رجل والمأمور يعلم أنه أمر يقتله ظلماً كان عليه وعلى الإمام القود كقاتلين معاً ، وإن أكرهه الإمام عليه وعلم أنه يقتله ظلما كان على الإمام القود . وفي المأمور قولان : أحدهما : أن عليه القود . والآخر لا قود عليه وعليه نصف الدية ، حكاه ابن المنذر . وقال علماؤنا : لا يخلو المأمور أن يكون ممن تلزمه طاعة الآمر ويخاف شره كالسلطان والسيد لعبده ، فالقولد في ذلك لازم لهما ، أو يكون ممن لا يلزمه ذلك فيقتل المباشر وحده دون الآمر ، وذلك كالأب يأمر ولده ، أو المعلم بعض صبيانه ، أو الصانع بعض متعلميه إذا كان محتلماً ، فإن كان غير محتلم فالقتل على الآمر ، وعلى عاقلة الصبي نصف الدية . وقال ابن نافع : لايقتل السيد إذا أمر عبده ـ وإن كان أعجمياً ـ بقتل إنسان . قال ابن حبيب : وبقول ابن القاسم أقول أن القتل عليهما . فأما أمر من لا خوف على المأمور في مخالفته فإنه لا يلحق بالإكراه بل يقتل المأمور دون الآمر ، ويضرب الآمر ويحبس . وقال أحمد في السيد يأمر عبده أن يقتل رجلاً : يقتل السيد . وروي هذا القول عن علي بن أبي طالب وابي هريرة رضي الله عنهما . وقال علي : ويستودع العبد السجن . وقال أحمد : ويحبس العبد ويضرب ويؤدب . وقال الثوري : يعزر السيد . وقال الحكم و حماد : يقتل العبد . وقال قتادة : يقتلان جميعاً . وقال الشافعي : إن كان العبد فصيحاً يعقل قتل العبد وعوقب السيد ، وإن كان العبد أعجمياً فعلى السيد القود . وقال سليمان بن موسى : لا يقتل الآمر ولكن تقطع يديه ثم يعاقب ويحبس ـ وهو القول الثاني ـ ويقتل المأمور للمباشرة . كذلك قال عطاء و الحكم و حماد و الشافعي و أحمد وإسحاق في الرجل يأمر الرجل بقتل الرجل ، وذكره ابن المنذر . وقال زفر : لا يقتل واحد منهما ـ وهو القول الثالث ـ حكاه أبو المعالي في البرهان ، ورأى أن الآمر والمباشر ليس كل واحد منهما مستقبلاً في القود ، فلذلك لا يقتل واحد منهما عنده . والله أعلم .
الثانية عشرة : قرأ الجمهور يذبحون بالتشديد على المبالغة . وقرأ ابن محيصن يذبحون بالتخفيف . والأولى أرجح إذ الذبح متكرر . وكان فرعون على ما روي قد رأى في منامه ناراً خرجت من بيت المقدس فأحرقت بيوت مصر ، فأولت له رؤياه . أن مولوداً من بني إسرائيل ينشأ فيكون خراب ملكه على يديه . وقيل غير هذا ، والمعنى متقارب .
الثالثة عشرة : قوله تعالى : "وفي ذلكم" إشارة إلى جملة الأمر ، إذ هو خبر فهو كمفرد حاضر ، أي وفي فعلهم ذلك بكم بلاء ، أي امتحان واختبار . و "بلاء" نعمة ، ومنه قوله تعالى : "وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا" . قال أبو الهيثم : البلاء يكون حسناً ويكون سيئاً ، وأصله المحنة ، والله عز وجل يبلو عبده بالصنع الجميل ليمتحن شكره ، ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره ، فقيل للحسن بلاء ، وللسيء بلاء ، حكاه الهروي . وقال قوم : الإشارة بـ ذلكم إلى التنجية ، فيكون البلاء على هذا في الخير ، أي تنجيتكم نعمة من الله عليكم . وقال الجمهور : الإشارة إلى الذبح ونحوه والبلاء هنا في الشر ، والمعنى : وفي الذبح مكروه وامتحان . وقال ابن كيسان : ويقال في الخير أبلاه الله وبلاه ، وأنشد :
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلوا
فجمع بين اللغتين . والأكثر في الخير أبليته . وفي الشر بلوته ، وفي الأختبار ابتليته وبلوته ، قاله النحاس .
يقول تعالى: اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب، أي خلصتكم منهم، وأنقذتكم من أيديهم صحبة موسى عليه السلامن وقد كانوا يسومونكم أي يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب، وذلك أن فرعون لعنه الله كان قد رأي رؤيا هالته، رأى ناراً خرجت من بيت المقدس فدخلت بيوت القبط ببلاد مصر إلا بيوت بني إسرائيل، مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل، ويقال بعد تحدث سماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم يكون لهم به دولة ورفعة، وهكذا جاء في حديث الفتون كما سيأتي في موضعه في سورة طه إن شاء الله تعالى، فعند ذلك أمر فرعون لعنه الله بقتل كل ذكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل وأن تترك البنات، وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأرذلها، ههنا فسر العذاب بذبح الأبناء ، وفي سورة إبراهيم عطف عليه كما قال: "يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم" وسيأتي تفسير ذلك في أول سورة القصص إن شاء الله تعالى، به الثقة والمعونة والتأييد. ومعنى يسومونكم يولونكم، قاله أبو عبيدة، كما يقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها، قال عمرو بن كلثوم:
إذا ما الملك سام الناس خسفا أبينا أن نقر الخسف فينا
وقيل معناه: يديمون عذابكم، كما يقال سائمة الغنم من إدامتها الرعي، نقله القرطبي، وإنما قال ههنا: "يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم" ليكون ذلك تفسيراً للنعمة عليهم في قوله: "يسومونكم سوء العذاب" ثم فسره بهذا لقوله ههنا: "اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم" وأما في سورة إبراهيم فلما قال: "وذكرهم بأيام الله" أي بأياديه ونعمه عليهم فناسب أن يقول هناك: "يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم" فعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي على بني إسرائيل وفرعون علم على كل من ملك مصر كافراً من العماليق وغيرهم، كما أن قيصر علم على كل من ملك الروم مع الشام كافراًن وكسرى لمن ملك الفرس، وتبع لمن ملك اليمن كافراً، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وبطليموس لمن ملك الهند، ويقال كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى عليه السلام الوليد بن مصعب بن الريان، وقيل مصعب بن الريان، فكان من سلالة عمليق بن الأود بن إرم بن سام بن نوح، وكنيته أبو مرة، وأصله فارسي من اصطخر ، وأياً ما كان فعليه لعنة الله، وقوله تعالى: "وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم" قال ابن جرير: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا آباءكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون بلاء لكم من ربكم عظيم، أي نعمة عظيمة عليكم في ذلك، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قوله تعالى: "بلاء من ربكم عظيم" قال: نعمة، وقال مجاهد "بلاء من ربكم عظيم" قال: نعمة من ربكم عظيمة، وكذا قال أبو العالية وأبو مالك والسدي وغيرهم، وأصل البلاء الاختبار وقد يكون بالخير والشر كما قال تعالى: "ونبلوكم بالشر والخير فتنة" وقال: "وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون" قال ابن جرير : وأكثر ما يقال في الشر بلوته أبلوه بلاء ، وفي الخير أبليه إبلاء وبلاء ، قال زهير بن أبي سلمى:
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
قال: فجمع بين اللغتين لأنه أراد فأنعم الله عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده، وقيل: المراد بقوله: "وفي ذلكم بلاء" إشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء، قال القرطبي: وهذا قول الجمهور ولفظه بعد ما حكى القول الأول، ثم قال: وقال الجمهور: الإشارة إلى الذبح ونحوه، والبلاء ههنا في الشر, والمعنى في الذبح مكروه وامتحان، وقوله تعالى: "وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون"، معناه وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون وخرجتم مع موسى عليه السلام، خرج فرعون في طلبكم ففرقنا بكم البحر كما أخبر تعالى عن ذلك مفصلاً كما سيأتي في مواضعه ومن أبسطها ما في سورة الشعراء إن شاء الله، "فأنجيناكم" أي خلصناكم منهم وحجزنا بينكم وبينهم وأغرقناهم وأنتم تنظرون، ليكون ذلك أشفى لصدوركم وأبلغ في إهانة عدوكم. قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن أبي إساحق الهمداني عن عمرو بن ميمون الأدوي في قوله تعالى: " وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ", قال: لما خرج موسى ببني إسرائيل، بلغ ذلك فرعون، فقال: لا تتبعوهم حتى تصيح الديكة، قال: فوالله ما صاح ليلتئذ ديك حتى أصبحوا، فدعا بشاة فذبحت، ثم قال: لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إلي ستمائة ألف من القبط ، فلما أتى موسى البحر قال له رجل من أصحابه يقال له يوشع بن نون: أين أمر ربك ؟ قال: أمامك، يشير إلى البحر ، فأقحم يوشع فرسه في البحر حتى بلغ الغمر، فذهب به الغمر ، ثم رجع فقال: أين أمر ربك يا موسى ؟ فوالله ما كذبت ولا كذبت، فعل ذلك ثلاث مرات ثم أوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر ، فضربه فانفلق، فكان كل فرق كالطور العظيم يقول مثل الجبل ـ ثم سار موسى ومن معه، واتبعهم فرعون في طريقهم حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم، فلذلك قال: "وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون" وكذلك قال غير واحد من السلف كما سيأتي بيانه في موضعه، وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء ، كما قال الإمام أحمد، حدثنا عفان حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن عبد الله بن سعيد بن جبير عن أبيه "عن ابن عباس، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوارء ، فقال: ما هذا اليوم الذي تصومون ؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله عز وجل فيه بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى عليه السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أحق بموسى منكم فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصومه"، وروى هذا الحديث البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه من طرق عن أيوب السختياني به نحو ما تقدم، وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو الربيع حدثنا سلام يعني ابن سليم عن زيد العمي عن يزيد الرقاشي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فلق الله البحر لبني إسرائيل يوم عاشوراء" وهذا ضعيف من هذا الوجه، فإن زيداً العمي فيه ضعف، وشيخه يزيد الرقاشي أضعف منه.
وقوله: 49- "إذ نجيناكم" متعلق بقوله: "اذكروا" والنجاة: النجوة من الأرض وهي ما ارتفع منها، ثم سمي كل فائز ناجياً. وآل فرعون: قومه، وأصل آل أهل بدليل تصغيره على أهيل، وقيل غير ذلك، وهو يضاف إلى ذوي الخطر. قال الأخفش: إنما يقال في الرئيس الأعظم نحو آل محمد. ولا يضاف إلى البلدان فلا يقال من آل المدينة. وقال الأخفش: قد سمعناه في البلدان قالوا آل المدينة. واختلفوا هل يضاف إلى المضمر أم لا، فمنعه قوم وسوغه آخرون وهو الحق، ومنه قول عبد المطلب:
‌وانصر على آل الصليـ ـب وعابديه اليوم آلك‌‌‌‌
وفرعون: قيل هو اسم ذلك الملك بعينه- وقيل إنه اسم لكل ملك من ملوك العمالقة كما يسمى من ملك الفرس كسرى، ومن ملك الروم قيصر، ومن ملك الحبشة النجاشي. واسم فرعون موسى المذكور هنا: قابوس في قول أهل الكتاب. وقال وهب: اسمه الوليد بن مصعب بن الريان. قال المسعودي: لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية. وقال الجوهري: إن كل عات يقال له فرعون، وقد تفرعن وهو ذو فرعنة: أي دهاء ومكر. وقال في الكشاف: تفرعن فلان: إذا عتا وتجبر. ومعنى قوله: "يسومونكم" يولونكم، قاله أبو عبيدة، وقيل: يذيقونكم ويلزمونكم إياه، وأصل السوم الدوام، ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرعي، ويقال: سامه خطة خسف: إذا أولاه إياها. وقال في الكشاف: أصله من سام السلعة إذا طلبها، كأنه بمعنى يبغونكم سوء العذاب ويريدونكم عليه انتهى. وسوء العذاب: أشده، وهو صفة مصدر محذوف: أي يسومونكم سوماً سوء العذاب، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً، وهذه الجملة في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ مقدر، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال: أي سائمين لكم. وقوله: "يذبحون" وما بعده بدل من قوله: "يسومونكم" وقال الفراء: إنه تفسير لما قبله وقرأه الجماعة بالتشديد، وقرأ ابن محيصن بالتخفيف. والذبح في الأصل: الشق، وهو فري أوداج المذبوح. والمراد بقوله تعالى: "ويستحيون نساءكم" يتركونهن أحياء ليستخدموهن ويمتهنوهن، وإنما أمر بذبح الأبناء واستحياء البنات لأن الكهنة أخبروه بأنه يولد مولود يكون هلاكه على يده، وعبر عن البنات باسم النساء لأنه جنس يصدق على البنات. وقالت طائفة: أنه أمر بذبح الرجال واستدلوا بقوله: "نساءكم" والأول أصح بشهادة السبب، ولا يخفى ما في قتل الأبناء واستحياء البنات للخدمة ونحوها من إنزال الذل بهم وإلصاق الإهانة الشديدة بجميعهم لما في ذلك من العار . والإشارة بقوله : " وفي ذلكم "إلى جملة الأمر. والبلاء يطلق تارة على الخير، وتارة على الشر، فإن أريد به هنا الشر كانت الإشارة بقوله: "وفي ذلكم بلاء" إلى ما حل بهم من النقمة بالذبح ونحوه، وإن من تفضيلهم على العالمين. وقد اختلف السلف ومن بعدهم في مرجع الإشارة، فرجح الجمهور الأول، ورجح الآخرون الآخر. قال ابن جرير: وأكثر ما يقال في الشر بلوته أبلوه بلاءً، وفي الخير أبليه إبلاءً وبلاءً، قال زهير:
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
قال: فجمع بين اللغتين لأنه أراد فأنعم عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده.
49. " وإذ نجيناكم " يعني: أسلافكم وأجدادكم فاعتدها منةً عليهم لأنهم نجوا بنجاتهم " من آل فرعون ": أتباعه وأهل دينه، وفرعون هو الوليد مصعب بن الريان وكان من القبط العماليق وعمر أكثر من أربعمائة سنة " يسومونكم " يكلفونكم ويذيقونكم، " سوء العذاب " أشد العذاب وأسوأه وقيل: يصرفونكم في العذاب مرة هكذا ومرة هكذا كالإبل السائمة في البرية، وذلك أن فرعون جعل بني إسرائيل خدماً وخولاً وصنفهم في الأعمال فصنف يبنون، وصنف يحرثون ويزرعون، وصنف يخدمونه، ومن لم يكن منهم في عمل وضع عليه الجزية.
وقال وهب: كانوا أصنافاً في أعمال فرعون، فذوو القوة ينحتون السواري من الجبال حتى قرحت أعناقهم وأيديهم ودبرت ظهورهم من قطعها ونقلها، وطائفة ينقلون الحجارة، وطائفة يبنون له القصور، وطائفة منهم يضربون اللبن ويطبخون الآجر، وطائفة نجارون وحدادون، والضعفة منهم يضرب عليهم الخراج ضريبة يؤدونها كل يوم، فمن غربت عليه الشمس قبل أن يؤدي ضريبته غلت يمينه إلى عنقه شهراً، والنساء يغزلن الكتان وينسجن، وقيل: تفسيره ذكر ما بعده: " يذبحون أبناءكم " فهو مذكور على وجه البدل من قوله - يسومونكم سوء العذاب " ويستحيون نساءكم " يتركونهن أحياء، وذلك أن فرعون رأى في منامه كأن ناراً أقبلت من بيت المقدس وأحاطت بمصر وأحرقت كل قبطي بها ولم تتعرض لبني إسرائيل فهاله ذلك وسأل الكهنة عن رؤياه؟ فقالوا: يولد في بني إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وزوال ملكك، فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل وجمع القوابل فقال لهن: لا يسقطن على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا قتل ولاجارية إلا تركت، ووكل بالقوابل، فكن يفعلن ذلك حتى قيل: إنه قتل في بني إسرائيل اثنى عشر ألف صبي في طلب موسى. وقال وهب: بلغني أنه ذبح في طلب موسى عليه السلام تسعين ألف وليد. قالوا: وأسرع الموت في مشيخه بني إسرائيل فدخل رؤوس القبط على فرعون وقالوا: إن الموت قد وقع في بني إسرائيل أفتذبح صغارهم ويموت كبارهم فيوشك أن يقع العمل علينا؟ فأمر فرعون أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة، فولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها، وموسى في السنة التي يذبحون فيها.
" وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم " قيل: البلاء المحنة، أي في سومهم إياكم سوء العذاب محنة عظيمة، وقيل: البلاء النعمة أي في إنجائي إياكم منهم نعمة عظيمة، فالبلاء يكون بمعنى النعمة وبمعنى الشدة، فالله تعالى قد يختبر على النعمة بالشكر، وعلى الشدة بالصبر وقال: الله تعالى: " ونبلوكم بالشر والخير فتنة " (35-الأنبياء).
49-" وإذ نجيناكم من آل فرعون " تفصيل لما أجمله في قوله : " اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم " وعطف على " نعمتي " عطف " جبريل " و " ميكال " على " الملائكة " ، وقرئ أنجيتكم . وأصل " آل " أهل لأن تصغيره أهيل ، وخص بالإضافة إلى أولي الخطر كالأنبياء والملوك . و " فرعون " لقب لمن ملك العمالقة ككسرى وقيصر لملكي الفرس والروم . ولعتوهم اشتق منه تفرعن الرجل إذا عتا وتجبر ، وكان فرعون موسى ، مصعب بن ريان ، وقيل ابنه من بقايا عاد . وفرعون يوسف عليه السلام ، ريان وكان بينهما أكثر من أربعمائة سنة .
" يسومونكم " يبغونكم ، من سامه خسفاً إذا أولاه ظلماً ، وأصل السوم الذهاب في طلب الشئ .
" سوء العذاب " أفظعه فإنه قبيح بالإضافة إلى سائره ، والسوء مصدر ساء يسوء ونصبه على المفعول ليسومونكم ، والجملة حال من الضمير في نجيناكم ، أو من " آل فرعون " ، أو منهما جميعاً لأن فيها ضمير كل واحد منهما .
" يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم " بيان ليسومونكم ولذلك لم يعطف ، وقرئ " يذبحون " بالتخفيف . وإنما فعلوا بهم ذلك لأن فرعون رأى في المنام ، أو قال له الكهنة : سيولد منهم من يذهب بملكه ، فلم يرد اجتهادهم من قدر الله شيئاً .
" وفي ذلكم بلاء " محنة ، إن أشير بذلكم إلى صنيعهم ، ونعمة إن أشير به إلى الإنجاء ، وأصله الاختيار لكن لما كان اختيار الله تعالى عبادة تارة بالمحنة وتارة بالمحنة أطلق عليهما ، ويجوز أن يشار بذلكم إلى الجملة ويراد به الامتحان الشائع بينهما .
" من ربكم " بتسليطهم عليكم ، أو ببعث موسى عليه السلام وتوفيقه لتخليصكم ، أو بهما , " عظيم " صفة بلاء . وفي الآية تنبيه على أن ما يصيب العبد من خير أو شر إختبار من الله تعالى ، فعليه أن يشكر على مساره ويصبر على مضاره ليكون من خير المختبرين .
49. And (remember) when We did deliver you from Pharaoh's folk, who were afflicting you with dreadful torment, slaying your sons and sparing your women: That was a tremendous trial from your Lord.
49 - And remember, we delivered you from the people of pharaoh: they set you hard tasks and punishments, slaughtered your sons and let your women folk live; therein was a tremendous trial from your Lord.