[البقرة : 40] يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ
(يا بني إسرائيل) أولاد يعقوب (اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) أي على آبائكم من الإنجاء من فرعون و فلق البحر و تظليل الغمام و غير ذلك بأن تشكروها بطاعتي (وأوفوا بعهدي) الذي عهدته إليكم من الإيمان بمحمد (أوف بعهدكم) الذي عهدت إليكم من الثواب عليه بدخول الجنة (وإياي فارهبون) خافون في ترك الوفاء به دون غيري
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "يا بني إسرائيل" ولد يعقوب بن إسجق بن إبراهيم خليل الرحمن وكان يعقوب يدعى إسرائيل، بمعنى عبدالله وصفوته من خلقه. وإيل هو الله، و إسرا هو العبد، كما قيل: جبريل بمعنى عبدالله. وكما:
حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن الأعمش عن إسمعيل بن رجاء، عن عمير مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أن إسرائيل كقولك: عبدالله.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن المنهال، عن عبدالله بن الحارث، قال: إيل، الله بالعبرانية.
وإنما خاطب الله جل ثناؤه بقوله: "يا بني إسرائيل" أحبار اليهود من بني إسرائيل، الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسبهم جل ذكره إلى يعقوب، كما نسب ذرية آدم إلى آدم، فقال: "يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد" (الأعراف: 31) وما أشبه ذلك. وإنما خصهم بالخطاب في هذه الآية والتي بعدها من الآي التي ذكرهم فيها نعمه وإن كان قد تقدم ما أنزل فيهم وفي غيرهم في أول هذه السورة ما قد تقدم أن الذي احتج به من الحجج والآيات التي فيها أنباء أسلافهم، وأخبار أوائلهم، وقصص الأمور التي هم بعلمها مخصوصون دون غيرهم من سائر الأمم، ليس عند غيرهم من العلم بصحته وحقيقته مثل الذي لهم من العلم به، إلا لمن اقتبس علم ذلك منهم. فعرفهم بإطلاع محمد على علمها مع بعد قومه وعشيرته من معرفتها، وقلة مزاولة محمد صلى الله عليه وسلم دراسة الكتب التي فيها أنباء ذلك أن محمد صلى الله عليه وسلم لم يصل إلى علم ذلك إلا بوحي من الله وتنزيل منه ذلك إليه لأنهم من علم صحة ذلك بمحل ليس به من الأمم غيرهم، فلذلك جل ثناؤه خص بقوله: "يا بني إسرائيل " خطابهم. كما:
حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قوله: "يا بني إسرائيل"، قال: يا أهل الكتاب، للأحبار من يهود.
القول في تأويل قوله: "اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم".
قال أبو جعفر: ونعمته التي أنعم بها على بني إسرائيل جل ذكره، اصطفاؤه منهم الرسل، وإنزاله عليهم الكتب، واستنقاذه إياهم مما كانوا فيه من البلاء والضراء من فرعون وقومه، إلى التمكين لهم في الأرض، وتفجير عيون الماء من الحجر، وإطعام المن والسلوى. فأمر جل ثناؤه أعقابهم أن يكون ما سلف منه إلى آبائهم على ذكر، وأن لا ينسوا صنيعه إلى إسلافهم وآبائهم، فيحل بهم من النقم ما أحل بمن نسي نعمه عنده منهم وكفرها، وجحد صنائعه عنده. كما:
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم "، أي آلائي عندكم وعند آبائكم، لما كان نجاهم به من فرعون وقومه.
وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله: "اذكروا نعمتي"، قال: نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنزل عليهم الكتب.
وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم"، يعني نعمته التي أنعم على بني إسرائيل، فيما سمى وفيما سوى ذلك: فجر لهم الحجر، وأنزل عليهم المن والسلوى، وأنجاهم من عبودية آل فرعون.
وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله: "نعمتي التي أنعمت عليكم" قال: نعمه عامة، ولا نعمة أفضل من الإسلام، والنعم بعد تبع لها، وقرأ قول الله: "يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين" (الحجرات: 17).
وتذكير الله الذين ذكرهم جل ثناؤه بهذه الآية من نعمه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، نظير تذكير موسى صلوات الله عليه أسلافهم على عهده، الذي أخبر الله عنه أنه قال لهم، وذلك قوله: "وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين" (المائدة: 20).
ص 288
288
سورة البقرة/ الآية: 45
القول في تأويل قوله تعالى:" وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم".
قال أبو جعفر: قد تقدم بياننا فيما مضى عن معنى العهد من كتابنا هذا، واختلاف المختلفين في تأويله، والصواب عندنا من القول فيه. وهو في هذا الموضع: عهد الله ووصيته التي أخذ على بني إسرائيل في التوراة، أن يبينوا للناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم أنه رسول، وأنهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة أنه نبي الله، وأن يؤمنوا به وبما جاء به من عند الله.
"أوف بعهدكم ": وعهده إياهم أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة، كما قال جل ثناؤه: "ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل" (المائدة: 12)، وكما قال: "فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون * الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون" (الأعراف: 156، 157).
وكما حدثنا به ابن حميد، قالى: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "وأوفوا بعهدي " الذي أخذت في أعناقكم للنبي محمد إذا جاءكم، "أوف بعهدكم "، أي أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه واتباعه، بوضع ما كان عليكم من الإصر والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من أحداثكم.
وحدثنا المثنى، قال: حدثنا آدم، قال حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبى العالية في قوله:"أوفوا بعهدي أوف بعهدكم "، قال: عهده إلى عباده، دين الإسلام أن يتبعوه، "أوف بعهدكم"، يعني الجنة.
وحدثنا موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: "أوفوا بعهدي أوف بعهدكم ": أما "أوفوا بعهدي"، فما عهدت إليكم في الكتاب. وأما "أوف بعهدكم " فالجنة، عهدت إليكم أنكم إن عملتم بطاعتي أدخلتكم الجنة.
وحدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله: "وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم "، قال: ذلك الميثاق الذي أخذ عليهم في المائدة: "ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا" إلى آخر الاية (المائدة: 12). فهذا عهد الله الذي عهد إليهم، وهو عهد الله فينا، فمن أوفى بعهد الله وفى الله له بعهده.
وحدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله "وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم"، يقول: أوفوا بما أمرتكم به من طاعتي ونهيتكم عنه من معصيتي في النبي صلى الله عليه وسلم وفي غيره، "أوف بعهدكم "، يقول: أرض عنكم وأدخلكم الجنة.
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله: "وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم"، قال: أوفوا بأمري أوف بالذي وعدتكم، وقرأ: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم" حتى بلغ "ومن أوفى بعهده من الله" (التوبة: 111)، قال: هذا عهده الذي عهده لهم.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: " وإياي فارهبون".
قال أبو جعفر: وتأويل قوله: "وإياي فارهبون "، وإياي فاخشوا واتقوا أيها المضيعون عهدي من بني إسرائيل، والمكذبون رسولي الذي أخذت ميثاقكم فيما أنزلت من الكتب على أنبيائي أن تؤمنوا به وتتبعوه أن احل بكم من عقوبتي، إن لم تنيبوا وتتوبوا إلي باتباعه والإقرار بما أنزلت إليه، ما أحللت بمن خالف أمري وكذب رسلي من أسلافكم. كما:
حدثني به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "وإياي فارهبون"، أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم، من المسخ وغيره.
وحدثنا المثنى بن إبراهيم، قال: حدثني آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله: "وإياي فارهبون"، يقول: فاخشون.
وحدثني موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال : حدثنا أسباط، عن السدي: "وإياي فارهبون "، يقول: وإياي فاخشون.
قوله تعالى : "يا بني إسرائيل" نداء مضاف ، علامة النصب فيه الياء ، وحذفت منه النون للإضافة . الواحد ابن ، والأصل فيه بني ، وقيل : بنو ، فمن قال : المحذوف منه واو احتج بقولهم : البنوة . وهذا لا حجة فيه ، لأنهم قد قالوا : الفتوة ، وأصله الياء . وقال الزجاج : المحذوف منه عندي ياء كأنه من بنيت . الأخفش : اختار أن يكون المحذوف منه الواو ، لأن حذفها أكثر لثقلها . ويقال : ابن بين البنوة ، والتصغير بني . قال الفراء : يقال : يا بني ويا بني لغتان ، مثل يا ابت ويا ابت ، وقرىء بهما . وهو مشتق من البناء وهو وضع الشيء على الشيء ، والابن فرع للأب وهو موضوع عليه .
وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام . قال أبو الفرج الجوزي : وليس في الأنبياء من له اسمان غيره ، إلا نبينا محمد صى الله عليه وسلم فإن له اسماء كثيرة . ذكره في كتاب فهوم الآثار له .
قلت : وقد قيل في المسيح إنه اسم علم لعيسى عليه السلان غير مشتق ، وقد سماه الله روحاً وكلمة ، وكانوا يسمونه أبيل الأبيلين ، ذكره الجوهري في الصحاح . وذكر البيهقي في دلائل النبوة عن الخليل بن أحمد : خمسة من الأنبياء ذوو اسمين ، محمد وأحمد نبينا صلى الله عليه وسلم ، وعيسى والمسيح ، وإسرائيل ويعقوب ، ويونس وذو النون ، وإلياس وذو الكفل صلى الله عليه وسلم .
قلت : ذكرنا ان لعيسى اربعة اسماء ، وأما نبينا فله أسماء كثيرة ، بيانها في مواضعها .
وإسرائيل : اسم أعجمي ، ولذلك لم ينصرف ، وهو في موضع خفض بالإضافة . وفيه سبع لغات : إسرائيل ، وهي لغة القرآن . وإسرائيل ، بمدة مهموزة مختلسة ، حكاها شنبوذ عن ورش ., وإسراييل ، بمدة بعد الياء من غير همز ، وهي قراءة الأعمش وعيسى بن عمر ، وقرأ الحسن و الزهري بغير همز ولا مد . وإسرائل ، بغير يا بهمزة مكسورة . وإسراءل بهمزة مفتوحة . وتميم يقولون : إسرائين ، بالنون . ومعنى إسرائيل : عبدالله . قال ابن عباس : إسرا بالعبرانية هو عبد ، وإيل هو الله . وقيل : إسرا هو صفوة الله ، وإيل هو الله . وقيل : إسرا من الشد ، فكأن إسرائيل الذي شدة الله وأتقن خلقه ، ذكره المهدوي . وقال السهيلي : سمي إسرائيل لأنه أسرى ذات ليلة حين هاجر إلى الله تعالى ، فسمي إسرائيل أي اسرى إلى الله ونحو هذا ،فيكون بعض الاسم عبرانياً وبعضه موافقاً للعرب . والله أعلم .
قوله تعالى : "اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم" الذكر اسم مشترك ، فالذكر بالقلب ضد النسيان ، والذكر باللسان ضد الإنصات . وذكرت الشيء بلساني وقلبي ذكرا . واجعله منك على ذكر ( بضم الذال ) أي لا تنسه . قال الكسائي : ما كان بالضمير فهو مضموم الذال ، وما كان باللسان فهو مكسور الذال . وقال غيره . هما لغتان ، يقال : ذكر وذكر ، ومعناهما واحد . والذكر( بفتح الذال ) خلاف الأنثى . والذكر أيضاً الشرف ، ومنه قوله : "وإنه لذكر لك ولقومك" قال ابن الأنباري : والمعنى في الآية اذكروا شكر نعمتي ، فحذف الشكر اكتفاء بذكر النعمة . وقيل : إنه أراد الذكر بالقلب وهو المطلوب ، أي لا تغفلوا عن نعتمي التي أنعمت عليكم ولا تناسوها ، وهو حسن . والنعمة هنا اسم جنس ، فهي مفردة بمعنى الجمع ، قال الله تعالى : "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها" أي نعمه . ومن نعمه عليهم أن أنجاهم من آل فرعون ، وجعل منهم أنبياء وأنزل عليهم الكتب والمن والسلوى ، وفجر لهم من الحجر الماء ، إلى ما استودعهم من التوارة التي فيها صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ورسالته . والنعم على الاباء نعم على الأبناء ، لأنهم يشرفون بشرف آبائهم .
تنبيه : قال ارباب المعاني : ربط سبحانه وتعالى بني إسرائيل بذكر النعمة وأسقطه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى ذكره ، فقال : "فاذكروني أذكركم" ليكون نظر الأمم من النعمة إلى المنعم ، ونظر أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المنعم إلى النعمة .
قوله تعالى : "وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم" أمر وجوابه . وقرأ الزهري : أوف ( بفتح الواو وشد الفاء ) للتكثير . واختلف في هذا العهد ما هو ، فقال الحسن : عهده قوله : "خذوا ما آتيناكم بقوة" ، وقوله : "ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا" . وقيل هو قوله : "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه" . وقال الزجاج : "وأوفوا بعهدي" الذي عهدت إليكم في التوارة من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، "أوف بعهدكم" بما ضمنت لكم على ذلك ، إن أوفيتم به فلكم الجنة . وقيل : "وأوفوا بعهدي" في أداء الفرائض على السنة والإخلاص ، "أوف" بقبولها منكم ومجازاتكم عليها . وقال بعضهم : "أوفوا بعهدي" في العبادات ، "أوف بعهدكم" أي أوصلكم إلى منازل الرعايات . وقيل : "أوفوا بعهدي" في حفظ آداب الظواهر ، "أوف بعهدكم" بتزيين سرائركم . وقيل : هو عام في جميع أوامره ونواهيه ووصاياه ، فيدخل في ذلك ذكر محمد صلى الله عليه وسلم الذي في التوراة وغيره . هذا قول الجمهور من العلماء ، وهو الصحيح . وعهده سبحانه وتعالى هو أن يدخلهم الجنة .
قلت : وما طلب من هؤلاء من الوفاء بالعهد هو مطلوب منا ، قال الله تعالى : "أوفوا بالعقود" ، "وأوفوا بعهد الله" ، وهو كثير . ووفاؤهم بعهد الله أمارة لوفاء الله تعالى لهم لا علة له ، بل ذلك تفضل منه عليهم .
قوله تعالى : "وإياي فارهبون" أي خافون . والرهب والرهب والرهبة : الخوف . ويتضمن الأمر به معنى التهديد . وسقطت الياء بعد النون لأنها رأس آية . وقرأ ابن ابي إسحاق : فارهبوني بالياء ، وكذا فاتقوني ، على الأصل . و إياي منصوب بإضمار فعل ، وكذا الاختيار في الأمر والنهي والاستفهام ، التقدير : وإياي اربهوا فارهبون . ويجوز فبي الكلام وأنا فارهبون ، على الابتداء والخبر . وكون فارهبون الخبر على تقدير الحذف ، المعنى وأنا ربكم فاهبون .
يقول تعالى آمراً بني إسرائيل بالدخول في الإسلام، ومتابعة محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام، ومهيجاً لهم بذكر أبيهم إسرائيل وهو نبي الله يعقوب عليه السلام، وتقديره يا بني العبد الصالح المطيع لله، كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق كما تقول يا ابن الكريم افعل كذا، يا ابن الشجاع بارز الأبطال، يا ابن العالم اطلب العلم، ونحو ذلك. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: "ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً" فإسرائيل هو يعقوب بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي، حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب، قال: حدثني عبد الله بن عباس قال: "حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب ؟ قالوا: اللهم نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد" وقال الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن عمير مولى ابن عباس عن عبد الله بن عباس: أن إسرائيل كقولك عبد الله وقوله تعالى "اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم" قال مجاهد: نعمة الله التي أنعم بها عليهم فيما سمى، وفيما سوى ذلك أن فجر لهم الحجر وأنزل عليهم المن والسلوى ونجاهم من عبودية آل فرعون، وقال أبو العالية: نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنزل عليهم الكتب، قلت: وهذا كقول موسى عليه السلام لهم "يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين" يعني في زمانهم، وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: "اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم" أي بلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجاهم من فرعون وقومه "وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم" قال: بعهدي الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم أنجز لكم ما وعدتكم عليه من تصديقه واتباعه بوضع ما كان عليكم من الاصار والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من إحداثكم. وقال الحسن البصري: هو قوله تعالى "ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً، وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار" الاية وقال آخرون: هو الذي أخذ الله عليهم في التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبياً عظيماً يطيعه جميع الشعوب والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم فمن اتبعه غفر الله له ذنبه وأدخله الجنة وجعل له أجرين. وقد أورد الرازي بشارات كثيرة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمحمد صلى الله عليه وسلم، قال أبو العالية "وأوفوا بعهدي" قال عهده إلى عباده دين الإسلام وأن يتبعوه، وقال الضحاك عن ابن عباس: أوف بعهدكم ؟ قال: أرض عنكم وأدخلكم الجنة، وكذا قال السدي والضحاك وأبو العالية والربيع بن أنس، وقوله تعالى "وإياي فارهبون" أي فاخشون، قاله أبو العالية والسدي والربيع بن أنس وقتادة، وقال ابن عباس في قوله تعالى "وإياي فارهبون" أي إن نزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره، وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة لعلهم يرجعون إلى الحق واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والاتعاظ بالقرآن وزواجره وامتثال أوامره وتصديق أخباره والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ولهذا قال "وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم" يعني به القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي العربي بشيراً ونذيراً وسراجاً منيراً مشتملاً على الحق من الله تعالى مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل، قال أبو العالية رحمه الله في قوله تعالى "وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم" يقول: يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم، يقول لأنهم يجدون محمداً صلى الله عليه وسلم مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك، وقوله: "ولا تكونوا أول كافر به" قال بعض المعربين: أول فريق كافر به أو نحو ذلك، قال ابن عباس: ولا تكونوا أول كافر به وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم، قال أبو العالية: يقول: ولا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، يعني من جنسكم أهل الكتاب بعد سماعكم بمبعثه، وكذا قال الحسن والسدي والربيع بن أنس، واختار ابن جرير أن الضمير في قوله به عائد على القرآن الذي تقدم ذكره في قوله "بما أنزلت" وكلا القولين صحيح لأنهما متلازمان، لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالقرآن، وأما قوله "أول كافر به" فيعني به أول من كفر به من بني إسرائيل، لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بشر كثير ، وإنما المراد أول من كفر به من بني إسرائيل مباشرة، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن فكفرهم به يستلزم أنهم أول من كفر به من جنسهم، وقوله تعالى: "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً" يقول: لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها، فإنها قليلة فانية، كما قال عبد الله بن المبارك: أنبأنا عبدالرحمن بن زيد بن جابر عن هارون بن يزيد قال: سئل الحسن، يعني البصري عن قوله تعالى، ثمناً قليلاً قال: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها قال: ابن لهيعة: حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله تعالى "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً" إن آياته كتابه الذي أنزله إليهم، وإن الثمن القليل الدنيا وشهواتها، وقال السدي: "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً" يقول: لا تأخذوا طمعاً قليلاً، ولا تكتموا اسم الله، فذلك الطمع هو الثمن، وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً" يقول: لا تأخذوا عليه أجراً، قال: وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابن آدم علم مجاناً علمت مجاناً، وقيل: معناه لا تعتاضوا عن البيان والإيضاح ونشر العلم النافع بالكتمان واللبس لتستمروا على رياستكم في الدنيا القليلة الحقيرة الزائلة عن قريب، وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة يوم القيامة" فأما تعليم العلم بأجرة، فإن كان قد تعين عليه فلا يجوز أن يأخذ عليه أجرة، ويجوز أن يتناول من بيت المال ما يقوم به حاله وعياله بأجرة، فإن لم يحصل له منه شيء وقطعه التعليم عن التكسب، فهو كما لم يتعين عليه، وإذا لم يتعين عليه فإنه يجوز أن يأخذ عليه أجرة عند مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد في قصة اللديغ "إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله" وقوله في قصة المخطوبة "زوجتكها بما معك من القرآن" فأما حديث عبادة بن الصامت، أنه علم رجلاً من أهل الصفة شيئاً من القرآن فأهدى له قوساً فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "إن أحببت أن تطوق بقوس من نار فاقبله" فتركه، رواه أبو داود، وروي مثله عن أبي ابن كعب مرفوعاً، فإن صح إسناده فهو محمول عند كثير من العلماء منهم: أبو عمر بن عبد البر ، على أنه لما علمه لله لم يجز بعد هذا أن يعتاض عن ثواب الله بذلك القوس، فأما إذا كان من أول الأمر على التعليم بالأجرة فإنه يصح كما في حديث اللديغ وحديث سهل في المخطوبة، والله أعلم. وقوله "وإياي فاتقون" قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عمر الدوري، حدثنا أبو إسماعيل المؤدب عن عاصم الأحول عن أبي العالية عن طلق بن حبيب، قال: التقوى أن تعمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله، ومعنى قول "وإياي فاتقون" أنه تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من كتمان الحق وإظهار خلافه ومخالفتهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
اعلم أن كثيراً من المفسرين جاءوا بعلم متكلف، وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته، واستغرقوا أوقاتهم في فن لا يعود عليهم بفائدة، بل أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه، وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف فجاءوا بتكلفات وتعسفات يتبرأ منها الإنصاف، ويتنزه عنها كلام البلغاء فضلاً عن كلام الرب سبحانه، حتى أفردوا ذلك بالتصنيف، وجعلوه المقصد الأهم من التأليف، كما فعله البقاعي في تفسيره ومن تقدمه حسبما ذكر في خطبته، وإن هذا لمن أعجب ما يسمعه من يعرف أن هذا القرآن ما زال ينزل مفرقاً على حسب الحوادث المقتضية لنزوله منذ نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قبضه الله عز وجل إليه، وكل عاقل فضلاً عن عالم لا يشك أن هذه الحوادث المقتضية نزول القرآن متخالفة باعتبار نفسها، بل قد تكون متناقضة كتحريم أمر كان حلالاً، وتحليل أمر كان حراماً، وإثبات أمر لشخص أو أشخاص يناقض ما كان قد ثبت لهم قبله، وتارة يكون الكلام مع المسلمين، وتارة مع الكافرين، وتارة مع من مضى، وتارة مع من حضر، وحيناً في عبادة، وحيناً في معاملة، ووقتاً في ترغيب، ووقتاً في ترهيب، وآونة في بشارة، وآونة في نذارة، وطوراً في أمر دنيا، وطوراً في أمر آخرة، ومرة في تكاليف آتية، ومرة في أقاصيص ماضية. وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الإختلاف، ومتباينة هذا التباين الذي لا يتيسر معه الائتلاف، فالقرآن النازل فيها هو باعتباره نفسه مختلف كاختلافها، فكيف يطلب العاقل المناسبة بين الضب والنون والماء والنار والملاح والحادي، وهل هذا إلا من فتح أبواب الشك وتوسيع دائرة الريب على من في قلبه مرض، أو كان مرضه مجرد الجهل والقصور، فإنه إذا وجد أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن ويفردون ذلك بالتصنيف، تقرر عنده أن هذا أمر لا بد منه، وأنه لا يكون القرآن بليغاً معجزاً إلا إذا ظهر الوجه المقتضي للمناسبة، وتبين الأمر الموجب للارتباط، فإن وجد الاختلاف بين الآيات فرجع إلى ما قاله المتكلمون في ذلك، فوجده تكلفاً محضاً، وتعسفاً بيناً انقدح في قلبه ما كان عنه في عافية وسلامة، هذا على فرض أن نزول القرآن كان مترتباً على هذا الترتيب الكائن في المصحف، فكيف وكل من له أدنى علم بالكتاب، وأيسر حظ من معرفته يعلم علماً يقيناً أنه لم يكن كذلك، ومن شك في هذا وإن لم يكن مما يشك فيه أهل العلم رجع إلى كلام أهل العلم العارفين بأسباب النزول، المطلعين على حوادث النبوة، فإنه ينثلج صدره، ويزول عنه الريب، بالنظر في سورة من السور المتوسطة، فضلاً عن المطولة لأنه لا محالة يجدها مشتملة على آيات نزلت في حوادث مختلفة، وأوقات متباينة لا مطابقة بين أسبابها وما نزل فيها في الترتيب، بل يكفي المقصر أن يعلم أن أول ما نزل "اقرأ باسم ربك الذي خلق" وبعده "يا أيها المدثر" "يا أيها المزمل" وينظر أين موضع هذه الآيات والسور في ترتيب المصحف؟ وإذا كان الأمر هكذا، فأي معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعاً أنه قد تقدم في ترتيب المصحف ما أنزل الله متأخراً، وتأخر ما أنزله الله متقدماً، فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول االقرآن، بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه ممن تصدى لذلك من الصحابة، وما أقل نفع مثل هذا وأنزر ثمرته، وأحقر فائدته، بل هو عند من يفهم ما يقول وما يقال له من تضييع الأوقات وإنفاق الساعات في أمر لا يعود بنفع على فاعله ولا على من يقف عليه من الناس، وأنت تعلم أنه لو تصدى رجل من أهل العلم للمناسبة بين ما قاله رجل من البلغاء من خطبه ورسائله وإنشاءاته، أو إلى ما قاله شاعر من الشعراء من القصائد التي تكون تارة مدحاً وأخرى هجاءاً، وحيناً نسيباً وحيناً رثاءً، وغير ذلك من الأنواع المتخالفة، فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع فناسب بين فقره ومقاطعه، ثم تكلف تكلفاً آخر فناسب بين الخطبة التي خطبها في الجهاد والخطبة التي في الحج والخطبة التي خطبها في النكاح ونحو ذلك، وناسب بين الإنشاء الكائن في العزاء والإنشاء الكائن في الهناء وما يشابه ذلك، لعد هذا المتصدي لمثل هذا مصاباً في عقله متلاعباً بأوقاته عابثاً بعمره الذي هو رأس ماله، وإذا كان مثل هذا بهذه المنزلة، وهو ركوب الأحموقة في كلام البشر، فكيف تراه يكون في كلام الله سبحانه الذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب، وأبكمت فصاحته فصحاء عدنان وقحطان. وقد علم كل مقصر وكامل أن الله سبحانه وصف هذا القرآن بأنه عربي، وأنزله بلغة العرب، وسلك فيه مسالكهم في الكلام، وجرى به مجاريهم في الخطاب. وقد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون متخالفة، وطرائق متباينة فضلاً عن المقامين، فضلاً عن المقامات، فضلاً عن جميع ما قاله ما دام حياً، وكذلك شاعرهم. ولنكتف بهذا التنبيه على هذه المفسدة التي تعثر في ساحاتها كثير من المحققين، وإنما ذكرنا هذا البحث في هذا الموطن لأن الكلام هنا قد انتقل مع بني إسرائيل بعد أن كان قبله مع أبي البشر آدم عليه السلام، فإذا قال متكلف: كيف ناسب هذا ما قبله؟ قلنا: لا كيف:
فدع عنك نهباً صيح في حجراته وهات حديثاً ما حديث الرواحل
قوله: 40- "يا بني إسرائيل" اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام ومعناه عبد الله، لأن إسر في لغتهم هو العبد وإيل هو الله، قيل: إن له اسمين، وقيل: إسرائيل لقب له، وهو اسم عجمي غير منصرف، وفيه سبع لغات: إسرائيل بزنة إبراهيم، وإسرائيل بمدة مهموزة مختلة رواها ابن شنبوذ عن ورش، وإسرائيل بمدة بعد الياء من غير همز وهي قراءة الأعمش وعيسى بن عمر، وقرأ الحسن من غير همز ولا مد وإسرائيل بهمزة مكسورة. وإسراءل بهمزة مفتوحة، وتميم يقولون إسرائين.والذكر هو ضد الإنصات وجعله بعض أهل اللغة مشتركاً بين ذكر القلب واللسان. وقال الكسائي: ما كان بالقلب فهو مضموم الذال، وما كان باللسان فهو مكسور الذال. قال ابن الأنباري: والمعنى في الآية: اذكروا شكر نعمتي، فحذف الشكر اكتفاءً بذكر النعمة، وهي اسم جنس، ومن جملتها أنه جعل منهم أنبياء وأنزل عليهم الكتب والمن والسلوى، وأخرج لهم الماء من الحجر، ونجاهم من آل فرعون وغير ذلك. والعهد قد تقدم تفسيره. واختلف أهل العلم في العهد المذكور في هذه الآية ما هو؟ فقيل: هو المذكور في قوله تعالى: " خذوا ما آتيناكم بقوة " وقيل: هو ما في قوله: "ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً" وقيل: هو قوله: "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب". وقال الزجاج: هو ما أخذ عليهم في التورات من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو أداء الفرائض، ولا مانع من حمله على جميع ذلك. ومعنى قوله: "أوف بعهدكم" أي بما ضمنت لكم من الجزاء. والرهب والرهبة: الخوف، ويتضمن الأمر به معنى التهديد، وتقديم معمول الفعل يفيد الاختصاص كما تقدم في "إياك نعبد" وإذا كان التقديم على طريقة الإضمار والتفسير مثل زيداً ضربته "وإياي فارهبون" كان أوكد في إفادة الاختصاص، ولهذا قال صاحب الكشاف: وهو أوكد في إفادة الاختصاص من "إياك نعبد".
40. قوله تعالى: " يا بني إسرائيل " يا أولاد يعقوب. ومعنى اسرائيل: عبد الله، ((وإيل)) هو الله تعالى، وقيل صفوة الله، وقرأ أبو جعفر : إسرائيل بغير همز " اذكروا " احفظوا، والذكر: يكون بالقلب ويكون باللسان وقيل: أراد به الشكر، وذكر بلفظ الذكر لأن في الشكر ذكراً وفي الكفران نسياناً، قال الحسن : ذكر النعمة شكرها " نعمتي " أي: نعمي، لفظها واحد ومعناها جمع كقوله تعالى " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " (34-ابراهيم) " التي أنعمت عليكم " أي على أجدادكم وأسلافكم. قال قتادة : هي النعم التي خصت بها بنو اسرائيل: من فلق البحر وإنجائهم من فرعون بإغراقه وتظليل الغمام عليهم في التيه، وإنزال المن والسلوى وإنزال التوراة، في نعم كثيرة لا تحصى، وقال غيره: هي جميع النعم التي لله عز وجل على عباده " وأوفوا بعهدي " أي بامتثال أمري " أوف بعهدكم " بالقبول والثواب.
قال قتادة و مجاهد : أراد بهذا العهد ما ذكر في سورة المائدة " ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا "إلى أن قال -" لأكفرن عنكم سيئاتكم " (12-المائدة) فهذا قوله: " أوف بعهدكم ".
وقال الحسن هو قوله " وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة " (63-البقرة) فهو شريعة التوراة، وقال مقاتل هو قوله " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله " (83-البقرة) وقال الكلبي : عهد الله إلى بني اسرائيل على لسان موسى: إني باعث من بني اسماعيل نبياً أمياً فمن اتبعه وصدق بالنور الذي يأتي به غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين اثنين: وهو قوله: " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس " (187-آل عمران) يعني أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
" وإياي فارهبون " فخافوني في نقض العهد. وأثبت يعقوب الياءات المحذوفة في الخط مثل فارهبوني، فاتقوني، واخشوني، والآخرون يحذفونها على الخط.
40-" يا بني إسرائيل " أي أولاد يعقوب ، والابن من البناء لأنه مبنى أبيه ، ولذلك ينسب المصنوع إلى صانعه فيقال : أبو الحرب ، وبنت الفكر . وإسرائيل لقب يعقوب عليه السلام ومعناه بالعبرية : صفوة الله ، وقيل : عبد الله ، وقرئ " إسرائيل " بحذف الياء وإسرال بحذفهما و " إسرائيل " بقلب الهمزة ياء .
" اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم " أي بالتفكر فيها والقيام بشكرها ، وتقييد النعمة بهم لأن الإنسان غيور حسود بالطبع ، فإذا نظر إلى ما أنعم الله على غيره حمله الغيرة والحسد على الكفران والسخط ، وإن نظر إلى ما أنعم الله به عليه حمله حب النعمة على الرضى والشكر . وقيل أراد بها ما أنعم الله به على آبائهم من الإنجاء من فرعون والغرق ، ومن العفو عن اتخاذ العجل ، وعليهم من إدراك زمن محمد صلى الله عليه وسلم وقرئ " اذكروا " والأصل إذتكروا . ونعمتي بإسكان الياء وقفاً وإسقاطها درجاً هو مذهب من لا يحرك الياء المكسور ما قبلها .
" وأوفوا بعهدي " بالإيمان والطاعة .
" أوف بعهدكم " بحسن الإثابة والعهد يضاف إلى المعاهد والمعاهد ، ولعل الأول مضاف إلى الفاعل والثاني إلى المفعول ، فإنه تعالى عهد إليهم بالإيمان والعمل الصالح بنصب الدلائل وإنزال الكتب ، ووعد لهم بالثواب على حسناتهم ، وللوفاء بهما عرض عريض فأول مراتب الوفاء منا هو الإتيان بكلمتي الشهادة ، ومن الله تعالى حقن الدم والمال ، وآخرها منا الاستغراق في بحر التوحيد يغفل عن نفسه فضلاً عن غيره ، ومن الله تعالى الفوز باللقاء الدائم . ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أوفوا بعهدي في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، أوف بعهدكم في رفع الآنصار والإغلال . وعن غيره أوفوا بأداء الفرائض وترك الكبائر أوف بالمغفرة والثواب . أو أوفوا بالاستقامة على الطريق المستقيم ، أوف بالكرامة والنعيم المقيم ، فبالنظر إلى الوسائط . وقيل كلاهما مضاف إلى المفعول والمعنى : أوفوا بما عاهدتموني من الإيمان والتزام الطاعة ، أوف بما عاهدتكم من حسن الإثابة . وتفصيل العهدين في سورة المائدة في قوله تعالى : " ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل " إلى قوله : " ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار " . وقرئ أوف بالتشديد للمبالغة .
" وإياي فارهبون " فيما تأتون وتذرون وخصوصاً في نقض العهد ، وهو آكد في إفادة التخصيص من إياك نعبد لما فيه مع التقديم من تكرير المفعول ، والفاء الجزائية الدالة على تضمن الكلام معنى الشرط كأنه قيل : إن كنتم راهبين شيئاً فارهبون . والرهبة : خوف مع تحرز . والآية متضمنة للوعد والوعيد دالة على وجوب الشكر والوفاء بالعهد ، وأن المؤمن ينبغي أن لا يخاف أحداً إلا الله تعالى .
40. O Children of Israel! Remember My favor wherewith I favored you, and fulfil your (part of the) covenant, I shall fulfil My (part of the) covenant and fear Me.
40 - O children of Israel! call to mind the (special) favour Which I bestowed Upon you, and fulfil your covenant, With; me as i fulfil my covenant with you, and fear none but me.