[البقرة : 34] وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ
(و) اذكر (إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) سجود تحيةٍ بالانحناء (فسجدوا إلا إبليس) هو أبو الجن كان بين الملائكة (أبى) امتنع عن السجود (واستكبر) تكبّر عنه وقال : أنا خير منه (وكان من الكافرين) في علم الله
قال أبو جعفر: أما قوله: "وإذ قلنا" فمعطوف على قوله: "وإذ قال ربك للملائكة"، كأنه قال جل ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل، معددًا عليهم نعمه، ومذكرهم آلاءه، على نحو الذي وصفنا فيما مضى قبل: اذكروا فعلي بكم إذ أنعمت عليكم، فخلقت لكم ما في الأرض جميعًا، وإذ قلت للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة فكرمت أباكم آدم بما آتيته من علمي وفضلي وكرامتي، وإذ أسجدت له ملائكتي فسجدوا له. ثم استثنى من جميعهم إبليس، فدل باستثنائه إياه منهم على أنه منهم، وأنه ممن قد أمر بالسجود معهم، كما قال جل ثناؤه: " إلا إبليس لم يكن من الساجدين * قال ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك " ( الأعراف: 11، 12)، فأخبر جل ثناؤه أنه قد أمر إبليس فيمن أمره من الملائكة بالسجود لآدم. ثم استثناه جل ثناؤه مما أخبر عنهم أنهم فعلوه من السجود لآدم، فأخرجه من الصفة التي وصفهم بها من الطاعة لأمره، ونفى عنه ما أثبته لملائكته من السجود لعبده آدم.
ثم اختلف أهل التأويل فيه: هل هو من الملائكة، أم هو من غيرها؟ فقال بعضهم بما:حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الحن ، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة. قال: فكان اسمه الحارث. قال: وكان خازناً من خزان الجنة.
قال: وخلقت الملائكة من نور غير هذا الحي. قال: وخلقت الجن الذي ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن خلاد، عن عطاء، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل ، وكان من سكان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهادًا وأكثرهم علمًا، فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حي يسمون جناً.
وحدثنا به ابن حميد مرة أخرى، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن خلاد، عن عطاء، عن طاوس، أو مجاهد أبي الحجاج، عن ابن عباس وغيره بنحوه، إلا أنه قال: كان ملكاً من الملائكة اسمه، عزازيل ، وكان من سكان الأرض وعمارها، وكان سكان الأرض فيهم يسمون الجن من بين الملائكة.
وحدثني موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: جعل إبليس على ملك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن ، وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة. وكان إبليس مع ملكه خازناً.
وحدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا حسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازناً على الجنان، وكان له سلطان سماء الدنيا، وكان له سلطان الأرض. قال: قال ابن عباس: وقوله: "كان من الجن" ( الكهف: 55) إنما يسمى بالجنان أنه كان خازناً عليها، كما يقال للرجل مكي ومدني وكوفي وبصري.
قال ابن جريج، وقال آخرون: هم سبط من الملائكة قبيله، فكان اسم قبيلته الجن.
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج ، عن ابن جريج، عن صالح مولى التوأمة، وشريك بن أبي نمر أحدهما أو كلاهما عن ابن عباس، قال: إن من الملائكة قبيلة من الجن، وكان إبليس منها، وكان يسوس ما بين السماء والأرض.
وحدثت عن الحسن بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: "فسجدوا إلا إبليس كان من الجن" (الكهف: 50) قال: كان ابن عباس يقول: إن إبليس كان من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة. ثم ذكر مثل حديث ابن جريج الأول سواء.
وحدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثني شيبان، قال حدثنا سلام بن مسكين، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا.
وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن" ( الكهف:50) كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن ، وكان ابن عباس يقول: لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود، وكان على خزانة سماء الدنيا، قال: وكان قتادة يقول: جن عن طاعة ربه.
وحدثنا الحسين بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: " إلا إبليس كان من الجن" قال: كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحق، قال: أما العرب فيقولون: ما الجن إلا كل من اجتن فلم ير. وأما قوله: "إلا إبليس كان من الجن" ( الكهف: 50) أي كان من الملائكة اجتنوا فلم يروا. وقد قال الله جل ثناؤه: "وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون" (الصافات: 158)، وذلك لقول قريش: إن الملائكة بنات الله، فيقول الله: إن تكن الملائكة بناتي فإبليس منها، وقد جعلوا بيني وبين إبليس وذريته نسبًا. قال: وقد قال الأعشى، أعشى بني قيس بن ثعلبة البكري، وهو يذكر سليمان بن داود وما أعطاه الله:
‌‌ولوكان شيء خالدًا أومعمرًا لكان سليمان البريء من الدهر
براه إلهي واصطفاه عباده وملكه ما بين ثريا إلى مصر
وسخرمن جن الملائك تسعة قيامًا لديه يعملون بلا أجر
قال: فأبت العرب في لغتها إلا أن الجن كل ما اجتن. يقول: ما سمى الله الجن إلا أنهم اجتنوا فلم يروا، وما سمى بني آدم الإنس إلا أنهم ظهروا فلم يجتنوا. فما ظهر فهو إنس، وما اجتن فلم ير فهوجن.
وقال آخرون بما:حدثنا به محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن، قال:ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط، وإنه لأصل الجن، كما أن آدم أصل الإنس.
وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقول في قوله: ‌"إلا إبليس كان من الجن" ألجأه إلى نسبه، فقال الله: " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا" ( الكهف: 50) وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا أبو سعيد اليحمدي، حدثنا إسمعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا سوار بن الجعد اليحمدي، عن شهر بن حوشب، قوله: من الجن ، قال: كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة، فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء.
وحدثني علي بن الحسين، قال: حدثني أبو نصر أحمد بن محمد الخلال، قال: حدثني سنيد بن داود، قال حدثنا هشيم ، قال أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى، عن موسى بن نمير،
وعثمان بن سعيد بن كامل، عن سعد بن مسعود، قال: كانت الملائكة تقاتل الجن، فسبي إبليس وكان صغيرًا، فكان مع الملائكة فتعبد معها، فلما أمروا بالسجود لآدم سجدوا، فأبى إبليس. فلذلك قال الله: "إلا إبليس كان من الجن".
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: حدثنا المبارك بن مجاهد أبو الأزهر، عن شريك بن عبدالله بن أبي نمر، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس، قال: إن من الملائكة قبيلاً يقال لهم: الجن، فكان إبليس منهم، وكان إبليس يسوس ما بين السماء والأرض، فعصى، فمسخه الله شيطاناً رجيمًا.
قال: وحدثنا يونس، عن ابن وهب، قال: قال ابن زيد: إبليس أبو الجن، كما آدم أبو الإنس.
وعلة من قال هذه المقالة، أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه أنه خلق إبليس من نار السموم، ومن مارج من نار، ولم يخبر عن الملائكة أنه خلقها من شيء من ذلك، وأن الله جل ثناؤه أخبر أنه من الجن فقالوا: فغير جائز أن ينسب إلى غير ما نسبه الله إليه. قالوا: ولإبليس نسل وذرية، والملائكة لا تتناسل ولا تتوالد.
حدثنا محمد بن سنان القزاز، قال: حدثنا أبو عاصم، عن شريك، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إن الله خلق خلقاً، فقال: اسجدوا لآدم. فقالوا: لا نفعل. فبعث الله عليهم نارًا تحرقهم، ثم خلق خلقا آخر، فقال: إني خالق بشرًا من طين، اسجدوا لآدم. قابوا، فبعث الله عليهم نارًا فأحرقهم. قال: ثم خلق هؤلاء، فقال: اسجدوا لآدم. فقالوا: نعم. وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم.
قال أبو جعفر: وهذه علل تنبىء عن ضعف معرفة أهلها. وذلك أنه غير مستنكر أن يكون الله جل ثناؤه خلق أصناف ملائكته من أصناف من خلقه شتى. فخلق بعضاً من نور، وبعضاً من نار، وبعضاً مما شاء من غير ذلك. وليس في ترك الله جل ثناؤه الخبر عما خلق منه ملائكته، وإخباره عما خلق منه إبليس ما يوجب أن يكون إبليس خارجاً عن معناهم. إذ كان جائزاً أن يكون خلق صنفاً من ملائكته من نار كان منهم إبليس، وأن يكون أفرد إبليس بأن خلقه من نار السموم دون سائر ملائكته. وكذلك غير مخرجه أن يكون كان من الملائكة بأن كان له نسل وذرية، لما ركب فيه من الشهوة واللذة التي نزعت من سائر الملائكة، لما أراد الله به من المعصية. وأما خبر الله عنه أنه من الجن ، فغير مدفوع أن يسمى ما اجتن من الأشياء عن الأبصار كلها جنا كما قد ذكرنا قبل في شعر الأعشى فيكون إبليس والملائكة منهم، لاجتنانهم عن أبصار بني آدم.
القول في معنى" إبليس ".
قال أبو جعفر: وابليس إفعيل ، من الإبلاس، وهو الإياس من الخير والندم والحزن. كما: حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: إبليس، أبلسه الله من الخير كله، وجعله شيطاناً رجيمًا عقوبة لمعصيته.
وحدثنا موسى بن هرون، قال: حدثنا عمروبن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: كان اسم إبليس الحارث، وإنما سمي إبليس حين أبلس متحير‌ًا.
قال أبو جعفر: وكما قال الله جل ثناؤه: "فإذا هم مبلسون" (الأنعام: 44)، يعني به: أنهم آيسون من الخير، نادمون حزناً، كما قال العجاج:
يا صاح، هل تعرف رسمًا مكرسًا؟ قال: نعم، أعرفه! وأبلسا
وقال رؤبة:
وحضرت يوم الخميس الأخماس وفي الوجوه صفرة وإبلاس
يعني به اكتئابًا وكسوفاً.
فإن قال قائل: فإن كان إبليس، كما قلت، إفعيل من الإبلاس، فهلا صرف وأجري؟ قيل:ترك إجراؤه استثقالاً، إذ كان اسمًا لا نظير له من أسماء العرب، فشبهته العرب إذ كان كذلك بأسماء العجم التي لا تجرى. وقد قالوا: مررت بإسحق، فلم يجروه. وهو من أسحقه الله إسحاقاً ، إذ كان وقع مبتدأ اسمًا لغير العرب، ثم تسمت به العرب فجرى مجراه وهو من أسماء العجم في الإعراب فلم يصرف. وكذلك أيوب، إنما هو فيعول من آب يئوب .
وتأويل قوله: أبى ، يعني جل ثناؤه بذلك إبليس، أنه امتنع من السجود لآدم فلم يسجد له. واستكبر، يعني بذلك أنه تعظم وتكبر عن طاعة الله في السجود لآدم. وهذا، وإن كان من الله جل ثناؤه خبرًا عن إبليس، فإنه تقريع لضربائه من خلق الله الذين يتكبرون عن الخضوع لأمر الله، والانقياد لطاعته فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه، والتسليم له فيما أوجب لبعضهم على بعض من الحق. وكان ممن تكبر عن الخضوع لأمر الله، والتذلل لطاعته، والتسليم لقضائه فيما ألزمهم من حقوق غيرهم اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحبارهم الذين كانوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته عارفين، وبأنه لله رسول عالمين. ثم استكبروا مع علمهم بذلك عن الإقرار بنبوته، والإذعان لطاعته، بغيًا منهم له وحسداً. فقرعهم الله بخبره عن إبليس الذي فعل في استكباره عن السجود لآدم حسدًا له وبغيًا، نظير فعلهم في التكبر عن الإذعان لمحمد نبي الله صلى الله عليه وسلم ونبوته، إذ جاءهم بالحق من عند ربهم حسدًا وبغيًا.
ثم وصف إبليس بمثل الذي وصف به الذين ضربه لهم مثلاً في الاستكبار والحسد والاستنكاف عن الخضوع لمن أمره الله بالخضوع له، فقال جل ثناؤه:"وكان" يعني إبليس " من الكافرين " من الجاحدين نعم الله عليه وأياديه عنده، بخلافه عليه فيما أمره به من السجود لآدم، كما كفرت اليهود نعم ربها التي آتاها وآباءها قبل: من إطعام الله أسلافهم المن والسلوى، وإظلال الغمام عليهم، وما لا يحصى من نعمه التي كانت لهم، خصوصًا ما خص الذين أدركوا محمدًا صلى الله عليه وسلم بإدراكهم إياه، ومشاهدتهم حجة الله عليهم، فجحدت نبوته بعد علمهم به، ومعرفتهم بنبوته حسدًا وبغيًا. فنسبه الله جل ثناؤه إلى "الكافرين "، فجعله من عدادهم في الدين والملة، وإن خالفهم في الجنس والنسبة. كما جعل أهل النفاق بعضهم من بعض، لاجتماعهم على النفاق، وإن اختلفت أنسابهم وأجناسهم فقال: "المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض" ( التوبة: 67) يعني بذلك أن بعضهم من بعض في النفاق والضلال. فكذلك قوله في ابليس: كان من الكافرين، كان منهم في الكفر بالله ومخالفته أمره، وان كان مخالفاً جنسه أجناسهم ونسبه نسبهم. ومعنى قوله: "وكان من الكافرين " أنه كان حين أبى عن السجود من الكافرين حينئذ.
وقد روي عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية أنه كان يقول في تأويل قوله: ‌"وكان من الكافرين "، في هذا الموضع: وكان من العاصين.
حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله: "وكان من الكافرين "، يعني العاصين.
وحدثت عن عمار بن الحسن، قال حدثنا عبدالله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، بمثله.
وذلك شبيه بمعنى قولنا فيه.
وكان سجود الملائكة لآدم تكرمة لآدم وطاعة لله، لا عبادة لآدم، كما: حدثنا به بشربن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة،قوله: "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم "، فكانت الطاعة لله، والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته.
قوله تعالى : "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين" .
فيه عشر مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "وإذ قلنا" أي واذكر . وأما قول أبي عبيدة : إن إذ زائدة فليس بجائز ، لأن إذ ظرف وقد تقدم . وقال : قلنا ولم يقل قلت لأن الجبار العظيم يخبر عن نفسه بفعل الجماعة تفخيماً وإشادةً بذكره . والملائكة جمع ملك ، وقد تقدم . وتقدم القول أيضاً في آدم واشتقاقه فلا معنى لإعادته ، وروي عن ابي جعفر بن القعقاع أنه ضم تاء التأنيث من الملائكة إتباعاً لضم الجيم في اسجدوا . ونظيره الحمد لله .
الثانية : قوله تعالى : "اسجدوا" السجود معناه في كلام العرب التذلل والخضوع ، قال الشاعر :
بجمع تضل البلق في حجراته ترى الأكم فيها سجدا للحوافر
الأكم : الجبال الصغار . جعلها سجداً للحوافر لقهر الحوافر إياها وأنها لا تمتنع عليها . وعين ساجدة ، أي فاترة عن النظر ،وغايته وضع الوجه بالأرض . قال ابن فارس : سجد إذ تطامن ،وكل ما سجد فقد ذل . والإسجاد : إدامة النظر . قال أبو عمرو : واسجد إذا طأطأ رأسه ، قال .
فضول أزمتها اسجدت سجود النصارى لأحبارها
قال ابو عبيدة : وأنشدني أعرابي من بني أسد :
وقلن له اسجد لليلى فأسجدا
يعني البعير إذا طأطأ رأسه ودراهم الإسجاد : دراهم كانت عليها صور كانوا يسجدون لها ، قال :
وافى بها كدراهم الإسجاد
الثالثة : استدل من فضل آدم وبنيه بقوله تعالى للملائكة : "اسجدوا لآدم" . قالوا : وذلك يدل على أنه كان أفضل منهم . والجواب أن معنى "اسجدوا لآدم" اسجدوا لي مستقبلين وجه آدم . وهو كقوله تعالى : "أقم الصلاة لدلوك الشمس" أي عند دلوك الشمس ، وكقوله : "ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" أي فقعوا لي عند إتمام خلقه ومواجهتكم إياه ساجدين . وقد بينا أن السجود له لا يكون أفضل من الساجد بدليل القبلة .
فإن قيل : فإذا لم يكن أفضل منهم فما الحكمة في الأمر بالسجود له ؟ قيل له : إن الملائكة لما استعظموا بتسبيحهم وتقديسهم أمرهم بالسجود لغيره ليريهم استغناءه عنهم وعن عبادتهم . وقال بعضهم : عيروا آدم واستصغروه ولم يعرفوا خصائص الصنع به فأمروا بالسجود له تكريماً . ويحتمل أن يكون الله تعالى أمرهم بالسجود له معاقبة لهم على قولهم : "أتجعل فيها من يفسد فيها" لما قال لهم : "إني جاعل في الأرض خليفة" وكان علم منهم أنه إن خاطبهم أنهم قائلون هذا ، فقال لهم : "إني خالق بشرا من طين" وجاعله خليفة ، فإذا نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين . والمعنى : ليكون ذلك عقوبة لكم في ذلك الوقت على ما أنتم قائلون لي الآن .
فإن قيل : فقد استدل ابن عباس على فضل البشر بأن الله تعالى أقسم بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : "لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون" . وأمنه من العذاب بقوله : "ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" . وقال للملائكة : "ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم" . قيل له : إنما لم يقسم بحياة الملائكة كما لم يقسم بحياة نفسه سبحانه ، فلم يقل : لعمري . وأقسم بالسماء والأرض ، ولم يدل على أنهما أرفع قدراً من العرش والجنان السبع . وأقسم بالتين والزيتون . وأما قوله سبحانه : "ومن يقل منهم إني إله من دونه" فهو نظير قوله لنبيه عليه السلام : "لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين" فليس فيه إذاً دلالة ، والله أعلم .
الرابعة : واختلف الناس في كيفية سجود الملائكة لآدم بعد اتفاقهم على أنه لم يكن سجود عبادة ، فقال الجمهور : كان هذا امراً للملائكة بوضع الجباه على الأرض ، كالسجود المعتاد في الصلاة ، لأنه الظاهر من السجود في العرف والشرع ، وعلى هذا قيل : كان ذلك السجود تكريماً لآدم وإظهاراً لفضله ، وطاعة لله تعالى ، وكان آدم كالقبلة لنا . ومعنى لآدم : إلى آدم ، كما يقال صلى للقبلة ، أي إلى القبلة . وقال قوم : لم يكن هذا السجود المعتاد اليوم الذي هو وضع الجبهة على الأرض ولكنه مبقىً على أصل اللغة ، فهو من التذلل والانقياد ، أي اخضعوا لآدم وأقروا له بالفضل . "فسجدوا" أي امتثلوا ما أمروا به .
واختلف أيضاً هل كان ذلك السجود خاصاً بآدم عليه السلام فلا يجوز السجود لغيره من جميع العالم إلا لله تعالى ، ام كان جائزاً بعده إلى زمان يعقوب عليه السلام ، لقوله تعالى : "ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا" فكان آخر ما أبيح من السجود للمخلوقين ؟ والذي عليه الأكثر ، أنه كان مباحاً إلى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن أصحابه قالوا له حين سجدت له الشجرة والجمل : نحن أولى بالسجود لك من الشجرة والجمل الشارد ، فقال لهم :
لا ينبغي ان يسجد لأحد إلا لله رب العالمين . روى ابن ماجة في سننه و البستي في صحيحه " عن عبد الله بن أبي أوفى قال : لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما هذا فقال : يا رسول الله ، قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم ، فأردت أن أفعل ذلك بك ، قال : فلا تفعل فإني لو أمرت شيئاً لأن يسجد لشيء لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها حتى لو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه " . لفظ البستي . ومعنى القتب أن العرب يعز عندهم وجود كرسي للولادة فيحملون نساءهم على القتب عند الولادة . وفي بعض طرق معاذ : ونهى عن السجود لبشر ، وأمر بالمصافحة .
قلت : وهذا السجود المنهي عنه قد اتخذه جهال المتصوفة عادة في سماعهم وعند دخولهم على مشايخهم واستغفارهم ، فيرى الواحد منهم إذا أخذه الحال بزعمه يسجد للأقدام لجهله سواء أكان للقبلة أم غيرها جهالة منه ، ضل سعيهم وخاب عملهم .
الخامسة : قوله : "إلا إبليس" نصب على الاستثناء المتصل ، لأنه كان من الملائكة عل قول الجمهور . ابن عباس وابن مسعود و ابن جريج وابن المسيب و قتادة وغيرهم ، وهو اختيار الشيخ ابي الحسن ، ورجحه الطبري ، وهو ظاهر الآية . قال ابن عباس : وكان اسمه عزازيل وكان من أشراف الملائكة وكان من الأجنحة الأربعة ثم أبلس بعد . روى سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان إبليس من الملائكة فلما عصى الله غضب عليه فلعنه فصار شيطاناً . وحكى الماوردي عن قتادة : أنه كان من أفضل صنف من الملائكة يقال لهم الجنة . وقال سعيد بن جبير : إن الجن سبط من الملائكة خلقوا من نار وإبليس منهم ، وخلق سائر الملائكة من نور . وقال ابن زيد و الحسن و قتادة أيضاً : إبليس ابو الجن كما أن آدم أبو البشر ولم يكن ملكاً ، وروي نحوه عن ابن عباس : وقال : اسمه الحارث . وقال شهر بن حوشب وبعض الأصوليين : كان من الجن الذين كانوا في الأرض وقاتلتهم الملائكة فسبوه صغيراً وتعبد مع الملائكة وخوطب ، وحكاه الطبري عن ابن مسعود . والاستثناء على هذا منقطع ، مثل قوله تعالى : "ما لهم به من علم إلا اتباع" ، وقوله : "إلا ما ذكيتم" في أحد القولين ، وقال الشاعر :
ليس عليك عطش ولا جوع إلا الرقاد والرقاد ممنوع
واحتج بعض أصحاب هذا القول بأن الله جل وعز وصف الملائكة فقال :"لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون" ، وقوله تعالى : "إلا إبليس كان من الجن" والجن غير الملائكة . أجاب أهل المقالة الأولى بأنه لا يمتنع أن يخرج إبليس من جملة الملائكة لما سبق في علم اله بشقائه عدلاً منه ، لا يسأل عما يفعل ، وليس في خلقه من نار ولا في تركيب الشهوة حين غضب عليه ما يدفع انه من الملائكة . وقول من قال : إنه كان من جن الأرض فسبي ، فقد روي في مقابلته أن إبليس هو الذي قاتل الجن في الأرض مع جند من الملائكة ، حكاه المهدوي وغيره . وحكى الثعلبي عن ابن عباس : إن إبليس كان من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم ، وخلقت الملائكة من نور ، وكان اسمه بالسريانية عزازيل ، وبالعربية الحارث ، وكان من خزان الجنة وكان رئيس ملائكة السماء الدنيا وكان له سلطانها وسلطان الأرض ، وكان من أشد الملائكة اجتهاداً وأكثرهم علماً ، وكان يسوس ما بين السماء والأرض ، فرأى لنفسه بذلك شرفاً وعظمة ، فذلك الذي دعاه إلى الكفر فعصى الله فمسخه شيطاناً رجيماً . فإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه ، وإن كانت خطيئته في معصية فارجه ، وكانت خطيئة آدم عليه السلام معصية ،وخطيئة إبليس كبراً . والملائكة قد تسمى جنا لاستتارها ، وفي التنزيل : "وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا" ، وقال الشاعر في ذكر سليمان عليه السلام :
وسخر من جن الملائك تسعة قياما لدية يعملون بلا أجر
وأيضاً لما كان من خزان الجنة نسب إليها فاشتق اسمه من اسمها ، والله أعلم . وإبليس وزنه إفعيل ، مشتق من الإبلاس وهو اليأس من رحمة الله تعالى . ولم ينصرف ، لأنه معرفة ولا نظير له في الأسماء فشبه بالأعجمية ، قاله أبو عبيدة وغيره . وقيل : هو أعجمي لا اشتقاق له فلم ينصرف للعجمة والتعريف ، قاله الزجاج وغيره .
السادسة : قوله تعالى : "أبى" معناه امتنع من فعل ما أمر به ، ومنه الحديث الصحيح عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :
"إذا قرا ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله "ـ وفي راوية : " يا ويلي ـ أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار" . خرجه مسلم . يقال : أبى يأبى إباءً ، وهو حرف نادر جاء على فعل يفعل ليس فيه حرف من حروف الحلق ، وقد قيل : إن الألف مضارعة لحروف الحلق . قال الزجاج : سمعت إسماعيل بن إسحاق القاضي يقول : القول عندي أن الألف مضارعة لحروف الحلق . قال النحاس : ولا أعلم أن أبا إسحاق روى عن إسماعيل نحواً غير هذا الحرف .
السابعة : قوله تعالى : "واستكبر" الاستكبار : الاستعظام ، فكأنه كره السجود في حقه واستعظمه في حق آدم ، فكان ترك السجود لآدم تسفيهاً لأمر الله وحكمته . وعن هذا الكبر عبر عليه السلام بقوله :
"لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل كبر" . في رواية " فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة . قال :إن الله جميل يحب الجمال . الكبر بطر الحق وغمط الناس" . أخرجه مسلم . ومعنى بطر الحق : تسفيهه وإبطاله . وغمط الناس : الاحتقار لهم والازدراء بهم . ويروى : وغمص بالصاد المهملة ، والمعنى واحد ، يقال : غمصه يغمصه غمصاً واغتمصه ، أي استصغره ولم يره شيئاً . وغمص فلان النعمة إذا لم يشكرها . وغمصت عليه قولاً قاله ، أي عبته عليه . وقد صرح اللعين بهذا المعنى فقال : "أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين" . "أأسجد لمن خلقت طينا" . "قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون" فكفره الله بذلك . فكل من سفه شيئاً من أوامر الله تعالى أو أمر رسول عليه السلام كان حكمه حكمه ، وهذا ما لا خلاف فيه . وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال : بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكبر ، حسد إبليس آدم ، وشح آدم في أكله من الشجرة . وقال قتادة : حسد إبليس آدم ، على ما أعطاه الله من الكرامة فقال : أنا ناري وهذا طيني . وكان بدء الذنوب الكبر ، ثم الحرص حتى أكل آدم من الشجرة ، ثم الحسد إذا حسد ابن آدم أخاه .
الثامنة : قوله تعالى : "وكان من الكافرين" قيل : كان هنا بمعنى صار ، ومنه قوله تعالى : "فكان من المغرقين" وقال الشاعر :
بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
أي صارت . وقال ابن فورك . كان هنا بمعنى صار خطأ ترده الأصول . وقال جمهور المتأولين : المعنى أي كان في علم الله تعالى أنه سيكفر ، لأن الكافر حقيقة والمؤمن حقيقة هو الذي قد علم الله منه الموافاة .
قلت : وهذا صحيح ، لقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح بخاري :
"وإنما الأعمال بالخواتيم" . وقيل : إن إبليس عبد الله تعالى ثمانين ألف سنة ، وأعطي الرياسة والخزانة في الجنة على الاستدراج ، كما أعطى المنافقون شهادة أن لا إله إلا الله على أطراف ألسنتهم ، وكما أعطي بلعام الإسم الأعظم على طرف لسانه ، فكان في رياسته والكبر في نفسه متمكن . قال ابن عباس : كان يرى لنفسه أن له فضيلة على الملائكة بما عنده ، فلذلك قال : أنا خير منه ، ولذلك قال الله عز وجل :"ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين" أي استكبرت ولا كبر لك ، ولم أتكبر أنا حين خلقته بيدي والكبر لي ! فلذلك قال : "وكان من الكافرين" وكان أصل خلقته من نار العزة ، ولذلك حلف بالعزة فقال : "فبعزتك لأغوينهم أجمعين" فالعزة أورثته الكبر حتى رأى الفضل له على آدم على عليه السلام . وعن ابي صالح قال : خلقت الملائكة من نور العزة وخلق إبليس من نار العزة .
التاسعة : قال علماؤنا ـ رحمة الله عليهم ـ : ومن أظهر الله تعالى على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالاً على ولايته ، خلافاً لبعض الصوفية والرافضة حيث قالوا : إن ذلك يدل على أنه ولي ، إذ لو لم يكن ولياً ما أظهر الله على يديه ما أظهر . ودليلنا أن العلم بأن الواحد منا ولي لله تعالى لا يصح إلا بعد العلم بأنه يموت مؤمناً ، وإذا لم يعلم أنه يموت مؤمناً لم يمكنا أن نقطع على أنه ولي لله تعالى ، لأن الولي لله تعالى من علم الله تعالى أنه لا يوافي إلا بالإيمان . ولما اتفقنا على أننا لا يمكننا أن نقطع على ان ذلك الرجل يوافي بالإيمان ، علم أن ذلك ليس يدل على ولايته لله . قالوا : ولا نمنع أن يطلع الله بعض أوليائه على حسن عاقبته وخاتمة عمله وغيره معه ، قاله الشيخ أبو الحسن الأشعري وغيره . وذهب الطبري إلى ان الله تعالى أراد بقصة إبليس تقريع أشباهه من بني آدم ، وهم اليهود الذي كفروا بمحمد عليه السلام مع علمهم بنبوته ، ومع قدم نعم الله عليهم وعلى اسلافهم .
العاشرة : واختلف هل كان قبل إبليس كافر أو لا ؟ فقيل : لا ، وإن إبليس أول من كفر . وقيل : كان قبله قوم كفار وهم الجن وهم الذي كانوا في الأرض . واختلف أيضاً هل كفر إبليس جهلاً أو عناداً على قولين بين أهل السنة ، ولا خلاف أنه كان عالماً بالله تعالى قبل كفره . فمن قال إنه كفر جهلاً قال : إنه سلب العلم عند كفره . ومن قال كفر عنادا قال : كفر ومعه علمه . قال ابن عطية : والكفر عناداً مع بقاء العلم مستبعد ، إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن يشاء .
وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لادم امتن بها على ذريته حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لادم، وقد دل على ذلك أحاديث أيضاً كثيرة منها حديث الشفاعة المتقدم، وحديث موسى عليه السلام "رب أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فلما اجتمع به قال أنت آدم الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته" وقال وذكر الحديث كما سيأتي إن شاء الله. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة، وكان اسمه الحارث، وكان خازناً من خزان الجنة، قال: وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي، قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار وهو لسان النار الذي يكون فيه طرفها إذا ألهبت، قال: وخلق الانسان من طين، فأول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها، وسفكوا الدماء، وقتل بعضهم بعضاً، قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة وهم هذا الحي الذي يقال لهم الجن فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال فلما فعل إبليس ذلك اغتر في نفسه، فقال: قد صنعت شيئاً لم يصنعه أحد، قال: فاطلع الله على ذلك من قلبه ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه فقال الله للملائكة الذين كانوا معه: "إني جاعل في الأرض خليفة". فقالت الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء كما أفسدت الجن وسفكت الدماء، وإنما بعثتنا عليهم لذلك ؟ فقال الله تعالى: "إني أعلم ما لا تعلمون" يقول إني اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه، من كبره واغتراره، قال: ثم أمر بتربة آدم فرفعت، فخلق الله آدم من طين لازب، واللازب اللازج الصلب من حمأ مسنون منتن، وإنما كان حمأ مسنوناً بعد التراب، فخلق منه آدم بيده، قال: فمكث أربعين ليلة جسداً ملقى، وكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل فيصوت، فهو قول الله تعالى "من صلصال كالفخار" يقول كالشيء المنفرج الذي ليس بمصمت، قال: ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره، ويخرج من فيه، ثم يقول لست شيئاً للصلصلة ولشيء ما خلقت، ولئن سلطت عليك لأهلكنك، ولئن سلطت علي لأعصينك، قال: فلما نفخ الله فيه روحه أتت النفخة من قبل رأسه فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحماً ودماً، فلما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من جسده فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قول الله تعالى " وكان الإنسان عجولا " قال ضجراً لا صبر له على سراء ولا ضراء قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس فقال "الحمد لله رب العالمين" بإلهام الله، فقال الله له يرحمك الله يا آدم قال: ثم قال تعالى للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات. اسجدوا لادم فسجدوا كلهم إلا إبليس أبى واستكبر لما كان حدث نفسه من الكبر والاغترار، فقال: لا أسجد له وأنا خير منه وأكبر سناً وأقوى خلقاً، خلقتني من نار وخلقته من طين، يقول إن النار أقوى من الطين، قال: فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله، أي آيسه من الخير كله وجعله شيطاناً رجيماً عقوبة لمعصيته، ثم علم آدم الأسماء كلها وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار وأشبه ذلك من الأمم وغيرها ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة يعني الملائكة الذين كانوا مع إبليس الذين خلقوا من نار السموم، وقال لهم "أنبئوني بأسماء هؤلاء" أي يقول أخبروني بأسماء هؤلاء "إن كنتم صادقين" إن كنتم تعلمون، لم أجعل في الأرض خليفة، قال: فلما علمت الملائكة موجدة الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب الذي لا يعلمه غيره الذي ليس لهم به علم "قالوا سبحانك" تنزيهاً لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره تبنا إليك "لا علم لنا إلا ما علمتنا" تبرياً منهم من علم الغيب إلا ما علمتنا كما علمت آدم فقال "يا آدم أنبئهم بأسمائهم" يقول أخبرهم بأسمائهم "فلما أنبأهم بأسمائهم، قال: ألم أقل لكم" أيها الملائكة خاصة "إني أعلم غيب السموات والأرض" ولا يعلم غيري "وأعلم ما تبدون" يقول ما تظهرون "وما كنتم تكتمون" يقول أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار، هذا سياق غريب وفيه أشياء فيها نظر يطول مناقشتها وهذا الإسناد إلى ابن عباس يروى به تفسير مشهور، وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش. فجعل إبليس على ملك السماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن، وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس مع ملكه خازناً فوقع في صدره الكبر وقال ما أعطاني الله هذا إلا لميزة لي على الملائكة، فلما وقع ذلك الكبر في نفسه اطلع الله على ذلك منه، فقال الله للملائكة "إني جاعل في الأرض خليفة" فقالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة ؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً، قالوا: " قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون " يعني من شأن إبليس فبعث الله جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها، فقالت الأرض: إني أعوذ با لله منك أن تنقص مني أو تشينني، فرجع ولم يأخذ، وقال: يا رب إنها عاذت بك فأعذتها، فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل، فبعث ملك الموت فعاذت منه فقال وأنا أعوذ با لله أو أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض وخلط ولم يأخذ من مكان واحد وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء فلذلك خرج بنو آدم مختلفين فصعد به فبل التراب حتى عاد طيناً لازباً، واللازب هو الذي يلتزق بعضه ببعض، ثم قال للملائكة "إني خالق بشراً من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" فخلقه الله بيده لئلا يتكبر إبليس عنه ليقول له تتكبر عما عملت بيدي ولم أتكبر أنا عنه بخلقه بشراً، فكان جسداً من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه، فكان أشدهم فزعاً منه إبليس فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار يكون له صلصلة، فذلك حين يقول "من صلصال كالفخار" يقول لأمر ما خلقت، ودخل من فيه وخرج من دبره وقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوف، لئن سلطت عليه لأهلكنه، فلما بلغ الحين الذي يريد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح، قال الملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس فقالت الملائكة قل الحمد لله، فقال الحمد لله، فقال له الله رحمك ربك فلما دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل الروح إلى جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فذلك حين يقول الله تعالى "خلق الإنسان من عجل" فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين، أبى واستكبر وكان من الكافرين، قال الله له: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لما خلقت بيدي ؟ قال أنا خير منه لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين قال الله له: "فاهبط منها فما يكون لك" يعني ما ينبغي لك "أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين" والصغار هو الذل، قال "وعلم آدم الأسماء كلها" ثم عرض الخلق على الملائكة فقال "أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، فقالوا: "سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" قال الله: " يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " قال: قولهم "أتجعل فيها من يفسد فيها" فهذا الذي أبدوا " وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر، فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السدي ويقع فيه إسرائيليات كثيرة، فلعل بعضها مدرج ليس من كلام الصحابة، أو أنهم أخذوا من بعض الكتب المتقدمة، والله أعلم. والحاكم يروي في مستدركه بهذا الإسناد بعينه ويقول أشياء ويقول على شرط البخاري.
والغرض أن الله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لادم، دخل إبليس في خطابهم لأنه وإن لم يكن من عنصرهم إلا أنه كان قد تشبه بهم وتوسم بأفعالهم، فلهذا دخل في الخطاب لهم وذم في مخالفة الأمر، وسنبسط المسألة إن شاء الله تعالى عند قوله : "إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه" ولذا قال محمد بن إسحاق عن خلاد عن عطاء عن طاوس عن ابن عباس ، قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل وكان من سكان الأرض وكان من أشد الملائكة اجتهاداً ، وأكثرهم علماً ، فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حي يسمونه جناً ، وفي رواية عن خلاد عن عطاء عن طاوس أو مجاهد عن ابن عباس أو غيره بنحوه ، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عباد يعني ابن العوام عن سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : كان إبليس اسمه عزازيل ، وكان من أشرف الملائكة من ذوي الأجنحة الأربعة ، ثم أبلس بعد وقال سنيد ، عن حجاج عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس : كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة ، وكان خازناً على الجنان، وكان له سلطان سماء الدنيا ، وكان له سلطان الأرض ، وهكذا روى الضحاك وغيره عن ابن عباس سواء . وقال صالح مولى التوأمة عن ابن عباس: إن من الملائكة قبيلاً يقال لهم الجن: وكان إبليس منهم ، وكان يسوس ما بين السماء والأرض ، فعصى ، فمسخه الله شيطاناً رجيماً ، رواه ابن جرير، وقال قتادة عن سعد بن المسيب : كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا، وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا عدي بن أبي عدي عن عوف عن الحسن، قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط ، وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس، وهذا الإسناد صحيح عن الحسن ، وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم سواء . وقال شهر بن حوشب: كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء، رواه ابن جرير. وقال سنيد بن داود: حدثنا هشيم أنبأنا عبد الرحمن بن يحيى عن موسى بن نمير وعثمان بن سعيد بن كامل عن سعد بن مسعود ، قال : كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس وكان صغيراً فكان مع الملائكة يتعبد معها فلما أمروا بالسجود لادم سجدوا، فأبى إبليس، فلذلك قال تعالى:"إلا إبليس كان من الجن" وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن القزاز حدثنا أبو عاصم عن شريك عن رجل عن عكرمة عن ابن عباس قال: إن الله خلق خلقاً فقال اسجدوا لادم فقالوا: لا نفعل فبعث الله عليهم ناراً فأحرقتهم، ثم خلق خلقاً آخر فقال: "إني خالق بشراً من طين" اسجدوا لادم قال: فأبوا فبعث الله عليهم ناراً فأحرقتهم، ثم خلق هؤلاء فقال اسجدوا لادم قالوا نعم، وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لادم ـ وهذا غريب ولا يكاد يصح إسناده فإن فيه رجلاً مبهماً ومثله لا يحتج به، والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة حدثنا صالح بن حيان حدثنا عبد الله بن بريدة: قوله تعالى: "وكان من الكافرين" من الذين أبوا فأحرقتهم النار، وقال أبو جعفر رضي الله عنه عن الربيع عن أبي العالية "وكان من الكافرين" يعني من العاصين وقال السدي "وكان من الكافرين" الذين لم يخلقهم الله يومئذ يكونون بعد، وقال محمد بن كعب القرضي ابتدأ الله خلق إبليس على الكفر والضلالة وعمل بعمل الملائكة فصيره الله إلى ما أبدى عليه خلقه على الكفر، قال الله تعالى: "وكان من الكافرين" وقال قتادة في قوله تعالى: " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " فكانت الطاعة لله والسجدة لادم، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته، وقال بعض الناس كان هذا سجود تحية وسلام وإكرام كما قال تعالى: "ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً، وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً" وقد كان هذا مشروعاً في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا، قال معاذ: قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعلمائهم، فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك، فقال: "لا لو كنت آمراً بشراً أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها" ورجحه الرازي، وقال بعضهم بل كانت السجدة لله وآدم قبلة فيها كما قال تعالى: "أقم الصلاة لدلوك الشمس" وفي هذا التنظير نظر، والأظهر أن القول الأول أولى، والسجدة لادم إكراماً وإعظاماً واحتراماً وسلاماً، وهي طاعة لله عز وجل لأنها امتثال لأمره تعالى، وقد قواه الرازي في تفيسره وضعف ما عداه من القولين الاخرين وهما كونه جعل قبلة إذ لا يظهر فيه شرف والاخر أن المراد بالسجود الخضوع لا الانحناء ووضع الجبهة على الأرض وهو ضعيف كما قال، وقال قتادة في قوله تعالى: "فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين" حسد عدو الله إبليس آدم عليه السلام ما أعطاه من الكرامة، وقال: أنا ناري وهذا طيني، وكان بدء الذنوب الكبر، استكبر عدو الله أن يسجد لادم عليه السلام، قلت وقد ثبت في الصحيح "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر" وقد كان في إبليس من الكبر ـ والكفر ـ والعناد ما اقتضى طرده وإبعاده عن جناب الرحمة وحضرة القدس، قال بعض المعربين وكان من الكافرين أي وصار من الكافرين بسبب امتناعه كما قال "فكان من المغرقين" وقال: "فتكونا من الظالمين" وقال الشاعر:
بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها
أي قد صارت وقال ابن فورك: تقديره وقد كان في علم الله من الكافرين، ورجحه القرطبي، وذكر ههنا مسألة فقال: قال علماؤنا من أظهر الله على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالاً على ولايته خلافاً لبعض الصوفية والرافضة هذا لفظه، ثم استدل على ما قال: بأنا لا نقطع بهذا الذي جرى الخارق على يديه أن يوافي الله بالإيمان وهو لا يقطع لنفسه لذلك يعني والولي الذي يقطع له بذلك في نفس الأمر قلت وقد استدل بعضهم على أن الخارق قد يكون على يدي غير الولي بل قد يكون على يد الفاجر والكافر أيضاً بما ثبت عن ابن صياد أنه قال: هو الدخ حين خبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم " فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين " وبما كان يصدر عنه أنه كان يملأ الطريق إذا غضب حتى ضربه عبد الله بن عمر، وبما ثبت به الأحاديث عن الدجال بما يكون على يديه من الخوارق الكثيرة من أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، وتتبعه كنوز الأرض مثل اليعاسيب، وأنه يقتل ذلك الشاب ثم يحييه إلى غير ذلك من الأمور المهولة. وقد قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي قلت للشافعي كان الليث بن سعد يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة، فقال الشافعي: قصر الليث رحمه الله، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة وقد حكى الرازي وغيره قولين للعلماء: هل المأمور بالسجود لادم خاص بملائكة الأرض أو عام في ملائكة السموات والأرض، وقد رجح كلاً من القولين طائفة، وظاهر الاية الكريمة العموم " فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس " فهذه أربعة أوجه مقوية للعموم، والله أعلم.
34- "إذ" متعلق بمحذوف تقديره: واذكر إذ قلنا. وقال أبو عبيدة إذ زائدة وهو ضعيف. وقد تقدم الكلام في الملائكة وآدم. السجود معناه في كلام العرب: التذلل والخضوع. وغايته وضع الوجه على الأرض. قال ابن فارس: سجد إذا تطامن، وكل ما سجد فقد ذل، والإسجاد: إدامة النظر. وقال أبو عمر: وسجد إذا طأطأ رأسه، وفي هذه الآية فضيلة لآدم عليه السلام عظيمة حيث أسجد الله له ملائكته. وقيل: إن السجود كان لله ولم يكن لآدم، وإنما كانوا مستقبلين له عند السجود، ولا ملجئ لهذا فإن السجود للبشر قد يكون جائزاً في بعض الشرائع بحسب ما تقتضيه المصالح. وقد دلت هذه الآية على أن السجود لآدم وكذلك الآية الأخرى أعني قوله: "فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" وقال تعالى: "ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً" فلا يستلزم تحريمه لغير الله في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون كذلك في سائر الشرائع. ومعنى السجود هنا: هو وضع الجبهة على الأرض، وإليه ذهب الجمهور. وقال قوم: هو مجرد التذلل والانقياد. وقد وقع الخلاف هل كان السجود من الملائكة لآدم قبل تعليمه الأسماء أم بعده؟ وقد أطال البحث في ذلك البقاعي في تفسيره. وظاهر السياق أنه وقع التعليم وتعقبه الأمر بالسجود وتعقبه إسكانه الجنة ثم إخراجه منها وإسكانه الأرض. وقوله: "إلا إبليس" استثناء متصل لأنه كان من الملائكة على ما قاله الجمهور. وقال شهر بن حوشب وبعض الأصوليين: "كان من الجن" الذي كانوا في الأرض. فيكون الاستثناء على هذا منقطعاً. واستدلوا على هذا بقوله تعالى: "لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون" وبقوله تعالى: "إلا إبليس كان من الجن" والجن غير الملائكة، وأجاب الأولون بأنه لا يمتنع أن يخرج إبليس عن جملة الملائكة، لما سبق في علم الله من شقائه عدلاً منه "لا يسأل عما يفعل" وليس في خلقه من نار ولا تركيب الشهوة فيه حين غضب عليه ما يدفع أنه من الملائكة وأيضاً على تسليم ذلك لا يمتنع أن يكون الاستثناء متصلاً تغليباً للملائكة الذين هم ألوف مؤلفة على إبليس الذي هو فرد واحد بين أظهرهم. ومعنى "أبى" امتنع من فعل ما أمر به. والاستكبار: الاستعظام للنفس، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "إن الكبر بطر الحق وغمط الناس" وفي رواية "غمص" بالصاد المهملة "وكان من الكافرين" أي من جنسهم. قيل: إن كان هنا بمعنى صار. وقال ابن فورك: إنه خطأ ترده الأصول. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كانت السجدة لآدم والطاعة لله. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: سجدوا كرامة من الله أكرم بها آدم وأخرج ابن عساكر عن إبراهيم المزني قال: إن الله جعل آدم كالكعبة. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم وابن الأنباري عن ابن عباس قال: كان إبليس اسمه عزازيل، وكان من أشراف الملائكة من ذوي الأجنحة الأربعة، ثم أبلس بعد. وروى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: إنما سمي إبليس لأن الله أبلسه من الخير كله: أي آيسه منه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن الأنباري عنه قال: كان إبليس قبل أن يرتكب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل، وكان من سكان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهاداً وأكثرهم علماً، فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حي يسمون جنا. وأخرج ابن المنذر والبيهقي في الشعب عنه قال: كان إبليس من خزان الجنة، وكان يدبر أمر سماء الدنيا. وأخرج محمد بن نصر عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أمر آدم بالسجود فسجد، فقال: لك الجنة ولمن سجد من ولدك، وأمر إبليس بالسجود فأبى أن يسجد، فقال: لك النار ولمن أبى من ولدك أن يسجد". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "وكان من الكافرين" قال: جعله الله كافراً لا يستطيع أن يؤمن. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرطبي قال: ابتدأ الله خلق إبليس على الكفر والضلالة وعمل بعمل الملائكة فصيره إلى ما ابتدئ إليه خلقه من الكفر، قال الله: "وكان من الكافرين".
34. وقوله تعالى: " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " قرأ أبو جعفر (( للملائكة اسجدوا )) بضم التاء على جوار ألف اسجدوا وكذلك قرأ " قال رب احكم بالحق " (112-الأنبياء) بضم الباء وضعفه النحاة جداً ونسبوه إلى الغلط فيه واختلفوا في أن هذا الخطاب مع أي الملائكة فقال بعضهم: مع الذين كانوا سكان الأرض. والأصح: أنه مع جميع الملائكة لقوله تعالى: " فسجد الملائكة كلهم أجمعون " (30-الحجر) وقوله: (اسجدوا) فيه قولان: الأصح أن السجود كان لآدم على الحقيقة، وتضمن معنى الطاعة لله عز وجل بامتثال أمره، وكان ذلك سجود تعظيم وتحية لا سجود عبادة، كسجود إخوة يوسف له في قوله عز وجل " وخروا له سجداً " (100-يوسف) ولم يكن فيه وضع الوجه على الأرض، إنما كان الانحناء، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك بالسلام.
وقيل: معنى قوله " اسجدوا لآدم " أي إلى آدم قبلة، والسجود لله تعالى، كما جعلت الكعبة قبلةً للصلاة والصلاة لله عز وجل.
" فسجدوا " يعني: الملائكة " إلا إبليس " وكان اسمه عزازيل بالسريانية، وبالعربية: الحارث، فلما عصى غير اسمه وصورته فقيل: إبليس، لأنه أبلس من رحمة الله تعالى أي يئس.
واختلفوا فيه فقال ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين: كان إبليس من الملائكة، وقال الحسن : كان من الجن ولم يكن من الملائكة لقوله تعالى " إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه " (50-الكهف) فهو أصل الجن كما أن آدم أصل الإنس، ولأنه خلق من النار والملائكة خلقوا من النور، ولأن له ذرية ولا ذرية للملائكة، والأول أصح لأن خطاب السجود كان مع الملائكة، وقوله " كان من الجن " أي من الملائكة الذين هم خزنة الجنة. وقال سعيد بن جبير: من الذين يعملون في الجنة، وقال: قوم من الملائكة الذين يصوغون حلي أهل الجنة، وقيل: إن فرقة من الملائكة خلقوا من النار سموا جناً لاستتارهم عن الأعين، وإبليس كان منهم. والدليل عليه قوله تعالى " وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً " (158-الاصافات) وهو قولهم: الملائكة / بنات الله، ولما أخرجه الله من الملائكة جعل له ذرية.
قوله: " أبى " أي امتنع فلم يسجد " واستكبر " أي تكبر عن السجود (لآدم) " وكان " أي: صار " من الكافرين " وقال أكثر المفسرين: وكان في سابق علم الله من الكافرين الذين وجبت لهم الشقاوة.
أنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي أنا ابن الحاكم أبو الفضل محمد بن الحسين الحدادي أنا أبو يزيد محمد بن يحيى بن خالد أنا اسحاق بن ابراهيم الحنظلي أنا جرير ووكيع وأبومعاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول: يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار ".

34-" وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " لما أنبأهم بأسمائهم وعلمهم ما لم يعلموا أمرهم بالسجود له ، اعترافاً بفضله ، وأداء لحقه واعتذاراً عما قالوا فيه ، وقيل : أمرهم به قبل أن يسوي خلقة لقوله تعالى : " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " امتحاناً لهم وإظهاراً لفضله . والعاطف عطف الظرف على الظرف السابق إن نصبته بمضمر ، وإلا عطفه بما يقدر عاملاً فيه على الجملة المتقدمة ، بل القصة بأسرها على القصة الأخرى ، وهي نعمة رابعة عدها عليهم . والسجود في الأصل تذلل مع تطامن قول الشاعر :
ترى الأكم فيها سجداً للحوافر
وقال آخر :
وقلن له اسجد لليلى فاسجدا
يعني البعير إذا طأطأ رأسه . وفي الشرع : وضع الجبهة على قصد العبادة ، والمأمور به إما المعنى الشرعي فالمسجود له بالحقيقة هو الله تعالى ، وجعل آدم قبلة لسجودهم تفخيماً لشأنه ، أو سبباً لوجوبه فكأنه تعالى لما خلقه بحيث يكون نموذجاً للمبدعات كلها بل الموجودات بأسرها ، ونسخة لما في العالم الروحاني والجسماني وذريعة للملائكة إلى استيفاء ما قدر لهم من الكمالات ، ووصلة إلى ظهور ما تباينوا فيه من المراتب والدرجات ، أمرهم بالسجود تذللاً لما رأوا فيه من عظيم قدرته وباهر آياته ، وشكراً لما أنعم عليهم بواسطته ، فاللام فيه كاللام في قول حسان رضي الله تعالى عنه :
أليس أول من صلى لقبلتكم وأعرف الناس بالقرآن والسنن
أو في قوله تعالى : " أقم الصلاة لدلوك الشمس " .
وأما المعنى اللغوي وهو التواضع لآدم تحية وتعظيماً له ، كسجود إخوة يوسف له ، أو التذلل والإنقياد بالسعي في تحصيل ما ينوط به معاشهم ويتم به كمالهم . والكلام في أن المأمور بالسجود ، الملائكة كلهم ، أو طائفة منهم ما سبق .
" فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر " امتنع عما أمر به ، استكباراً من أن يتخذه وصلة في عبادة ربه ، أو يعظمه ويتلقاه بالتحية ، أو يخدمه ويسعى فيما فيه خيره وصلاحه . والإباء : امتناع باختيار . والتنكير : أن يرى الرجل نفسه أكبر من غيره . والاستكبار طلب ذلك بالتشبع .
" وكان من الكافرين " أي في علم الله تعالى ، أو صار منهم باستقباحه أمر الله تعالى ،إياه بالسجود لآدم اعتقاداً بأنه أفضل منه ، والأفضل لا يحسن أن يؤمر بالتخضع للمفضول والتوسع به كما أشعر به قاله : " أنا خير منه " جواباً لقوله : " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين " . لا بترك الواجب وحده . والآية تدل على أن آدم عليه السلام أفضل من الملائكة المأمورين بالسجود له ، ولو من وجه ، وأن إبليس كان من الملائكة وإلا لم يتناوله أمرهم ولا يصح استثناؤه منهم ، ولا يرد على ذلك قوله سبحانه وتعالى : " إلا إبليس كان من الجن " لجواز أن يقال إنه كان من الجن فعلاً ومن الملائكة نوعاً ، ولأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما روي : أن من الملائكة ضرباً يتوالدون يقال لهم الجن ومنهم إبليس . ولمن زعم أنه لم يكن من الملائكة أن يقول : إنه كان جنياً نشأ بين أظهر الملائكة ،وكان مغروراً بالألوف منهم فغلبوا عليه ، أو الجن أيضاً كانوا مأمورين مع الملائكة لكنه استغنى بذكر الملائكة عن ذكرهم ، فإنه إذا علم أن الأكابر مأمورون بالتذلل لأحد والتوسل به ، علم أن الأصاغر أيضاً مأمورون به . والضمير في فسجدوا راجع إلى القبيلين كأنه ، قال فسجد المأمورون بالسجود إلا إبليس ، وأن من الملائكة من ليس بمعصوم وإن كان الغالب فيهم العصمة ، كما أن من الإنس معصومين والغالب فيهم عدم العصمة ، ولعل ضرباً من الملائكة لا يخالف الشياطين بالذات ، وإنما يخالفهم بالعوارض والصفات كالبررة والفسقة من الإنس والجن يشملهما . وكان إبليس من هذا الصنف كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فلذلك صح عليه التغير عن حاله والهبوط من محله ،كما أشار إليه بقوله عز وجل : " إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه " لا يقال : كيف يصح ذلك والملائكة خلقت من نور والجن من نار ؟ لما روت عائشة رضي الله تعالى عنها أنه عليه الصلاة والسلام قال : " خلقت الملائكة من النور ، وخلق الجن من مارج من نار " لأنه كالتمثيل لما ذكرنا فإن المراد بالنور الجوهر المضيء والنار كذلك ، غير أن ضوءها مكدر مغمور بالدخان محذور عنه بسبب ما يصحبه من فرط الحرارة والإحراق ، فإذا صارت مهذبة مصفاة كانت محض نور ، ومتى نكصت عادت الحالة الأولى جذعة ولا تزال تتزايد حتى ينطفئ نورها ويتقى الدخان الصرف ، وهذا أشبه بالصواب وأوفق للجمع بين النصوص ، والعلم عند الله سبحانه وتعالى .
ومن فوائد الآية استقباح الاستكبار وأنه قد يفضي بصاحبه إلى الكفر ، والحث على الائتمار لأمره وترك الخوض في سره , وأن الأمر للوجوب ، وأن الذي علم الله تعالى من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر على الحقيقة ، إذ العبرة بالخواتم وإن كان بحكم الحال مؤمناً وهو الموافاة المنسوبة إلى شيخنا أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى .

و
34. And when We said unto the angels: Prostrate yourselves before Adam, they fell prostrate, all save Iblis He demurred through pride, and so became a disbeliever.
34 - And behold, We said to the angels: Bow down to Adam: and they bowed down: Not so Iblis: he refused and was haughty: he was of those who reject Faith.