[البقرة : 30] وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
(و) اذكر يا محمد (إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) يخلفني في تنفيذ أحكامي فيها وهو آدم (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها) بالمعاصي (ويسفك الدماء) يريقها بالقتل كما فعل بنو الجان وكانوا فيها فلما أفسدوا أرسل الله عليهم الملائكة فطردوهم إلى الجزائر والجبال (ونحن نسبح) متلبسين (بحمدك) أي نقول سبحان الله وبحمده (ونقدس لك) ننزهك عما لا يليق بك فاللام زائدة والجملة حال أي فنحن أحق بالاستحلاف (قال) تعالى (إني أعلم ما لا تعلمون) من المصلحة في استخلاف آدم وأن ذريته فيهم المطيع والعاصي فيظهر العدل بينهم ، فقالوا لن يخلق ربنا خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم لسبقنا له ورؤيتنا ما لم يره فخلق الله تعالى آدم من أديم الأرض أي وجهها بأن قبض منها قبضة من جميع ألوانها وعجنت بالمياه المختلفة وسواه ونفخ فيه الروح فصار حيواناً حساساً بعد أن كان جماداً
قال أبو جعفر: زعم بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب من أهل البصرة: أن تأويل قوله: "وإذ قال ربك"، وقال ربك وأن " إذ"، من الحروف الزوائد، وأن معناها الحذف. واعتل لقوله الذي وصفنا عنه في ذلك ببيت الأسود بن يعفر:
فإذا وذلك لامهاه لذكره والدهريعقب صالحًا بفساد
ثم قال: ومعناها: وذلك لامهاه لذكره وببيت عبد مناف بن ربع الهذلي:
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلاً كما تطرد الجمالة الشردا
وقال: معناه، حتى أسلكوهم.
قال أبو جعفر: والأمر في ذلك بخلاف ما قال: وذلك أن إذ حرف يأتي بمعنى الجزاء، ويدل على مجهول من الوقت. وغير جائز إبطال حرف كان دليلاً على معنى في الكلام. إذ سواء قيل قائل: هو بمعنى التطول، وهو في الكلام دليل على معنى مفهوم وقيل آخر، في جميع الكلام الذي نطق به دليلاً على ما أريد به: هو بمعنى التطول.
وليس لما ادعى الذي وصفنا قوله في بيت الأسود بن يعفر: أن إذا بمعنى التطول وجه مفهوم، بل ذلك لو حذف من الكلام لبطل المعنى الذي أراده الأسود بن يعفر من قوله:
فإذا وذلك لامهاه لذكره
وذلك أنه أراد بقوله: فإذا الذي نحن فيه، وما مضى من عيشنا. وأشار بقوله ذلك إلى ما تقدم وصفه من عيشه الذي كان فيه لامهاه لذكره يعني لا طعم ولا فضل، لإعقاب الدهر صالح ذلك بفساد. وكذلك معنى قول عبد مناف بن ربع:
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلا...............
لو أسقط منه إذا بطل معنى الكلام، لأن معناه: حتى إذا أسلكوهم في قتائدة سلكوا شلا،فدل قوله: أسلكوهم شلا، على معنى المحذوف، فاستغنى عن ذكره بدلالة إذا عليه، فحذف. كما دل ما قد ذكرنا فيما مضى في كتابنا على ما تفعل العرب في نظائر ذلك. وكما قال النمربن تولب:
فإن المنية من يخشها فسوف تصادفه أينما
وهو يريد: أينما ذهب. وكما تقول العرب: أتيتك من قبل ومن بعد. تريد من قبل ذلك،ومن بعد ذلك. فكذلك ذلك في إذا كما يقول القائل: إذا أكرمك أخوك فأكرمه، وإذا لا فلا. يريد: وإذا لم يكرمك فلا تكرمه. ومن ذلك قول الآخر:
فإذا وذلك لا يضرك ضره في يوم أسأل نائلاً أو أنكد
نظير ما ذكرنا من المعنى في بيت الأسود بن يعفر. وكذلك معنى قول الله جل ثناؤه: "وإذ قال ربك للملائكة"، لو أبطلت "إذ" وحذفت من الكلام، لاستحال عن معناه الذي هو به، وفيه "إذ".
فإن قال لنا قائل: فما معنى ذلك؟ وما الجالب لـ "إذ"، إذ لم يكن في الكلام قبله ما يعطف به عليه؟
قيل له: قد ذكرنا فيما مضى: أن الله جل ثناؤه خاطب الذين خاطبهم بقوله: " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم "، بهذه الآيات والتي بعدها، موبخهم مقبحًا إليهم سوء فعالهم ومقامهم على ضلالهم، مع النعم التي أنعمها عليهم وعلى أسلافهم؟ ومذكرهم بتعديد نعمه عليهم وعلى أسلافهم بأسه، أن يسلكوا سبيل من هلك من أسلافهم في معصيته، فيسلك بهم سبيلهم في عقوبته؟ ومعرفهم ما كان منه من تعطفه على التائب منهم استيعاباً منه لهم. فكان مما عدد من نعمه عليهم أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا، وسخرلهم ما في السموات من شمسها وقمرها ونجومها، وغير ذلك من منافعها التي جعلها لهم ولسائر بني آدم معهم منافع. فكان في قوله تعالى: "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون"، معنى: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، إذ خلقتكم ولم تكونوا شيئًا، وخلقت لكم ما في الأرض جميعًا، وسويت لكم ما في السماء. ثم عطف بقوله: "وإذ قال ربك للملائكة" على المعنى المقتضى بقوله: "كيف تكفرون بالله"، إذ كان مقتضيًا ما وصفت من قوله: اذكروا نعمتي إذ فعلت بكم وفعلت، واذكروا فعلي بأبيكم آدم إذ قلت للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة.
فإن قال قائل: فهل لذلك من نظير في كلام العرب نعلم به صحة ماقلت؟ قيل: نعم،أكثر من أن يحصى، من ذلك قول الشاعر:
أجدك لن ترى بثعيلبات ولا بيدان ناجية ذمولا
ولا متدارك والشمس طفل ببعض نواشغ الوادي حمولا
فقال:ولا متدارك ، ولم يتقدمه فعل بلفظه يعطفه عليه، ولا حرف معرب إعرابه، فيرد متدارك عليه في إعرابه. ولكنه لما تقدمه فعل مجحود بـ (لن) يدل على المعنى المطلوب في الكلام من المحذوف، استغنى بدلالة ما ظهر منه عن إظهار ما حذف، وعامل الكلام في المعنى والإعراب معاملته أن لو كان ما هو محذوف منه ظاهرًا. لأن قوله:
أجدك لن ترى بثعيلبات
بمعنى:أجدك لست براء، فرد متداركاً على موضع ترى، كأن لست والباء موجودتان في الكلام. فكذلك قوله: "وإذ قال ربك "، لما سلف قبله تذكير الله المخاطبين به ما سلف قبلهم وقبل آبائهم من أياديه وآلائه، وكان قوله: "وإذ قال ربك للملائكة" مع ما بعده من النعم التي عذدها عليهم ونبههم على مواقعها رد "إذ" على موضع "وكنتم أمواتا فأحياكم ". لأن معنى ذلك: اذكروا هذه من نعمي، وهذه التي قلت فيها للملائكة. فلما كانت الأولى مقتضية "إذ"، عطف بـ "إذ" على موضعها في الأولى، كما وصفنا من قول الشاعر في ولا متدارك .
القول في تأويل قوله:" للملائكة".
قال أبو جعفر: والملائكة جمع ملاك، غير أن أحدهم بغير الهمزة أكثر وأشهر في كلام العرب منه بالهمز. وذلك أنهم يقولون في واحدهم: ملك من الملائكة، فيحذفون الهمز منه، ويحركون اللام التي كانت مسكنة لو همز الاسم. وإنما يحركونها بالفتح، لأنهم ينقلون حركة الهمزة التي فيه بسقوطها إلى الحرف الساكن قبلها؟ فإذا جمعوا واحدهم، ردوا الجمع إلى الأصل وهمزوا، فقالوا: ملائكة.
وقد تفعل العرب نحو ذلك كثيرًا في كلامها، فتترك الهمز في الكلمة التي هي مهموزة،فيجري كلامهم بترك همزها في حال، وبهمزها في أخرى، كقولهم: رأيت فلاناً فجرى كلامهم بهمز رأيت ثم قالوا: نرى وترى ويرى، فجرى كلامهم في يفعل ونظائرها بترك الهمز، حتى صار الهمز معها شاذاً، مع كون الهمز فيها أصلاً. فكذلك ذلك في ملك وملائكة، جرى كلامهم بترك الهمز من واحدهم، وبالهمز في جميعهم. وربما جاء الواحد مهموزاً، كما قال الشاعر:
فلست لإنسي ولكن لملأك تحدرمن جو السماء يصوب
وقد يقال في واحدهم، مألك، فيكون ذلك مثل قولهم: جبذ وجذب، وشأمل وشمأل، وماأشبه ذلك من الحروف المقلوبة. غير أن الذي يجب إذا سمي واحدهم مألك أن يجمع إذا جمع على ذلك مآلك، ولست أحفظ جمعهم كذلك سمًاعا، ولكنهم قد يجمعون: ملائك وملائكة، كما يجمع أشعث: أشاعث وأشاعثة، ومسمع: مسامع ومسامعة، قال أمية بن أبي الصلت في جمعهم كذلك:
وفيهما من عباد الله قوم ملائك ذللوا وهم صعاب
وأصل الملأك: الرسالة، كما قال عدي بن زيد العبادي:
أبلغ النعمان عني ملأكا إنه قد طال حبسي وانتظاري
وقد ينشد: مألكاً، على اللغة الأخرى. فمن قال: ملأكاً فهو مفعل، من لأك إليه يلأك إذا أرسل إليه رسالة ملأكة؟ ومن قال: مألكا فهو مفعل من ألكت إليه آلك: إذا أرسلت إليه مألكة وألوكا، كما قال لبيد بن ربيعة:
وغلام أرسلته أمه بألوك فبذلنا ما سأل
فهذا من ألكت، ومنه قول نابغة بني ذبيان:
ألكني يا عيين إليك قولاً سأهديه، إليك إليك عني
وقال عبد بني الحسحاس:
ألكني إليها عمرك الله يافتى بآية ما جاءت إلينا تهاديا
يعني بذلك: أبلغها رسالتي. فسميت الملائكة ملائكة بالرسالة، لأنها رسل الله بينه وبين أنبيائه، ومن أرسلت إليه من عباده.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: " إني جاعل في الأرض ".
اختلف أهل التأويل في قوله: "إني جاعل "، فقال بعضهم: إني فاعل.
ذكر من قال ذلك:حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم، ومبارك، في الحسن، وأبي بكر يعني الهذلي عن الحسن، وقتادة، قالوا: قال الله تعالى ذكره لملائكته: "إني جاعل في الأرض خليفة"، قال لهم: إني فاعل.
وقال آخرون: إني خالق. ذكر من قال ذلك:حدثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبى روق، قال:كل شيء في القرآن جعل ، فهوخلق.
قال أبو جعفر: والصواب في تأويل قوله: "إني جاعل في الأرض خليفة": أي مستخلف في الأرض خليفة، ومصير فيها خلفاً. وذلك أشبه بتأويل قول الحسن وقتادة.
وقيل: إن الأرض التي ذكرها الله في هذه الآية هي مكة. ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن ابن سابط، أن "النبي صلى الله عليه وسلم قال: دحيت الأرض من مكة، وكانت الملائكة تطوف بالبيت، فهي أول من طاف به، وهي الأرض" التي قال الله: "إني جاعل في الأرض خليفة"، وكان النبي إذا هلك قومه، ونجا هو والصالحون، أتاها هو ومن معه فعبدوا الله بها حتى يموتوا، فإن قبر نوح وهود وصالح وشعيب، بين زمزم والركن والمقام.
القول في تأويل قوله: " خليفة".
والخليفة الفعيلة من قولك: خلف فلان فلانا في هذا الأمر، إذا قام مقامه فيه بعده. كما قال جل ثناؤه: "ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون" (يونس: 14) يعني بذلك أنه أبدلكم في الأرض منهم، فجعلكم خلفاء بعدهم. من ذلك قيل للسلطان الأعظم: خليفة، لأنه خلف الذي كان قبله، فقام بالأمر مقامه، فكان منه خلفاً. يقال منه: خلف الخليفة، يخلف خلافة وخليفى.
وكان ابن إسحاق يقول بما: حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحق. "إني جاعل في الأرض خليفة"، يقول: ساكناً وعامرًا يسكنها ويعمرها خلفاً، ليس منكم.
وليس الذي قال ابن إسحاق في معنى الخليفة بتأويلها وإن كان الله جل ثناؤه إنما أخبر ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفة يسكنها ولكن معناها ما وصفت قبل.
فإن قال قائل: فما الذي كان في الأرض قبل بني ادم لها عامرًا، فكان بنو آدم منه بدلاً، وفيها منه خلفاً؟
قيل: قد اختلف أهل التأويل في ذلك: فحدثنا أبو كريب قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: أول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضاً. فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. ثم خلق آدم فأسكنه إياها، فلذلك قال: "إني جاعل في الأرض خليفة".
فعلى هذا القول: "إني جاعل في الأرض خليفة"، من الجن، يخلفونهم فيها فيسكنونها ويعمرونها.
وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحق، قال: حدثنا عبدالله بن أبي جعفر، عن أبيه،عن الربيع بن أنس في قوله: "إني جاعل في الأرض خليفة"، الآية، قال: إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجن يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة، فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم، فكانت الدماء، وكان الفساد في الأرض.
وقال آخرون في تأويل قوله: "إني جاعل في الأرض خليفة"، أي خلفاً يخلف بعضهم بعضاً، وهم ولد آدم الذين يخلفون أباهم آدم، ويخلف كل قرن منهم القرن الذي سلف قبله. وهذا قول حكي عن الحسن البصري.
ونظيرله ما:حدثني به محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن ابن سابط في قوله: "إني جاعل في الأرض خليفة"، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، قال: يعنون به بني آدم صلى الله عليه وسلم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد : قال الله تعالى ذكره للملائكة: إني أريد أن أخلق في الأرض خلقاً وأجعل فيها خليفة. وليس لله يومئذ خلق إلا الملائكة، والأرض ليس فيها خلق.
وهذا القول يحتمل ما حكي عن الحسن، ويحتمل أن يكون أراد ابن زيد أن الله أخبر الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة له يحكم فيها بين خلقه بحكمه، نظير ما:حدثني به موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله جل ثناؤه قال للملائكة: " إني جاعل في الأرض خليفة". قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً.
فكان تأويل الآية على هذه الرواية التي ذكرناها عن ابن مسعود وابن عباس: إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بين خلقي. وذلك الخليفة هوآدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه. وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها، فمن غير خلفائه، ومن غير آدم ومن قام مقامه في عباد الله لأنهما أخبرا أن الله جل ثناؤه قال لملائكته إذ سألوه: ما ذاك الخليفة؟: إنه خليفة يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً. فأضاف الإفساد وسفك الدماء بغير حقها إلى ذرية خليفته دونه، وأخرج منه خليفته.
وهذا التأويل، وإن كان مخالفاً في معنى الخليفة ما حكي عن الحسن من وجه، فموافق له من وجه. فأما موافقته إياه، فصرف متأوليه إضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء فيها إلى غير الخليفة. وأما مخالفته إياه، فإضافتهما الخلافة إلى آدم، بمعنى استخلاف الله إياه فيها، وإضافة .الحسن الخلافة إلى ولده، بمعنى خلافة بعضهم بعضاً، وقيام قرن منهم مقام قرن قبلهم، وإضافة الافساد في الأرض وسفك الدماء إلى الخليفة.
والذي دعا المتأولين قوله: "إني جاعل في الأرض خليفة" في التأويل الذي ذكر عن الحسن إلى ما قالوا في ذلك، أنهم قالوا إن الملائكة إنما قالت لربها إذ قال لهم ربهم: "إني جاعل في الأرض خليفة": أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، إخبارًا منها بذلك عن الخليفة الذي أخبر الله جل ثناؤه أنه جاعله في الأرض لا عن غيره. لأن المحاورة بين الملائكة وبين ربها عنه جرت. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك وكان الله قد برأ آدم من الإفساد في الأرض وسفك الدماء، وطهره من ذلك علم أن الذي عني به غيره من ذريته. فثبت أن الخليفة الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء هو غير آدم، وأنهم ولده الذين فعلوا ذلك، وأن معنى الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرناً غيرهم لما وصفنا.
وأغفل قائلو هذه المقالة، ومتأولو الآية هذا التأويل، سبيل التأويل. وذلك أن الملائكة إذ قال لها ربها: "إني جاعل في الأرض خليفة"، لم تضف الإفساد وسفك الدماء في جوابها ربها إلى خليفته في أرضه، بل قالت: أتجعل فيها من يفسد فيها ؟ وغير منكر أن يكون ربها أعلمها أنه يكون لخليفته ذلك ذرية يكون منهم الإفساد وسفك الدماء، فقالت: يا ربنا، أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء. كما قال ابن مسعود وابن عباس، ومن حكينا ذلك عنه من أهل التأويل.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه خبرًا عن ملائكته: قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء.
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف قالت الملائكة لربها إذ أخبرها أنه جاعل في الأرض خليفة: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، ولم يكن آدم بعد مخلوقاً ولا ذريته، فيعلموا ما يفعلون عياناً؟ أعلمت الغيب فقالت ذلك، أم قالت ما قالت من ذلك ظناً؟ فذلك شهادة منها بالظن، وقول بما لا تعلم. وذلك ليس من صفتها. أم ما وجه قيلها ذلك لربها؟
قيل: قد قالت العلماء من أهل التأويل في ذلك أقوالاً. ونحن ذاكرو أقوالهم في ذلك، ثم مخبرون بأصحها برهانا وأوضحها حجة. فروي عن ابن عباس في ذلك ما: حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الحن ، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة، قال: وكان اسمه الحارث، قال: وكان خازناً من خزان الجنة. قال: وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي. قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا ألهبت. قال: وخلق الانسان من طين. فأول من سكن الأرض الجن. فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضاً. قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة وهم هذا الحي الذين يقال لهم الحن فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. فلما فعل إبليس ذلك اغتر في نفسه. وقال: قد صنعت شيئاً لم يصنعه أحد قال: فاطلع الله على ذلك من قلبه، ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه. فقال الله للملائكة الذين معه: "إني جاعل في الأرض خليفة". فقالت الملائكة مجيبين له: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، كما أفسدت الجن وسفكت الدماء، وإنما بعثنا عليهم لذلك. فقال: "إني أعلم ما لا تعلمون "، يقول: إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه، من كبره واغتراره. قال: ثم أمر بتربة آدم فرفعت، فخلق الله آدم من طين لازب واللازب: اللزج الصلب، من حمأ مسنون- منتن. قال: وإنما كان حمأ مسنوناً بعد التراب. قال: فخلق منه آدم بيده، قال فمكث أربعين ليلة جسداً ملقى. فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل أي فيصوت قال: فهو قول الله: "من صلصال كالفخار " (الرحمن: 14). يقول: كالشيء المنفوخ الذي ليس بمصمت. قال: ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره، ويدخل من دبره ويخرج من فيه، ثم يقول: لست شيئًا للصلصلة ولشيء ماخلقت لئن سلطت عليك لأهلكنك، ولئن سلطت علي لأعصينك. قال: فلما نفخ الله فيه من روحه، أتت النفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحمًا ودماً. فلما انتهت النفخة إلى سرته، نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من حسنه، فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قول الله: "وكان الإنسان عجولا" ( الإسراء: 11) قال: ضجرًا لا صبر له على سراء ولا ضراء. قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس، فقال: الحمد لله رب العالمين بإلهام من الله تعالى، فقال الله له: يرحمك الله يا آدم. قال: ثم قال الله للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات: اسجدوا لآدم. فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبى واستكبر، لما كان حدث به نفسه من كبره واغتراره. فقال: لا أسجد له، وأنا خير منه وأكبر سناً وأقوى خلقاً، خلقتني من نار وخلقته من طين يقول: إن النار أقوى من الطين. قال: فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله أي آيسه من الخير كله، وجعله شيطاناً رجيمًا عقوبة لمعصيته. ثم علم آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة يعني الملائكة الذين كانوا مع إبليس، الذين خلقوا من نار السموم وقال لهم: أنبئوني بأسماء هؤلاء يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء، إن كنتم صادقين، إن كنتم تعلمون أني لم أجعل خليفة في الأرض. قال: فلما علمت الملائكة مؤاخذة الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب، الذي لا يعلمه غيره، الذي ليس لهم به علم، قالوا: سبحانك تنزيهًا لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره تبنا إليك، لا علم لنا إلا ما علمتنا تبرياً منهم من علم الغيب إلا ما علمتنا كما علمت آدم. فقال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم يقول: أخبرهم بأسمائهم. فلما أنباهم بأسمائهم قال: ألم أقل لكم أيها الملائكة خاصة إني أعلم غيب السموات والأرض، ولا يعلمه غيري، وأعلم ما تبدون يقول: ما تظهرون وما كنتم تكتمون يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار.
قال أبو جعفر: وهذه الرواية عن ابن عباس، تنبىء عن أن قول الله جل ثناؤه: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة"، خطاب من الله جل ثناؤه لخاص من الملائكة دون الجميع، وأن الذين قيل. لهم ذلك من الملائكة كانوا قبيلة إبليس خاصة الذين قاتلوا معه جن الأرض قبل خلق آدم وأن الله إنما خصهم بقيل ذلك امتحانًا منه لهم وابتلاء، ليعرفهم قصور علمهم وفضل كثير ممن هو أضعف خلقًا منهم من خلقه عليهم، وأن كرامته لا تنال بقوى الأبدان وشدة الأجسام، كما ظنه إبليس عدو الله. ومصرح بأن قيلهم لربهم: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، كانت هفوة منهم ورجمًا بالغيب؟ وأن الله جل ثناؤه أطلعهم على مكروه ما نطقوا به من ذلك، ووقفهم عليه حتى تابوا وأنابوا إليه مما قالوا ونطقوا من رجم الغيب بالظنون، وتبرأوا إليه أن يعلم الغيب غيره. وأظهر لهم من إبليس ما كان منطويًا عليه من الكبر الذي قد كان عنهم مستخفيًا.
وقد روي عن ابن عباس خلاف هذه الرواية، وهو ما: حدثني به موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما فرغ الله من خلق ما أحب، استوى على العرش، فجعل إبليس على ملك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة. وكان إبليس مع ملكه خازنًا، فوقع في صدره كبر، وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي هكذا قال موسى بن هرون، وقد حدثني به غيره، وقال: لمزية لي على الملائكة فلما وقع ذلك الكبر في نفسه، اطلع الله على ذلك منه، فقال الله للملائكة: "إني جاعل في الأرض خليفة ". قالوا: ربنا، وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون فى الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا. قالوا: ربنا، "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ". يعني من شأن إبليس. فبعث جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني. فرجع، ولم يأخذ. وقال: رب إنها عاذت بك فأعذتها. فبعث الله ميكائيل، فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل. فبعث ملك الموت فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره. فأخذ من وجه الأرض، وخلط فلم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين. فصعد به، فبل التراب حتى عاد طينًا لازبًا واللازب: هو الذي يلتزق بعضه ببعض ثم ترك حتى أنتن وتغير. وذلك حين يقول: "من حمإ مسنون" (الحجر: 28).قال: منتن ثم قال للملائكة: " إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " (ص: 71- 72). فخلقه الله بيديه لكيلا يتكبر إبليس عنه، ليقول له: تتكبر عما عملت بيدي، ولم أتكبر أنا عنه؟ فخلقه بشرًا، فكان جسدًا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة. فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه. وكان أشدهم منه فزعًا ابليس، فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار وتكون له صلصلة، فذلك حين يقول: "من صلصال كالفخار" (الرحمن: 14). ويقول لأمر ما خلقت ودخل من فيه فخرج من دبره. فقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا، فإن ربكم صمد وهذا أجوف. لئن سلطت عليه لأهلكنه. فلما بلغ الحين الذي يريد الله جل ثناؤه أن ينفخ فيه الروح، قال للملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له. فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه، عطس، فقالت له الملائكة: قل الحمد لله. فقال: الحمد لله. فقال له الله: رحمك ربك. فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة. فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول: "خلق الإنسان من عجل" (الأنبياء: 37). فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين أي استكبر وكان من الكافرين. قال الله له: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لما خلقت بيدي؟ قال: أنا خير منه، لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين. قال الله له: اخرج منها فما يكون لك يعني ما ينبغي لك أن تتكبر فيها، فاخرج انك من الصاغرين والصغار: هو الذل. قال وعلم آدم الأسماء كلها، ثم عرض الخلق على الملائكة، فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. فقالوا له: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال الله: يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون. قال قولهم: "أتجعل فيها من يفسد فيها"، فهذا الذي أبدوا، "وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون"، يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر.
قال أبو جعفر: فهذا الخبر أوله مخالف معناه معنى الرواية التي رويت عن ابن عباس من رواية الضحاك التي قد قدمنا ذكرها قبل، وموافق معنى آخره معناها. وذلك أنه ذكر في أوله أن الملائكة سألت ربها: ما ذاك الخليفة؟ حين قال لها: إني جاعل في الأرض خليفة. فأجابها أنه تكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا. فقالت الملائكة حينئذ: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ فكان قول الملائكة ما قالت من ذلك لربها، بعد إعلام الله إياها أن ذلك كائن من ذرية الخليفة الذي يجعله في الأرض. فذلك معنى خلاف أوله معنى خبر الضحاك الذي ذكرناه.
وأما موافقته إياه في آخره، فهو قولهم في تأويل قوله: "أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين": أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، وأن الملائكة قالت إذ قال لها ربها ذلك تبريًا من علم الغيب-:"سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم".
وهذا إذا تدبره ذو الفهم، علم أن أوله يفسد آخره، وأن آخره يبطل معنى أوله. وذلك أن الله جل ثناؤه إن كان أخبر الملائكة أن ذرية الخليفة الذي يجعله في الأرض تفسد فيها وتسفك الدماء، فقالت الملائكة لربها: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"؟ فلا وجه لتوبيخها، على أن أخبرت عمن أخبرها الله عنه أنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء، بمثل الذي أخبرها عنهم ربها، فيجوز أن يقال لها فيما طوي عنها من العلوم: إن كنتم صادقين فيما علمتم بخبر الله إياكم أنه كائن من الأمور فأخبرتم به، فأخبرونا بالذي قد طوى الله عنكم علمه، كما قد أخبرتمونا بالذي قد أطلعكم الله عليه بل ذلك خلف من التأويل، ودعوى على الله ما لا يجوز أن يكون له صفة. وأخشى أن يكون بعض نقلة هذا الخبر هو الذي غلط على من رواه عنه من الصحابة، وأن يكون التأويل منهم كان على ذلك: "أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" فيما ظننتم أنكم أدركتموه من العلم بخبري إياكم أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، حتى استجزتم أن تقولوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء. فيكون التوبيخ حينئذ واقعًا على ما ظنوا أنهم قد أدركوا بقول الله لهم: إنه يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، لا على إخبارهم بما أخبرهم الله به أنه كائن. وذلك أن الله جل ثناؤه، وإن كان أخبرهم عما يكون من بعض ذرية خليفته في الأرض، ما يكون منه فيها من الفساد وسفك الدماء، فقد كان طوى عنهم الخبر عما يكون من كثير منهم ما يكون من طاعتهم ربهم، وإصلاحهم في أرضه، وحقن الدماء، ورفعه منزلتهم، وكرامتهم عليه، فلم يخبرهم بذلك. فقالت الملائكة: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، على ظن منها على تأويل هذين الخبرين اللذين ذكرت وظاهرهما أن جميع ذرية الخليفة الذي يجعله في الأرض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء، فقال الله لهم إذ علم آدم الأسماء كلها-: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين أنكم تعلمون أن جميع بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، على ما ظننتم في أنفسكم إنكارًا منه جل ثناؤه لقيلهم ما قالوا من ذلك على الجميع والعموم، وهو من صفة خاص ذرية الخليفة منهم. وهذا الذي ذكرنا هو صفة منا لتأويل الخبر، لا القول الذي نختاره في تأويل الآية.
ومما يدل على ما ذكرنا من توجيه خبر الملائكة عن إفساد ذرية الخليفة وسفكها الدماء على العموم، ما:
حدثنا به أحمد بن إسحق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن عبدالرحمن بن سابط، قوله: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، قال: يعنون الناس.
وقال اخرون في ذلك بما:
حدثنا به بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة"، فاستشار الملائكة في خلق آدم، فقالوا: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الأرض "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون" فكان في علم الله جل ثناؤه أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة. قال: وذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة: ما الله خالق خلقًا أكرم عليه منا ولا أعلم منا فابتلوا بخلق آدم وكل خلق مبتلى كما ابتليت السموات والأرض بالطاعة، فقال الله: "ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين" (فصلت: 11).
وهذا الخبر عن قتادة يدل على أن قتادة كان يرى أن الملائكة قالت ما قالت من قولها: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، على غير يقين علم تقدم منها بأن ذلك كائن، ولكن على الرأي منها والظن، وأن الله جل ثناؤه أنكر ذلك من قيلها، ورد عليها ما رأت بقوله:"إني أعلم ما لا تعلمون" من أنه يكون من ذرية ذلك الخليفة الأنبياء والرسل والمجتهد في طاعة الله.
وقد روي عن قتادة خلاف هذا التأويل وهو ما:
حدثنا به الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: "أتجعل فيها من يفسد فيها" قال: كان الله أعلمهم إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فذلك قوله: "أتجعل فيها من يفسد فيها".
وبمثل قول قتادة قال جماعة من أهل التأويل، منهم الحسن البصري:
حدثنا القاسم، قال حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم، ومبارك، عن الحسن وأبي بكر، عن الحسن وقتادة قالا: قال الله لملائكته: "إني جاعل في الأرض خليفة" قال لهم: إني فاعل فعرضوا برأيهم، فعلمهم علمًا وطوى عنهم علمًا علمه لا يعلمونه، فقالوا بالعلم الذي علمهم: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" وقد كانت الملائكة علمت من علم الله أنه لا ذنب أعظم عند الله من سفك الدماء "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون". فلما أخذ في خلق آدم همست الملائكة فيما بينها، فقالوا: ليخلق ربنا ما شاء أن يخلق، فلن يخلق خلقًا إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه. فلما خلقه ونفخ فيه من روحه أمرهم أن يسجدوا له لما قالوا، ففضله عليهم، فعلموا أنهم ليسوا بخير منه، فقالوا: إن لم نكن خيرًا منه فنحن أعلم منه، لأنا كنا قبله، وخلقت الأمم قبله. فلما أعجبوا بعملهم ابتلوا، فـ "علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" أني لا أخلق خلقًا إلا كنتم أعلم منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قال: ففزع القوم إلى التوبة وإليها يفزع كل مؤمن فقالوا: "سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " لقولهم: ليخلق ربنا ما شاء، فلن يخلق خلقًا أكرم عليه منا ولا أعلم منا. قال: علمه اسم كل شيء، هذه الجبال وهذه البغال والإبل والجن والوحش، وجعل يسمي كل شيء باسمه، وعرضت عليه كل أمة، فقال: "ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون"، قال: أما ما أبدوا فقولهم: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، وأما ما كتموا فقول بعضهم لبعض: نحن خير منه وأعلم.
وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحق بن الحجاج، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله: "إني جاعل في الأرض خليفة" الآية، قال: إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجن يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة. قال: فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم، فكانت الدماء وكان الفساد في الأرض. فمن ثم قالوا: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، الآية.
حدثنا محمد بن جرير، قال: حدثت عن عمار بن الحسن، قال: أخبرنا عبدالله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله: "ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ". إلى قوله: "إنك أنت العليم الحكيم". قال: وذلك حين قالوا: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ". قال: فلما عرفوا أنه جاعل في الأرض خليفة قالوا بينهم: لن يخلق الله خلقًا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم. فأراد الله أن يخبرهم أنه قد فضل عليهم آدم. وعلم آدم الأسماء كلها، فقال للملائكة: "أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين"، إلى قوله: "وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون "، وكان الذي أبدوا حين قالوا: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، وكان الذي كتموه بينهم قولهم: لن يخلق الله خلقًا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم، فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم والكرم.
وقال ابن زيد بما:
حدثني به يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: لما خلق الله النار ذعرت منها الملائكة ذعرًا شديدًا، وقالوا: ربنا لم خلقت هذه النار؟ ولأي شيء خلقتها؟ قال: لمن عصاني من خلقي. قال: ولم يكن لله خلق يومئذ إلا الملائكة، والأرض ليس فيها خلق، إنما خلق آدم بعد ذلك، وقرأ قول الله: "هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا" (الإنسان: 1). قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ليت ذلك الحين. ثم قال: قالت الملائكة: يا رب، أو يأتي علينا دهر نعصيك فيه لا يرون له خلقًا غيرهم قال: لا، إني أريد أن أخلق في الأرض خلقًا وأجعل فيها خليفة، يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض. فقالت الملائكة: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"؟ وقد اخترتنا، فاجعلنا نحن فيها، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ونعمل فيها بطاعتك. وأعظمت الملائكة أن يجعل الله في الأرض من يعصيه فقال: "إني أعلم ما لا تعلمون ". "يا آدم أنبئهم بأسمائهم". فقال: فلان وفلان. قال: فلما رأوا ما أعطاه الله من العلم أقروا لآدم بالفضل عليهم، وأبى الخبيث إبليس أن يقر له، قال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين (الأعراف: 7). قال: "فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها" (البقرة: 74).
وقال ابن إسحق بما:
حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحق قال: لما أراد الله أن يخلق آدم بقدرته ليبتليه ويبتلي به، لعلمه بما في ملائكته وجميع خلقه وكان أول بلاء ابتليت به الملائكة مما لها فيه ما تحب وما تكره، للبلاء والتمحيص لما فيهم مما لم يعلموا، وأحاط به علم الله منهم جمع الملائكة من سكان السموات والأرض، ثم قال: "إني جاعل في الأرض خليفة" يقول: ساكنًا وعامرًا ليسكنها ويعمرها خلفًا ليس منكم. ثم أخبرهم بعلمه فيهم، فقال: يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ويعملون بالمعاصي. فقالوا جميعًا: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" لا نعصي، ولا نأتي شيئًا كرهته؟ قال: "إني أعلم ما لا تعلمون" قال: إني أعلم فيكم ومنكم ولم يبدها لهم من المعصية والفساد وسفك الدماء وإتيان ما أكره منهم، مما يكون في الأرض، مما ذكرت في بني آدم. قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: " ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون * إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين * إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " (ص: 69- 72). فذكر لنبيه صلى الله عليه وسلم الذي كان من ذكره آدم حين أراد خلقه، ومراجعة الملائكة إياه فيما ذكر لهم منه. فلما عزم الله تعالى ذكره على خلق آدم قال للملائكة: إني خالق بشرًا من صلصال من حمإ مسنون بيدي تكرمة له وتعظيمًا لأمره وتشريفًا له حفظت الملائكة عهده ووعوا قوله، وأجمعوا الطاعة إلا ما كان من عدو الله إبليس، فإنه صمت على ما كان في نفسه من الحسد والبغي والتكبر والمعصية. وخلق الله آدم من أدمة الأرض، من طين لازب من حمإ مسنون بيديه، تكرمة له وتعظيمًا لأمره وتشريفًا له على سائر خلقه. قال ابن إسحق: فيقال، والله أعلم: خلق الله آدم ثم وضعه ينظر إليه أربعين عامًا قبل أن ينفخ فيه الروح حتى عاد صلصالاً كالفخار ولم تمسسه نار. قال: فيقال، والله أعلم: إنه لما انتهى الروح إلى رأسه عطس فقال: الحمد لله، فقال له ربه: يرحمك ربك، ووقع الملائكة حين استوى سجودًا له، حفظًا لعهد الله الذي عهد إليهم، وطاعة لأمره الذي أمرهم به. وقام عدو الله إبليس من بينهم فلم يسجد، مكابرًا متعظمًا بغيًا وحسدًا. فقال له: "يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي" إلى: "لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين" (ص: 75-85).
قال: فلما فرغ الله من إبليس ومعاتبته، وأبى إلا المعصية، أوقع عليه اللعنة وأخرجه من الجنة. ثم أقبل على آدم، وقد علمه الأسماء كلها، فقال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم أي، إنما أجبناك فيما علمتنا، فأما ما لم تعلمنا فأنت أعلم به. فكان ما سمى آدم من شيء، كان اسمه الذي هو عليه إلى يوم القيامة.
وقال ابن جريج بما:
حدثنا به القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: إنما تكلموا بما أعلمهم أنه كائن من خلق آدم، فقالوا: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"؟ وقال بعضهم: إنما قالت الملائكة ما قالت: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" لأن الله أذن لها في السؤال عن ذلك، بعدما أخبرها أن ذلك كائن من بني آدم. فسألته الملائكة، فقالت على التعجب منها-: وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم؟ فأجابهم ربهم: إني أعلم ما لا تعلمون، يعني: أن ذلك كائن منهم وإن لم تعلموه أنتم ومن بعض من ترونه لي طائعًا. يعرفهم بذلك قصور علمهم عن علمه.
وقال بعض أهل العربية: قول الملائكة: "أتجعل فيها من يفسد فيها" على غير وجه الإنكار منهم على ربهم، وإنما سألوه ليعلموا، وأخبروا عن أنفسهم أنهم يسبحون. وقال: قالوا ذلك لأنهم كرهوا أن يعصى الله، لأن الجن قد كانت أمرت قبل ذلك فعصت.
وقال بعضهم: ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك، فكانهم قالوا: يا رب خبرنا، مسألة استخبار منهم لله، لا على وجه مسألة التوبيخ.
قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بقول الله جل ثناؤه، مخبرًا عن ملائكته قيلها له:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك"، تأويل من قال: إن ذلك منها استخبار لربها، بمعنى: أعلمنا يا ربنا أجاعل أنت في الأرض من هذه صفته، وتارك أن تجعل خلفاءك منا ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك لا إنكار منها لما أعلمها ربها أنه فاعل. وإن كانت قد استعظمت لما أخبرت بذلك، أن يكون لله خلق يعصيه.
وأما دعوى من زعم أن الله جل ثناؤه كان أذن لها بالسؤال عن ذلك فسألته على وجه التعجب، فدعوى لا دلالة عليها في ظاهر التنزيل، ولا خبر بها من الحجة يقطع العذر. وغيرجائز أن يقال في تأويل كتاب الله بما لا دلالة عليه من بعض الوجوه التي تقوم بها الحجة.
وأما وصف الملائكة من وصفت في استخبارها ربها عنه بالفساد في الأرض وسفك الدماء، فغير مستحيل فيه ما روي عن ابن عباس وابن مسعود من القول الذي رواه السدي، ووافقهما عليه قتادة من التأويل: وهو أن الله جل ثناؤه أخبرهم أنه جاعل في الأرض خليفة تكون له ذرية يفعلون كذا وكذا، فقالوا: "أتجعل فيها من يفسد فيها"، على ما وصفت من الاستخبار.
فإن قال لنا قائل: وما وجه استخبارها، والأمر على ما وصفت، من أنها قد أخبرت أن ذلك كائن؟
قيل: وجه استخبارها حينئذ يكون عن حالهم عند وقوع ذلك، وهل ذلك منهم؟ ومسألتهم ربهم أن يجعلهم الخلفاء في الأرض حتى لا يعصوه. وغير فاسد أيضًا ما رواه الضحاك عن ابن عباس، وتابعه عليه الربيع بن أنس، من أن الملائكة قالت ذلك لما كان عندها من علم سكان الأرض قبل آدم من الجن، فقالت لربها: أجاعل فيها أنت مثلهم من الخلق يفعلون مثل الذي كانوا يفعلون ؟ على وجه الاستعلام منهم لربهم، لا على وجه الإيجاب أن ذلك كائن كذلك، فيكون ذلك منها إخبارًا عما لم تطلع عليه من علم الغيب. وغير خطأ أيضًا ما قاله ابن زيد من أن يكون قيل الملائكة ما قالت من ذلك، على وجه التعجب منها من أن يكون لله خلق يعصي خالقه.
وإنما تركنا القول بالذي رواه الضحاك عن ابن عباس، ووافقه عليه الربيع بن أنس، وبالذي قاله ابن زيد في تأويل ذلك، لأنه لا خبر عندنا بالذي قالوه من وجه يقطع مجيئه العذر، ويلزم سامعه به الحجة. والخبر عما مضى وما قد سلف، لا يدرك علم صحته إلا بمجيئه مجيئًا يمتنع معه التشاغب والتواطؤ، ويستحيل معه الكذب والخطأ والسهو. وليس ذلك بموجود كذلك فيما حكاه الضحاك عن ابن عباس ووافقه عليه الربيع، ولا فيما قاله ابن زيد.
فأولى التأويلات إذ كان الأمر كذلك بالآية، ما كان عليه من ظاهر التنزيل دلالة، مما يصح مخرجه في المفهوم.
فإن قال قائل: فإن كان أولى التأويلات بالآية هو ما ذكرت، من أن الله أخبر الملائكة بأن ذرية خليفته في الأرض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء، فمن أجل ذلك قالت الملائكة:"أتجعل فيها من يفسد فيها"، فأين ذكر إخبار الله إياهم في كتابه بذلك؟
قيل له: اكتفى بدلالة ما قد ظهر من الكلام عليه عنه، كما قال الشاعر:
فلا تدفنوني إن دفني محرم عليكم، ولكن خامري أم عامر
فحذف قوله:دعوني للتي يقال لها عند صيدها: خامري أم عامر. إذ كان فيما أظهر من كلامه، دلالة على معنى مراده. فكذلك ذلك في قوله: قالوا: "أتجعل فيها من يفسد فيها" لما كان فيه دلالة على ما ترك ذكره بعد قوله: "إني جاعل في الأرض خليفة"، من الخبر عما يكون من إفساد ذريته في الأرض، اكتفى بدلالته وحذف، فترك ذكره كما ذكرنا من قول الشاعر. ونظائر ذلك في القرآن وأشعار العرب وكلامها أكثر من أن يحصى. فلما ذكرنا من ذلك، اخترنا ما اخترنا من القول في تأويل قوله: "قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء".
القول في تأويل قوله تعالى: "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك".
قال أبو جعفر: أما قوله: "ونحن نسبح بحمدك " فإنه يعني: إنا نعظمك بالحمد لك والشكر، كما قال جل ثناؤه: (‎"فسبح بحمد ربك" (النصر: 3) وكما قال: "والملائكة يسبحون بحمد ربهم" (الشورى: 5). وكل ذكر لله عند العرب فتسبيح وصلاة. يقول الرجل منهم: قضيت سبحتي من الذكر والصلاة. وقد قيل: إن التسبيح صلاة الملائكة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفربن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، قال: كان "النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فمررجل من المسلمين على رجل من المنافقين، فقال له: النبي صلى الله عليه وسلم يصفي وأنت جالس فقال له: امض إلى عملك إن كان لك عمل. فقال: ما أظن إلا سيمر عليك من ينكر عليك. فمر عليه عمربن الخطاب فقال له: يا فلان، النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنت جالس فقال له مثلها، فقال: هذا من عملي. فوثب عليه فضربه حتى انتهى، ثم دخل المسجد فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم. فلما انفتل النبي صلى الله عليه وسلم قام إليه عمر فقال: يا نبي الله، مررت آنفاً على فلان وأنت تصلي، فقلت له: النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنت جالس! فقال: سر إلى عملك إن كان لك عمل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فهلا ضربت عنقه . فقام عمر مسرعاً، فقال: يا عمر ارجع فإن غضبك عز، ورضاك حكم، إن لله في السموات السبع ملائكة يصلون، له غنى عن صلاة فلان . فقال عمر: يا نبي الله، وما صلاتهم؟ فلم يرد عليه شيئاً، فأتاه جبريل فقال: يا نبي الله، سألك عمر عن صلاة أهل السماء؟ قال: نعم . فقال: اقرأ على عمر السلام، وأخبره أن أهل السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت ، وأهل السماء الثانية ركوع إلى يوم القيامة يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت ، وأهل السماء الثالثة قيام إلى يوم القيامة يقولون: سبحان الحي الذي لا يموت".
قال أبو جعفر: وحدثني يعقوب بن إبراهيم، وسهل بن موسى الرازي، قالا: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا الجريري، عن أبي عبدالله الجسري، عن عبدالله بن الصامت، عن أبي ذر: أن" رسول الله صلى الله عليه وسلم عاده أو أن أبا ذر عاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، بأبي أنت، أي الكلام أحب إلى الله؟ فقال: ما اصطفى الله لملائكته: سبحان ربي وبحمده، سبحان ربي وبحمده".
في أشكال لما ذكرنا من الأخبار، كرهنا إطالة الكتاب باستقصائها.
وأصل التسبيح لله عند العرب: التنزيه له من إضافة ما ليس من صفاته إليه، والتبرئة له من ذلك، كما قال أعشى بنى ثعلبة:
أقول لما جاءني فخره: سبحان من علقمة الفاخر
يريد: سبحان الله من فخر علقمة، أي تنزيهًا لله مما أتى علقمة من الإفتخار، على وجه النكير منه لذلك.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى التسبيح والتقديس في هذا الموضع، فقال بعضهم: قولهم "نسبح بحمدك ": نصلي لك. ذكر من قال ذلك:حدثني موسى بن هرون، قال: حدثنا عمروبن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك"، قال: يقولون: نصلي لك.
وقال آخرون: "نسبح بحمدك " التسبيح المعلوم. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: "ونحن نسبح بحمدك " ، قال: التسبيح التسبيح.
القول في تأويل قوله تعالى: "ونقدس لك".
قال أبو جعفر: والتقديس هو التطهير والتعظيم، ومنه قولهم: سبوح قدوس ، يعني بقولهم: سبوح ، تنزيه لله، وبقولهم: قاوس ، طهارة له وتعظيم. ولذلك قيل للأرض: أرض مقدسة، يعني بذلك المطهرة. فمعنى قول الملائكة إذا: "ونحن نسبح بحمدك"، ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك، ونصلي لك " ونقدس لك"، ننسبك إلى ما هو من صفاتك، من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك. وقد قيل: إن تقديس الملائكة لربها صلاتها له. كما: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:" ونقدس لك "، قال: التقديس: الصلاة.
وقال بعضهم: "نقدس لك ": نعظمك ونمجدك، ذكر من قال ذلك.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا أبو سعيد المؤدب، قال: حدثنا إسمعيل، عن أبي صالح، في قوله: "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك "، قال: نعظمك ونمجدك.
وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: "ونقدس لك "، قال نعظمك ونكبرك.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحق: "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك "، لا نعصي ولا نأتي شيئًا تكرهه.
وحدثت عن المنجاب، قال حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، فى قوله: "ونقدس لك "، قال: التقديس: التطهير.
وأما قول من قال: إن التقديس الصلاة أو التعظيم، فإن معنى قوله ذلك راجع إلى المعنى الذي ذكرناه من التطهير، من أجل أن صلاتها لربها تعظيم منها له، وتطهير مما ينسبه إليه أهل الكفر به. ولو قال مكان "ونقدس لك" ونقدسك كان فصيحًا من الكلام. وذلك أن العرب تقول: فلان يسبح الله ويقدسه، ويسبح لله ويقدس له، بمعنى واحد. وقد جاء بذلك القرآن، قال الله جل ثناؤه: " كي نسبحك كثيرا * ونذكرك كثيرا " (طه: 33، 134) وقال في موضع آخر: "يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض" ( الجمعة: 1).
القول في تأويل قوله تعالى: " قال إني أعلم ما لا تعلمون ".
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: يعني بقوله: "أعلم ما لا تعلمون"، مما اطلع عليه من إبليس وإضماره المعصية لله وإخفائه الكبر، مما اطلع عليه تبارك وتعالى منه وخفي على ملائكته. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: "إني أعلم ما لا تعلمون "، يقول: إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره.
وحدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " إني أعلم ما لا تعلمون "، يعني من شأن إبليس.
وحدثنا أحمد بن إسحق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد وحدثنامحمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل قالا جميعًا: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها.
وحدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا سفيان، عن علي بن بذيمة، عن مجاهد، بمثله.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن علي بن بذيمة، عن مجاهد مثله.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: "إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها.
وحدثني جعفر بن محمد البزوري، قال: حدثنا حسن بن بشر، عن حمزة الزيات، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس كتمانه الكبر أن لا يسجد لآدم.
وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال:وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل جميعًا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله: "إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس المعصية.
وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، مثله.
وحدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، قال: قال مجاهد في قوله: "إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها.
وقال مرة: آدم.
وحدثني المثنى، قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا المعتمر سليمان،قال: سمعت عبد الوهاب بن مجاهد يحدث عن أبيه في قوله: "إني أعلم ما لا تعلمون "، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها، وعلم من آدم الطاعة وخلقه لها.
وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، والثوري، عن علي بن بذيمة، عن مجاهد في قوله: "إني أعلم ما لا تعلمون "، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحق: "إني أعلم ما لا تعلمون "،أي فيكم ومنكم، ولم يبدها لهم، من المعصية والفساد وسفك الدماء.
وقال آخرون: معنى ذلك: إني أعلم ما لا تعلمون من أنه يكون من ذلك الخليفة أهل الطاعة والولاية لله. ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد ، عن قتادة، قال:"إني أعلم ما لا تعلمون "، فكان في علم الله أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة.
وهذا الخبر من الله جل ثناؤه ينبىء عن أن الملائكة التي قالت: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، استفظعت أن يكون لله خلق يعصيه، وعجبت منه إذ اخبرت أن ذلك كائن. فلذلك قال لهم ربهم: "إني أعلم ما لا تعلمون ". يعني بذلك، والله أعلم: إنكم لتعجبون من أمر الله وتستفظعونه، وأنا أعلم أنه في بعضكم، وتصفون أنفسكم بصفة أعلم خلافها من بعضكم، وتعرضون بأمر قد جعلته لغيركم. وذلك أن الملائكة لما أخبرها ربها بما هو كائن من ذرية خليفته، من الفساد وسفك الدماء، قالت لربها: يا رب أجاعل أنت في الأرض خليفة من غيرنا، يكون من ذريته من يعصيك، أم منا، فإنا نعظمك ونصلي لك ونطيعك ولا نعصيك؟ ولم يكن عندها علم بما قد انطوى عليه كشحاً إبليس من استكباره على ربه فقال لهم ربهم: إني أعلم غير الذي تقولون من بعضكم. وذلك هو ما كان مستورًا عنهم من أمر إبليس، وانطوائه على ما قد كان انطوى عليه من الكبر. وعلى قيلهم ذلك، ووصفهم أنفسهم بالعموم من الوصف، عوتبوا.
قوله تعالى : "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" فيه سبع عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : "وإذ قال ربك للملائكة" إذ وإذا خرفا توقيت ، فإذ للماضي ، وإذا للمستقبل ، وقد توضع إحداهما موضع الأخرى . وقال المبرد : إذا جاء إذا مع مستقبل كان معناه ماضياً ، نحو قوله : "وإذ يمكر بك" ، "وإذ تقول للذي أنعم الله عليه" معناه إذ مكروا ، وإذ قلت . وإذا حاء إذا مع الماضي كان معناه مستقبلاً ، كقوله تعالى :"فإذا جاءت الطامة" ، "فإذا جاءت الصاخة" و "إذا جاء نصر الله والفتح" أي يجيء . وقال معمر بن المثنى أبو عبيدة : إذا زائدة ، والتقدير : وقال ربك ، واستشهد بقول الأسود بن يعفر :
فإذا وذلك لا مهاة لذكره والدهر يعقب صالحاً بفساد
وأنكر هذا القول الزجاج و النحاس وجميع المفسرين . قال النحاس : وهذا خطأ ، لأن إذا اسم وهي ظرف زمان ليس مما تزاد . وقال الزجاج : هذا اجتزام من أبي عبيدة ، ذكر الله عز وجل خلق الناس وغيرهم ، فالتقدير وابتداء خلقكم إذ قال ، فكان هذا من المحذوف الذي دل عليه الكلام ، كما قال :
فإن المنية من يخشها فسوف تصادفه أينما
يريد أينما ذهب . ويحتمل ان تكون متعلقة بفعل مقدر تقديره واذكر إذ قال . وقيل : هو مردود إلى قوله تعالى : "اعبدوا ربكم الذي خلقكم" فالمعنى الذي خلقكم إذ قال ربك للملائكة . وقول الله تعالى وخطابه للملائكة متقرر قديم في الأزل بشرط وجودهم وفهمهم . وهكذا الباب كله في أوامر الله تعالى ونواهيه ومخاطباته . وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري ، وهو الذي ارتضاه أبو المعالي . وقج أتينا عليه في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفات الله العلي .
والرب : المالك والسيد والمصلح والجابر ، وقد تقدم بيانه .
الثانية : قوله تعالى : "للملائكة" الملائكة واحدها ملك . قال ابن كيسان وغيره : وزن ملك فعل من الملك . وقال أبو عبيدة ، وهو مفعل من لأك إذا أرسل . والألوكة والمأكلة والمألكة : الرسالة ، قال لبيد :
وغلام أرسلته أمه بألوك فبذلنا ما سأل
وقال آخر :
أبلغ النعمان عني مألكا إنني قد طال حبسي وانتظاري
ويقال : ألكني أي أرسلني ، فأصله على هذا مألك ، الهمزة فاء الفعل فإنهم قلبوها إلى عينه فقالوا : ملأك ، ثم سهلوه فقالوا ملك . وقيل أصله ملأك من ملك يملك ، نحو شمال من شمل ، فالهمزة زائدة عن ابن كيسان ايضاً ، وقد تأتي في الشعر على الأصل ، قال الشاعر :
فلست لإنسي ولكن لملأك تنزل من جو السماء يصوب
وقال النضر بن شميل : لا اشتقاق للملك عند العرب . والهاء في الملائكة تأكيد لتأنيث الجمع ، ومثله الصلادمة . والصلادم : الخيل الشداد ، واحدها ثلدم . وقيل : هي للمبالغة ، كعلامة ونسابة . وقال أرباب المعاني : خاطب الله الملائكة لا للمشورة ولكن لاستخراج ما فيهم من رؤية الحركات والعبادة والتسبيح والتقديس ، ثم ردهم إلى قيمتهم ، فقال عز وجل : "اسجدوا لآدم" .
الثالثة : قوله تعالى : "إني جاعل في الأرض خليفة" جاعل هنا بمعنى خالق ، ذكره الطبري عن أبي روق ، ويقضي بذلك تعديها إلى مفعول واحد ، وقد تقدم . والأرض قيل : إنها مكة . روى ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"دحيت الأرض من مكة" ولذلك سميت أم القرى ، قال : وقبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام ، و خليفة يكون بمعنى فاعل ، أي يخلف من كان قبله من الملائكة في الأرض ، أو من كان قبله من غير الملائكة على ما روي . ويجوز أن يكون خليفة بمعنى مفعول أي مخلف ، كما يقال ذبيحة بمعنى مفعولة . والخلف ( بالتحريك ) من الصالحين ، وبتسكينها من الطالحين ، وهذا هو المعروف ، وسيأتي له مزيد بيان في الأعراف إن شاء الله . و خليفة بالفاء قراءة الجماعة ، إلا ما روي عن زيد بن علي فإنه قرأ خليفة :بالقاف . والمعنى بالخليفة هنا ـ في قول ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل ـ آدم عليه السلام ، وهو خليفة الله في إمضاء أحكامه وأوامره ، لأنه أول رسول إلى الأرض ، كما في " حديث أبي ذر ، قال : قلت : يا رسول الله أنبيا كان مرسلاً ؟ قال : نعم" الحديث . ويقال : لمن كان رسولا ولم يكن في الأرض أحد ؟ فيقال : كان رسولاً إلى ولده ، وكانوا أربعين ولداً في عشرين بطناً في كل بطن ذكر وأنثى ، وتوالدوا حتى كثروا ، كما قال الله تعالى : "خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء" . وأنزل عليهم تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير . وعاش تسعمائة وثلاثين سنة ، هكذا ذكر أهل التوارة . وروي عن وهب بن منبة أنه عاش ألف سنة ، والله أعلم .
الرابعة : هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع ، لتجتمع به الكلمة ، وتنفذ به أحكام الخليفة . ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم حيث كان عن الشريعة اصم ، وكذلك كل من قال بقوله واتبعه على رأيه ومذهبه ، قال : إنها غير واجبة في الدين بل يسوغ ذلك ، وأن الأمة متى أقاموا حجهم وجهادهم ، وتناصفوا فيما بينهم ، وبذلوا الحق من أنفسهم ، وقسموا الغنائم والفيء والصدقات على أهلها ، وأقاموا الحدود على من وجبت عليه ، أجزأهم ذلك ، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماماً يتولى ذلك . ودليلنا قول الله تعالى : "إني جاعل في الأرض خليفة" ، وقوله تعالى : "يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض" ، وقال : "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض" أي يجعل منهم خلفاء ، إلى غير ذلك من الآي .
وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة فقي التعيين ، حتى قالت الأنصار .
منا أمير ومنك أمير ، فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك ، وقالوا لهم : أن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش ، ورووا لهم الخبر في ذلك ، فرجعوا وأطاعوا لقريش . فلو كان فرض الإمامة غير واجب لا في قريش ولا في غيرهم لما ساغت هذه المناظرة والمحاورة عليها ، ولقال قائل : إنها ليست بواجبة لا في قريش ولا في غيرهم ، فما لتنازعكم وجه ولا فائدة في أمر ليس بواجب . ثم إن الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة ، ولم يقل له أحد هذا أمر غير واجب علينا ولا عليك ، فدل على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين ، والحمد لله رب العالمين .
وقالت الرافضة : يجب نصبه عقلاً ، وإن السمع إنما ورد على جهة التأكيد لقضية العقل ، فأما معرفة الإمام فإن ذلك مدرك من جهة السمع دون العقل . وهذا فاسد ، لأن العقل لا يوجب ولا يحظر ولا يقبح ولا يحسن ، وإذا كان كذلك ثبت أنها واجبة من جهة الشرع لا من جهة العقل ، وهذا واضح .
فإن قيل وهي :
الخامسة : إذا سلم ان طريق وجوب الإمامة السمع ، فخبرونا هل يجب من جهة السمع بالنص على الإمام من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم ، أم من جهة اختيار أهل الحل والعقد له ، أم بكمال خصال الأئمة فيه ، ودعاؤه مع ذلك إلى نفسه كاف فيه .
فالجواب ان يقال : اختلف الناس في هذا الباب ، فذهبت الإمامية وغيرها إلى أن الطريق الذي يعرف له الإمام هو النص من الرسول عليه السلام ولا مدخل للاختيار فيه . وعندنا : النظر طريق إلى معرفة الإمام ، وإجماع أهل الاجتهاد طريق أيضاً إليه ، وهؤلاء الذين قالوا لا طريق إليه إلا النص بنوه على أصلهم أن القياس والرأي والاجتهاد باطل لا يعرف به شيء أصلاً ، وابطلوا القياس أصلاً وفرعاً . ثم اختلفوا على ثلاث فرق : فرقة تدعي النص على ابي بكر ، وفرقة تدعي النص على العباس ، وفرقة تدعي النص على علي بن أبي طالب رضي الله عنهم . والدليل على فقد النص وعدمه على إمام بعينه هو أنه صلى الله عليه وسلم لو فرض على الأمة طاعة إمام بعينه بحيث لا يجوز العدول عنه إلى غيره لعلم ذلك ، لاستحالة تكليف الأمة بأسرها طاعة الله في غير معين ، ولا سبيل لهم إلى العلم بذلك التكليف ، وإذا وجب العلم به لم يخل ذلك العلم من أن يكون طريقه أدلة العقول أو الخبر ، وليس في العقل ما يدل على ثبوت الإمامة لشخص معين ، وكذلك ليس في الخبر ما يوجب العلم بثبوت إمام معين ، لأن ذلك الخبر إما أن يكون تواتر أوجب العلم ضرورة أو استدلالا ، أو يكون من أخبار الآحاد ، ولا يجوز أن يكون طريقه التواتر الموجب للعلم ضرورة أو دلالة ، إذ لو كان كذلك لكان كل مكلف يجد من نفسه العلم بوجوب الطاعة لذلك المعين وأن ذلك من دين الله عليه ، كما ان كل مكلف علم أن من دين الله الواجب عليه خمس صلوات ، وصوم رمضان ، وحج البيت ونحوها ، ولا أحد يعلم ذلك من نفسه ضرورة ، فبطلت هذه الدعوى ، وبطل أن يكون معلوماً بأخبار الآحاد لاستحالة وقوع العلم به . وأيضاً فإنه لو وجب المصير إلى نقل النص على الإمام بأي وجه كان ، وجب إثابت إمامة أبي بكر والعباس ، لأن لكل واحد منهما قوماً ينقلون النص صريحاً في إمامته ، وإذا بطل إثبات الثلاثة بالنص في وقت واحد ـ على ما يأتي بيانه ـ كذلك الواحد ، إذ ليس أحد الفرق أولى بالنص من الآخر . وإذا بطل ثبوت النص لعدم الطريق الموصل إليه ثبت الاختيار والاجتهاد . فإن تعسف معتسف وادعى التواتر والعلم الضروري بالنص فينبغي أن يقابلوا على الفور بنقيض دعواهم في النص على أبي بكر وبأخبار في ذلك كثيرة تقوم أيضاً في جملتها مقام النص ، ثم لا شك في تصميم من عدا الإمامية على نفي النص ، وهم الخلق الكثير والجم الغفير . والعلم الضروري لا يجتمع على نفيه من ينحط عن معشار أعداد مخالفي الإمامية ، ولو جاز رد الضروري في ذلك لجاز أن ينكر طائفة بغداد والصين الأقصى وغيرهما .
السادسة : في رد الأحاديث التي احتج بها الإمامية في النص على علي رضي الله عنه ، وأن الأمة كفرت بهذا النص وارتدت ، وخاتلفت أمر الرسول عناداً ، منها قوله عليه السلام :
"من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه" . قالوا : والمولى في اللغة بمعنى أولى ، فلما قال " فعلي مولاه" بفاء التعقيب علم أن المراد بقوله مولى أنه أحق وأولى . فوجب أن يكون أراد بذلك الإمامة وأنه مفترض الطاعة ، وقوله عليه السلام لعلي :
"أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه نبي بعدي" . قالوا : ومنزلة هارون معروفة ، وهو أنه كانت مشاركاً في النبوة ولم يكن ذلك لعلي ، وكان أخاً له ولم يكن ذلك لعلي ، وكان خليفة ، فعلم أن المراد به الخلافة ، إلى غير ذلك مما احتجوا به عل ما يأتي ذكره في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى .
والجواب عن الحديث الأول : انه ليس بمتواتر ، وقد اختلف في صحته ، وقد طعن فيه أبو داود السجستاني و أبو حاتم الرازي ، واستدلا على بطلانه بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"مزينة وجهينة وغفار وأسلم موالي دون الناس كلهم ليس لهم مولى دون الله ورسوله " . قالوا : فلو كان قد قال : " من كنت مولاه فعلي مولاه " لكان أحد الخبرين كذباً .
جواب ثان : وهو أن الخبر وإن كان صحيحاً رواه ثقة فليس فيه ما يدل على إمامته ، وإنما على فضيلته ، وذلك أن المولى بمعنى الولي ، فيكون معنى الخبر: من كنت وليه فعلي وليه ، قال الله تعالى : "فإن الله هو مولاه" أي وليه . وكان المقصود من الخبر أن يعلم الناس أن ظاهر علي كباطنه ، وذلك فضيلة عظيمة لعلي .
جواب ثالث : وهو أن هذا الخبر ورد على سبب ، وذلك أن أسامة وعليا اختصما ، فقال علي لأسامة :
انت مولاي . فقال : لست مولاك ، بل أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : "من كنت مولاه فعلي مولاه" .
جواب رابع : وهو أن عليا عليه السلام لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك في عائشة رضي الله عنها : النساء سواها كثير . شق ذلك عليها ، فوجد أهل النفاق مجالاً فطعنوا عليه وأظهروا البراءة منه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا المقال رداً لقولهم ، وتكذيباً لهم فيما قدموا عليه من البراءة منه والطعن فيه ، ولهذا ما روي عن جماعة من الصحابة أنهم قالوا : ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ببغضهم لعلي عليه السلام . وأما الحديث الثاني فلا خلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد بمنزلة هارون من موسى بالخلافة بعده ، ولا خلاف أن هارون مات قبل موسى عليهما السلام ـ على ما يأتي من بيان وفاتيهما في سورة المائدة ـ وما كان خليفةً بعده وإنما كان الخليفة يوشع بن نون ، فلو أراد بقوله : " أنت مني بمنزلة هارون وموسى" الخلاف لقال : أنت مني بمنزلة يوشع من موسى ، فلما لم يقل هذا دل على أنه لم يرد هذا ، وإنما اراد أني استخلفتك على أهلي في حياتي وغيبوبتي عن أهلي ، كما كان هارون خليفة موسى على قومه لما خرج إلى مناجاة ربه . وقد قيل : إن هذا الحديث خرج على سبب ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة تبوك استخلف علياً عليه السلام في المدينة على أهله وقومه ، فأرجف به أهل النفاق وقالوا : إنما خلفه بغضاً وقلى له ، فخرج علي فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم وقال له : إن المنافقين قالوا كذا وكذا ! فقال :
"كذبوا بل خلفتك كما خلف موسى وهارون" . وقال : "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون وموسى" . وإذا ثبت أنه أراد الاستخلاف على زعمهم فقد شارك علياً في هذه الفضيلة غيره ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف في كل غزاة رجلاً من أصحابه ، منهم : ابن أم مكتوم ، ومحمد بن مسلمة وغيرهما من أصحابه وغيرهما من أصحابه ، على أن مدار هذا الخبر على سعد بن أبي وقاص وهو خبر واحد . وروى في مقابلته لأبي بكر وعمر ما هو أولى منه . و" روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنفذ معاذ بن جبل إلى اليمن قيل له : ألا تنفذ ابا بكر وعمر ؟ فقال : إنهما لا غنى بي عنهما إن منزلتهما مني بمنزلة السمع والبصر من الرأس " . وقال : " هما وزيراي في أهل الأرض" . و" روي عنه عليه السلام أنه قال : أبو بكر وعمر مني بمنزلة هارون من موسى" . وهذا الخبر ورد ابتداء ، وخبر علي ورد سبب ، فوجب أن يكون أبو بكر أولى منه الإمامة ، والله أعلم .
السابعة : واختلف فيما يكون به الإمام إماماً وذلك ثلاث طرق ، أحدها : النص ، وقد تقدم الخلاف فيه ، وقال فيه أيضاً الحنابلة وجماعة من أصحاب الحديث و الحسن البصري وبكر ابن أخت عبد الواحد وأصحابه وطائفة من الخوارج . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أبي بكر بالإشارة ، وابو بكر على عمر . فإذا نص المستخلف على واحد معين كما فعل الصديق ، أو على جماعة كما فعل عمر ، وهو الطريق الثاني ، ويكون التخيير إليهم في تعيين واحد منهم كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في تعيين عثمان بن عفان رضي الله عنه . الطريق الثالث : إجماع أهل الحل والعقد ، وذلك أن الجماعة في مصر من أمصار المسلمين إذا مات إمامهم ولم يكن لهم إمام ولا استخلف فأقام أهل ذلك المصر الذي هو حضرة الإمام وموضعه إماماً لأنفسهم اجتمعوا عليه ورضوه فإن كل من خلفهم وأمامهم من المسلمين في الآفاق يلزمهم الدخول في طاعة ذلك الإمام ، إذا لم يكن الإمام معلناً بالفسق والفساد ، لأنها دعوة محيطة بهم تجب إجابتها ولا يسع أحد التخلف عنها لما في إقامة إمامين من اختلاف الكلمة وفساد ذا البين ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن إخلاص العمل لله ولزوم الجماعة ومناصحة ولاة الأمر فإن دعوة المسلمين من ورائهم محيطة" .
الثامنة : فإن عقدها واحد من أهل الحل والعقد فذلك ثابت ويلزم الغير فعله ، خلافاً لبعض الناس حيث قال : لا تنعقد إلا بجماعة من أهل الحل والعقد ، ودليلنا أن عمر رضي الله عنه عقد البيعة لأبي بكر ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك ، ولأنه عقد فوجب ألا يفتقر إلى عدد يعقدونه كسائر العقود . قال الإمام أبو المعالي : من انعقدت له الإمامة بعقد واحد فقد لزمت ، ولا يجوز خلعه من غير حدث وتغير أمر ، قال : وهذا مجمع عليه .
التاسعة : فإن تغلب من له أهلية الإمامة وأخذها بالقهر والغلبة فقد قيل إن ذلك يكون طريقاً رابعاً ، وقد سئل سهل بن عبد الله التستري : ما يجب علينا لمن غلب على بلادنا وهو إمام ؟ قال : تجيبه وتؤدي إليه ما يطالبك من حقه ، ولا تنكر فعلاه ولا تفر منه ، وإذا ائتمنك على سر من أمر الدين لم تفشه . وقال ابن خويز منداد : ولو وثب على الأمر من يصلح له من غير مشورة ولا اختيار وبايع له الناس تمت له البيعة ، والله أعلم .
العاشرة : واختلف في الشهادة على عقد الإمامة ، فقال بعض أصحابنا : إنه لا يفتقر إلى الشهود ، لأن الشهادة لا تثتب إلا بسمع قاطع ، وليس ها هنا سمع قاطع يدل على إثبات الشهادة . ومنهم من قال : يفتقر إلى شهود فمن قال بهذا احتج بأن قال : لو لم تعقد فيه الشهادة أدى إلى أن يدعي كل مدع أنه عقد له سراً ، ويؤدي إلى الهرج والفتنة ، فوجب أن تكون الشهادة معتبرة ويكفي فيها شاهدان ، خلافاً للجبائي حيث قال باعتبار أربعة شهود وعاقد ومعقود له ، لأن عمر حيث جعلها شورى في ستة دل على ذلك . ودليلنا أنه لا خلاف بيننا وبينه أن شهادة الاثنين معتبرة ، وما زاد مختلف فيه ولم يدل عليه الديل فيجب ألا يعتبر .
الحادية عشرة : في شرائط الإمام ، وهي أحد عشر :
الأول : أن يكون من صميم قريش ، لقوله صلى الله عليه وسلم :
"الأئمة من قريش" . وقد اختلف في هذا .
الثاني : أن يكون ممن يصلح أن يكون قاضياً من قضاة المسلمين مجتهداً لا يحتاج إلى غيره في الاستفتاء في الحوادث ، وهذا متفق عليه .
الثالث : أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف بأمر الحرب وتدبير الجيوش وسد الثغور وحماية البيضة وردع الأمة والانتقام من الظالم والأخذ للمظلوم .
الرابع : أن يكون ممن لا تلحقه رقة في إقامة الحدود ولا فزع من ضرب الرقاب ولا قطع الأبشار . والدليل على هذا كله إجماع الصحابة رضي الله عنهم ، لأنه لا خلاف بينهم أنه لا بد أن يكون ذلك كله مجتمعاً فيه ، ولأنه هو الذي يولي القضاة والحكام ، وله أن يباشر الفصل والحكم ، ويتفحص أمور خلفائه وقضاته ، ولن يصلح لذلك كله إلا من كان عالماً كله قيماً به . والله أعلم .
الخامس : أن يكون حراً ، ولا خفاء باشتراطه حرية الإمام وإسلامه وهو السادس .
السابع : أن يكون ذكراً ، سليم الأعضاء وهو الثامن . واجمعوا على أن المرأة لا يجوز أن تكون إماماً وإن اختلفوا في جواز كونها قاضية فيما تجوز شهادتها فيه .
التاسع والعاشر : أن يكون غالباً عاقلاً ، ولا خلاف في ذلك .
الحادي عشر : أن يكون عدلاً ، لأنه لا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز أن تعقد الإمامة لفاسق ، ويجب أن يكون من أفضلهم في العلم ، لقوله عليه السلام :
"أئمتكم شفعاؤكم فانظروا بمن تستشفعون" . وفي التنزيل في وصف طالوت : "إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم" فبدأ بالعلم ثم ذكر ما يدل على القوة وسلامة الأعضاء . وقوله : اصطفاه معناه اختاره ، وهذا يدل على شرط النسب . وليس من شرطه أن يكون معصوماً من الزلل والخطأ ، ولا عالماً بالغيب ، ولا أفرس الأمة ولا أشجعهم ، ولا أن يكون من بني هاشم فقط دون غيرهم من قريش ، فإن الإجماع قد انعقد على إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وليسوا من بني هاشم .
الثانية عشرة : يجوز نصب المفضول مع وجود الفاضل خوف الفتنة وألا يستقيم أمر الأمة ، وذلك أن الإمام إنما نصب لدفع العدو وحماية البيضة وسد الخلل واستخراج الحقوق وإقامة الحدود وجباية الأموال لبيت المال وقسمتها على أهلها . فإذا خيف بإقامة الأفضل الهرج والفساد وتعطيل الأمور التي لأجلها ينصب الإمام كان ذلك عذراً ظاهراً في العدول عن الفاضل إلى المفضول ، ويدل على ذلك أيضاً علم عمر وسائر الأمة وقت الشورى بأن الستة فيهم فاضل ومفضول ، وقد أجاز العقد لكل واحد منهم إذا أدت المصلحة إلى ذلك واجتمعت كلمتهم عليه من غير إنكار أحد عليهم ، والله أعلم .
الثالثة عشرة : الإمام إذا نصب ثم فسق بعد انبرام العقد فقال الجمهور : إنه تنفسخ امامته ويخلع بالفسق الظاهر المعلوم ، لأنه قد ثبت إن الإمام إنما يقام لإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وحفظ اموال المعلوم الأيتام والمجانين والنظر في امورهم إلى غير ذلك مما تقدم ذكره ، وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بهذه الأمور والنهوض بها . فلو جوزنا أن يكون فاسقاً أدى إلى أبطال ما أقيم لأجله ألا ترى في الابتداء إنما لم يجز أن يعقد للفاسق لجل أنه يؤدي إلى إبطال ما اقيم له وكذلك هذا مثله . وقال آخرون : لا ينخلع إلا بالكفر أو بترك إقامة الصلاة أو الترك إلى دعائها أو شيء من الشريعة ، لقوله عليه السلام في حديث عبادة :
"وألا ننازع الأمر أهله قال : إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان" وفي حديث عوف بن مالك :
"لا ما أقاموا فيكم الصلاة" الحديث . أخرجهما مسلم . عن أم سلمة عن النبي صلى اله عليه وسلم قال :
"إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برىء ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع ـ قالوا : يا رسول الله ألا نقاتلهم ؟ قال : ـ لا ما صلوا" أي من كره بقلبه وأنكر بقلبه . أخرجه أيضاً مسلم .
الرابعة عشرة : ويجب عليه أن يخلع نفسه إذا وجد في نفسه نقصاً يؤثر في الإمامة . فأما إذا لم يجد نقصاً فهل له أن يعزل نفسه ويعقد لغيره ؟ اختلف الناس فيه ، فمنهم من قال : ليس له أن يفعل ذلك وإن فعل لم تنخلع إمامته . ومنهم من قال : له أن يفعل ذلك . والدليل على أن الإمام إذا عزل نفسه انعزل قول ابي بكر الصديق رضي الله عه : اقيلوني أقيلوني . وقول الصحابة : لا نقيلك ولا نستقيلك ، قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فمن ذا يؤخرك ! رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فلا نرضاك ! فلو لم يكن له أن يفعل ذلك لأنكرت الصحابة ذلك عليه ولقالت له : ليس لك أن تقول هذا ، وليس لك أن تفعله . فلما أقرته الصحابة على ذلك علم أن للإمام أن يفعل ذلك ، ولأن الإمام ناظر للغير فيجب أن يكون حكمه حكم الحاكم ، والوكيل إذا عزل نفسه . فإن الإمام هو وكيل الأمة ونائب عنها ، ولما اتفق على أن الوكيل والحاكم وجميع من ناب عن غيره في شيء له أن يعزل نفسه ، كذلك الإمام يجب أن يكون مثله . والله أعلم .
الخامسة عشرة : إذا نعقدت الإمامة باتفاق أهل الحل والعقد أو بواحد على ما تقدم وجب على الناس كافة مبايعته على السمع والطاعة ، وإقامة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . ومن تأبى عن البيعة لعذر عذر ، ومن تأبى لغير عذر جبر وقهر ، لئلا تفترق كلمة المسلمين . وإذا بويع لخليفتين فالخليفة الأول وقتل الآخر ، واختلف في تقله هل هو محسوس أو معنى فيكون عزله قتله وموته . والأول أظهر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما" . رواه أبو سعيد الخدري أخرجه مسلم . وفي حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه يقول :
"ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر" . رواه مسلم أيضاً ، ومن حديث عرفجة :
"فاضربوه بالسيف كائناً من كان" . وهذا أدل دليل على منع إقامة امامين ، ولأن ذلك يؤدي إلى النفاق والمخالفة والشقاق وحدوث الفتن وزوال النعم ، لكن إن تباعدت الأقطار وتباينت كالأندلس وخراسان جاز ذلك ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى .
السادسة عشرة : لو خرج خارجي على إمام معروف العدالة وجب على الناس جهاده ، فإن كان الإمام فاسقاً والخارجي مظهر للعدل لم ينبغ للناس أن يسرعوا إلى نصرة الخارجي حتى يتبين أمره فيما يظهر من العدل ، أو تتفق كلمة الجماعة على خلع الأول ، وذلك أن كل من طلب مثل هذا الأمر أظهر من نفسه الصلاح حتى إذا تمكن رجع إلى عادته من خلاف ما أظهر .
السابعة عشرة : فأما إقامة إمامين أو ثلاثة في عصر واحد وبلد واحد فلا يجوز إجماعاً لما ذكرنا . قال الإمام ابو المعالي : ذهب أصحابنا إلى منع عقد الإمامة لشخصين في طرفي العالم ، ثم قالوا : لو أنفق عقد الإمامة لشخصين نزل ذلك منزلة تزويج وليين امرأة واحدة من زوجين من غير أن يشعر أحدهما بعقد الآخر . قال : والذي عندي فيه أن عقد الإمامة لشخصين في صقع واحد متضايق الخطط والمخاليف غير جائز وقد حصل الإجماع عليه . فأما إذا بعد المدى وتخلل بين الإمامين شسوع النوى فللاحتمال في ذلك مجال وهو خارج عن القواطع . وكان الأستاذ أبو إسحاق يجوز ذلك في إقليمين متباعدين غاية التباعد لئلا تتعطل حقوق الناس وأحكامهم . وذهبت الكرامية إلى جواز نصب إمامين من غير تفصيل ، ويلزمهم إجازة ذلك في بلد واحد ، وصاروا إلى أن عليا ومعاوية كانا إمامين . قالوا : وإذا كان اثنين في بلدين أو ناحيتين كان كل واحد منهما أقوم بما في يديه واضبط لما يليه ، ولأنه لما جاز بعثة نبيين في عذر واحد ولم يؤد ذلك إلى إبطال النبوة كانت الإمامة أولى ، ولا يؤدي ذلك إلى إبطال الإمامة . والجواب أن ذلك جائز لولا منع الشرع منه ، لقوله :
فاقتلوا الآخر منهما ولأن الأمة عليه . وأما معاوية فلم يدع الإمامة لنفسه وإنما ادعى ولاية الشام بتولية من قبله من الأئمة . ومما يدل على هذا إجماع الأمة في عصرهما على أن الإمام أحدهما ، ولا قال أحدهما إني إمام ومخالفي إمام . فإن قالوا : العقل لا يحيل ذلك وليس في السمع ما يمنع منه . قلنا : أقوى السمع الإجماع ، وقد وجد على المنع .
قوله تعالى : "قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها" قد علمنا قطعاً أن الملائكة لا تعلم إلا ما أعلمت ولا تسبق القول ، وذلك عام في جميع الملائكة ، لأن قوله : "لا يسبقونه بالقول" خرج على جهة المدح لهم ، فكيف قالوا : "أتجعل فيها من يفسد فيها" ؟ فقيل : المعنى أنهم لما سمعوا لفظ خليفة فهموا أن في بني آدم من يفسد ، إذ الخليفة المقصود منه الإصلاح وترك الفساد ، لكن عمموا الحكم على الجميع بالمعصية ، فبين الرب تعالى أن فيهم من يفسد ومن لا يفسد فقال تطييباً لقلوبهم : "إني أعلم" وحقق ذلك بأن علم آدم الأسماء ، وكشف لهم عن مكنون علمه . وقيل : إن الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء . وذلك لأن الأرض كان فيها الجن قبل خلق آدم فأفسدوا وسفكوا الدماء ، فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم وألحقهم بالبحار ورؤوس الجبال ، فمن حينئذ دخلته العزة . فجاء قولهم : "أتجعل فيها" على جهة الاستفهام المحض : هل هذا الخليفة على طريقة من تقدم من الجن أم لا ؟ قاله أحمد بن يحيى ثعلب . وقال ابن زيد وغيره : إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ، فقالوا لذلك هذه المقالة ، إما على طريق التعجب من استخلاف الله من يعصيه أو من عصيان الله من يستخلفه في أرضه وينعم عليه بذلك ، وإما على طريق الاستعظام والإكبار للفصلين جميعاً : الاستخلاف والعصيان . وقال قتادة : كان الله أعلمهم أنه إذا جعل في الأرض خلقاً أفسدوا وسفكوا الدماء ، فسألوا حين قال تعالى : "إني جاعل في الأرض خليفة" أهو الذي اعلمهم أم غيره .
وهذا قول حسن ، رواه عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : "أتجعل فيها من يفسد فيها" قال : كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، فلذلك قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها . وفي الكلام حذف على مذهبه ، والمعنى إني جاعل قي الأرض خليفة يفعل كذا ويفعل كذا ، فقالوا : أتجعل فيها الذي أعلمتناه أم غيره ؟ والقول الأول أيضاً حسن جداً ، لأن فيه استخراج العلم واستنباطه من مقتضى الألفاظ وذلك لا يكون إلا من العلماء ، وما بين القولين حسن ، فتأمله . وقد قيل : إن سؤاله تعالى للملائكة بقوله :
كيف تركتم عبادي ـ على ما ثبت في صحيح مسلم وغيره ـ إنما هو على جهة التوبيخ لمن قال : أتجعل فيها ، وإظهار لما سبق في معلومه إذ قال لهم : "إني أعلم ما لا تعلمون" .
قوله : "من يفسد فيها" من في موضع نصب على المفعول بتجعل والمفعول الثاني يقوم مقامه فيها . يفسد على اللفظ ، ويجوز في غير القرآن يفسدون على المعنى . وفي التنزيل : "ومنهم من يستمع إليك" على اللفظ ، "ومنهم من يستمعون" على المعنى . "ويسفك" عطف عليه ، ويجوز فيه الوجهان . وروى أسيد عن الأعرج أنه قرأ ويسفك الدماء بالنصب ، يجعله جواب الاستفهام بالواو ، كما قال :
ألم أك جاركم وتكون بيني وبينكم المودة والإخاء
يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم، فقال تعالى: "وإذ قال ربك للملائكة" أي واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة واقصص على قومك ذلك، وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية وهو أبو عبيدة أنه زعم أن إذ ههنا زائدة وأن تقدير الكلام وقال ربك، ورده ابن جرير ، قال القرطبي وكذا رده جميع المفسرين حتى قال الزجاج هذا اجتراء من أبي عبيدة "إني جاعل في الأرض خليفة" أي قوماً يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل كما قال تعالى: "هو الذي جعلكم خلائف الأرض" قال: "ويجعلكم خلفاء الأرض" وقال: "ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون" وقال: "فخلف من بعدهم خلف" وقرئ في الشاذ: "إني جاعل في الأرض خليفة" حكاها الزمخشري وغيره، ونقل القرطبي عن زيد بن علي وليس المراد ههنا بالخليفة آدم عليه السلام فقط كما يقوله طائفة من المفسرين، وعزاه القرطبي إلى ابن عباس وابن مسعود وجميع أهل التأويل وفي ذلك نظر بل الخلاف في ذلك كثير حكاه الرازي في تفسيره وغيره والظاهر أنه لم يرد آدم عيناً إذ لو كان ذلك لما حسن قول الملائكة: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" فإنهم أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص أو بما فهموه من الطبيعة البشرية، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمإ مسنون أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم ويردعهم عن المحارم والمآثم، قاله القرطبي: أو أنهم قاسوهم على من سبق كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك، وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ولا على وجه الحسد لبني آدم كما قد يتوهمه بعض المفسرين، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول أي لا يسألونه شيئاً لم يأذن لهم فيه، وههنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقاً، قال قتادة: وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها، فقالوا: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" الاية، وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك يقولون: يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك أي نصلي لك كما سيأتي. أي ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهلا وقع الاقتصار علينا ؟ قال الله تعالى مجيباً لهم عن هذا السؤال: " إني أعلم ما لا تعلمون " أي إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها مالا تعلمون أنتم فإني جاعل فيهم الأنبياء وأرسل فيهم الرسل ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء والعاملون والخاشعون والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم، وقد ثبت في الصحيح أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده يسألهم وهو أعلم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون. وذلك لأنهم يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر ، فيمكث هؤلاء ويصعد أولئك بالأعمال كما قال عليه الصلاة والسلام: يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل فقولهم: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون من تفسير قوله لهم: "إني أعلم ما لا تعلمون"، وقيل معنى قوله تعالى جواباً لهم: "إني أعلم ما لا تعلمون" إني لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها، قيل إنه جواب "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" فقال: "إني أعلم ما لا تعلمون" أي من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به. وقيل بل تضمن قولهم: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" طلباً منهم أن يسكنوا الأرض بدل بني آدم، فقال الله تعالى لهم: "إني أعلم ما لا تعلمون" من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم. ذكرها الرازي مع غيرها من الأجوبة، والله أعلم.
ذكر أقوال المفسرين ببسط ما ذكرناه
قال ابن جرير: حدثني القاسم بن الحسن قال: حدثنا الحسين قال: حدثني الحجاج عن جرير بن حازم ومبارك عن الحسن وأبي بكر عن الحسن وقتادة قالوا: قال الله للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة، قال لهم إني فاعل وهذا معناه أنه أخبرهم بذلك، وقال السدي استشار الملائكة في خلق آدم، رواه ابن أبي حاتم قال: وروي عن قتادة نحوه وهذه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الإخبار ففيها تساهل، وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جرير أحسن والله أعلم "في الأرض". قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد حدثنا عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن سابط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دحيت الأرض من مكة وأول من طاف بالبيت الملائكة. فقال الله: "إني جاعل في الأرض خليفة" يعني مكة وهذا مرسل، وفي سنده ضعف وفيه مدرج وهو أن المراد بالأرض مكة، والله أعلم، فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك "خليفة" قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة أن الله تعالى قال للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة. قالوا: ربنا وما يكون ذاك الخليفة ؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً. قال ابن جرير: فكان تأويل الاية على هذا إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بالعدل بين خلقي وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه، وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه: قال ابن جرير وإنما معنى الخلافة التي ذكرها الله، إنما هي خلافة قرن منهم قرناً، قال: والخليفة الفعيلة من قولك خلف فلان فلاناً في هذا الأمر إذا قام مقامه فيه بعده كما قال تعالى: "ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون"، ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم خليفة لأنه خلف الذي كان قبله فقام بالأمر فكان منه خلفاً، قال: وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى: "إني جاعل في الأرض خليفة"، يقول ساكناً وعامراً يعمرها ويسكنها خلقاً ليس منكم. قال ابن جرير : وحدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال: إن أول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضاً، قال فبعث الله إليهم إبليس فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، ثم خلق فأسكنه إياها، فلذلك قال: "إني جاعل في الأرض خليفة". وقال سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن ابن سابط : "إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" قال: يعنون به بني آدم، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال الله للملائكة: إني أريد أن أخلق في الأرض خلقاً وأجعل فيها خليفة وليس لله عز وجل خلق إلا الملائكة والأرض وليس فيها خلق، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها. وقد تقدم ما رواه السدي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة: أن الله أعلم الملائكة بما تفعله ذرية آدم فقالت الملائكة ذلك، وتقدم آنفاً ما رواه الضحاك عن ابن عباس أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم، فقالت الملائكة ذلك فقاسوا هؤلاء بأولئك. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن بكر بن الأخنس عن مجاهد عن عبد الله بن عمر ، قال: كان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة، فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء فبعث الله جنداً من الملائكة فضربوهم حتى ألحقوا بجزائر البحور فقال الله للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: " إني جاعل في الأرض خليفة " إلى قوله " وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " قال خلق الله الملائكة يوم الأربعاء وخلق الجن يوم الخميس وخلق آدم يوم الجمعة، فكفر قوم من الجن فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ببغيهم، وكان الفساد في الأرض، فمن ثم قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها كما أفسدت الجن ويسفك الدماء كما سفكوا، قال ابن أبي حاتم وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا مبارك بن فضالة حدثنا الحسن قال: قال الله للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قال لهم إني فاعل فآمنوا بربهم فعلمهم علماً وطوى علماً علمه ولم يعلموه، فقالوا بالعلم الذي علمهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون. قال الحسن: إن الجن كانوا في الأرض يفسدون ويسفكون الدماء، ولكن جعل الله في قلوبهم أن ذلك سيكون، فقالوا بالقول الذي علمهم. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: "أتجعل فيها من يفسد فيها" كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، فذلك حين قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام الرازي حدثنا ابن المبارك عن معروف يعني ابن خربوذ المكي عمن سمع أبا جعفر محمد بن علي يقول السجل ملك، وكان هاروت وماروت من أعوانه، وكان له في كل يوم ثلاث لمحات في أم الكتاب، فنظر نظرة لم تكن له فأبصر فيها خلق آدم وما كان فيه من الأمور فأسر إلى هاروت وماروت وكانا في أعوانه قلما قال تعالى، "إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء". قال ذلك استطالة على الملائكة. وهذا أثر غريب وبتقدير صحته إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين الباقر فهو نقله عن أهل الكتاب، وفيه نكارة توجب رده، والله أعلم، ومقتضاه أن الذين قالوا ذلك إنما كانوا اثنين فقط ، وهو خلاف السياق وأغرب منه ما رواه ابن أبي حاتم أيضاً حيث قال: حدثنا أبي حدثنا هشام بن أبي عبيد الله حدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير قال: سمعت أبي يقول إن الملائكة الذين قالوا: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" كانوا عشرة آلاف فخرجت نار من عند الله فأحرقتهم، وهذا أيضاً إسرائيلي منكر كالذي قبله، والله أعلم. قال ابن جريج وإنما تكلموا بما أعلمهم الله أنه كائن من خلق آدم فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء وقال ابن جرير وقال بعضهم إنما قالت الملائكة ما قالت أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء لأن الله أذن لهم في السؤال عن ذلك بعد ما أخبرهم أن ذلك كائن من بني آدم، فسألته الملائكة فقالت على التعجب منها: وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم ؟ فأجابهم ربهم "إني أعلم ما لا تعلمون" يعني أن ذلك كائن منهم وإن لم تعلموه أنتم، ومن بعض ما ترونه لي طائعاً قال: وقال بعضهم ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموه من ذلك، فكأنهم قالوا يا رب خبرنا ـ مسألة استخبار منهم لا على وجه الإنكار ـ واختاره ابن جرير، وقال سعيد عن قتادة قوله تعالى: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" قال استشار الملائكة في خلق آدم، فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ـ وقد علمت الملائكة أنه لا شيء أكره عند الله من سفك الدماء والفساد في الأرض ـ ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون فكان في علم الله أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة، قال وذكر لنا عن ابن عباس أنه كان يقول: إن الله لما أخذ في خلق آدم عليه السلام قالت الملائكة ما الله خالق خلقاً أكرم عليه منا ولا أعلم منا فابتلوا بخلق آدم، وكل خلق مبتلى كما ابتليت السموات والأرض بالطاعة فقال الله تعالى: "ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين" وقوله تعالى: "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، قال: التسبيح التسبيح والتقديس الصلاة، وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال يقولون نصلي لك، وقال مجاهد ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال نعظمك ونكبرك، وقال الضحاك التقديس التطهير، وقال محمد بن إسحاق ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال: لا نعصي ولا نأتي شيئاً تكرهه. وقال ابن جرير التقديس هو التعظيم والتطهير. ومنه قولهم سبوح قدوس يعني بقولهم سبوح تنزيه له، وبقولهم قدوس طهارة وتعظيم له، وكذلك قيل للأرض أرض مقدسة يعني بذلك المطهرة، فمعنى قول الملائكة إذاً "ونحن نسبح بحمدك" ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك "ونقدس لك" ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل ؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده" وروى البيهقي عن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحاً في السموات العلا "سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى" "قال إني أعلم ما لا تعلمون" قال قتادة فكان في علم الله أنه سيكون في تلك الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة. وسيأتي عن ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من الصحابة والتابعين أقول في حكمة قوله تعالى: " قال إني أعلم ما لا تعلمون ".
وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الاية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ويقطع تنازعهم وينتصر لمظلوهم من ظالمهم ويقيم الحدود ويزجر عن تعاطي الفواحش إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا تمكن إقامتها إلا بالإمام وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي بكر ، أو بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بعمر بن الخطاب أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر، أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعته واحد منهم له فيجب التزامها عند الجمهور وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع. والله أعلم. أو بقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف. وقد نص عليه الشافعي وهل يجب الإشهاد على عقد الإمام ؟ فيه خلاف، فمنهم من قال لا يشترط وقيل بلى ويكفي شاهدان، وقال الجبائي يجب أربعة وعاقد ومعقود له، كما ترك عمر رضي الله عنه الأمر شورى بين ستة فوقع الأمر على عاقد وهو عبد الرحمن بن عوف، ومعقود له وهو عثمان، واستنبط وجوب الأربعة الشهود من الأربعة الباقين وفي هذا نظر، والله أعلم.
ويجب أن يكون ذكراً حراً بالغاً عاقلاً مسلماً عدلاً مجتهداً بصيراً خبيراً سليم الأعضاء بالحروب والاراء قرشياً على الصحيح ولا يشترط الهاشمي ولا المعصوم من الخطأ خلافاً للغلاة الروافض، ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا ؟ فيه خلاف، والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة السلام، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان وهل له أن يعزل نفسه فيه خلاف، وقد عزل الحسن بن علي رضي الله عنه نفسه وسلم الأمر إلى معاوية لكن هذا لعذر وقد مدح على ذلك، فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائناً من كان وهذا قول الجمهور ، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد منهم إمام الحرمين، وقالت الكرامية يجوز اثنان فأكثر كما كان علي ومعاوية إمامين واجبي الطاعة، قالوا وإذا جاز بعث نبيين في وقت واحد وأكثر جاز ذلك في الإمام لأن النبوة أعلى رتبة بلا خلاف، وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما، وتردد إمام الحرمين في ذلك، قلت وهذا يشبه حال الخلفاء بني العباس بالعراق والفاطميين بمصر والأمويين بالمغرب ولنقرر هذا كله في موضع آخر من كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى.
30- "إذ" من الظروف الموضوعة للتوقيت وهي للمستقبل، وإذا للماضي، وقد توضع إحداهما موضع الأخرى. وقال المبرد: هي مع المستقبل للمضي ومع الماضي للاستقبال. وقال أبو عبيدة: إنها هنا زائدة. وحكاه الزجاج وابن النحاس وقالا: هي ظرف زمان ليست مما يزاد، وهي هنا في موضع نصب بتقدير اذكر أو قالوا، وقيل: هو متعلق بخلق لكم، وليس بظاهر والملائكة جمع ملك بوزن فعل، قاله ابن كيسان، وقيل، كمع ملأك بوزن مفعل قاله أبو عبيدة، من لأك: إذا أرسل، والألوكة: الرسالة. قال لبيد:
وغلام أرسلته أمه بألوك فبذلنا ما سال
وقال عدي بن زيد:
أبلغ النعمان عني مألكا أنه قد طال حبسي وانتظار
ويقال ألكني: أي أرسلتي. وقال النضر بن شميل: لا اشتقاق لملك عند العرب، والهاء في الملائكة تأكيد لتأنيث الجمع، ومثله الصلادمة، والصلادم، الخيل الشداد واحداها صلدم- وقيل: هي للمبالغة كعلامة ونسابة و "جاعل" هنا من جعل المتعدي إلى مفعولين. وذكر المطرزي أنه بمعنى خالق، وذلك يقتضي أنه متعد إلى مفعول واحد، والأرض هنا: هي هذه الغبراء ،ولا يختص ذلك بمكان دون مكان- وقيل: إنها مكة. والخليفة هنا معناه الخالف لمن كان قبله من الملائكة، ويجوز أن يكون بمعنى المخلوف: أي يخلفه غيره، قيل: هو آدم، وقيل: كل من له خلافة في الأرض، ويقوي الأول قوله: خليفة دون خلائف، واستغني بآدم عن ذكر ما بعده قيل: خاطب الله الملائكة بهذا الخطاب لا للمشورة ولكن لاستخراج ما عندهم، وقيل: خاطبهم بذلك لأجل أن يصدر منهم ذلك السؤال فيجابون بذلك الجواب، وقيل: لأجل تعليم عباده مشروعية المشاورة لهم. وأما قولهم: "أتجعل فيها من يفسد فيها" فظاهره أنهم استنكروا استخلاف بني آدم في الأرض لكونهم [مظنة] للإفساد في الأرض، وإنما قالوا هذه المقالة قبل أن يتقدم لهم معرفة ببني آدم، بل قبل وجود آدم فضلاً عن ذريته، لعلم قد علموه من الله سبحانه بوجه من الوجوه لأنهم لا يعلمون الغيب، قال بهذا جماعة من المفسرين. وقال بعض المفسرين: إن في الكلام حذفاً، والتقدير: إني جاعل في الأرض خليفة يفعل كذا وكذا، فقالوا: "أتجعل فيها من يفسد فيها" وقوله: "يفسد" قائم مقام المفعول الثاني. والفساد: ضد الصلاح وسفك الدم: صبه، قاله ابن فارس والجوهري: ولا يستعمل السفك إلا في الدم، وواحد الدماء دم، وأصله دمي حذف لامه، وجملة "ونحن نسبح بحمدك" حالية. والتسبيح في كلام العرب. التنزيه والتعبيد من السوء على وجه التعظيم. قال الأعشى:
أقول لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر
و"بحمدك" في موضع الحال: أي حامدين لك، وقد تقدم معنى الحمد. والتقديس: التطهير، أي ونطهرك عما لا يليق بك مما نسبه إليك الملحدون وافتراه الجاحدون. وذكر في الكشاف أن معنى التسبيح والتقديس واحد وهو تعبيد الله من السوء، وأنهما من سبح في الأرض والماء وقدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد. وفي القاموس وغيره من كتب اللغة ما يرشد إلى ما ذكرناه والتأسيس خير من التأكيد خصوصاً في كلام الله سبحانه. ولما كان سؤالهم واقعاً على صفة تستلزم إثبات شيء من العلم لأنفسهم. أجاب الله سبحانه عليهم بقوله: "إني أعلم ما لا تعلمون" وفي هذا الإجمال ما يغني عن التفصيل، لأن من علم ما لا يعلم المخاطب له كان حقيقاً بأن يسلم له ما يصدر عنه، وعلى من لا يعلم أن يعترف لمن يعلم بأن أفعاله صادرة على ما يوجبه العلم وتقتضيه المصلحة الراجحة والحكمة البالغة. ولم يذكر متعلق قوله: "تعلمون" ليفيد التعميم، ويذهب السامع عند ذلك كل مذهب ويعترف بالعجز ويقر بالقصور. وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال: إن الله أخرج آدم من الجنة قبل أن يخلقه ثم قرأ "إني جاعل في الأرض خليفة" وأخرج الحاكم وصححه عنه أيضاً نحوه وزاد. وقد كان فيها قبل أن يخلق بألفي عام الجن بنو الجان، فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء، فلما أفسدوا في الأرض بعث الله عليهم جنوداً من الملائكة فضربوهم حتى ألحقوهم بجزائر البحور، فلما قال الله: "إني جاعل في الأرض خليفة قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" كما فعل أولئك الجان فقال الله: "إني أعلم ما لا تعلمون" وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمرو مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أطول منه. وأخرج ابن جرير وابن عساكر عن ابن مسعود وناس من الصحابة قال: لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش، فجعل إبليس على ملك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم: الجن، وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس مع ملكه خازناً فوقع في صدره كبر وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي فاطلع الله على ذلك منه فقال للملائكة: "إني جاعل في الأرض خليفة" قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً قالوا: ربنا "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟" "قال: إني أعلم ما لا تعلمون" وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في الآية قال: قد علمت الملائكة وعلم الله أنه لا شيء أكره عند الله من سفك الدماء والفساد في الأرض. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: إياكم والرأي، فإن الله رد الرأي على الملائكة وذلك أن الله قال: "إني جاعل في الأرض خليفة" قالت الملائكة: "أتجعل فيها من يفسد فيها" قال: "إني أعلم ما لا تعلمون". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي سابط أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دحيت الأرض من مكة وكانت الملائكة تطوف بالبيت" فهي أول من طاف به وهي الأرض التي قال الله: "إني جاعل في الأرض خليفة" قال ابن كثير: وهذا مرسل في سنده ضعف، وفيه مدرج، وهو أن المراد بالأرض مكة، والظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك انتهى. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: التسبيح والتقديس المذكور في الآية هو الصلاة. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول من لبى الملائكة، قال الله تعالى: "إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" قال: فرادوه فأعرض عنهم، فطافوا بالعرش ست سنين يقولون: لبيك لبيك اعتذاراً إليك، لبيك لبيك نستغفرك ونتوب إليك" وثبت في الصحيح من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحب الكلام إلى الله ما اصطفاه لملائكته سبحان ربي وبحمده". وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: "ونقدس لك" قال: نصلي لك. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: التقديس: التطهير: وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: "ونقدس لك" قال: نعظمك ونكبرك. وأخرجا عن أبي صالح قال: نعظمك ونمجدك. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: "أعلم ما لا تعلمون" قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في تفسيرها قال: كان في علم الله أنه سيكون من الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة. وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن حبان في صحيحه والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن آدم لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة: أي رب "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" الآية، قالوا: ربنا نحن أطوع لك من بني آدم، قال الله لملائكته: هلموا ملكين من الملائكة حتى يهبطا إلى الأرض فننظر كيف يعملان؟ فقالوا: ربنا هاروت وماروت، قال: فاهبطا إلى الأرض، فتمثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر وذكر القصة". وقد ثبت في كتب الحديث المعتبرة أحاديث من طريق جماعة من الصحابة في صفة خلقه سبحانه لآدم وهي موجودة فلا نطول بذكرها.
29.قوله تعالى: " وإذ قال ربك " أي وقال ربك وإذ زائدة وقيل معناه واذكر إذ قال ربك وكذلك كل ما ورد في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله وإذ وإذا حرفا توقيت إلا أن إذ للماضي وإذا للمستقبل وقد يوضع أحدهما موضع الآخر قال المبرد : إذا جاء (إذ) مع المستقبل كان معناه ماضياً كقوله تعالى " وإذ يمكر بك الذين " (30-الأنفال) يريد وإذ مكروا وإذا جاء (إذا ) مع الماضي كان معناه مستقبلاً كقوله: " فإذا جاءت الطامة " (34-النازعات) " إذا جاء نصر الله " (1-النصر) أي يجيء " للملائكة " جمع ملك وأصله مألك من المألكة والألوكة والوك، وهي: الرسالة فقلبت فقيل ملأك ثم حذفت الهمزة طلباً للخفة لكثرة استعماله ونقلت حركتها إلى اللام فقيل ملك. وأراد بهم الملائكة الذين كانوا في الأرض وذلك أن الله تعالى خلق السماء والأرض وخلق الملائكة والجن فأسكن الملائكة السماء وأسكن الجن الأرض فغبروا فعبدوا دهراً طويلاً في الأرض، ثم ظهر فيهم الحسد والبغي فأفسدوا وقتلوا فبعث الله إليهم جنداً من الملائكة يقال لهم: الجن، وهم خزان الجنان اشتق لهم من الجنة رأسهم إبليس وكان رئيسهم ومرشدهم وأكثرهم علماً فهبطوا إلى الأرض فطردوا الجن إلى شعوب الجبال (وبكون الأودية) وجزائر البحور وسكنوا الأرض وخفف الله عنهم العبادة فأعطى الله إبليس ملك الأرض، وملك السماء الدنيا وخزانة الجنة وكان يعبد الله تارة في الأرض وتارة في السماء وتارة في الجنة فدخله العجب فقال في نفسه: ما أعطاني الله هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه فقال الله تعالى / له ولجنده: " إني جاعل " خالق. " في الأرض خليفة " أي بدلاً منكم ورافعكم إلي، فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادة.
والمراد بالخليفة هاهنا آدم سماه لأنه خلف الجن أي جاء بعدهم وقيل لأنه يخلفه غيره والصحيح أنه خليفة الله في أرضه لإقامة أحكامه وتنفيذ وصاياه " قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها " بالمعاصي. " ويسفك الدماء " بغير حق أي كما فعل بنو الجان فقاسوا الشاهد على الغائب وإلا فهم ما كانوا يعلمون الغيب " ونحن نسبح بحمدك " قال الحسن: نقول سبحان الله وبحمده وهو صلاة الخلق (وصلاة البهائم وغيرهما) سوى الآدميين، وعليها يرزقون.أخبرنا اسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد أنا محمد بن عيسى أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أنا مسلم بن الحجاج أنا زهير بن حرب أنا حبان بن هلال أنا وهيب أنا سعيد الجريري عن أبي عبد الله الجسري عن عبادة بن الصامت عن أبي ذر أن رسول صلى الله عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل قال: " ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده " وقيل: ونحن نصلي بأمرك، قال ابن عباس: كل ما في القرآن من التسبيح فالمراد منه الصلاة " ونقدس لك " أي نثني عليك بالقدس والطهارة وقيل: ونطهر أنفسنا لطاعتك وقيل: وننزهك. واللام صلة وقيل: لم يكن هذا في الملائكة على طريق الاعتراض والعجب بالعمل بل على سبيل التعجب وطلب وجه الحكمة فيه " قال " الله " إني أعلم ما لا تعلمون " من المصلحة فيه، وقيل: إني أعلم أن في ذريته من يطيعني ويعبدني من الأنبياء والأولياء والعلماء وقيل: إني أعلم أن فيكم من يعصيني، وهو إبليس، وقيل إني أعلم أنهم يذنبون وأنا أغفر لهم. قرأ أهل الحجاز والبصرة إني أعلم بفتح الياء وكذلك كل ياء إضافة استقبلها ألف مفتوحة إلا في مواضع معدودة ويفتحون في بعض المواضع عند الألف المضمومة والمكسورة (وعند غير الألف) وبين القراء في تفصيله اختلاف.
30" وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " تعداد لنعمة ثالثة تعم الناس كلهم ، فإن خلق آدم وإكرامه وتفضيله على ملائكته بأن أمرهم بالسجود له ، إنعام يعم ذريته . وإذا : ظرف وضع لزمان نسبة ماضية وقع فيه أخرى ، كما وضع إذ الزمان نسبة مستقبلة يقع فيه أخرى ، ولذلك يجب إضافتهما إلى الجمل كحيث في المكان ، وبنيتا تشبيهاً لهما بالموصولات ، واستعملنا للتعليل والمجازاة ، ومحلهما النصب أبداً بالظرفية فإنهما من الظروف الغير المتصرفة لما ذكرناه ، وأما قوله تعالى : " واذكر أخاً عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف " ونحوه فعلى تأويل : اذكر الحادث إذا كان كذا ، فحذف الحادث وأقيم الظرف مقامه ، وعامله في الآية قالوا ، أو أذكر على التأويل المذكور لأنه جاء معمولاً له صريحاً في القرآن كثيراً ، أو مضمر دل عليه مضمون الآية المتقدمة ، مثل وبدأ خلقكم إذ قال ، وعلى هذا فالجملة معطوفة على خلق لكم داخلة في حكم الصلة . وعن معمر أنه مزيد . والملائكة جمع ملأك على الأصل كالشمائل جمع شمأل ، والتاء لتأنيث الجمع ، وهو مقلوب مألك من الألوكة وهي : الرسالة ، لأنهم وسائط بين الله تعالى ، وبين الناس ، فهم رسل الله . أو كالرسل إليهم . واختلف العقلاء في حقيقتهم بعد اتفاقهم على أنها ذوات موجودة قائمة بأنفسهم . فذهب أكثر المسلمين إلى أنها لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة ، مستدلين بأن الرسل كانوا يرونهم كذلك . وقالت طائفة من النصارى : هي النفوس الفاضلة البشرية المفارقة للأبدان . وزعم الحكماء أنهم جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة ، منقسمة إلى قسمين : قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق جل جلاله والتنزه عن الاشتغال بغيره ، كما وصفهم في محكم تنزيله فقال تعالى : " يسبحون الليل والنهار لا يفترون " وهم العليون والملائكة المقربون . وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء وجرى به القلم الإلهي " لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " وهم المدبرات أمراً ، فمنهم سماوية ، ومنهم أرضية ، على تفصيل أثبته في كتاب الطوالع .
والمقول لهم : الملائكة كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص ، وقيل ملائكة الأرض ، وقيل إبليس ومن كان معه في محاربة الجن ، فإنه تعالى أسكنهم في الأرض أولاً فأفسدوا فيها ، فبعث إليهم إبليس في جند الملائكة فدمرهم وفرقهم في الجزائر والجبال . وجاعل : من جعل الذي له مفعولان وهما في " الأرض خليفة " أعمل فيهما ، لأنه بمعنى المستقبل ومعتمد على مسند إليه . ويجوز أن يكون بمعنى خالق . والخليفة من يخلف غيره وينوب منابه ، والهاء فيه للمبالغة ، والمراد به آدم عليه الصلاة والسلام لأنه كان خليفة الله في أرضة ، وكذلك كل نبي استخلفهم الله في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم ، لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه ، بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه ، وتلقي أمره بغير وسط ، وذلك لم يستنبئ ملكاً كما قال الله تعالى : " ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً " ألا ترى أن الأنبياء لما فاقت قوتهم ، واشتعلت قريحتهم بحيث يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار ، أرسل إليهم الملائكة ومن كان منهم أعلى رتبة كلمة بلا واسطة ، كما كلم موسى عليه السلام في الميقات , ومحمدا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ، ونظير ذلك في الطبيعة أن العظم لما عجز عن قبول الغذاء من اللحم لما بينهما من التباعد ، جعل الباري تعالى بحكمته بينهما الغضروف المناسب لهما ليأخذ من هذا ويعطي ذلك . أو خليفة من سكن الأرض قبله ، أو هو وذريته لأنهم يخلفون من قبلهم ، أو يخلف بعضهم بعضاً . وإفراد اللفظ : إما للاستغناء بذكره عن ذكر بنيه كما استغني بذكر أبي القبيلة في قولهم : مضر وهاشم . أو على تأويل من يخلفكم ، أو خلفاً يخلفكم . وفائدة قوله تعالى هذا للملائكة ، تعليم المشاورة ، وتعظيم شأن المجعول ، بأن بشر عز وجل بوجود سكان ملكوته ، ولقبه بالخليفة قبل خلقه ، وإظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم ، وجوابه وبيان أن الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره ، فإن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير إلى غير ذلك .
" قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " تعجب من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها ، أو يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية ، واستكشاف عما خفي عليهم من الحكمة التي بهرت تلك المفاسد وألغتها ، واستخبار عما يرشدهم ويزيح شبهتهم كسؤال المتعلم معلمه عما يختلج في صدره ، وليس باعتراض على الله تعالى جلت قدرته ، ولا طعن في بني آدم على وجه الغيبة ، فإنهم أعلى من أن يظن بهم ذلك لقوله تعالى : " بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " وإنما عرفوا ذلك بإخبار من الله تعالى ، أو تلق من اللوح ، أو استنباط عما ركز في عقولهم أن العصمة من خواصهم ، أو قياس لأحد الثقلين على الآخر . السفك والسبك والسفح والشن أنواع من الصب ، فالسفك يقال في الدم والدمع ، والسبك في الجواهر المذابة ، والسفح في الصب من أعلى ، والشن في الصب من فم القربة ونحوها ، وكذلك السن ، وقرئ " يسفك " على البناء للمفعول ، فيكون الراجع إلى " من " ، سواء جعل موصولاً أو موصوفاً محذوفاً ، أي : يسفك الدماء فيهم .
" ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " حال مقررة لجهة الإشكال كقولك : أتحسن إلى أعدائك ، وأنا الصديق المحتاج القديم . والمعنى : أتستخلف عصاة ونحن معصومون أحقاء بذلك ، والمقصود منه ، الاستفسار ومع ما هو متوقع منهم ، على الملائكة المعصومين في الاستخلاف ، لا العجب والتفاخر . وكأنهم علموا أن المجعول خليفة ذو ثلاث قوى عليها مدار أمره : شهوية وغضبية تؤديان به إلى الفساد وسفك الدماء ، و عقلية تدعوه إلى المعرفة والطاعة . ونظروا إليها مفردة وقالوا : ما الحكمة في استخلافه ، وهو باعتبار تينك القوتين لا تقتضي إيجاده فضلاً عن استخلافه ، وأما باعتبار القوة العقلية فنحن نقيم ما يتوقع منها سليماً عن معارضة تلك المفاسد . وغفلوا عن فضيلة كل واحدة من القوتين إذا صارت مهذبة مطواعة للعقل ، متمرنة على الخير كالعفة والشجاعة ومجاهدة الهوى والإنصاف . ولم يعلموا أن التراكيب يفيد ما يقصر عنه الآحاد ، كالإحاطة بالجزئيات واستنباط الصناعات واستخراج منافع الكائنات من القوة إلى الفعل الذي هو المقصود من الاستخلاف ، وإليه أشار تعالى إجمالاً بقوله :
" قال إني أعلم ما لا تعلمون " والتسبيح تبعيد الله تعالى عن السوء وكذلك التقديس ، من سبح في الأرض والماء ، وقدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد ، ويقال قدس إذا طهر لأن مطهر الشئ مبعد له عن الأقذار .و " بحمدك " في موضع الحال ، أي : متلبسين بحمدك على ما ألهمتنا معرفتك ووفقتنا لتسبيحك ، تداركوا به ما أوهم إسناد التسبيح إلى أنفسهم ، ونقدس لك نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك ، كأنهم قابلوا الفساد المفسر بالشرك عند قوم بالتسبيح ، وسفك الدماء الذي هو أعظم الأفعال الذميمة بتطهير النفوس عن الآثام وقيل : نقدسك واللام مزيدة .
30. And when thy Lord said unto the angels: Lo! I am about to place a viceroy in the earth, they said: wilt Thou place therein one who will do harm therein and will shed blood, while we, we hymn Thy praise and sanctify Thee? He said: Surely I know that which ye know not.
30 - Behold, thy Lord said to the angels: I will create a vicegerent on earth. They said: With thou place therein one who will make Mischief therein and shed blood? whilst we do celebrate thy praises and glorify thy holy (name)? he said: I know what ye know not.