[البقرة : 282] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
(يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم) تعاملتم (بدين) كسلم وقرض (إلى أجل مسمى) معلوم (فاكتبوه) استيثاقا ودفعا للنزاع (وليكتب) كتاب الدين (بينكم كاتب بالعدل) بالحق في كتابته لا يزيد في المال والأجل ولا ينقص (ولا يأب) يمتنع (كاتب) من (أن يكتب) إذ دعي إليها (كما علمه الله) أي فضله بالكتابة فلا يبخل بها ، والكاف متعلقة بيأب (فليكتب) تأكيد (وليُملل) يمل الكاتب (الذي عليه الحق) الدين لأنه المشهود عليه فيقر ليعلم ما عليه (وليتق الله ربه) في إملائه (ولا يبخس) ينقص (منه) أي الحق (شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها) مبذراً (أو ضعيفا) عن الإملاء لصغر أو كبر (أو لا يستطيع أن يمل هو) لخرس أو جهل باللغة أو نحو ذلك (فليملل وليه) متولي أمره من والد ووصي وقيم ومترجم (بالعدل واستشهدوا) أشهدوا على الدين (شهيدين) شاهدين (من رجالكم) أي بالغي المسلمين الأحرار (فإن لم يكونا) أي الشهيدان (رجلين فرجل وامرأتان) يشهدون (ممن ترضون من الشهداء) لدينه وعدالته وتعدد النساء لأجل (أن تضل) تنسى (إحداهما) الشهادة لنقص عقلهن وضبطهن (فتذكِّر) بالتخفيف والتشديد (إحداهما) الذاكرة (الأخرى) الناسية ، وجملة الإذكار محل العلة أي لتذكر إن ضلت ودخلت على الضلال لأنه سببه وفي قراءة بكسر {إن} شرطية ورفع تذكر استئناف جوابه (ولا يأب الشهداء إذا ما) زائدة (دعوا) إلى تحمل الشهادة وأدائها (ولا تسأموا) تملوا من (أن تكتبوه) أي ما شهدتم عليه من الحق لكثرة وقوع ذلك (صغيرا) كان (أو كبيرا) قليلا أو كثيرا (إلى أجله) وقت حلوله حال من الهاء في تكتبوه (ذلكم) أي الكتب (أقسط) أعدل (عند الله وأقوم للشهادة) أي أعون على إقامتها لأنه يذكرها (وأدنى) أقرب إلى (أ) ن (لا ترتابوا) تشكوا في قدر الحق والأجل (إلا أن تكون) تقع (تجارةٌ حاضرةٌ) وفي قراءة بالنصب فتكون ناقصة واسمها ضمير التجارة (تديرونها بينكم) أي تقبضونها ولا أجل فيها (فليس عليكم جناح) في (أ) ن (لا تكتبوها) والمراد بها المتجر فيه (وأشهدوا إذا تبايعتم) عليه فإنه أدفع للاختلاف وهذا وما قبله أمر ندب (ولا يضار كاتب ولا شهيد) صاحب الحق ومن عليه بتحريف أو امتناع من الشهادة أو الكتابة ولا يضرهما صاحب الحق بتكليفهما ما لا يليق في الكتابة والشهادة (وإن تفعلوا) ما نهيتم عنه (فإنه فسوق) خروج عن الطاعة لا حق (بكم واتقوا الله) في أمره ونهيه (ويعلمكم الله) مصالح أموركم حال مقدرة أو مستأنف (والله بكل شيء عليم)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله: "إذا تداينتم"، يعني: إذا تبايعتم بدين، أو اشتريتم به، أو تعاطيتم أو أخذتم به، "إلى أجل مسمى"، يقول: إلى وقت معلوم وقتموه بينكم. وقد يدخل في ذلك القرض والسلم، وكل ما جاز [فيه] السلم مسمىً أجل بيعه، يصير ديناً على بائع ما أسلم إليه فيه. ويحتمل بيع الحاضر الجائز بيعه من الأملاك بالأثمان المؤجلة. كل ذلك من الديون المؤجلة إلى أجل مسمى، إذا كانت آجالها معلومةً بحد موقوف عليه.
وكان ابن عباس يقول نزلت هذه الآية في السلم خاصة.
ذكر الرواية عنه بذلك:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن عيسى الرملي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح قال، قال ابن عباس في: "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى"، قال: السلم في الحنطة، في كيل معلوم إلى أجل معلوم.
حدثني محمد بن عبد الله المخرمي قال، حدثنا يحيى بن الصامت قال، حدثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن أبي حيان، عن ابن أبي نجيح، عن ابن عباس: "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين"، قال: نزلت في السلم، في كيل معلوم إلى أجل معلوم.
حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء، عن سفيان، عن أبي حيان، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية: "إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه"، في السلم، في الحنطة، في كيل معلوم إلى أجل معلوم.
حدثنا ابن بشار قال حدثنا محمد بن محبب قال، حدثنا سفيان، عن أبي حيان التيمي، عن رجل، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى"، في السلف في الحنطة، في كيل معلوم إلى أجل معلوم.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن أبي حسان، عن ابن عباس قال: أشهد أن السلف المضمون، إلى أجل مسمى، أن الله عز وجل قد أحله وأذن فيه. ويتلو هذه الآية: "إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى".
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما وجه قوله: بدين، وقد دل بقوله: "إذا تداينتم"، عليه؟ وهل تكون مداينة بغير دين، فاحتيج إلى أن يقال: "بدين"؟
قيل: إن العرب لما كان مقولاً عندها: تداينا بمعنى: تجازينا، وبمعنى: تعاطينا الأخذ والإعطاء بدين- أبان الله بقوله: "بدين"، المعنى الذي قصد تعريف من سمع قوله: "تداينتم"، حكمه، وأعلمهم أنه حكم الدين دون حكم المجازاة.
وقد زعم بعضهم أن ذلك تأكيد كقوله: "فسجد الملائكة كلهم أجمعون" [الحجر: 30- ص: 73]، ولا معنى لما قال من ذلك في هذا الموضع.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "فاكتبوه"، فاكتبوا الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى، من بيع كان ذلك أو قرض.
واختلف أهل العلم في اكتتاب الكتاب بذلك على من هو عليه، هل هو واجب أو هو ندب.
فقال بعضهم: هو حق واجب وفرض لازم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه"، قال: من باع إلى أجل مسمى، أمر أن يكتب، صغيراً كان أو كبيراً إلى أجل مسمى.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه"، قال: فمن ادان ديناً فليكتب، ومن باع فليشهد.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: "إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه"، فكان هذا واجباً.
وحدثت عن عمار قال حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله، وزاد فيه، قال: ثم قامت الرخصة والسعة، قال: "فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه".
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن أبا سليمان المرعشي، كان رجلاً صحب كعباً، فقال ذات يوم لأصحابه: هل تعلمون مظلوماً دعا ربه فلم يستجب له؟ قالوا: وكيف يكون ذلك؟ قال: رجل باع شيئاً فلم يكتب ولم يشهد، فلما حل ماله جحده صاحبه، فدعا ربه فلم يستجب له، لأنه قد عصى ربه.
وقال آخرون: كان اكتتاب الكتاب بالدين فرضاً، فنسخه قوله: "فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته".
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن شبرمة، عن الشعبي قال: لا بأس إذا أمنته أن لا تكتب ولا تشهد، لقوله: "فإن أمن بعضكم بعضا"، قال ابن عيينة، قال ابن شبرمة، عن الشعبي: إلى هذا انتهى.
حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه" حتى بلغ هذا المكان: "فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته"، قال: رخص من ذلك، فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هرون، عن عمرو، عن عاصم عن الشعبي قال: إن ائتمنه فلا يشهد عليه ولا يكتب.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن إسمعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: فكانوا يرون أن هذه الآية: "فإن أمن بعضكم بعضا"، نسخت ما قبلها من الكتابة والشهود، رخصةً ورحمةً من الله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال غير عطاء: نسخت الكتاب والشهادة: "فإن أمن بعضكم بعضا".
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: نسخ ذلك قوله: "فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته"، قال: فلولا هذا الحرف، لم يبح لأحد أن يدان بدين إلا بكتاب وشهداء أو برهن. فلما جاءت هذه نسخت هذا كله، صار إلى الأمانة.
حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سليمان التيمي قال: سألت الحسن قلت: كل من باع بيعاً ينبغي له أن يشهد؟ قال: ألم تر أن الله عز وجل يقول: "فليؤد الذي اؤتمن أمانته"؟
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه"، حتى بلغ هذا المكان: "فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته"، قال: رخص في ذلك، فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه.
حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي في قوله: "فإن أمن بعضكم بعضا"، قال: إن أشهدت فحزم، وإن لم تشهد ففي حل وسعة.
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن إسمعيل بن أبي خالد قال: قلت للشعبي: أرأيت الرجل يستدين من الرجل الشيء، أحتم عليه أن يشهد؟ قال: فقرأ إلى قوله: "فإن أمن بعضكم بعضا"، قد نسخ ما كان قبله.
حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن مروان العقيلي قال، حدثنا عبد الملك بن أبي نضرة، [عن أبيه]، عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ: "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى" إلى: "فإن أمن بعضكم بعضا"، قال: هذه نسخت ما قبلها.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وليكتب كتاب الدين إلى أجل مسمى بين الدائن والمدين، "كاتب بالعدل"، يعني: بالحق والإنصاف في الكتاب الذي يكتبه بينهما، بما لا يتحيف ذا الحق حقه ولا يبخسه، ولا يوجب له حجةً على من عليه دينه فيه بباطل، ولا يلزمه ما ليس عليه، كما:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: "وليكتب بينكم كاتب بالعدل"، قال: اتقى الله كاتب في كتابه، فلا يدعن منه حقاً، ولا يزيدن فيه باطلاً.
وأما قوله: "ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله"، فإنه يعني: ولا يأبين كاتب استكتب ذلك، أن يكتب بينهم كتاب الدين، كما علمه الله كتابته، فخصه بعلم ذلك، وحرمه كثيراً من خلقه.
وقد اختلف أهل العلم في وجوب الكتاب على الكاتب إذا استكتب ذلك، نظير اختلافهم في وجوب الكتاب على الذي له الحق.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: "ولا يأب كاتب"، قال: واجب على الكاتب أن يكتب.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لـعطاء: قوله: "ولا يأب كاتب أن يكتب"، أواجب أن لا يأبى أن يكتب؟ قال: نعم، قال ابن جريج: وقال مجاهد: واجب على الكاتب أن يكتب.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله"، بمثله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر وعطاء قوله: "ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله"، قالا: إذا لم يجدوا كاتباً فدعيت، فلا تأب أن تكتب لهم.
ذكر من قال: هي منسوخة. قد ذكرنا جماعة ممن قال: كل ما في هذه الآية من الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن، منسوخ بالآية التي في آخرها، وأذكر قول من تركنا ذكره هنالك ببعض المعاني.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: "ولا يأب كاتب"، قال: كانت عزيمةً، فنسختها: "ولا يضار كاتب ولا شهيد" [البقرة: 282].
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله"، فكان هذا واجباً على الكتاب.
وقال آخرون: هو على الوجوب، ولكنه واجب على الكاتب في حال فراغه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: "وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله"، يقول: لا يأب كاتب أن يكتب إن كان فارغاً.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الله عز وجل أمر المتداينين إلى أجل مسمى باكتتاب كتب الدين بينهم، وأمر الكاتب أن يكتب ذلك بينهم بالعدل. وأمر الله فرض لازم، إلا أن تقوم حجة بأنه إرشاد وندب. ولا دلالة تدل على أن أمره جل ثناؤه باكتتاب الكتب في ذلك، وأن تقدمه إلى الكاتب أن لا يأبى كتابة ذلك، ندب وإرشاد. فذلك فرض عليهم لا يسعهم تضييعه، ومن ضيعه منهم كان حرجاً بتضييعه.
ولا وجه لاعتلال من اعتل بأن الأمر بذلك منسوخ بقوله: "فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته". لأن ذلك إنما أذن الله تعالى ذكره به حيث لا سبيل إلى الكتاب أو إلى الكاتب. فأما والكتاب والكاتب موجودان، فالفرض -إذا كان الدين إلى أجل مسمى- ما أمر الله تعالى ذكره في قوله: "فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله".
وإنما يكون الناسخ، ما لم يجز اجتماع حكمه وحكم المنسوخ في حال واحدة، على السبيل التي قد بيناها. فأما ما كان أحدهما غير ناف حكم الآخر، فليس من الناسخ والمنسوخ في شيء.
ولو وجب أن يكون قوله: "وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته" ناسخاً قوله: "إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله"- لوجب أن يكون قوله: "وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا" [المائدة: 6] ناسخاً الوضوء بالماء -في الحضر عند وجود الماء فيه وفي السفر- الذي فرضه الله عز وجل بقوله: "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق" [المائدة: 6]، وأن يكون قوله في كفارة الظهار: "فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين" [المجادلة: 4] ناسخاً قوله "فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا" [المجادلة: 3].
فيسأل القائل إن قول الله عز وجل: "فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته" ناسخ قوله: "إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه": ما الفرق بينه وبين قائل في التيمم وما ذكرنا قوله، فزعم أن كل ما أبيح في حال الضرورة لعلة الضرورة، ناسخ حكمه في حال الضرورة حكمه في كل أحواله: نظير قوله في أن الأمر باكتتاب كتب الديون والحقوق منسوخ بقوله: "وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته"؟.
فإن قال: الفرق بيني وبينه أن قوله: "فإن أمن بعضكم بعضا" كلام منقطع عن قوله: "وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة"، وقد انتهى الحكم في السفر إذا عدم فيه الكاتب بقوله: "فرهان مقبوضة". وإنما عنى بقوله: "فإن أمن بعضكم بعضا": "إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى"، فأمن بعضكم بعضا، فليؤد الذي اؤتمن أمانته.
قيل له: وما البرهان على ذلك من أصل أو قياس، وقد انقضى الحكم في الدين الذي فيه الى الكاتب والكتاب سبيل بقوله: "ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم"؟.
وأما الذين زعموا أن قوله: " فاكتبوه "، وقوله: "ولا يأب كاتب" على وجه الندب والإرشاد، فإنهم يسألون البرهان على دعواهم في ذلك، ثم يعارضون بسائر أمر الله عز وجل الذي أمر في كتابه، ويسألون الفرق بين ما ادعوا في ذلك وأنكروه في غيره. فلن يقولوا في شيء من ذلك إلا ألزموا في الآخر مثله.
ذكر من قال: العدل في قوله: "وليكتب بينكم كاتب بالعدل " الحق...
قال أبو جعفر: يعني بذلك: "فليكتب" الكاتب، "وليملل الذي عليه الحق"، وهو الغريم المدين. يقول: ليتول المدين إملال كتاب ما عليه من دين رب المال على الكاتب، "وليتق الله ربه" المملي الذي عليه الحق، فليحذر عقابه في بخس الذي له الحق من حقه شيئاً، أن ينقصه منه ظلماً أو يذهب به منه تعدياً، فيؤخذ به حيث لا يقدر على قضائه إلا من حسناته، أو أن يتحمل من سيئاته، كما:
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "فليكتب وليملل الذي عليه الحق"، فكان هذا واجباً- "وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا"، يقول: لا يظلم منه شيئاً.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "ولا يبخس منه شيئا"، قال: لا ينقص من حق هذا الرجل شيئاً إذا أملى.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا"، فإن كان المدين الذي عليه المال "سفيها"، يعني: جاهلاً بالصواب في الذي عليه أن يمله على الكاتب، كما:
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فإن كان الذي عليه الحق سفيها"، أما السفيه، فالجاهل بالإملاء والأمور.
وقال آخرون: بل السفيه فى هذا الموضع، الذي عناه الله: الطفل الصغير.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هرون قال حدثنا عمرو، حدثنا أسباط، عن السدي: "فإن كان الذي عليه الحق سفيها"، أما السفيه، فهو الصغير.
حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: "فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا"، قال: هو الصبى الصغير، فليملل وليه بالعدل.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال: السفيه في هذا الموضع: الجاهل بالإملاء وموضع صواب ذلك من خطئه، لما قد بينا قبل من أن معنى السفه في كلام العرب: الجهل.
وقد يدخل في قوله: "فإن كان الذي عليه الحق سفيها"، كل جاهل بصواب ما يمل من خطئه، من صغير وكبير، وذكر وأنثى. غير أن الذي هو أولى بظاهر الآية أن يكون مراداً بها: كل جاهل بموضع خطأ ما يمل وصوابه: من بالغي الرجال الذين لا يولى عليهم، والنساء. لأنه جل ذكره ابتدأ الآية بقوله: "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى"، والصبي ومن يولى عليه، لا يجوز مداينته، وأن الله عز وجل قد استثنى من الذين أمرهم بإملال كتاب الدين مع السفيه، الضعيف ومن لا يستطيع إملاله. ففي فصله جل ثناؤه الضعيف من السفيه ومن لا يستطيع إملاء الكتاب في الصفة التي وصف بها كل واحد منهم: ما أنبأ عن أن كل واحد من الأصناف الثلاثة الذين ميز بين صفاتهم، غير الصنفين الآخرين.
وإذا كان ذلك كذلك، كان معلوماً أن الموصوف بالسفه منهم دون الضعف، هو ذو القوة على الإملال، غير أنه وضع عنه فرض الإملال بجهله بموضع صواب ذلك من خطئه، وأن الموصوف بالضعف منهم، هو العاجز عن إملاله، وإن كان شديداً رشيداً، إما لعي لسانه أو خرس به، وأن الموصوف بأنه لا يستطيع أن يمل، هو الممنوع من إملاله، إما بالحبس الذي لا يقدر معه على حضور الكاتب الذي يكتب الكتاب فيمل عليه، وإما لغيبته عن موضع الإملال، فهو غير قادر من أجل غيبته عن إملال الكتاب.
فوضع الله جل وعز عنهم فرض إملال ذلك، للعلل التي وصفنا -إذا كانت بهم- وعذرهم بترك الإملال من أجلها، وأمر، عند سقوط فرض ذلك عليهم، ولي الحق بإملاله فقال: "فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل"، يعني: ولي الحق.
ولا وجه لقول من زعم أن السفيه في هذا الموضع هو الصغير، وأن الضعيف هو الكبير الأحمق. لأن ذلك إن كان كما قال، يوجب أن يكون قوله: "أو لا يستطيع أن يمل هو" هو، العاجز من الرجال العقلاء الجائزي الأمر في أموالهم وأنفسهم عن الإملال، إما لعلة بلسانه من خرس أو غيره من العلل، وإما لغيبته عن موضع الكتاب. وإذا كان ذلك كذلك معناه، لبطل معنى قوله: "فليملل وليه بالعدل"، لأن العاقل الرشيد لا يولى عليه في ماله وإن كان أخرس أو غائباً، ولا يجوز حكم أحد في ماله إلا بأمره. وفي صحة معنى ذلك، ما يقضي على فساد قول من زعم أن السفيه في هذا الموضع، هو الطفل الصغير، أو الكبير الأحمق.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل"، يقول: ولي الحق.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل"، قال يقول: إن كان عجز عن ذلك، أمل صاحب الذين بالعدل.
ذكر الرواية عمن قال: عنى بالضعيف في هذا الموضع: الأحمق، وبقوله: "فليملل وليه بالعدل"، ولي السفيه والضعيف.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: "فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو"، قال: أمر ولي السفيه أو الضعيف أن يمل بالعدل.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما الضعيف، فهو الأحمق.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أما الضعيف فالأحمق.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: "فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا"، لا يعرف فيثبت لهذا حقه ويجهل ذلك، فوليه بمنزلته حتى يضع لهذا حقه.
وقد دللنا على أولى التأويلين بالصواب في ذلك.
وأما قوله: "فليملل وليه بالعدل"، فإنه يعني: بالحق.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واستشهدوا على حقوقكم شاهدين.
يقال: فلان شهيدي على هذا المال، وشاهدي عليه.
وأما قوله: "من رجالكم"، فإنه يعني من أحراركم المسلمين، دون عبيدكم، ودون أحراركم الكفار، كما:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "واستشهدوا شهيدين من رجالكم"، قال: الأحرار.
حدثني يونس قال، أخبرنا علي بن سعد، عن هشيم، عن داود بن أبي هند، عن مجاهد مثله.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن لم يكونا رجلين، فليكن رجل وامرأتان على الشهادة. ورفع الرجل والمرأتان، بالرد على الكون. وإن شئت قلت: فإن لم يكونا رجلين، فليشهد رجل وامرأتان على ذلك. وإن شئت: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان يشهدون عليه، وإن قلت: فإن لم يكونا رجلين فهو رجل وامرأتان، كان صواباً. كل ذلك جائز.
ولو كان فرجلاً وامرأتين نصباً، كان جائزاً، على تأويل: فإن لم يكونا رجلين فاستشهدوا رجلاً وامرأتين.
وقوله: "ممن ترضون من الشهداء"، يعني: من العدول المرتضى دينهم وصلاحهم، كما:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: "واستشهدوا شهيدين من رجالكم"، يقول: في الدين، "فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان"، وذلك في الدين، "ممن ترضون من الشهداء"، يقول: عدول.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: "واستشهدوا شهيدين من رجالكم"، أمر الله عز وجل أن يشهدوا ذوي عدل من رجالهم، "فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء".
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأ عامة أهل الحجاز والمدينة وبعض أهل العراق: "أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى" بفتح الألف من "أن"، ونصب "تضل"، وتذكر، بمعنى: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، كي تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت. وهو عندهم من المقدم الذي معناه التأخير. لأن التذكير عندهم هو الذي يجب أن يكون مكان "تضل". لأن المعنى ما وصفنا في قولهم. وقالوا: إنما نصبنا تذكر، لأن الجزاء لما تقدم اتصل بما قبله، فصار جوابه مردوداً عليه، كما تقول في الكلام: إنه ليعجبني أن يسأل السائل فيعطى، بمعنى: إنه ليعجبني أن يعطى السائل إن سأل- أو: إذا سأل. فالذي يعجبك هو الإعطاء دون المسألة. ولكن قوله: أن يسأل لما تقدم، اتصل بما قبله وهو قوله: ليعجبني، ففتح أن ونصب بها، ثم أتبع ذلك قوله: يعطى، فنصبه بنصب قوله: ليعجبني أن يسأل نسقاً عليه، وإن كان في معنى الجزاء.
وقرأ ذلك آخرون كذلك، غير أنهم كانوا يقرأونه بتسكين الذال من تذكر وتخفيف كافها. وقارئو ذلك كذلك مختلفون فيما بينهم في تأويل قراءتهم إياه كذلك.
وكان بعضهم يوجهه إلى أن معناه: فتصير إحداهما الأخرى ذكراً باجتماعهما، بمعنى: أن شهادتها إذا اجتمعت وشهادة صاحبتها، جازت كما تجوز شهادة الواحد من الذكور في الدين، لأن شهادة كل واحدة منهما منفردةً غير جائزة فيما جازت فيه من الديون إلا باجتماع اثنتين على شهادة واحد، فتصير شهادتهما حينئذ بمنزلة شهادة واحدة من الذكور، فكأن كل واحدة منهما -في قول متأولي ذلك بهذا المعنى- صيرت صاحبتها معها ذكراً. وذهب إلى قول العرب: لقد أذكرت فلان أمه، أي ولدته ذكراً، فهي تذكر به، وهي امرأة مذكر، إذا كانت تلد الذكور من الأولاد. وهذا قول يروى عن سفيان بن عيينة أنه كان يقوله.
حدثت بذلك عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال: حدثت عن سفيان بن عيينة أنه قال: ليس تأويل قوله: فتذكر إحداهما الأخرى من الذكر بعد النسيان، إنما هو من الذكر، بمعنى: أنها إذا شهدت مع الأخرى صارت شهادتهما كشهادة الذكر.
وكان آخرون منهم يوجهونه إلى أنه بمعنى الذكر بعد النسيان.
وقرأ ذلك آخرون: إن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى بكسر إن في قوله: إن تضل ورفع تذكر وتشديده، كأنه بمعنى ابتداء الخبر عما تفعل المرأتان إن نسيت إحداهما شهادتها، ذكرتها الأخرى، من تثبيت الذاكرة الناسية وتذكيرها ذلك، وانقطاع ذلك عما قبله. ومعنى الكلام عند قارئ ذلك كذلك: واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، فإن إحداهما إن ضلت ذكرتها الأخرى، على استئناف الخبر عن فعلها إن نسيت إحداهما شهادتها، من تذكير الأخرى منهما صاحبتها الناسية.
وهذه قراءة كان الأعمش يقرؤها ومن أخذها عنه. وإنما نصب الأعمش "تضل"، لأنها في محل جزم بحرف الجزاء، وهو إن. وتأويل الكلام على قراءته: إن تضلل، فلما اندغمت إحدى اللامين في الأخرى، حركها إلى أخف الحركات، ورفع تذكر بالفاء، لأنه جواب الجزاء.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا في ذلك: قراءة من قرأه بفتح "أن" من قوله: "أن تضل إحداهما"، وبتشديد الكاف من قوله: "فتذكر إحداهما الأخرى". ونصب الراء منه، بمعنى: فإن لم يكونا رجلين، فليشهد رجل وامرأتان، كي إن ضلت إحداهما ذكرتها الأخرى.
وأما نصب "فتذكر" فبالعطف على "تضل"، وفتحت "أن" بحلولها محل كي وهي في موضع جزاء، والجواب بعده، اكتفاءً بفتحها -أعني بفتح "أن"- من كي، ونسق الثاني -أعني: "فتذكر"- على "تضل"، ليعلم أن الذي قام مقام ما كان يعمل فيه وهو ظاهر، قد دل عليه وأدى عن معناه وعمله- أي عن كي.
وإنما اخترنا ذلك في القراءة، لإجماع الحجة من قدماء القرأة والمتأخرين على ذلك، وانفراد الأعمش ومن قرأ قراءته في ذلك بما انفرد به عنهم. ولا يجوز ترك قراءة جاء بها المسلمون مستفيضة بينهم، إلى غيرها.
وأما اختيارنا "فتذكر" بتشديد الكاف، فإنه بمعنى: ترديد الذكر من إحداهما على الأخرى، وتعريفها بأنها [نسيت] ذلك، لتذكر. فالتشديد به أولى من التخفيف.
وأما ما حكي عن ابن عيينة من التأويل الذي ذكرناه، فتأويل خطأ لا معنى له، لوجوه شتى:
أحدها: أنه خلاف لقول جميع أهل التأويل.
والثاني: أنه معلوم أن ضلال إحدى المرأتين في الشهادة التي شهدت عليها، إنما هو ذهابها عنها ونسيانها إياها، كضلال الرجل في دينه: إذا تحير فيه فعدل عن الحق. وإذا صارت إحداهما بهذه الصفة، فكيف يجوز أن تصير الأخرى ذكراً معها، مع نسيانها شهادتها وضلالها فيها؟ وللضالة منهما في شهادتها حينئذ، لا شك أنها إلى التذكير أحوج منها إلى الإذكار، إلا إن أراد أن الذاكرة إذا ضفت صاحبتها عن ذكر شهادتها شحذتها على ذكر ما ضعفت عن ذكره فنسيته، فقوتها بالذكر حتى صيرتها كالرجل في قوتها في ذكر ما ضفت عن ذكره من ذلك، كما يقال للشيء القوي في عمله: ذكر، وكما يقال للسيف الماضي في ضربه سيف ذكر، ورجل ذكر يراد به: ماض في عمله، قوي البطش، صحيح العزم.
فان كان ابن عيينة هذا أراد، فهو مذهب من مذاهب تأويل ذلك، إلا أنه إذا تؤول ذلك كذلك، صار تأويله له إلى نحو تأويلنا الذي تأولناه فيه، وإن خالفت القراءة بذلك المعنى، القراءة التي اخترناها. ومعنى القراءة حينئذ صحيح بالذي اختار قراءته من تخفيف الكاف من قوله: "فتذكر". ولا نعلم أحداً تأول ذلك كذلك، ويستحب قراءته كذلك بذلك المعنى. فالصواب في قراءته -إذ كان الأمر عاماً على ما وصفنا- ما اخترنا.
ذكر من تأول قوله: "أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى" نحو تأويلنا الذي قلنا فيه.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى"، علم الله أن ستكون حقوق، فأخذ لبعضهم من بعض الثقة، فخذوا بثقة الله، فإنه أطوع لربكم وأدرك لأموالكم. ولعمري لئن كان تقياً لا يزيده الكتاب إلا خيراً، وإن كان فاجراً فبالحرى أن يؤدي إذا علم أن عليه شهوداً.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى"، يقول: أن تنسى إحداهما فتذكرها الأخرى.
حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "أن تضل إحداهما"، يقول: تنسى إحداهما الشهادة، فتذكرها الأخرى.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: "أن تضل إحداهما"، يقول: إن تنس إحداهما ذكرتها الأخرى.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، قال: كلاهما لغة، وهما سواء، ونحن نقرأ، "فتذكر".
قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم " .
فيه اثنتان وخسمون مسألة :
الأولى : قوله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين" الآية . قال سعيد بن المسيب : بلغني إن أحدث القرآن بالعرش آية الدين . وقال ابن عباس : هذه الآية نزلت في السلم خاصة . معناه أن سلم أهل المدينة كان سبب الآية ، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعاً . وقال ابن خويز منداد : إنها تضمنت ثلاثين حكماً . وقد استدل بها بعض علمائنا على جواز التأجيل في القروض ، على ما قال مالك ، إذ لم يفصل بين القرض وسائر العقود في المداينات . وخالف في ذلك الشافعية وقالوا : الآية ليس فيها جواز التأجيل في سائر الديون ، وإنما فيها الأمر بالإشهاد إذا كان ديناً مؤجلاً ، ثم يعلم بدلالة أخرى جواز التأجيل في الدين وامتناعه .
الثانية : قوله تعالى :"بدين" تأكيد ، مثل قوله : "ولا طائر يطير بجناحيه" . "فسجد الملائكة كلهم أجمعون" . وحقيقة الدين عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقداً والآخر في الذمة نسيئة ، فإن العين عند العرب ما كان حاضراً ، والدين ما كان غائباً ، قال الشاعر :
وعدتنا بدرهمينا طلاء وشواء معجلا غير دين
وقال آخر :
لترم بي المنايا حيث شاءت إذا لم ترم بي في الحفرتين
إذا ما أوقدوا حطبا ونارا فذاك الموت نقداً غير دين
الثالثة : قوله تعالى : "إلى أجل مسمى" قال ابن المنذر : دل قول الله "إلى أجل مسمى" على أن السلم إلى الأجل المجهول غير جائز ، ودلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على مثل معنى كتاب الله تعالى . "ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
قدم المدينة وهم يستلفون في الثمار السنتين والثلاث ،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" رواه ابن عباس . أخرجه البخاري و مسلم وغيرهما . وقال ابن عمر :
كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة . وحبل الحبلة :أن تنتج الناقة ثم تحمل التي نتجب . فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك . وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم الجائز أن يسلم الرجل إلى صاحبه في طعام معلوم موصوف ، من طعام أرض عامة لا يخطىء مثلها ، بكيل معلوم ، إلى أجل معلوم بدنانير أو دراهم معلومة ، يدفع ثمن ما أسلم فيه قبل أن يفترقا من مقامهما الذي تبايعا فيه ، وسميا المكان الذي يقبض فيه الطعام . فإذا فعلا ذلك وكان جائز الأمر سلما صحيحاً لا أعلم أحداً من أهل العلم يبطله .
قلت : وقال علماؤنا : إن السلم إلى الحصاد والجذاذ والنيروز والمهرجان جائز ، إذ ذاك يختص بوقت وزمن معلوم .
الرابعة : حد علماؤنا رحمة الله عليهم السلم فقالوا : هو بيع معلوم في الذمة محصور بالصفة بعين حاضرة أو ما هو في حكمها إلى أجل معلوم . فتقييده بمعلوم في الذمة يفيد التحرز من المجهول ، ومن السلم في الأعيان المعينة ، مثل الذي كانوا يستلفون في المدينة حين قدم عليهم النبي عليه السلام فإنهم كانوا يستلفون في ثمار نخيل بأعيانها ، فنهاهم عن ذلك لما فيه من الغرر ، إذ قد تخلف تلك الأشجار فلا تثمر شيئاً .
وقولهم محصور بالصفة تحرز عن المعلوم على الجملة دون التفصيل ، كما لو أسلم في تمر أو ثياب أو حيتان ولم يبين نوعها ولا صفتها المعينة .
وقولهم : بعين حاضرة تحرز من الدين بالدين . وقولهم أو ما هو في حكمها نحرز من اليومين والثلاثة التي يجوز تأخير رأس مال السلم إليه ، فإنه يجوز تأخيره عندنا ذلك القدر ، بشرط وبغير شرط لقرب ذلك ، ولا يجوز اشتراطه عليها . ولم يجز الشافعي ولا الكوفي تأخير رأس مال السلم عن العقد والافتراق ، ورأوا أنه كالصرف . ودليلنا أن البابين مختلفان بأخص أوصافهما ، فإن الصرف بابه ضيق كثرت فيه الشروط بخلاف السلم فإن شوائب المعاملات عليه أكثر . والله أعلم .
وقولهم إلى أجل معلوم تحرز من السلم الحال فإنه لا يجوز على المشهور وسيأتي . ووصف الأجل بالمعلوم تحرز من الأجل المجهول الذي كانوا في الجاهلية يسلمون إليه .
الخامسة : السلم والسلف عبارتان عن معنى واحد وقد جاءا في الحديث ، غير أن الاسم الخاص بهذا الباب السلم لأن السلف يقال على القرض . والسلم بيع من البيوع الجائزة بالاتفاق ، مستثنى من :
نهيه عليه السلام عن بيع ما ليس عندك . وأرخص في السلم ، لأن السلم لما كان بيع معلوم في الذمة كان بيع غائب تدعو إليه ضرورة كل واحد من المتبايعين ، فإن صاحب رأس المال محتاج إلى أن يشتري الثمرة ، وصاحب الثمرة محتاج إلى ثمنها قبل إبانها لينفقه عليها . فظهر أن بيع السلم من المصالح الحاجية ، وقد سماه الفقهاء بيع المحاويج ، فإن جاز حالاً بطلت هذه الحكمة وارتفعت هذه المصلحة ، ولم يكن لاستثنائه من بيع ما ليس عندك فائدة . والله أعلم .
السادسة : في شروط السلم المتفق عليها والمختلف فيها وهي تسعة : ستة في المسلم فيه ، وثلاثة في رأس مال السلم . أما الستة التي في المسلم فيه : فأن يكون في الذمة ، وأن يكون موصوفاً ، وأن يكون موصوفاً ، وأن يكون مقدراً ، وأن يكون مؤجلاً ، وأن يكون الأجل معلوما ، وأن يكون موجوداً عند محل الأجل . وأما الثلاثة التي في رأس مال السلم : فأن يكون معلوم الجنس ، مقدراً ، نقداً . وهذه الشروط الثلاثة التي في رأس المال متفق عليها إلا النقد حسب ما تقدم . قال ابن العربي : وأما الشرط الأول وهو أن يكون في الذمة فلا إشكال في أن المقصود منه كونه في الذمة ، لأنه مداينة ، ولولا ذلك لم يشرع ديناً ولا قصد الناس إليه ربحاً ورفقاً . وعلى ذلك القول اتفق الناس . بيد أن مالكا قال : لا يجوز السلم في المعين إلا بشرطين : أحدهما أن يكون قرية مأمونة ، والثاني أن يشرع في أخذه كاللبن من الشاة والرطب من النخلة ، ولم يقل ذلك أحد سواه . وهاتان المسألتان صحيحتان في الدليل ، لأن التعيين امتنع في السلم مخافة المزابنة والغرر ، لئلا يتعذر عند المحل . وإذا كان الموضع مأموماً لا يتعذر وجود ما فيه في الغالب جاز ذلك ، إذ لا يتقين ضمان العواقب على القطع في مسائل الفقة ، ولا بد من احتمال الغرر اليسير ، وذلك كثير في مسائل الفروع ، تعدادها في كتب المسائل . وأما السلم في اللبن والرطب مع الشروع في أخذه فهي مسألة مدنية اجتمع عليها أهل المدينة ، وهي مبنية على قاعدة المصلحة ، لأن المرء يحتاج إلى أخذ اللبن والرطب مياومة وبشق أن يأخذ كل يوم ابتداء ، لأن النقد قد لا يحضره ولأن الشعر قد يختلف عليه ، وصاحب النخل واللبن محتاج إلى النقد ، لأن الذي عنده عروض لا يتصرف له . فلما اشتركا في الحاجة رخص لهما في هذه المعاملة قياساً على العرايا وغيرها من أصول الحاجات والمصالح .
وأما الشرط الثاني وهو ان يكون موصوفاً فمتفق عليه ، وكذلك الشرط الثالث . والتقدير يكون من ثلاثة أوجه : الكيل ، والوزن ، والعدد ، وذلك ينبني على العرف ، وهو إما عرف الناس وإما عرف الشرع . وأما الشرط الرابع وهو أن يكون مؤجلاً فاختلف فيه ، فقال الشافعي : يجوز السلم الحال ، ومنعه الأكثر من العلماء . قال ابن العربي : واضطربت المالكية في تقدير الأجل حتى ردوه إلى يوم ، حتى قال بعض علمائنا : السلم الحال جائز . والصحيح أنه لا بد من الأجل فيه ، لأن المبيع على ضربين : معجل وهو العين ، ومؤجل . فإن كان حالاً ولم يكن عند المسلم إليه فهو من باب :بيع ما ليس عندك ، فلا بد من الأجل حتى يخلص كل عقد على صفته وعلى شروطه ، وتتنزل الأحكام الشعرية منازلها . وتحديده عند علمائنا مدة تختلف الأسواق في مثلها . وقول الله تعالى : "إلى أجل مسمى" وقوله عليه السلام :
"إلى أجل معلوم" يغني عن قول كل قائل .
قلت : الذي أجازه علماؤنا من السلم الحال ما تختلف فيه البلدان فمن الأسعار ، فيجوز السلم فيما كان بينه وبينه يوم أو يومان أو ثلاثة . فأما في البلد الواحد فلا ، لأن سعره واحد ، والله أعلم . وأما الشرط الخامس وهو أن يكون الأجل معلوماً فلا خلاف فيه بين الأمة ، لوصف الله تعالى ونبيه الأجل بذلك . وانفرد مالك دون الفقهاء بالأمصار بجواز البيع إلى الجذاذ والحصاد ، لأنه رآه معلوماً . وقد مضى القول في هذا عند قوله تعالى : " يسألونك عن الأهلة " . وأما الشرط السادس وهو أن يكون موجوداً عند المحل فلا خلاف فيه بين الأمة أيضاً ، فإن انقطع المبيع عند محل الأجل بأمر من الله تعالى انفسخ العقد عند كافة العلماء .
السابعة : ليس من شرط السلم أن يكون المسلم إليه مالكا فيه خلافاً لبعض السلف ، لما رواه البخاري :
عن محمد بن ابي المجالد قال : بعثني عبد الله بن شداد وأبو بردة إلى عبد الله بن ابي أوفى فقالا : سله هل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يسلفون في الحنطة ؟ فقال عبد الله : كنا نسلف نبيط أهل الشام في الحنطة والشعير والزيت في كيل معلوم إلى أجل معلوم . قلت : إلى من كان أصله عنده ؟ قال : ما كنا نسألهم عن ذلك . ثم بعثاني إلى عبد الرحمن بن أبزى فسألته فقال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسلفون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم نسألهم ألهم حرث أم لا ؟ . وشرط ابو حنيفة وجود المسلم فيه من حين العقد إلى حين الأجل ، مخافة أن يطلب المسلم فيه فلا يوجد فيكون ذلك غرراً ، وخالفه سائر الفقهاء وقالوا : المراعى وجوده عند الأجل . وشرط الكوفيون والثوري أن يذكر موضع القبض فيما له حمل ومؤنة وقالوا : السلم فاسد إذا لم يذكر موضع القبض . وقال الأوزاعي : هو مكروه . وعندنا لو سكتوا عنه لم يفسد العقد ، ويتعين موضع القبض ، وبه قال أحمد و إسحاق وطائفة من أهل الحديث ، لحديث ابن عباس فإنه ليس فيه ذر المكان الذي يقبض فيه السلم ، ولو كان من شروطه لبينه النبي صلى الله عليه وسلم كما بين الكيل والوزن والأجل ، ومثله حديث ابن ابي أوفى .
الثامنة : روى أبو داود عن سعد ( يعني الطائي ) عن عطية بن سعد عن ابي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"من اسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره" . قال أبو محمد عبد الحق : عطية هو العوفي ولا يحتج أحد بحديثه ، وإن كان الأجلة قد رووا عنه . قال مالك الأمر عندنا فيمن أسلف في طعام بسعر معلوم إلى أجل مسمى فحل الأجل فلم يجد المبتاع عند البائع وفاء مما ابتاعه منه فأقاله ، أنه لا ينبغي له أن يأخذ منه إلا ورقه أو ذهبه أو الثمن الذي دفع إليه بعينه ، وأنه لا يشتري منه بذلك الثمن شيئاً حتى يقبضه منه ، وذلك أنه إذا أخذ غير الثمن الذي دفع إليه أو صرفه في سلعة غير الطعام الذي ابتاع منه فهو الطعام قبل أن يستوفى . قال مالك : وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل أن يستوفى .
التاسعة : قوله تعالى :"فاكتبوه" يعني الدين والأجل . ويقال : أمر بالكتابة ولكن المراد الكتابة والإشهاد ، لأن الكتابة بغير شهود لا تكون حجة . ويقال : أمرنا بالكتابة لكيلا ننسى . وروى أبو داود الطيالسي في مسنده عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل : " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " إلى آخر الآيى : "إن أول من جحد آدم عليه السلام إن الله أراه ذريته فرأى رجلاً أزهر ساطعاً نوره فقال يا رب من هذا قال ابنك داود قال يا رب فما عمره قال ستون سنة قال يا رب زده في غمره فقال لا إله أن تزيده من عمرك قال وما عمري وقال ألف سنة قال آدم فقد وهبت له أربعين سنة قال فكتب الله عليه كتاباً وأشهد عليه ملائكته فلما حضرته الوفاة جاءته الملائكة قال إنه بقي من عمري أربعون سنة قالوا إنك قد وهبتها لابنك داود قال ما وهبت لأحد شيئاً قال فأخرج الله تعالى الكتاب وشهد عليه ملائكته ـ في رواية : وأتم لدواد مائة سنة ولآدم عمره ألف سنة" . خرحه الترمذي أيضاً . وفي قوله : "فاكتبوه" إشارة ظاهره إلى أنه يكتبه بجميع صفته المبينة له المعربة عنه ، للاختلاف المتوهم بين المتعاملين ، المرعفة للحاكم ما يحكم به عند ارتفاعهما إليه . والله أعلم .
العاشرة : ذهب بعض الناس إلى أن كتب الديون واجب على أربابها ، فرض بهذه الآية ، بيعاً كان أو قرضاً ، لئلا يقع فيه نسيان أو جحود ، وهو اختيار الطبري . وقال ابن جريج : من أدان فليكتب ، ومن باع فليشهد . وقال الشعبي : كانوا يرون أن قوله فإن أمن ناسخ لأمره بالكتب . وحكى نحوه ابن جريج ، وقاله ابن زيد ، وروي عن ابي سعيد الخدري . وذهب الربيع إلى أن ذلك واجب بهذه الألفاظ ، ثم خففه الله تعالى بقوله : "فإن أمن بعضكم بعضا" . وقال الجمهور : الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال وإزالة الريب ، وإذا كان الغريم تقياً فما يضره الكتاب ، وإن كان غير ذلك فالكتاب ثقات في دينه وحاجة صاحب الحق . قال بعضهم : إن شهدت فحزم ، وإن ائتمنت ففي حل وسعة . ابن عطية : وهذا هو القول الصحيح . ولا يترتب نسخ في هذا ، لأن الله تعالى ندب إلى الكتاب فيما للمرء أن يهبه ويتركه بإجماع ، فندبه إنما هو على جهة الحيطة للناس .
الحادية عشرة : قوله تعالى : "وليكتب بينكم كاتب بالعدل" قال عطاء وغيره : واجب على الكاتب أن يكتب ، وقاله الشعبي ، وذلك إذا لم يوجد كاتب سواه فواجب عليه أن يكتب . السدي : واجب مع الفراغ . وحذفت اللام من الأول وأثبتت في الثاني ، لأن الثاني غائب والأول للمخاطب . وقد ثبتت في المخاطب ، ومنه قوله تعالى : " فليفرحوا " بالتاء . وتحذف في الغائب ، ومنه :
محمد تفد نفسك كل نفس إذا ما خفت من شيء تبالا
الثانية عشرة : قوله تعالى : "بالعدل" أي بالحق والمعدلة ، أي لا يكتب لصاحب الحق أكثر مما قاله ولا أقل . وإنما قال بينكم ولم يقل أحدكم ، لأنه لما كان الذي له الدين يتهم في الكتاب الذي عليه الدين وكذلك بالعكس شرع الله سبحانه كاتباً غيرهما يكتب بالعدل لا يكون في قلبه ولا قلمه موادة لأحدهما على الآخر . وقيل : إن الناس لما كانوا يتعاملون حتى لا يشذ أحدهم عن المعاملة ، وكان منهم من يكتب ومن لا يكتب ، أمر الله سبحانه أن يكتب بينهم كاتب بالعدل .
الثالثة عشرة : الباء في قوله تعالى "بالعدل" متعلقة بقوله : ولكتب وليست متعلقة بـ كاتب لأنه كان يلزم ألا يكتب وثيقة إلا العدل في نفسه ، وقد يكتبها الصبي والعبد والمتحوط إذا أقاموا فقهها . أما المنتصبون لكتبها فلا يجوز للولاة أن يتركوهم إلا عدولاً مرضيين . قال مالك رحمه الله تعالى : لا يكتب الوثائق بين الناس إلا عارف بها عدل في نفسه مأمون ، لقوله تعالى : "وليكتب بينكم كاتب بالعدل" .
قلت : فالباء على هذا متعلقة بـ كاتب أي لكتب بينكم كاتب عدل ، فـ بالعدل في موضع الصفة . الرابعة عشرة :قوله تعالى : "ولا يأب كاتب أن يكتب" نهى الله الكاتب عن الإباء .
واختلف الناس في وجوب الكتابة على الكاتب والشهادة على الشاهد ، فقال الطبري و الربيع : واجب على الكاتب إذا أمر أن يكتب . وقال الحسن : ذلك واجب عليه في الموضع الذي لا يقدر على كاتب غيره ، فيضر الدين إن امتنع ، فإن كان كذلك فهو فريضة ، وإن قدر على كاتب غيره فهو في سعة إذا قام به غيره . السدي : واجب عليه في حال فراغه ، وقد تقدم . وحكى المهدوي عن الربيع والضحاك أن قوله "ولا يأب" منسوخ بقوله "ولا يضار كاتب ولا شهيد" .
قلت : هذا يتمشى على قول من رأى أو ظن أنه قد كان وجب في الأول على كل من اختاره المتبايعان أن يكتب ، وكان لا يجوز له أن يمتنع حتى نسخه قوله تعالى : "ولا يضار كاتب ولا شهيد" وهذا بعيد ، فإنه لم ثبت وجوب ذلك على كل من أراده المتبايعان كائنا من كان . ولو كانت الكتابة واجبة ما صح الاستئجار بها ، لأن الإجارة على فعل الفروض باطلة ، ولم يختلف العلماء في جواز أخذ الأجرة على كتب الوثيقة . ابن العربي : والصحيح أنه أمر إرشاد فلا يكتب حتى يأخذ حقه . وأبى يأبى شاذ ، ولم يجىء إلا قلى يقلى وأبى يأبى وغسى يغسى وجبى الخراج يجبى ، وقد تقدم .
الخامسة عشرة : قوله تعالى : "كما علمه الله فليكتب" الكاف في كما متعلقة بقوله "أن يكتب" المعنى كتباً كما علمه الله . ويحتمل أن تكون متعلقة بما في قوله "ولا يأب" من المعنى ، أي كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة فلا يأب هو وليفضل كما أفضل الله عليه . ويحتمل أن يكون الكلام على هذا المعنى تاماً عند قوله "أن يكتب" ثم يكون "كما علمه الله" ابتداء كلام ، وتكون الكاف متعلقة بقوله "فليكتب" .
السادسة عشرة : قوله تعالى :"وليملل الذي عليه الحق" وهو المديون المطلوب يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه . والإملاء والإملال لغتان ، أمل وأملى ، فأمل لغة أهل الحجاز وبني أسد ، وتميم تقول : أمليت . وجاء القرآن باللغتين ، قال عز وجل : "فهي تملى عليه بكرة وأصيلا" .والأصل أمللت ، وأبدل من اللام ياء لأنه أخف . فأمر الله تعالى الذي عليه الحق بالإملاء ، لأن الشهادة إنما تكون بسبب إقراره . وأمره تعالى بالتقوى فيما يمل ، ونهى عن أن يبخس شيئاً من الحق , والبخس النقص . ومن هذا المعنى قوله تعالى : "ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" .
السابعة عشرة : قوله تعالى : "فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا" قال بعض الناس : أي صغيراً .وهو خطأ فإن السفيه قد يكون كبيراً على ما يأتي بيانه . "أو ضعيفا" أي كبيراً لا عقل له . "أو لا يستطيع أن يمل" جعل الله الذي عليه الحق أربعةأن أصناف :مستقل بنفسه يمل ، وثلاثة أصناف لا يملون وتقع نوازلهم في كل زمن ، وكون الحق يترتب لهم في جهان سوى المعاملات كالمواريث إذا قسمت وغير ذلك ، وهم السفيه والضعيف والذي لا يستطيع أن يمل . فالسفيه المهلهل الرأي في المال الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء منها ، مشبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج . والبذيء اللسان يسمى سفيهاً ، لأنه لا تكاد تتفق البذاءة إلا في جهال الناس وأصحاب العقول الخفيفة . والرعب تطلق السفه على ضعف العقل تارة وعلى ضعف البدن أخرى ، قال الشاعر :
نخاف أن تسفه أحلامنا ويجهل الدهر مع الحالم
وقال ذو الرمة :
مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم
أي استضعفها واستلانها فحركها . وقد قالوا : الضعف بضم الضاد في البدن وبفتحها في الرأي ، وقيل : هما لغتان . والأول أصح ، لما روى أبو داود عن أنس بن مالك :
"أن رجلاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان يبتاع وفي عقله ضعف فأتى أهله نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا نبي الله ، احجر على فلان فإنه يبتاع وفي عقله ضعف . فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه عن البيع ، فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لا أصبر عن البيع ساعة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت غير تارك البيع فقل ها ، وها ولا خلابة" . وأخرجه أبو عيسى محمد بن عيسى السلمي الترمذي من حديث أنس وقال : هو صحيح ، وقال : إن رجلاً كان في عقله ضعف ، وذكر الحديث . ذكره البخاري في التاريخ وقال فيه :
"إذا بايعت فقل لا خلابة وأنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال" . وهذا الرجل هو حبان بن منقذ بن عمرو الأنصاري والد يحيى وواسع ابني حبان : وقيل : هو منقذ جد يحيى وواسع شيخي مالك ووالده حبان ، أتى عليه مائة وثلاثون سنة ، وكان شج في بعض مغازيه مع النبي صلى الله عليه وسلم مأمومة خبل منها عقله ولسانه . وروى الدار قطني قال :
"كان حبان بن منقذ رجلاً ضعيفاً ضرير البصر وكان قد سفع في رأسه مأمومة ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم له الخيار فيما اشترى ثلاثة أيام ، وكان قد ثقل لسانه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :بع وقل لا خلابة" ، فكنت أسمعه يقول : لا خذابة لا خذابة . أخرجه من حديث ابي عمر الخلابة : الخديعة ، ومنه قولهم : إذا لم تغلب فاخلب .
الثامنة عشرة : اختلف العلماء فيمن يخدع في البيوع لقلة خبرته وضعف عقله فهل يحجر عليه أو لا ، فقال بالحجر عليه أحمد و إسحاق . وقال آخرون : لا يحجر عليه . والقولان في المذهب ، والصحيح الأول ، لهذه الآية ، ولقوله في الحديث :
يا نبي الله احجر على فلان . وإنما ترك الحجر عليه لقوله : "يا نبي الله لا أصبر عن البيع" ، فأباح له البيع وجعله خاصاً به ، لأن من يخدع في البيوع ينبغي أن يحجر عليه لا سيما إذا كان ذلك لخبل عقله . ومما يدل على الخصوصية ما رواه محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن يحيى بن حبان قال : هو جدي منقذ بن عمرو "وكان رجلاً قد أصابته آمة في رأسه فكسرت لسانه ونازعته عقله ، وكان لا يدع التجارة ولا يزال يغبن ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فقال : إذا بعت فقل لا خلابة ثم أنت في كل سلعة تبتاعها بالخيار ثلاث ليال فإن رضيت فأمسك وإن سخطت فارددها على صاحبها" . وقد كان عمر عمراً طويلاً ، عاش ثلاثين ومائة سنة ، وكان في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه حين فشا الناس وكثروا ، يبتاع البيع في السوق ويرجع به إلى أهله وقد غبن غبناً قبيحاً ، فيلومونه ويقولون له تبتاع ؟ فيقول : أنا بالخيار ، وإن رضيت أخذت وإن سخطت رددت ، قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلني بالخيار ثلاثا . فيرد السلعة على صاحبها من الغد وبعد الغد ، فيقول : والله لا أقبلها قد أخذت سلعتي وأعطيتني دراهم ، قال فيقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعلني بالخيار ثلاثاً . فكان يمر الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول للتاجر : ويحك ! إنه قد صدق ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان جعله بالخيار ثلاثاً أخرجه الدار قطني . وذكره أبو عمر في الاستيعاب وقال : ذكره البخاري في التاريخ عن عياش بن الوليد عن عبد الأعلى عن ابن إسحاق .
التاسعة عشرة : قوله تعالى : "أو ضعيفا" الضعيف هو المدخول العقل الناقص الفطرة العاجز عن الإملاء ، إما لعيه أو لخرسه أو جهله بأداء الكلام ، وهذا ايضاً قد يكون وليه أبا أو وصياً . والذي لا يستطيع أن يمل هو الصغير ، ووليه وصيه أو أبوه والغائب عن موضع الإشهاد ، إما لمرض أو لغير ذلك من العذر ، ووليه وكيله . وأما الأخرس فيسوغ أن يكون من الضعفاء ، والأولى أنه ممن لا يستطيع .فهذه أصناف تتميز ، وسيأتي في النساء بيانها والكلام عليها إن شاء الله تعالى .
الموفية عشرين : قوله تعالى : "فليملل وليه بالعدل" ذهب الطبري إلى أن الضمير في "وليه" عائد على الحق وأسند في ذلك عن الربيع ، وعن ابن عباس . وقيل : هو عائد على "الذي عليه الحق" وهو الصحيح . وما روي عن ابن عباس لا يصح . وكيف تشهد البينة على شيء وتدخل مالاً في ذمة السفيه بإملاء الذي له الدين ! هذا شيء ليس في الشريعة . إلا أن يريد قائله . إن الذي لا يستطيع أن يمل لمرض أو كبر سن لثقل لسانه عن الإملاء أو لخرس ، وإذا كان كذلك فليس على المريض ومن ثقل لسانه عن الإملاء لخرس ولي عند أحد العلماء ، مثل ما ثبت على الصبي والسفيه عند من يحجر عليه . فإذا كان كذلك فليمل صاحب الحق بالعدل ويسمع الذي عجز ، فإذا كمل الإملاء أقر به . وهذا معنى لم تعن الآية إليه : ولا يصح هذا إلا فيمن لا يستطيع أن يمل لمرض ومن ذكر معه .
الحادية والعشرون : لما قال الله تعالى : " وليملل الذي عليه الحق " دل ذلك على أنه مؤتمن فيما يورده ويصدره ، فيقتضي ذلك قبول قول الراهن مع يمينه إذا اختلف هو والمرتهن في مقدار الدين والرهن قائم ، فيقول الراهن رهنت بخمسين والمرتهن يدعي مائة ، فالقول قول الراهن والرهن قائم ،وهو مذهب أكثر الفقهاء : سفيان الثوري و الشافعي و أحمد و إسحاق واصحاب الرأي ، واختاره ابن المنذر قال : لأن المرتهن مدع للفضل ،وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
"البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" . وقال مالك : القول قول المرتهن فيما بينه وبين قيمة الرهن ولا يصدق على أكثر من ذلك . فكأنه يرى أن الرهن ويمينه شاهد للمرتهن ، وقوله تعالى : " وليملل الذي عليه الحق " رد عليه . فإن الذي عليه الحق هو الراهن . وستأتي هذه المسألة . وإن قال قائل : إن الله تعالى جعل الرهن بدلاً عن الشهادة والكتاب ، والشهادة دالة على صدق المشهود له فيما بينه وبين قيمة الرهن ، فإذا بلغ قيمته فلا وثيقة في الزيادة . قيل له : الرهن يدل على أن قيمته تجب أن تكون مقدار الدين ، فإنه ربما رهن الشيء بالقليل والكثير . نعم لا ينقص الرهن غالباً عن مقدار الدين ، فأما إن يطابقه فلا . وهذا القائل يقول : يصدق المرتهن مع اليمين في مقدار الدين إلى أن يساوي قيمة الرهن . وليس العرف على ذلك فربما نقص الدين عن الرهن وهو الغالب ، فلا حاصل لقولهم هذا .
الثانية والعشرون : وإذا ثبت أن المراد الولي ففيه دليل على أن إقراره جائز على يتيمه ، لأنه إذا أملاه فقد نفذ قوله عليه فيما أملاه .
الثالثة والعشرون : وتصرف السفيه المحجور عليه دون إذن وليه فاسد إجماعاً مفسوخ أبداً لا يوجب حكماً ولا يؤثر شيئاً . فإن تصرف سفيه ولا حجر عليه ففيه خلاف يأتي بيانه في النساء إن شاء الله تعالى .
الرابعة والعشرون : قوله تعالى : "واستشهدوا شهيدين من رجالكم" الاستشهاد طلب الشهادة . واختلف الناس هل هي فرض أو ندب ، والصحيح أنه ندب على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
الخامسة والعشرون : قوله تعالى : "شهيدين" رتب الله سبحانه الشهادة بحكمته في الحقوق المالية والبدنية والحدود وجعل وجعل في فن شهيدين إلا في الزنا ، على ما يأتي بيانه في سورة النساء . وشهيد بنداء مبالغة ، وفي ذلك دلالة على من قد شهد وتكرر ذلك منه ، فكأنه إشارة إلى العدالة . والله أعلم .
السادسة والعشرون : قوله تعالى : "من رجالكم" نص في رفض الكفار والصبيان والنساء ، وأما العبيد فاللفظ يتناولهم . وقال مجاهد :المراد الأحرار ، واختاره القاضي أبو إسحاق وأطنب فيه . وقد اختلف العلماء في شهادة العبيد ، فقال شريح و عثمان البتي و أحمد و إسحاق وأبو ثور : شهادة العبد جائزة إذا كان عدلاً ، وغلبوا لفظ الآية . وقال مالك و أبو حنيفة و الشافعي وجمهور العلماء : لا تجوز شهادة العبد ، وغلبوا نقص الرق ، وأجازها الشعبي والنخعي في الشيء اليسير . والصحيح قول الجمهور ، لأن الله تعالى قال : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين " وساق الخطاب إلى قوله : "من رجالكم" فظاهر الخطاب يتناول الذين يتداينون والعبيد لا يملكون ذلك دون إذن السادة . فإن قالوا : إن خصوص أول الآية لا يمنع التعلق بعموم آخره . قيل لهم : هذا يخصه قوله تعالى : "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا" على ما يأتي بيانه . وقوله "من رجالكم" دليل على أن الأعمى من أهل الشهادة ، لكن إذا علم يقيناً ، مثل ما روي عن ابن عباس قال :
"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهادة فقال : ترى هذه الشمس فاشهد على مثلها أو دع" . وهذا يدل على اشتراط معاينة الشاهد لما شهد به ، لا من يشهد بالاستدلال الذي يجوز أن يخطىء . نعم يجوز له وطء امرأته إذا عرف صوتها ، لأن الإقدام على الوطء جائز بغلبة الظن ، فلو زفت إليه امرأة وقيل : هذه امرأتك وهو لا يعرفها جاز له وطؤها ، ويحل له قبول هدية جاءته بقول الرسول . ولو أخبره مخبر عن زيد بإقرار أو بيع أو قذف أو غصب لما جاز له إقامة الشهادة على المخبر عنه ، لأن سبيل الشهادة اليقين ، وفي غيرها يجوز استعمال غالب الظن ، ولذلك قال الشافعي و أبن ابي ليلى و أبو يوسف : إذا علمه قبل العمى جازت الشهادة بعد العمى ، ويكون العمى الحائل بينه وبين المشهود عليه كالغيبة والموت في المشهود عليه . فهذا مذهب هؤلاء . والذي يمنع أداء الأعمى فيما تحمل بصيراً لا وجه له ، وتصح شهادته بالنسب الذي يثبت بالخبر المستفيض ، كما يخبر عما تواتر حكمه من الرسول صلى الله عليه وسلم . ومن العلماء من قبل شهادة الأعمى فيما طريقه الصوت ، لأنه رأى الاستدلال بذلك يترقى إلى حد اليقين ، ورأى أن اشتباه الأصوات كاشتباه الصور والألوان وهذا ضعيف يلزم منه جواز الاعتماد على الصوت للبصير .
قلت :مذهب مالك في شهادة الأعمى على الصوت جائزة في الطلاق وغيره إذا عرف الصوت . قال ابن قاسم : قلت لـ مالك : فالرجل يسمع جاره من وراء الحائط ولا يراه ، يسمعه يطلق امرأته فيشهد عليه وقد عرف الصوت ؟ قال قال مالك : شهادته جائزة .
وقال ذلك علي بن ابي طالب والقاسم بن محمد و شريح الكندي و الشعبي و عطاء بن أبي رباح و يحيى بن سعيدو ربيعة و إبراهيم النخعي و مالك و الليث .
السابعة والعشرون : قوله تعالى : "فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان" المعنى إن لم يأت الطالب برجلين فليأت برجل وامرأتين ، هذا قول الجمهور . فرجل رفع بالابتداء ، "وامرأتان" عطف عليه والخبر محذوف . أي فرجل وامرأتان يقومان مقامهما . ويجوز النصب في غير القرآن ، أي فاستشهدوا رجلاً وامرأتين . وحكى سيبويه : إن خنجراً فخنجراً . وقال قوم : بل المعنى فإن لم يكن رجلان ، أي لم يوجدا فلا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال . قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، فلفظ الآية لم يعطيه ، بل الظاهر منه قول الجمهور ، أي أن لم يكن المستشهد رجلين ، أي إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصده لعذر ما فليستشهد رجلاً وامرأتين . فجعل تعالى شهادة المرأتين مع الرجل جائزة مع وجود الرجلين في هذه الآية ، ولم يذكرها في غيرها ، فأجيزت في الأموال خاصة في قول الجمهور ، بشرط أن يكون معهما رجل . وإنما كان ذلك في الأموال دون غيرها ، لأن الأموال كثر الله أسباب توثيقها لكثرة جهات تحصيلها وعموم البلوى بها وتكررها ، فجعل فيها التوثق تارة بالكتبة وتارة بالإشهاد وتارة بالرهن وتارة بالضمان ، وأدخل في جميع ذلك شهادة النساء مع الرجال . ولا يتوهم عاقل أن قوله تعالى : "إذا تداينتم بدين" يشتمل على دين المهر مع البضع ، وعلى الصلح على دم العمد ،فإن تلك الشهادة ليست شهادة على الدين ، بل هي شهادة على النكاح . وأجاز العلماء شهادتهن منفردات فيما لا يطلع عليه غيرهن للضرورة . وعلى مثل ذلك أجيزت شهادة الصبيان في الجراح فيما بينهم للضرورة .
وقد اختلف العلماء في شهادة الصبيان في الجراح وهي :
الثامنة والعشرون : فأجازها مالك ما لم يختلفوا ولم يفترقوا . ولا يجوز أقل من شهادة اثنين منهم على صغير لكبير ولكبير على صغير . وممن كان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح عبد الله بن الزبير . وقال مالك : وهو الأمر عندنا المجتمع عليه . ولم يجز الشافعي و ابو حنيفة وأصحابه شهادتهم ، لقوله تعالى "من رجالكم" وقوله "ممن ترضون" وقوله "ذوي عدل منكم" وهذه الصفات ليست في الصبي .
هذه الاية الكريمة أطول آية في القرآن العظيم, وقد قال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا يونس, أخبرنا ابن وهب, أخبرني يونس عن ابن شهاب, قال حدثني سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا حماد بن سلمة, عن علي بن زيد, عن يوسف بن مهران, عن ابن عباس أنه قال لما نزلت آية الدين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أول من جحد آدم عليه السلام, إن الله لما خلق آدم مسح ظهره, فأخرج منه ما هو ذار إلى يوم القيامة, فجعل يعرض ذريته عليه فرأى فيهم رجلاً يزهر, فقال: أي رب من هذا ؟ قال: هو ابنك داود, قال: أي رب, كم عمره, قال ستون عاماً, قال: رب زد في عمره, قال: لا إلا أن أزيده من عمرك, وكان عمر آدم ألف سنة, فزاده أربعين عاماً, فكتب عليه بذلك كتاباً وأشهد عليه الملائكة, فلما احتضر آدم وأتته الملائكة, قال: إنه بقي من عمري أربعون عاماً, فقيل له: إنك وهبتها لابنك داود, قال: ما فعلت, فأبرز الله عليه الكتاب وأشهد عليه الملائكة". وحدثنا أسود بن عامر, عن حماد بن سلمة, فذكره وزاد فيه "فأتمها الله لداود مائة وأتمها لادم ألف سنة". وكذا رواه ابن أبي حاتم عن يوسف بن أبي حبيب, عن أبي داود الطيالسي, عن حماد بن سلمة: هذا حديث غريب جداً, وعلي بن زيد بن جدعان في أحاديثه نكارة, وقد رواه الحاكم في مستدركه بنحوه من حديث الحارث بن عبد الرحمن بن أبي وثاب عن سعيد المقبري, عن أبي هريرة, ومن رواية أبي داود بن أبي هند, عن الشعبي عن أبي هريرة, ومن طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة, عن أبي هريرة, ومن حديث تمام بن سعد, عن زيد بن أسلم, عن أبي صالح, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم, فذكره بنحوه.
فقوله: "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه" هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها, ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها, وقد نبه على هذا في آخر الاية حيث قال: " ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا " وقال سفيان الثوري, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, عن ابن عباس في قوله: "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه" قال: أنزلت في السلم إلى أجل غير معلوم, وقال قتادة عن أبي حسان الأعرج عن ابن عباس, قال: أشهد السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله وأذن فيه, ثم قرأ " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ", رواه البخاري, وثبت في الصحيحين من رواية سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح, عن عبد الله بن كثير, عن أبي المنهال, عن ابن عباس, قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أسلف فليسلف في كيل معلوم, ووزن معلوم, إلى أجل معلوم", وقوله: "فاكتبوه" أمر منه تعالى بالكتابة لتوثقة والحفظ , فإن قيل: فقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر, قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" فما الجمع بينه وبين الأمر بالكتابة ؟ فالجواب أن الدين من حيث هو غير مفتقر إلى كتابة أصلاً, لأن كتاب الله قد سهل الله ويسر حفظه على الناس, والسنن أيضاً محفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, والذي أمر الله بكتابته إنما هو أشياء جزئية تقع بين الناس, فأمروا أمر إرشاد لا أمر إيجاب كما ذهب إليه بعضهم, قال ابن جريج: من ادان فليكتب, ومن ابتاع فليشهد, وقال قتادة: ذكر لنا أن أبا سليمان المرعشي كان رجلاً صحب كعباً, فقال ذات يوم لأصحابه: هل تعلمون مظلوماً دعا ربه فلم يستجب له ؟ فقالوا: وكيف يكون ذلك ؟ قال: رجل باع بيعاً إلى أجل فلم يشهد ولم يكتب فلما حل ماله جحده صاحبه, فدعا ربه فلم يستجب له, لأنه قد عصى ربه, وقال أبو سعيد والشعبي والربيع بن أنس والحسن وابن جريج وابن زيد وغيرهم: كان ذلك واجباً, ثم نسخ بقوله: " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " والدليل على ذلك أيضاً الحديث الذي حكي عن شرع من قبلنا مقرراً في شرعنا ولم ينكر عدم الكتابة والإشهاد. قال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد, حدثنا ليث عن جعفر بن ربيعة, عن عبد الرحمن بن هرمز, عن أبي هريرة, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنه ذكر أن رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار, فقال: ائتني بشهداء أشهدهم. قال: كفى بالله شهيداً, قال ائتني بكفيل قال: كفى بالله كفيلاً. قال: صدقت, فدفعها إلى أجل مسمى فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركباً يقدم عليه للأجل الذي أجله فلم يجد مركباً فأخذ خشبة فنقرها, فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة معها إلى صاحبها, ثم زجج موضعها, ثم أتى بها البحر, ثم قال: اللهم إنك قد علمت أني استسلفت فلاناً ألف دينار, فسألني كفيلاً فقلت: كفى بالله كفيلاً, فرضي بذلك، وسألني شهيداً فقلت: كفى بالله شهيداً, فقلت: كفى بالله شهيداً, فرضي بذلك، وإني قد جهدت أن أجد مركباً أبعث بها إليه بالذي أعطاني فلم أجد مركباً وإني استودعتكها, فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه, ثم انصرف وهو في ذلك يطلب مركباً إلى بلده, فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركباً يجيئه بماله, فإذا بالخشبة التي فيها المال, فأخذها لأهله حطباً, فلما كسرها وجد المال والصحيفة, ثم قدم الرجل الذي كان تسلف منه, فأتاه بألف دينار وقال: والله ما زلت جاهداً في طلب مركب لاتيك بمالك فما وجدت مركباً قبل الذي أتيت فيه قال: هل كنت بعثت إلى بشيء ؟ قال: ألم أخبرك أني لم أجد مركباً قبل الذي جئت فيه ؟ قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة, فانصرف بألفك راشداً, وهذا إسناد صحيح وقد رواه البخاري في سبعة مواضع من طرق صحيحة معلقاً بصيغة الجزم, فقال وقال الليث بن سعيد فذكره, ويقال إنه في بعضها عن عبد الله بن صالح كاتب الليث عنه.
وقوله: " وليكتب بينكم كاتب بالعدل " أي بالقسط والحق ولا يجر في كتابته على أحد, ولا يكتب إلا ما اتفقوا عليه من غير زيادة ولا نقصان. وقوله "ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب" أي ولا يمتنع من يعرف الكتابة إذا سئل أن يكتب للناس ولا ضرورة عليه في ذلك, فكما علمه الله ما لم يكن يعلم, فليتصدق على غيره ممن لا يحسن الكتابة وليكتب, كما جاء في الحديث "إن من الصدقة أن تعين صانعاً أو تصنع لأخرق" وفي الحديث الاخر "من كتم علماً يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" وقال مجاهد وعطاء: واجب على الكاتب أن يكتب, وقوله: " وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه " أي وليملل المدين على الكاتب ما في ذمته من الدين وليتق الله في ذلك "ولا يبخس منه شيئاً" أي لا يكتم منه شئياً "فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً" محجوراً عليه بتبذير ونحوه "أو ضعيفاً" أي صغيراً, أو مجنوناً "أو لا يستطيع أن يمل هو" إما لعي أو جهل بموضع صواب ذلك من خطئه "فليملل وليه بالعدل".
وقوله: "واستشهدوا شهيدين من رجالكم" أمر بالإشهاد مع الكتابة لزيادة التوثقة "فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان" وهذا إنما يكون في الأموال, وما يقصد به المال, وإنما أقيمت المرأتان مقام الرجل لنقصان عقل المرأة, كما قال مسلم في صحيحه: حدثنا قتيبة, حدثنا إسماعيل بن جعفر , عن عمرو بن أبي عمرو, عن المقبري, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم, أنه قال "يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار , فإني رأيتكن أكثر أهل النار" فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار ؟ قال: "تكثرن اللعن, وتكفرن العشير, ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن" قالت: يا رسول الله ما نقصان العقل والدين ؟ قال "أما نقصان عقلها, فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل, فهذا نقصان العقل, وتمكث الليالي لا تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين".
وقوله: "ممن ترضون من الشهداء" فيه دلالة على اشتراط العدالة في الشهود, وهذا مقيد حكم به الشافعي على كل مطلق في القرآن من الأمر بالإشهاد من غير اشتراط وقد استدل من رد المستور بهذه الاية الدالة على أن يكون الشاهد عدلاً مرضياً. وقوله: "أن تضل إحداهما" يعني المرأتين إذا نسيت الشهادة "فتذكر إحداهما الأخرى" أي يحصل لها ذكر بما وقع به من الإشهاد, وبهذا قرأ آخرون فتذكر بالتشديد من التذكار , ومن قال: إن شهادتها معها تجعلها كشهادة ذكر فقد أبعد. والصحيح الأول, والله أعلم.
وقوله: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا" قيل: معناه إذا دعوا للتحمل فعليهم الإجابة, وهو قول قتادة والربيع بن أنس, وهذا كقوله: "ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب" ومن ههنا استفيد أن تحمل الشهادة فرض كفاية, وقيل مذهب الجمهور, والمراد بقوله: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا" للأداء, لحقيقة قوله الشهداء, والشاهد حقيقة فيمن تحمل, فإذا دعي لأدائها فعليه الإجابة إذا تعينت وإلا فهو فرض كفاية, والله أعلم, وقال مجاهد وأبو مجلز وغير واحد: إذا دعيت لتشهد فأنت بالخيار , وإذا شهدت فدعيت فأجب, وقد ثبت في صحيح مسلم والسنن من طريق مالك, عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم, عن أبيه عبد الله بن عمرو بن عثمان, عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن زيد بن خالد, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال "ألا أخبركم بخير الشهداء ؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها" فأما الحديث الاخر في الصحيحين "ألا أخبركم بشر الشهداء ؟ الذين يشهدون قبل أن يستشهدوا" وكذا قوله: "ثم يأتي قوم تسبق أيمانهم شهادتهم, وتسبق شهادتهم أيمانهم" وفي رواية "ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون" وهؤلاء شهود الزور, وقد روي عن ابن عباس والحسن البصري أنها تعم الحالين التحمل, والأداء.
وقوله: " ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله" هذا من تمام الإرشاد وهو الأمر بكتابة الحق صغيراً كان أو كبيراً, فقال: ولا تسأموا أي لا تملوا أن تكتبوا الحق على أي حال كان من القلة والكثرة إلى أجله, وقوله: " ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا " أي هذا الذي أمرناكم به من الكتابة للحق إذا كان مؤجلاً هو أقسط عند الله, أي أعدل وأقوم للشهادة, أي أثبت للشاهد إذا وضع خطه ثم رآه تذكر به الشهادة, لاحتمال أنه لو لم يكتبه أن ينساه, كما هو الواقع غالباً " وأدنى أن لا ترتابوا " وأقرب إلى عدم الريبة بل ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي كتبتموه فيفصل بينكم بلا ريبة.
وقوله: " إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها " أي إذا كان البيع بالحاضر يداً بيد, فلا بأس بعدم الكتابة لانتفاء المحذور في تركها.
فأما الإشهاد على البيع فقد قال تعالى: "وأشهدوا إذا تبايعتم" قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثني يحيى بن عبد الله بن بكر, حدثني ابن لهيعة, حدثني عطاء بن دينار , عن سعيد بن جبير, في قوله تعالى: "وأشهدوا إذا تبايعتم" يعني أشهدوا على حقكم إذا كان في أجل أو لم يكن فيه أجل , فأشهدوا على حقكم على كل حال, قال وروي عن جابر بن زيد ومجاهد وعطاء والضحاك نحو ذلك, وقال الشعبي والحسن: هذا الأمر منسوخ بقوله: " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " وهذا الأمر محمول عند الجمهور على الإرشاد والندب لا على الوجوب, والدليل على ذلك حديث خزيمة بن ثابت الأنصاري, وقد رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو اليمان, حدثنا شعيب عن الزهري, حدثني عمارة بن خزيمة الأنصاري أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. أن النبي صلى الله عليه وسلم, ابتاع فرساً من أعرابي, فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه, فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم وأبطأ الأعرابي, فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس, ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي صلى الله عليه وسلم, فنادى الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت مبتاعاً هذا الفرس فابتعه وإلا بعته, فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي, قال: أوليس قد ابتعته منك ؟ قال الأعرابي: لا والله ما بعتك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل قد ابتعته منك فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وسلم, والأعرابي, وهما يتراجعان فطفق الأعرابي يقول: هلم شهيداً يشهد أني بايعتك, فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي: ويلك إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول إلا حقاً حتى جاء خزيمة فاستمع لمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم ومراجعة الأعرابي يقول: هلم شهيداً يشهد أني بايعتك, قال خزيمة: أنا أشهد أنك قد بايعته, فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال بم تشهد ؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين, وهكذا رواه أبو داود من حديث شعيب والنسائي من رواية محمد بن الوليد الزبيدي, وكلاهما عن الزهري به نحوه, ولكن الاحتياط هو الإرشاد لما رواه الإمامان الحافظ أبو بكر بن مردويه, والحاكم في مستدركه من رواية معاذ بن معاذ العنبري, عن فراس, عن الشعبي, عن أبي بردة, عن أبي موسى, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال "ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم: رجل له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها, ورجل دفع مال يتيم قبل أن يبلغ, ورجل أقرض رجلاً مالاً فلم يشهد" ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط الشيخين, قال: ولم يخرجاه لتوقيف أصحاب شعبة هذا الحديث على أبي موسى, وإنما أجمعوا على سند حديث شعبة بهذا الإسناد "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين".
وقوله تعالى: " ولا يضار كاتب ولا شهيد " قيل: معناه لا يضار الكاتب ولا الشاهد, فيكتب هذا خلاف ما يملي, ويشهد هذا بخلاف ما سمع أو يكتمها بالكلية, وهو قول الحسن وقتادة وغيرهما. وقيل: معناه لا يضربهما, قال ابن أبي حاتم: حدثنا أسيد بن عاصم, حدثنا الحسين يعني ابن حفص, حدثنا سفيان عن يزيد بن أبي زيادة, عن مقسم, عن ابن عباس, في هذه الاية " ولا يضار كاتب ولا شهيد " قال: يأتي الرجل فيدعوهما إلى الكتاب والشهادة, فيقولان: إنا على حاجة, فيقول إنكما قد أمرتما أن تجيبا, فليس له أن يضارهما, قال: وروي عن عكرمة ومجاهد وطاوس وسعيد بن جبير والضحاك وعطية ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك, وقوله: "وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم" أي إن خالفتم ما أمرتم به أو فعلتم ما نهيتم عنه, فإنه فسق كائن بكم, أي لازم لكم لا تحيدون عنه ولا تنفكون عنه, وقوله "واتقوا الله" أي خافوه وراقبوه واتبعوا أمره واتركوا زجره "ويعلمكم الله" كقوله "يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا" وكقوله: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به" وقوله: "والله بكل شيء عليم" أي هو عالم بحقائق الأمور ومصالحها وعواقبها فلا يخفى عليه شيء من الأشياء بل علمه محيط بجميع الكائنات.
هذا شروع في بيان حال المداينة الواقعة بين الناس بعد بيان حال الربا: أي إذا داين بعضكم بعضاً وعامله بذلك، وذكر الدين بعد ذكر ما يغني عنه من المداينة لقصد التأكيد مثل قوله: "ولا طائر يطير بجناحيه" وقيل: إنه ذكر ليرجع إليه الضمير في من قوله: 282- " فاكتبوه " ولو قال: فاكتبوا الدين لم يكن فيه من الحسن ما في قوله: "إذا تداينتم بدين"، والدين عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقداً، والآخر في الذمة نسيئة، فإن العين عند العرب ما كان حاضراً، والدين ما كان غائباً، قال الشاعر:
وعدتنا بدرهمينا طلاء وسواء معجلاً غير دين
وقال الآخر:
إذا ما أوقدوا ناراً وحطباً فذاك الموت نقداً غير دين
وقد بين الله سبحانه هذا المعنى بقوله: "إلى أجل مسمى" وقد استدل به على أن الأجل المجهول لا يجوز وخصوصاً أجل السلم. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم" وقد قال بذلك الجمهور، واشترطوا توقيته بالأيام أو الأشهر أو السنين، قالوا: ولا يجوز إلى الحصاد أو الدياس أو رجوع القافلة أو نحو ذلك. وجوزه مالك. قوله: "فاكتبوه" أي الدين بأجله لأنه أدفع للنزاع وأقطع للخلاف. قوله: "وليكتب بينكم كاتب" هو بيان لكيفية الكتابة المأمور بها، وظاهر الأمر الوجوب، وبه قال عطاء والشعبي وغيرهما، فأوجبوا على الكاتب أن يكتب إذا طلب منه ذلك، ولم يوجد كاتب سواه، وقيل: الأمر للندب. وقوله: "بالعدل" متعلق بمحذوف صفة لكاتب أي كاتب كائن بالعدل: أي يكتب بالسوية لا يزيد ولا ينقص ولا يميل إلى أحد الجانبين، وهو أمر للمتداينين باختيار كاتب متصف بهذه الصفة لا يكون في قلبه ولا قلمه هوادة لأحدهما على الآخر، بل يتحرى الحق بينهم والمعدلة فيهم. قوله: "ولا يأب كاتب" النكرة في سياق النفي مشعرة بالعموم: أي لا يمتنع أحد من الكتاب أن يكتب كتاب التداين كما علمه الله: أي على الطريقة التي علمه الله من الكتابة، أو كما علمه الله بقوله: "بالعدل". قوله: "وليملل الذي عليه الحق" الإملال والإملاء لغتان: الأولى لغة أهل الحجاز وبني أسد والثانية لغة بني تميم، فهذه الآية جاءت على اللغة الأولى، وجاء على اللغة الثانية قوله تعالى: "فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً" و"الذي عليه الحق" هو من عليه الدين، أمره الله تعالى بالإملاء، لأن الشهادة إنما تكون على إقراره بثبوت الدين في ذمته، وأمره الله بالتقوى فيما يمليه على الكاتب، بالغ في ذلك بالجمع بين الإسم والوصف في قوله: "وليتق الله ربه" ونهاه عن البخس وهو النقص، وقيل: إنه نهي للكاتب. والأول أولى لأن من عليه الحق هو الذي يتوقع منه النقص، ولو كان نهياً للكاتب لم يقتصر في نهيه على النقص، لأنه يتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقص. والسفيه هو الذي لا رأي له في حسن التصرف فلا يحسن الأخذ ولا الإعطاء، شبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج، والعرب تطلق السفه على ضعف العقل تارة، وعلى ضعف البدن أخرى، فمن الأول قول الشاعر:
نخاف أن تسفه أحلامنا ونجهل الدهر مع الجاهل
ومن الثاني قول ذي الرمة:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم
أي استضعفها واستلانها بحركتها، وبالجملة فالسفيه هو المبذر إما لجهله بالصرف أو لتلاعبه بالمال عبثاً مع كونه لا يجهل الصواب. والضعيف: هو الشيخ الكبير، أو الصبي. قال أهل اللغة: الضعف بضم الضاد في البدن، وبفتحها في الرأي. والذي لا يستطيع أن يمل هو الأخرس أو العيي الذي لا يقدر على التعبير كما ينبغي، وقيل: إن الضعيف هو المذهول العقل الناقص الفطنة العاجز عن الإملاء، والذي لا يستطيع أن يمل هو الصغير. قوله: "فليملل وليه بالعدل" الضمير عائد إلى الذي عليه الحق فيمل عن السفيه وليه المنصوب عنه بعد حجره عن التصرف في ماله، ويمل عن الصبي وصيه أو وليه، وكذلك يمل عن العاجز الذي لا يستطيع الإملال لضعف وليه لأنه في حكم الصبي أو المنصوب عنه من الإمام أو القاضي، ويمل عن الذي لا يستطيع وكيله إذا كان صحيح العقل وعرضت له آفة في لسانه أو لم تعرض، ولكنه جاهل لا يقدر على التعبير كما ينبغي. وقال الطبري: إن الضمير في قوله: "وليه" يعود إلى الحق، وهو ضعيف جداً. قال القرطبي في تفسيره: وتصرف السفيه المحجور عليه دون وليه فاسد إجماعاً مفسوخ أبداً لا يوجب حكماً ولا يؤثر شيئاً، فإن تصرف سفيه ولا حجر عليه ففيه خلاف انتهى. قوله: "واستشهدوا شهيدين من رجالكم" الاستشهاد: طلب الشهادة، وسماهما شهيدين قبل الشهادة من مجاز الأول أي باعتبار ما يؤول إليه أمرهما من الشهادة، و"من رجالكم" متعلق بقوله: "واستشهدوا" أو بمحذوف هو صفة لشهيدين: أي كائنين من رجالكم: أي من المسلمين فيخرج الكفار، ولا وجه لخروج العبيد من هذه الآية، فهم إذا كانوا مسلمين من رجال المسلمين، وبه قال شريح وعثمان البتي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وجمهور العلماء: لا تجوز شهادة العبد لما يلحقه من نقص الرق. وقال الشعبي والنخعي: يصح في الشيء اليسير دون الكثير. واستدل الجمهور على عدم جواز شهادة العبد بأن الخطاب في هذه الآية مع الذين يتعاملون بالمداينة والعبيد لا يملكون شيئاً تجري فيه المعاملة. ويجاب عن هذا بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأيضاً العبد تصح منه المداينة وسائر المعاملات إذا أذن له مالكه بذلك. وقد اختلف الناس هل الإشهاد واجب أو مندوب، فقال أبو موسى الأشعري وابن عمر والضحاك وعطاء وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد ومجاهد وداود علي الظاهري وابنه: إنه واجب، ورجحه ابن جرير الطبري، وذهب الشعبي والحسن ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه مندوب، وهذا الخلاف بين هؤلاء هو في جوب الإشهاد على البيع. واستدل الموجبون بقوله تعالى: "وأشهدوا إذا تبايعتم" ولا فرق بين هذا الأمر وبين قوله: "واستشهدوا"، فيلزم القائلين بوجوب الإشهاد في البيع أن يقولوا بوجوبه في المداينة. قوله: "فإن لم يكونا" أي الشهيدان " رجلين فرجل وامرأتان " أي: فليشهد رجل وامرأتان أو فرجل وامرأتان يكفون. وقوله: " ممن ترضون من الشهداء " متعلق بمحذوف وقع صفة لرجل وامرأتان: أي كائنون ممن ترضون حال كونهم من الشهداء. والمراد ممن ترضون دينهم وعدالتهم، أي كائنون ممن ترضون حال كونهم من الشهداء. والمراد ممن ترضون دينهم وعدالتهم، وفيه أن المرأتين في الشهادة برجل، وأنها لا تجوز شهادة النساء إلا مع الرجل لا وحدهن إلا فيما لا يطلع عليه غيرهن للضرورة. واختلفوا هل يجوز الحكم بشهادة امرأتين مع يمين المدعي كما جاز الحكم برجل مع يمين المدعي؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنه يجوز ذلك، لأن الله سبحانه قد جعل المرأتين كالرجل في هذه الآية. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يجوز ذلك، وهذا يرجع إلى الخلاف في الحكم بشاهد مع يمين المدعي، والحق أنه جائز لورود الدليل عليه، وهو زيادة لم تخالف ما في الكتاب العزيز فيتعين قبولها. وقد أوضحنا ذلك في شرحنا للمنتقى وغيره من مؤلفاتنا، ومعلوم عند كل من يفهم أنه ليس في هذه الآية ما يرد به قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين، ولم يدفعوا هذا إلا بقاعدة مبينة على شفا جرف هار هي قوله: إن الزيادة على النص نسخ، وهذه دعوى باطلة، بل الزيادة على النص شريعة ثابتة جاءنا بها من جاءنا بالنص المتقدم عليها، وأيضاً كان يلزمهم أن لا يحكموا بنكول المطلوب ولا بيمين الرد على الطالب. وقد حكموا بهما، والجواب الجواب. قوله: "أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى" قال أبو عبيد: معنى تضل تنسى، والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء. وقرأ حمزة إن تضل بكسر الهمزة. وقوله: "فتذكر" جوابه على هذه القراءة، وعلى قراءة الجمهور هو منصوب بالعطف على تضل، ومن رفعه فعلى الاستئناف. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو فتذكر بتخفيف الذال والكاف، ومعناه: تزيدها ذكراً. وقراءة الجماعة بالتشديد: أي تنبيهاً إذا غفلت ونسيت، وهذه الآية تعليل لاعتبار العدد في النساء: أي فليشهد رجل وتشهد امرأتان عوضاً عن الرجل الآخر لأجل تذكير إحداهما للأخرى إذا ضلت، وعلى هذا فيكون في الكلام حذف وهو سؤال سائل عن وجه اعتبار امرأتين عوضاً عن الرجل الواحد، فقيل: وجهه أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، والعلة في الحقيقة هي التذكير، ولكن الضلال لما كان سبباً له نزل منزلته، وأبهم الفاعل في تضل وتذكر، لأن كلاً منهما يجوز عليه الوصفان، فالمعنى: إن ضلت هذه ذكرتها هذه، وإن ضلت هذه ذكرتها هذه لا على التعيين: أي: إن ضلت إحدى المرأتين ذكرتها المرأة الأخرى، وإنما اعتبر فيهما هذا التذكير لما يلحقهما من ضعف النساء بخلاف الرجال. وقد يكون الوجه في الإبهام أن ذلك يعني الضلال والتذكير يقع بينهما متناوباً حتى ربما ضلت هذه عن وجه وضلت تلك عن وجه آخر، فذكرت كل واحدة منهما صاحبتها. وقال سفيان بن عيينة: معنى قوله: "فتذكر إحداهما الأخرى" تصيرها ذكراً، يعني أن مجموع شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل الواحد. وروي نحوه عن أبي عمرو بن العلاء، ولا شك أن هذا باطل لا يدل عليه شرع ولا لغة ولا عقل. قوله: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا" أي لأداء الشهادة التي قد تحملوها من قبل، وقيل: إذا ما دعوا لتحمل الشهادة، وتسميتهم شهداء مجاز كما تقدم، وحملها الحسن على المعنيين. وظاهر هذا النهي أن الامتناع من أداء الشهادة حرام. قوله: "ولا تسأموا أن تكتبوه" معنى تسأموا: تملوا. قال الأخفش: يقال: سئمت أسأم سآمة وسئاماً، ومنه قول الشاعر:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم
أي لا تملوا أن تكتبوه: أي الدين الذي تداينتم به، وقيل: الحق، وقيل: الشاهد، وقيل: الكتاب، نهاهم الله سبحانه عن ذلك لأنهم ربما ملوا من كثرة المداينة أن يكتبوا، ثم بالغ في ذلك فقال: "صغيراً أو كبيراً" أي حال كون ذلك المكتوب صغيراً أو كبيراً: أي لا تملوا في حال من الأحوال سواء كان الدين كثيراً أو قليلاً، وقيل: إنه كنى بالسآمة عن الكسل. والأول أولى. وقدم الصغير هنا على الكبير للاهتمام به لدفع ما عساه أن يقال: إن هذا مال صغير: أي قليل لا احتياج إلى كتبه، والإشارة في قوله: "ذلكم" إلى المكتوب المذكور في ضمير قوله: "أن تكتبوه" "وأقسط" معناه أعدل: أي أصح وأحفظ "وأقوم للشهادة" أي أعون على إقامة الشهادة وأثبت لها وهو مبني من أقام، وكذلك أقسط مبني من فعله: أي أقسط. وقد صرح سيبويه بأنه قياسي: أي بني أفعل التفضيل. ومعنى قوله: " وأدنى أن لا ترتابوا " أقرب لنفي الريب في معاملاتكم: أي الشك، ولذلك أن الكتاب الذي يكتبونه يدفع ما يعرض لهم من الريب كائناً ما كان. قوله: "إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم" أن في موضع نصب على الاستثناء قاله الأخفش، وكان تامة: أي إلا أن تقع أو توجد تجارة، والاستثناء منقطع: أي لكن وقت تبايعكم وتجارتكم حاضرة بحضور البدلين "تديرونها بينكم" تتعاطونها يداً بيد، فالإدارة: التعاطي والتقابض، فالمراد التبايع الناجز يداً بيد فلا حرج عليكم إن تركتم كتابه. وقرئ بنصب تجارة على أن كان ناقصة: أي إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة. قوله: "وأشهدوا إذا تبايعتم" قيل معناه: وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع المذكور هذا وهو التجارة الحاضرة على أن الإشهاد فيها يكفي، وقيل معناه: إذا تبايعتم أي تبايع كان حاضراً أو كالئاً، لأن ذلك أدفع لمادة الخلاف وأقطع لمنشأ الشجار. وقد تقدم قريباً ذكر الخلاف في كون هذه الإشهاد واجباً أو مندوباً. قوله: "ولا يضار كاتب ولا شهيد" يحتمل أن يكون مبنياً للفاعل أو للمفعول، فعلى الأول معناه: لا يضارر كاتب ولا شهيد من طلب ذلك منهما، إما بعدم الإجابة، أو بالتحريف والتبديل والزيادة والنقصان في كتابه، ويدل على هذا قراءة عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي إسحاق ولا يضارر بكسر الراء الأولى، وعلى الثاني لا يضارر كاتب ولا شهيد بأن يدعيا إلى ذلك وهما مشغولان بمهم لهما ويضيق عليهما في الإجابة ويؤذيا إن حصل منهما التراخي، أو يطلب منهما الحضور من مكان بعيد، ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود ولا يضارر بفتح الراء الأولى، وصيغة المفاعلة تدل على اعتبار الأمرين جميعاً. وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: "لا تضار والدة بولدها" ما إذا راجعته زادك بصيرة إن شاء الله. قوله: "وإن تفعلوا" أي ما نهيتم عنه من المضارة "فإنه" أي فعلكم هذا "فسوق بكم" أي خروج عن الطاعة إلى المعصية ملتبس بكم "واتقوا الله" في فعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه "ويعلمكم الله" ما تحتاجون إليه من العلم، وفيه الوعد لمن اتقاه أن يعلمه، ومنه قوله تعالى: "إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً".
282. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى " قال ابن عباس رضي الله عنهما لما حرم الله الربا أباح السلم وقال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله تعالى في كتابه وأذن فيه فيه ثم قال " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ".
قوله: " إذا تداينتم " أي تعاملتم بالدين، يقال: داينته إذا عاملته بالدين وإنما قال " بدين " بعد قوله تداينتم لأن المداينة قد تكون مجازاة وتكون معاطاة ففقيده بالدين ليعرف المراد من اللفظ، وقيل: ذكره تأكيداً كقوله تعالى: " ولا طائر يطير بجناحيه " (38-الأنعام) " إلى أجل مسمى " الأجل مدة معلومة الأول والآخر، والأجل يلزم في الثمن في البيع وفي السلم حتى لا يكون لصاحب الحق الطلب قيل محله، وفي القرض لا يلزم الأجل عن أكثر أهل العلم " فاكتبوه " أي اكتبوا الذي تداينتم به، بيعاً كان أو سلماً أو قرضاً.
واختلفوا في هذه الكتابة: فقال بعضهم: هي واجبة، والأكثرون على أنه أمر استحباب فإن أمر استحباب فإن ترك فلا بأس كقوله تعالى " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض " (10-الجمعة) وقال بعضهم كانت كتابة الدين والإشهاد والرهن فرضاً ثم نسخ الكل بقوله " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " وهو قول الشعبي ثم بين كيفية الكتابة فقال جل ذكره " وليكتب بينكم " أي ليكتب كتاب الدين بين الطالب والمطلوب " كاتب بالعدل " أي بالحق من غير زيادة ولا نقصان ولا تقديم أجل ولا تأخير " ولا يأب " أي لايمتنع " كاتب أن يكتب " واختلفوا في وجوب الكتابة على الكاتب وتحمل الشهادة على الشاهد فذهب قوم إلى وجوبها إذا طولب وهو قول مجاهد، وقال الحسن تجب إذا لم يكن كاتب غيره ، وقال قوم هو على الندب والاستحباب ، وقال الضحاك كانت عزيمة واجبة على الكاتب والشاهد فنسخها قوله تعالى " ولا يضار كاتب ولا شهيد " " كما علمه الله " أي كما شرعه الله وأمره " فليكتب وليملل الذي عليه الحق " يعني : المطلوب يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه ، والأملاء لغتان فصيحتان معناهما واحد جاء بهما القرآن ، فالإملال هاهنا ، والإملاء قوله تعالى : فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً (5ـالفرقان ) " وليتق الله ربه " يعني الملل " ولا يبخس منه شيئا " أي ولاينقص منه أي من الحق الذي عليه شيئاً . " فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً " أي جاهلاً بلإملاء قاله مجاهد، وقال الضحاك و السدي طفلاً صغيراً ، وقال الشافعي رحمه الله السفيه : المبذر المفسد لماله أو في دينه. قوله " أو ضعيفا " أي شيخاً كبيراً وقيل هو ضعيف العقل لعته أو جنون " أو لا يستطيع أن يمل هو " لخرس أو عي أو عجمه أو حبس أو غيبة لايمكنه حضور الكاتب أوجهل بما له وعليه " فليملل وليه " أي قيمة " بالعدل " أي بالصدق والحق ، وقال ابن عباس رضي الله عنه ومقاتل : أراد بالولي صاحب الحق ، يعني إن عجز من عليه الحق من ألاملال فليملل ولي الحق وصاحب الدين بالعدل لأنه أعلم بحقه " واستشهدوا " أي وأشهدوا " شهيدين " أي شاهدين " من رجالكم " يعني الأحرار المسلمين ، دون العبيد والصبيان والكفار ، وهو قول أكثر أهل العلم ، وأجاز شريح وابن سيرين شهادة العبيد " فإن لم يكونا رجلين " أي لم يكن الشاهدان رجلين " فرجل وامرأتان " أي فليشهد رجل وامرأتان .
وأجمع الفقهاء على أن شهادة النساء مع الرجال في الأموال حتى تثبت برجل وامرأتين واختلفوا في غير الأموال فذهب جماعة إلى أنه تجوز شهادتين مع الرجال في غير العقوبات، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي، وذهب جماعة إلى أن غير المال لا يثبت إلا برجلين عدلين وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن ما يطلع عليه النساء غالباً كالولادة والرضاع والثيوبة والبكارة ونحوها يثبت بشهادة رجل وامرأتين، وبشهادة أربع نسوة، واتفقوا على أن شهادة النساء غير جائزة في العقوبات.
قوله تعالى: " ممن ترضون من الشهداء " يعني من كان مرضياً في ديانته وأمانته، وشرائط [قبول] الشهادة سبعة: الإسلام والحرية والعقل والبلوغ والعدالة والروءة وانتفاء التهمة، فشهادة الكافر مردودة لأن المعروفين بالكذب عند الناس لا تجوز شهادتهم، فالذي يكذب على الله تعالى أولى أن يكون مردود الشهادة، وجوز أصحاب الرأي شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، ولا تقبل شهادة العبيد، وأجازها شريح و ابن سيرين وهو قول أنس بن مالك رضي الله عنه، ولا قول للمجنون حتى يكون له شهادة، ولا تجوز شهادة الصبيان سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك؟ فقال: لا تجوز، لأن الله تعالى يقول: " ممن ترضون من الشهداء " والعدالة شرط، وهي أن يكون الشاهد مجتنباً للكبائر غير مصر على الصغائر، والمروءة شرط، وهي ما يتصل بآداب النفس مما يعلم أن تاركه قليل الحياء، وهي حسن الهيئة والسيرة والعشرة والصناعة، فإن كان الرجل يظهر من نفسه في شيء منها ما يستحي أمثاله من إظهاره في الأغلب يعلم به قلة مروءته وترد شهادته، وانتفاء التهمة شرط حتى لا تقبل شهادة العدو على العدو وإن كان مقبول الشهادة على غيره، لأنه متهم في حق عدوه، ولا تقبل شهادة الرجل لولده ووالده وإن كان مقبول الشهادة عليهما، ولا تقبل شهادة من يجر بشهادته إلى نفسه نفعاً، كالوارث يشهد على رجل بقتل مورثه، أو يدفع عن نفسه بشهادته ضرراً كالمشهود عليه كالمشهود عليه يشهد بجرح من يشهد عليه لتمكن التهمة في شهادته.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسن المروزي ، أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج الطحان أخبرنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان ، أخبرنا علي بن عبد العزيز المكي ، أخبرنا أبو عبيد القاسم ابن سلام أخبرنا مروان الفزاري عن شيخ من أهل الحيرة يقال له يزيد بن زياد عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنهما ترفعه (( لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا ظنين في ولاء ولا قرابة ولا القانع مع أهل البيت )).
قوله تعالى: " أن تضل إحداهما " قرأ حمزة إن تضل بكسر الألف " فتذكر " برفع الراء، ومعناه الجزاء والابتداء، وموضع تضل جزم بالجزاء إلا أنه لا يتبين في التضعيف ((فتذكر)) رفع لأن ما بعد فاء الجزاء مبتدأ، وقراءة العامة بفتح الألف ونصب الراء على الاتصال بالكلام الأول، وتضل محله نصب بأن فتذكر منسوق عليه، ومعنى الآية: فرجل وامراتان كي تذكر " إحداهما الأخرى " ومعنى تضل أي تنسى، يريد إذا نسيت إحداهما شهادتها، تذكرها الأخرى فتقول ألسنا حضرنا مجلس كذا وسمعنا كذا؟ قرأ ابن كثير وأهل البصرة: فتذكر مخففاً، وقرأ الباقون مشدداً، وذكر واذكر بمعنى واحد، وهما متعديان من الذكر الذي هو ضد النسيان، وحكي عن سفيان بن عيينة أنه قال: هو من الذكر أي تجعل إحداهما الأخرى ذكراً أي تصير شهادتهما كشهادة ذكر، والأول أصح لأنه معطوف على النسيان.
قوله تعالى: " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قيل أراد به إذا ما دعوا لتحمل الشهادة، سماهم شهداء على معنى أنهم يكونون شهداء وهو أمر إيجاب عند بعضهم، وقال قوم: تجب الإجابة إذا لم يكن غيره فن وجد غيره (فهو مخير) وهو قول الحسن ، وقال قوم: هو أمر ندب وهو مخير في جميع الأحوال، وقال بعضهم، هذا في إقامة الشهادة وأدائها فمعنى الآية " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " لأداء الشهادة التي تحملوها، وهو قول مجاهد و عطاء و عكرمة و سعيد بن جبير ، وقال الشعبي : الشاهد بالخيار ما لم يشهد، وقال الحسن : الآية في الأمرين جميعاً في التحمل والإقامة إذا كان فارغاً.
" ولا تسأموا " أي ولا تملوا " أن تكتبوه " والهاء راجعة إلى الحق " صغيراً " كان الحق " أو كبيراً " قليلاً كان أو كثيراً " إلى أجله " إلى محل الحق " ذلكم " أي الكتاب " أقسط " أعدل " عند الله " لأنه أمر به، واتباع أمره أعدل من تركه " وأقوم للشهادة " لأن الكتابة تذكر الشهود " وأدنى " وأحرى وأقرب إلى " أن لا ترتابوا " تشكوا في الشهادة " إلا أن تكون تجارة حاضرة " قرأهما عاصم بالنصب على خبر كان وأضمر الاسم، مجازه: إلا أن تكون التجارة تجارة (حاضرة) أو المبايعة تجارة، وقرأ الباقون بالرفع وله وجهان:
أحدهما: أن تجعل الكون بمعنى الوقوع معناه إلا أن تقع تجارة.
والثاني: أن تجعل الاسم في التجارة والخبر في الفعل وهو قوله " تديرونها بينكم " تقديره إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم، ومعنى الآية إلا أن تكون تجارة حاضرة يداً بيد تديرونها بينكم ليس فيها أجل" فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها " يعني التجارة " وأشهدوا إذا تبايعتم " قال الضحاك : هو عزم والإشهاد واجب في صغير الحق وكبيره نقداً أو نسيئاً، وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: الأمر فيه إلى الأمانة لقوله تعالى " فإن أمن بعضكم بعضاً " الآية، وقال الآخرون هو أمر ندب.
قوله تعالى: " ولا يضار كاتب ولا شهيد " هذا نهي للغائب، وأصله يضارر، فأدغمت إحدى الرائين في الأخرى ونصبت لحق التضعيف لاجتماع الساكنين، واختلفوا فيه فمنهم من قال: أصله يضارر بكسر الراء الأولى، وجعل الفعل للكاتب والشهيد، معناه لا يضار الكاتب فيأبى أن يكتب ولا الشهيد فيأبى أن يشهد، ولا يضار الكاتب فيزيد أو ينقص أو يحرف ما أملي عليه ولا الشهيد فيشهد بما لم يستشهد عليه، وهذا قول طاووس و الحسن و قتادة ، وقال قوم: أصله يضارر بفتح الراء على الفعل المجهول وجعلوا الكاتب والشهيد مفعولين ومعناه أن يدعو الرجل الكاتب أو الشاهد وهما على شغل مهم، فيقولان/ نحن على شغل مهم فاطلب غيرنا فيقول الداعي إن الله أمركما أن تجيبا ويلح عليهما فيشغلهما عن حاجتهما فنهي عن ذلك وأمر بطلب غيرهما " وإن تفعلوا " ما نهيتكم عنه من الضرر " فإنه فسوق بكم ": أي معصية وخروج عن الأمر " واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم "
282-" يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين " أي إذا داين بعضكم بعضاً ، تقول : داينته إذا عاملته نسيئة معطياً أو آخذاً . وفائدة ذكر الدين أن لا يتوهم من التداين المجازاة ويعلم تنوعه إلى المؤجل والحال ، وأنه الباعث على الكتبة ويكون مرجع ضمير فاكتبوه " إلى أجل مسمى " معلوم الأيام والأشهر لا بالحصاد وقدوم الحاج . " فاكتبوه " لأنه أوثق وادفع للنزاع ، والجمهور على أنه استحباب . وعن ابن عباس رضي الله عنهما ( أن المراد به المسلم وقال لما حرم الله الربا أباح السلم ) . " وليكتب بينكم كاتب بالعدل " من يكتب السوية لا يزيد ولا ينقص ، وهو في الحقيقة أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه دين حتى يجيء مكتوبة موثوقاً به معدلاً بالشرع . " ولا يأب كاتب " ولا يمتنع أحد من الكتاب . " أن يكتب كما علمه الله " مثل ما علمه الله من كتبة الوثائق ،أو لا يأب أن ينفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها كقوله : " وأحسن كما أحسن الله إليك " . " فليكتب " تلك الكتابة المعلمة. أمر بها بعد النهي عن الإباء عنها تأكيداً ، ويجوز أن تتعلق الكاف بالأمر فيكون النهي عن الامتناع منها مطلقة ثم الأمر بها مقيدة . " وليملل الذي عليه الحق " وليكن المملي من عليه الحق لأنه المقر المشهود عليه ، والإملال والإملاء واحد . " وليتق الله ربه " أي المملي . أو الكاتب . " ولا يبخس " ولا ينقص . " منه شيئاً " أي من الحق ، أو مما أملى عليه . " فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً " ناقص العقل مبذراً . " أو ضعيفاً " صبياً أو شيخاً مختلاً . " أو لا يستطيع أن يمل هو " أو غير مستطيع للإملال بنفسه لخرس أو جهل باللغة . " فليملل وليه بالعدل " أي الذي يلي أمره ويقوم مقامه من قيم إن كان صبياً أو مختل العقل ، أو وكيل أو مترجم إن كان غير مستطيع . وهو دليل جريان النيابة في الإقرار ولعله مخصوص بما تعاطاه القيم أو الوكيل . " واستشهدوا شهيدين " واطلبوا أن يشهد على الدين شاهدان . " من رجالكم " من رجال المسلمين ، وهو دليل اشتراط إسلام الشهود وإليه ذهب عامة العلماء وقال أبو حنيفة : تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض ." فإن لم يكونا رجلين " فإن لم يكن الشاهدان رجلين . " فرجل وامرأتان " فليشهد أو فليستشهد رجل وامرأتان ، وهذا مخصوص بالأموال عندنا وبما عدا الحدود والقصاص عند أبي حنيفة . " ممن ترضون من الشهداء " لعلمكم بعدالتهم . " أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " علة اعتبار العدد أي لأجل أن إحداهما إن ضلت الشهادة بأن نسيتها ذكرتها الأخرى ، والعلة في الحقيقة التذكير ولكن لما كان الضلال سبباً له نزل منزلته كقولهم : أعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه ، وكأنه قيل : إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت ، وفيه إشعار بنقصان عقلهن وقلة ضبطهن . وقرأ حمزة " أن تضل " على الشرط فتذكر بالرفع . وابن كثير و أبو عمرو و يعقوب " فتذكر " من الإذكار . " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " لأداء الشهادة أو التحمل . وسموا شهداء قبل التحمل تنزيلاً لما يشارف منزلة الواقع و " ما " مزيدة . " ولا تسأموا أن تكتبوه " ولا تملوا من كثرة مدايناتكم أن تكتبوا الدين أو الحق أو الكتاب . وقيل كنى بالسأم عن الكسل لأنه صفة المنافق ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام " لا يقول المؤمن كسلت " " صغيراً أو كبيراً " صغيراً كان الحق أو كبيراً ، أو مختصراً كان الكاتب أو مشبعاً . " إلى أجله " إلى وقت حلوله الذي أقر به المديون . " ذلكم " إشارة إلى أن تكتبوه . " أقسط عند الله " أكثر قسطاً . " وأقوم للشهادة " وأثبت لها وأعون على إقامتها ، وهما مبنيان من أقسط وأقام على غير قياس ، أو من قاسط بمعنى ذي قسط وقويم ، وإنما صحت الواو في " أقوم " كما صحت في التعجب لجموده . " وأدنى أن لا ترتابوا " وأقرب في أن لا تشكوا في جنس الدين وقدره وأجله والشهود ونحو ذلك . " إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها " استثناء من الأمر بالكتابة والتجارة الحاضرة تعم المبايعة بدين أو عين ، وإدارتها بينهم تعاطيهم إياها يداً بيد أي : إلا أن تتبايعوا يداً بيد فلا بأس أن تكتبوا ، لبعده عن التنازع والنسيان . ونصب عاصم " تجارة " على أنه الخبر والاسم مضمر تقديره إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كقوله :
‌ بني أسد هل تعلمون بلاءنا إذا كان يوماً ذا كواكب أشنعا ‌
ورفعها الباقون على أنها الاسم والخبر تديرونها أو على كان التامة . " وأشهدوا إذا تبايعتم " هذا التبايع ، أو مطلقاً لأنه أحوط . والأوامر التي في هذه الآية للاستحباب عند أكثر الأئمة . وقيل : إنها للوجوب ثم اختلف في إحكامها ونسخها . " ولا يضار كاتب ولا شهيد " يحتمل البناءين ، ويدل عليه أنه قرئ " ولا يضار " بالكسر والفتح . وهو نهيهما عن ترك الإجابة والتحريف والتغيير في الكتب والشهادة ، أو النهي عن الضرار بهما مثل أن يعجلا عن مهم ويكلفا الخروج عما حد لهما ، ولا يعطى الكاتب جعله ، والشهيد مؤنة مجيئه حيث كان . " وإن تفعلوا " الضرار أو ما نهيتم عنه . " فإنه فسوق بكم " خروج عن الطاعة لا حق بكم . " واتقوا الله " في مخالفة أمره ونهيه ." ويعلمكم الله " أحكامه المتضمنة لمصالحكم . " والله بكل شيء عليم " كرر لفظه الله في الجمل الثلاث لاستقلالها ،فإن الأولى حث على التقوى ، والثانية وعد بإنعامه ، والثالثة تعظيم لشأنه . ولأنه أدخل في التعظيم من الكناية .
282. O ye who believe! When ye contract a debt for a fixed term, record it in writing. Let a scribe record it in writing between you in (terms of) equity. No scribe should refuse to write as Allah hath taught him, so let him write, and let him who incurreth the debt dictate, and let him observe his duty to Allah his Lord, and diminish naught thereof. But if he who oweth the debt is of low understanding, or weak, or unable himself to dictate, then let the guardian of his interests dictate in (terms of) equity. And call to witness, from among your men, two witnesses. And if two men be not (at hand) then a man and two women, of such as ye approve as witnesses, so that if the one erreth (through forgetfulness) the other will remember. And the witnesses must not refuse when they are summoned. Be not averse to writing down (the contract) whether it be small or great, with (record of) the term thereof. That is more equitable in the sight of Allah and more sure for testimony, and the best way of avoiding doubt between you; save only in the case when it is actual merchandise which ye transfer among yourselves from hand to hand. In that case it is no sin for you if ye write it not. And have witnesses when ye sell one to another, and let no harm be done to scribe or witness. If ye do (harm to them) lo! it is a sin in you. Observe your duty to Allah. Allah is teaching you. And Allah is Knower of all things.
282 - O ye who believe! when ye deal with each other, in transactions involving future obligations in a fixed period of time, reduce them to writing let a scribe write down faithfully as between the parties: let not the scribe refuse to write: as God h as taught him, so let him write. let him who incurs the liability dictate, but let him fear his Lord God, and not diminish aught of what he owes. if the party liable is mentally deficient, or weak, or unable himself to dictate, let his guardian dictate faithfully. and get two witnesses, out of your own men, and if there are not two men, then a man and two women, such as ye choose, for witnesses, so that if one of them errs, the other can remind her. the witnesses should not refuse when they are called on (for evidence). disdain not to reduce to writing (your contract) for a future period, whether it be small or big: it is juster in the sight of God, more suitable as evidence, and more convenient to prevent doubts among yourselves but if it be a transaction which ye carry out on the spot among yourselves, there is no blame on you if ye reduce it not to writing. but take witnesses whenever ye make a commercial contract; and let neither scribe nor witness suffer harm. if ye do (such harm), it would be wickedness in you. so fear God; for it is God that teaches you. and God is well acquainted with all things.