[البقرة : 275] الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
(الذين يأكلون الربا) أي يأخذونه وهو الزيادة في المعاملة بالنقود والمطعومات في القدر أو الأجل (لا يقومون) من قبورهم (إلا) قياما (كما يقوم الذي يتخبطه) يصرعه (الشيطان من المَسِّ) الجنون ، متعلق بيقومون (ذلك) الذي نزل بهم (بأنهم) بسبب أنهم (قالوا إنما البيع مثل الربا) في الجواز وهذا من عكس التشبيه مبالغة فقال تعالى ردا عليهم (وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه) بلغه (موعظة) وعظ (من ربه فانتهى) عن أكله (فله ما سلف) قبل النهي أي لا يسترد منه (وأمره) في العفو عنه (إلى الله ومن عاد) إلى أكله مشبها له بالبيع في الحل (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: الذين يربون.
والإرباء الزيادة على الشيء، يقال منه: أربى فلان على فلان، إذا زاد عليه، يربي إرباءً، والزيادة هي الربا، وربا الشيء، إذا زاد على ما كان عليه فعظم، فهو يربو ربواً. وإنما قيل للرابية [رابية]، لزيادتها في العظم والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها، من قولهم: ربا يربو. ومن ذلك قيل: فلان في رباوة قومه، يراد أنه في رفعة وشرف منهم. فأصل الربا، الإنافة والزيادة، ثم يقال: أربى فلان أي أناف [ماله، حين] صيره زائداً. وإنما قيل للمربي: مرب، لتضعيفه المال، الذي كان له على غريمه حالاً، أو لزيادته عليه فيه لسبب الأجل الذي يؤخره إليه فيزيده إلى أجله الذي كان له قبل حل دينه عليه. ولذلك قال جل ثناؤه: "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة" [آل عمران: 131].
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال، في الربا الذي نهى الله عنه: كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين فيقول: لك كذا وكذا وتؤخر عني! فيؤخر عنه.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثني بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أن ربا أهل الجاهلية: يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمىً، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء، زاده وأخر عنه.
قال أبو جعفر: فقال جل ثناؤه: الذين يربون الربا الذي وصفنا صفته في الدنيا، "لا يقومون" في الآخرة من قبورهم، "إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس"، يعني بذلك: يتخبله الشيطان في الدنيا، وهو الذي يخنقه فيصرعه، "من المس"، يعني: من الجنون.
وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس"، يوم القيامة، في أكل الربا في الدنيا.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم قال، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس"، قال: ذلك حين يبعث من قبره.
حدثنا المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم قال، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب، وقرأ: "لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس"، قال: ذلك حين يبعث من قبره.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس". الآية، قال: يبعث آكل الربا يوم القيامة مجنوناً يخنق.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "الذين يأكلون الربا لا يقومون"، الآية، وتلك علامة أهل الربا يوم القيامة، بعثوا بهم خبل من الشيطان.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس"، قال: هو التخبل الذي يتخبله الشيطان من الجنون.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس"، قال: يبعثون يوم القيامة وبهم خبل من الشيطان. وهي في بعض القراءة: لا يقومون يوم القيامة.
حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس"، قال: من مات وهو يأكل الربا، بعث يوم القيامة متخبطاً، كالذي يتخبطه الشيطان من المس.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس"، يعني: من الجنون.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس"، قال: هذا مثلهم يوم القيامة، لا يقومون يوم القيامة مع الناس إلا كما يقوم الذي يخنق من الناس، كأنه خنق، كأنه مجنون.
قال أبو جعفر: ومعنى قوله: "يتخبطه الشيطان من المس"، يتخبله من مسه إياه.
يقال منه: قد مس الرجل وألق، فهو ممسوس ومألوق، كل ذلك إذا ألم به اللمم فجن. ومنه قول الله عز وجل: "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا" [الأعراف: 201]، ومنه قول الأعشى:
وتصبح عن غب السرى، وكأنما ألم بها من طائف الجن أولق
فإن قال لنا قائل: أفرأيت من عمل ما نهى الله عنه من الربا في تجارته ولم يأكله، أيستحق هذا الوعيد من الله؟
قيل: نعم، وليس المقصود من الربا في هذه الآية الأكل، إلا أن الذين نزلت فيهم هذه الآيات يوم نزلت، كانت طعمتهم ومأكلهم من الربا، فذكرهم بصفتهم، معظماً بذلك عليهم أمر الربا، ومقبحاً إليهم الحال التي هم عليها في مطاعمهم. وفي قوله جل ثناؤه : "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله" [البقرة: 278-279] الآية، ما ينبئ عن صحة ما قلنا في ذلك، وأن التحريم من الله في ذلك كان لكل معاني الربا، وأن سواءً العمل به وأكله وأخذه وإعطاؤه، كالذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله:
"لعن الله آكل الربا ومؤكله، وكاتبه وشاهديه، إذا علموا به".
قال أبو جعفر: يعني بـ"ذلك" جل ثناؤه: ذلك الذي وصفهم به من قيامهم يوم القيامة من قبورهم، كقيام الذي يتخبطه الشيطان من المس من الجنون. فقال تعالى ذكره: هذا الذي ذكرنا أنه يصيبهم يوم القيامة من قبح حالهم، ووحشة قيامهم من قبورهم، وسوء ما حل بهم، من أجل أنهم كانوا في الدنيا يكذبون ويفترون ويقولون: "إنما البيع" الذي أحله الله لعباده، "مثل الربا". وذلك أن الذين ياكلون الربا من أهل الجاهلية، كان إذا حل مال أحدهم على غريمه، يقول الغريم لغريم الحق: زدني في الأجل وأزيدك في مالك. فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك: هذا رباً لا يحل. فإذا قيل لهما ذلك قالا: سواء علينا زدنا في أول البيع، أو عند محل المال! فكذبهم الله في قيلهم فقال: "وأحل الله البيع".
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: وأحل الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع، "وحرم الربا"، يعني الزيادة التي يزاد رب المال بسبب زيادته غريمه في الأجل، وتأخيره دينه عليه. يقول عز وجل: فليست الزيادتان اللتان إحداهما من وجه البيع، والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل، سواء. وذلك أني حرمت إحدى الزيادتين -وهي التي من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل- وأحللت الأخرى منهما، وهي التي من وجه الزيادة على رأس المال الذي ابتاع به البائع سلعته التي يبيعها، فيستفضل فضلها. فقال الله عز وجل: ليست الزيادة من وجه البيع نظير الزيادة من وجه الربا، لأني أحللت البيع وحرمت الربا، والأمر أمري والخلق خلقي، أقضي فيهم ما أشاء، وأستعبدهم بما أريد، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي، ولا أن يخالف أمري، وإنما عليهم طاعتي والتسليم لحكمي.
ثم قال جل ثناؤه: "فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى"، يعني بـالموعظة: التذكير، والتخويف الذي ذكرهم وخوفهم به في آي القرآن، وأوعدهم على أكلهم الربا من العقاب. يقول جل ثناؤه: فمن جاءه ذلك، "فانتهى" عن أكل الربا وارتدع عن العمل به وانزجر عنه -"فله ما سلف"، يعني: مما أكل وأخذ فمضى، قبل مجيء الموعظة والتحريم من ربه في ذلك- "وأمره إلى الله"، يعني: وأمر آكله بعد مجيئه الموعظة من ربه والتحريم، وبعد انتهاء آكله عن أكله، إلى الله في عصمته وتوفيقه، إن شاء عصمه عن أكله وثبته في انتهائه عنه، وإن شاء خذله عن ذلك- "ومن عاد"، يقول: ومن عاد لأكل الربا بعد التحريم، وقال ما كان يقوله قبل مجيء الموعظة من الله بالتحريم، من قوله: "إنما البيع مثل الربا"، "فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون"، يعني: ففاعلو ذلك وقائلوه هم أهل النار، يعني نار جهنم، فيها خالدون.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله"، أما الموعظة فالقرآن، وأما "ما سلف"، فله ما أكل من الربا.
قوله تعالى : "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" .
لما ذكر تعالى الأبرار المؤدين النفقات, المخرجين الزكوات, المتفضلين بالبر والصدقات لذوي الحاجات والقرابات في جميع الأحوال والأوقات, شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات, فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها, إلى بعثهم ونشورهم, فقال "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس", أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه, وتخبط الشيطان له, وذلك أنه يقوم قياماً منكراً. وقال ابن عباس: آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق, رواه ابن أبي حاتم, قال: وروي عن عوف بن مالك وسعيد بن جبير والسدي والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان نحو ذلك, وحكي عن عبد الله بن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان أنهم قالوا في قوله "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس" يعني لا يقومون يوم القيامة, وكذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد والضحاك وابن زيد, وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حنيف, عن أبي عبد الله بن مسعود, عن أبيه, أنه كان يقرأ " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " وقال ابن جرير: حدثني المثنى, حدثنا مسلم بن إبراهيم, حدثنا ربيعة بن كلثوم, حدثنا أبي, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: يقال يوم القيامة لاكل الربا: خذ سلاحك للحرب, وقرأ "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس" وذلك حين يقوم من قبره. وفي حديث أبي سعيد في الإسراء, كما هو مذكور في سورة سبحان, أنه عليه السلام مر ليلتئذ بقوم لهم أجواف مثل البيوت, فسأل عنهم, فقيل: هؤلاء أكلة الربا. رواه البيهقي مطولاً, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا الحسن بن موسى, عن حماد بن سلمة, عن علي بن زيد, عن أبي الصلت, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات تجري من خارج بطونهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء أكلة الربا". ورواه الإمام أحمد, عن حسن وعفان وكلاهما عن حماد بن سلمه به, وفي إسناده ضعف. وقد روى البخاري عن سمرة بن جندب في حديث المنام الطويل: فأتينا على نهر, حسبت أنه كان يقول: أحمر مثل الدم, وإذا في النهر رجل سابح يسبح, وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة, وإذا ذلك السابح يسبح, ثم يأتي الذي قد جمع الحجارة عنده, فيفغر له فاه فيلقمه حجراً, نذكر في تفسيره أنه آكل الربا.
وقوله " ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا ", أي إنما جوزوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه, وليس هذا قياساً منهم للربا على البيع, لأن المشركين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن ولو كان هذا من باب القياس لقالوا: إنما الربا مثل البيع, وإنما قالوا: "إنما البيع مثل الربا" أي هو نظيره, فلم حرم هذا وأبيح هذا ؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع, أي هذا مثل هذا, وقد أحل هذا وحرم هذا, وقوله تعالى: "وأحل الله البيع وحرم الربا" يحتمل أن يكون من تمام الكلام رداً عليهم, أي على ما قالوه من الاعتراض, مع علمهم بتفريق الله بين هذا وهذا حكماً, وهو العليم الحكيم الذي لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون, وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها وما ينفع عباده فيبيحه لهم, وما يضرهم ينهاهم عنه, وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل, ولهذا قال: "فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله" أي من بلغه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه, فله ما سلف من المعاملة, لقوله: "عفا الله عما سلف" وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة "وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين, وأول ربا أضع ربا العباس" ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية بل عفا عما سلف, كما قال تعالى: "فله ما سلف وأمره إلى الله" قال سعيد بن جبير والسدي: فله ما سلف ما كان أكل من الربا قبل التحريم. وقال ابن أبي حاتم: قرئ على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم, أخبرنا ابن وهب, أخبرني جرير بن حازم, عن أبي إسحاق الهمداني, عن أم يونس يعني امرأته العالية بنت أيفع, أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لها أم محبة أم ولد لزيد بن أرقم: يا أم المؤمنين أتعرفين زيد بن أرقم ؟ قالت: نعم, قالت: فإني بعته عبداً إلى العطاء بثمانمائة, فأحتاج إلى ثمنه, فاشتريته قبل محل الأجل بستمائة, فقالت: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت, أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, إن لم يتب, قال: فقلت أرأيت إن تركت المائتين وأخذت الستمائة ؟ قالت: نعم "فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف" وهذا الأثر مشهور وهو دليل لمن حرم مسألة العينة, مع ما جاء فيها من الأحاديث المذكورة المقررة في كتاب الأحكام, ولله الحمد والمنة, ثم قال تعالى: "ومن عاد" أي إلى الربا ففعله بعد بلوغه نهي الله عنه, فقد استوجب العقوبة, وقامت عليه الحجة, ولهذا قال: "فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" وقد قال أبو داود: حدثنا يحيى أبو داود, حدثنا يحيى بن معين, أخبرنا عبد الله بن رجاء المكي, عن عبد الله بن عثمان خثيم, عن أبي الزبير, عن جابر, قال: لما نزلت "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله" ورواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن خثيم, وقال : صحيح على شرط مسلم, ولم يخرجاه, وإنما حرمت المخابرة وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض والمزابنة: وهي اشتراء الرطب في رؤوس النخل وبالتمر على وجه الأرض, والمحاقلة وهي اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض, إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها حسماً لمادة الربا, لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف, ولهذا قال الفقهاء: الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة, ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا والوسائل الموصلة إليه, وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم, وقد قال تعالى: "وفوق كل ذي علم عليم" وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم, وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه: الجد, والكلالة, وأبواب من أبواب الربا ـ يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا ـ والشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله, لأن ما أفضى إلى الحرام حرام, كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الحلال بين والحرام بين, وبين ذلك أمور مشتبهات, فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه, ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام, كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه" وفي السنن عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وفي الحديث الاخر: "الإثم ما حاك في القلب وترددت فيه النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس" وفي رواية "استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك" وقال الثوري عن عاصم, عن الشعبي, عن ابن عباس, قال: آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم, آية الربا, رواه البخاري عن قبيصة عنه, وقال أحمد عن يحيى عن سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة عن سعيد بن المسيب, أن عمر قال: من آخر ما نزل, آية الربا, وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا, فدعوا الربا والريبة, وقال رواه ابن ماجه وابن مردويه من طريق هياج بن بسطام, عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري, قال: خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إني لعلي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم, وآمركم بأشياء لا تصلح لكم, وإن من آخر القرآن نزولاً آية الربا, وإنه قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينه لنا, فدعوا ما يريبكم, إلى ما لا يريبكم, وقد قال ابن أبي عدي بالإسناد موقوفاً, فذكره ورده الحاكم في مستدركه, وقد قال ابن ماجه, حدثنا عمرو بن علي الصيرفي, حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن زبيد عن إبراهيم عن مسروق عن عبد الله, هو ابن مسعود, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الربا ثلاثة وسبعون باباً" ورواه الحاكم في مستدركه: من حديث عمرو بن علي الفلاس بإسناده مثله, وزاد "أيسرها أن ينكح الرجل أمه, وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم" وقال: صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه. وقال ابن ماجه: حدثنا عبد الله بن سعيد, حدثنا عبد الله بن إدريس, عن أبي معشر عن سعيد المقبري, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الربا سبعون جزءاً, أيسرها أن ينكح الرجل أمه" وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم عن عباد بن راشد, عن سعيد بن أبي خيرة, حدثنا الحسن منذ نحو أربعين أو خمسين سنة, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا, قال: قيل له: الناس كلهم ؟ قالمن لم يأكله منهم ناله من غباره", وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه, من غير وجه, عن سعيد بن أبي خيرة, عن الحسن به, ومن هذا القبيل تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات, الحديث الذي رواه الإمام أحمد, حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش, عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عائشة, قالت: لما نزلت الايات من آخر سورة البقرة في الربا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقرأهن, فحرم التجارة في الخمر, وقد أخرجه الجماعة, سوى الترمذي, من طرق من الأعمش به, وهكذا لفظ رواية البخاري عند تفسير هذه الاية, فحرم التجارة, وفي لفظ له عن عائشة, قالت: لما نزلت الايات من آخر سورة البقرة في الربا, قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس, ثم حرم التجارة في الخمر, قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الأئمة: لما حرم الربا ووسائله حرم الخمر وما يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك, كما قال عليه السلام في الحديث المتفق عليه: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها" وقد تقدم في حديث علي وابن مسعود وغيرهما, عند لعن المحلل في تفسير قوله: "حتى تنكح زوجاً غيره" قوله صلى الله عليه وسلم "لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه", قالوا: وما يشهد عليه ويكتب إلا إذا أظهر في صورة عقد شرعي, ويكون داخله فاسداً, فالاعتبار بمعناه لا بصورته, لأن الأعمال بالنيات, وفي الصحيح: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم, وإنما ينظر إلى قلوبكم, وأعمالكم" وقد صنف الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية, كتاباً في إبطال التحليل, تضمن النهي عن تعاطي الوسائل المفضية إلى كل باطل, وقد كفى في ذلك, وشفى, فرحمه الله, ورضي عنه.
الربا في اللغة: الزيادة مطلقاً، يقال ربا الشيء يربو: إذا زاد، وفي الشرع يطلق على شيئين على ربا الفضل، وربا النسيئة حسبما هو منفصل في كتب الفروع، وغالب ما كانت تفعله الجاهلية أنه إذا حل أجل الدين قال من هو له لمن هو عليه: أتقضي أم تربي؟ فإذا لم يقض زاد مقداراً في المال الذي وأخر له الأجل إلى حين. وهذا حرام بالاتفاق، وقياس كتابة الربا بالياء للكسرة في أوله. وقد كتبوه في المصحف بالواو. قال في الكشاف: على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة، وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع انتهى. قلت: وهذا مجرد اصطلاح لا يلزم المشي عليه، فإن هذه النقوش الكتابية أمور اصطلاحية لا يشاحح في مثلها إلا فيما كان يدل به منها على الحرف الذي كانه في أصل الكلمة ونحوه كما هو مقرر في مباحث الخط من علم الصرف، وعلى كل حال فرسم الكلمة وجعل نقشها الكتابي على ما يقتضيه اللفظ بها هو الأولى، فما كان في النطق ألفاً كالصلاة والزكاة ونحوهما كان الأولى في رسمه أن يكون كذلك، وكون أصل هذا الألف واواً أو ياءً لا يخفى على من علم الصرف، وهذه النقوش ليست إلا لفهم اللفظ الذي يدل على بها عليه كيف هو في نطق من ينطق به لا لتفهيم أن أصل الكلمة كذا مما لا يجري به النطق، فاعرف هذا ولا تشتغل بما يعتبره كثير من أهل العلم في هذه النقوش ويلزمون به أنفسهم ويعيبون من خالفه، فإن ذلك من المشاححة في الأمور الاصطلاحية التي لا تلزم أحداً أن يتقيد بها، فعليك بأن ترسم هذه النقوش على ما يلفظ به اللافظ عند قراءتها، فإنه الأمر المطلوب من وضعها والتواضع عليها، وليس الأمر المطلوب منها أن تكون دالة على ما هو أصل الكلمة التي يتلفظ بها المتلفظ مما لا يجري في لفظه الآن، فلا تغتر بما يروى عن سيبويه ونحاة البصرة أن يكتب الربا بالواو، لأنه يقول في تثنيته ربوان. وقال الكوفيون: يكتب بالياء، وتثنيته ربيان. قال الزجاج: ما رأيت خطأ أقبح من هذا ولا أشنع، لا يكفيهم الخطأ في الخط حتى يخطئوا في التثنية وهم يقرأون " وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو " وليس المراد بقوله هنا: 275- "الذين يأكلون الربا" اختصاص هذا الوعيد بمن يأكله، بل هو عام لكل من يعامل بالربا فيأخذه ويعطيه، وإنما خص الأكل لزيادة التشنيع على فاعله، ولكونه هو الغرض الأهم فإن آخذ الربا إنما أخذه للأكل قوله: "لا يقومون" أي يوم القيامة، كما يدل عليه قراءة ابن مسعود " لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ". أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم، وبهذا فسره جمهور المفسرين قالوا: إنه يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتاً عند أهل المحشر، وقيل: إن المراد تشبيه من يحرص في تجارته فيجمع ماله من الربا بقيام المجنون، لأن الحرص والطمع والرغبة في الجمع قد استفزته حتى صار شبيهاً في حركته بالمجنون، كما يقال لمن يسرع في مشيه ويضطرب في حركاته: إنه قد جن، ومنه قول الأعشى في ناقته:
وتصبح من غب السرى وكأنها ألم بها من طائف الجن أولق
فجعلها بسرعة مشيها ونشاطها كالمجنون. قوله: "إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس" أي إلا قياماً كقيام الذي يتخبطه، والخبط: الضرب بغير استواء كخبط العشواء وهو المصروع. والمس: الجنون، والأمس: المجنون، وكذلك الأولق وهو متعلق بقوله: "يقومون" أي: لا يقومون من المس الذي بهم "إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان" أو متعلق بيقوم. وفي الآية دليل على فساد قول من قال: إن الصرع لا يكون من جهة الجن، وزعم أنه من فعل الطبائع، وقال: إن الآية خارجة على ما كانت العرب تزعمه من أن الشيطان يصرع الإنسان، وليس بصحيح، وإن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس. وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من أن يتخبطه الشيطان، كما أخرجه النسائي وغيره. قوله: "ذلك" إشارة إلى ما ذكر من حالهم وعقوبتهم بسبب قولهم: "إنما البيع مثل الربا" أي: أنهم جعلوا البيع والربا شيئاً واحداً، وإنما شبهوا البيع بالربا مبالغة بجعلهم الربا أصلاً والبيع فرعاً، أي: إنما البيع بلا زيادة عند حلول الأجل كالبيع بزيادة عند حلوله، فإن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك، فرد الله سبحانه عليهم بقوله: "وأحل الله البيع وحرم الربا" أي: أن الله حل البيع وحرم نوعاً من أنواعه، وهو البيع المشتمل على الربا. والبيع مصدر باع يبيع: أي دفع عوضاً وأخذ معوضاً، والجملة بيانية لا محل لها من الإعراب. قوله: "فمن جاءه موعظة من ربه" أي من بلغته موعظة من الله من المواعظ التي تشتمل عليها الأوامر والنواهي، ومنها ما وقع هنا من النهي عن الربا "فانتهى" أي فامتثل النهي الذي جاءه والزجر عن المنهي عنه وهو معطوف: أي قوله: "فانتهى" على قوله: "جاءه". وقوله: "من ربه" متعلق بقوله: "جاءه" أو بمحذوف وقع صفة لموعظة: أي كائنة من " من ربه فانتهى فله ما سلف " أي ما تقدم منه من الربا لا يؤاخذ به، لأنه فعله قبل أن يبلغه تحريم الربا أو قبل أن تنزل آية تحريم الربا. وقوله: " وأمره إلى الله " قيل: الضمير عائد إلى ما سلف: أي أمره إلى الله في العفو عنه وإسقاط التبعة فيه، وقيل: الضمير يرجع إلى المربي: أي أمر من عامل بالربا إلى الله في تثبيته على الانتهاء أو الرجوع إلى المعصية "ومن عاد" إلى أكل الربا والمعاملة به "فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" والإشارة إلى من عاد، وجمع أصحاب باعتبار معنى من، وقيل: إن معنى من عاد: هو أن يعود إلى القول: بـ"إنما البيع مثل الربا" وأنه يكفر بذلك فيستحق الخلود، وعلى التقدير الأول يكون الخلود مستعاراً على معنى المبالغة، كما تقول العرب ملك خالد: أي طويل البقاء، والمصير إلى هذا التأويل واجب للأحاديث المتواترة القاضية بخروج الموحديث من النار.
275. قوله تعالى: " الذين يأكلون الربا " أي يعاملون به، وإنما خص الأكل لأنه معظم المقصود من المال " لا يقومون " يعني يوم القيامة من قبورهم " إلا كما يقوم الذي يتخبطه " أي يصرعه " الشيطان " أصل الخبط الضرب والوطء، وهو ضرب على غير استواء يقال: ناقة خبوط للتي تطأ الناس وتضرب الأرض بقوائمها " من المس " أي الجنون يقال: مس الرجل فهو ممسوس إذا كان مجنوناً، ومعناه: أن آكل الربا يبعث يوم القيامة وهو كمثل المضروع.
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم السرخسي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف ، أخبرنا عبد الله بن يحيى ، أخبرنا يعقوب بن سفيان أخبرنا إسماعيل بن سالم ، أخبرنا عباد بن عباد عن أبي هارون العبدي عن أبي سغيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الإسراء قال: " فانطلق بي جبريل عليه السلام إلى رجال كثير كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم منضدين على سابلة آل فرعون - وآل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً - قال: فيقبلون مثل الإبل المنهومة يخبطون الحجارة والشجر لا يسمعون ولا يعقلون، فإذا أحس بهم أصحاب تلك البطون قاموا، فتميل بهم بطونهم فيصرعون، ثم يقوم أحدهم فيميل أحدهم فيميل به بطنه فيصرع، فلا يستطيعون أن يبرحوا حتى يغشاهم آل فرعون فيردوهم مقبلين ومدبرين، فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا والآخرة (قال) وآل فرعون يقولون: اللهم لا تقم الساعة أبداً (قال) ويوم القيامة يقال: " أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " (46-غافر) قلت: يا جبريل من هم هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ".
قوله تعالى: " ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا " أي ذلك الذي نزل بهم لقولهم هذا واستحلالهم إياه، وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا حل ماله على غريمه فطالبه به فيقوم به فيقول الغريم لصاحب الحق: زدني في الأجل حتى أزيدك في المال، فيفعلان ذلك، ويقولون سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح أوعند المحل لأجل التأخير فكذبهم الله تعالى وقال: " وأحل الله البيع وحرم الربا " واعلم أن الربا في اللغة الزيادة قال الله تعالى: " وما آتيتم من رباً ليربو في أموال الناس " أي ليكثر " فلا يربو عند الله " (39-الروم) وطلب الزيادة بطريق التجارة غير حرام في الجملة، إنما المحرم زيادة على صفة مخصوصة في مال مخصوص بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا عبد الوهاب عن أيوب بن أبي تميمة عن محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار ورجل آخر عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير ولا التمر بالتمر ولا الملح بالملح إلا سواء بسواء، عيناً بعين، يداً بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، والتمر بالملح، والملح بالتمر يداً بيد كيف شئتم - ونقص أحدهم الملح أو التمر وزاد أحدهما: من زاد وازداد فقد أربى ".
روي هذا الحديث من طرق محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار و عبد الله بن عتيك عن عبادة فالنبي صلى الله عليه وسلم نص على ستة أشياء.
وذهب عامة أهل العلم إلى أن حكم الربا يثبت في هذه الأشياء الست بالأوصاف فيها فيتعدى إلى كل مال توجد فيه تلك الأوصاف، ثم اختلفوا في تلك الأوصاف، فذهب قوم: إلى أن المعنى في جميعها واحد وهو النفع وأثبتوا الربا في جميع الأموال، وذهب الأكثرون إلى أن الربا يثبت في الدراهم والدنانير بوصف وفي الأشياء المطعومة بوصف آخر، واختلفوا في ذلك الوصف فقال قوم: ثبت في الدراهم والدنانير بوصف، النقدية، وهو قول مالك و الشافعي ، وقال قوم: ثبت بعلة الوزن وهو قول أصحاب الرأي وأثبتوا الربا في جميع الموزونات مثل الحديد والنحاس والقطن ونحوها.
وأما الأشياء الأربعة فذهب قوم إلى أن الربا ثبت فيها بعلة الكيل وهو قول أصحاب الرأي، وأثبتوا الربا في جميع المكيلات مطعوماً كان أو غير مطعوم كالجص والنورة ونحوها، وذهب جماعة إلى أن العلة فيها الطعم مع الكيل والوزن، فكل مطعوم وهو مكيل أو موزون يثبت فيه الربا، ولا يثبت فيما ليس بمكيل ولا موزون، وهو قول سعيد بن المسيب ، وقاله الشافعي رحمه الله في القديم، وقال في الجديد: يثبت فيها الربا بوصف الطعم، وأثبت الربا في جميع الأشياء المطعومة من الثمار والفواكه والبقول والأدوية مكيلة كانت أو موزونة لما روي عن معمر بن عبد الله قال: كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الطعام بالطعام مثلاً بمثل ".
فجملة مال الربا عند الشافعي ما كان ثمناً أو مطعوماً، والربا نوعان: ربا الفضل وربا النساء، فإذا باع مال الربا بجنسه مثلاً بمثل بأن باع أحد النقدين بجنسه أو باع مطعوماً بجنسه كالحنطة بالحنطة ونحوها يثبت فيه كلا نوعي الربا حتى لا يجوز إلا متساويين في معيار الشرع، فإن كان موزوناً كالدراهم والدنانير فيشترط المساواة في الوزن، وإن كان مكيلاً كالحنطة بالحنطة ونحوها والدنانير فيشترط المساواة في الوزن، وإن كان مكيلاً كالحنطة والشعير بيع بجنسه، فيشترط المساواة في الكيل ويشترط التقابض في مجلس العقد، وإذا باع مال الربا بغير جنسه نظر: إن باع بما لا يوافقه في وصف الربا مثل أن باع الدراهم بالدنانير أو باع الحنطة بالشعير أو باع مطعوماً بمطعوم آخر من غير جنسه فلا يثبت فيه ربا الفضل حتى يجوز متفاضلاً أو جزافاً ويثبت فيه ربا النساء حتى يشترط التقابض في المجلس، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تبيعوا الذهب بالذهب - إلى أن قال - إلا سواء بسواء " فيه إيجاب المماثلة وتحريم الفضل عند اتفاق الجنس، وقوله (( عيناً بعين )) فيه تحريم النساء، وقوله يداً بيد كيف شئتم فيه إطلاق التفاضل عند اختلاف الجنس مع إيجاب التقابض في المجلس، هذا في ربا المبايعة.
ومن أقرض شيئاً بشرط أن يرد عليه أفضل فهو قرض جر منفعة وكل قرض جر منفعة فهو ربا.
قوله تعالى: " فمن جاءه موعظة من ربه " تذكير وتخويف، وإنما ذكر الفعل رداً إلى الوعظ " فانتهى " عن أكل الربا " فله ما سلف " أي ما مضى من ذنبه قبل النهي مغفور له " وأمره إلى الله " بعد النهي إن شاء عصمه حتى يثبت على الإنتهاء، وإن شاء خذله حتى يعود، وقيل: " أمره إلى الله " فيما يامره وينهاه ويحل له وحرم عليه وليس إليه من أمر نفسه شيء " ومن عاد " بعد التحريم إلى أكل الربا مستحلاً له " فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ".
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن المثنى حدثني غندر، أخبرنا شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي، ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور )).
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أخبرنا مسلم بن الحجاج ، أخبرنا زهير بن حرب ، أخبرنا هشيم أخبرنا أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء".
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا أبو محمد المخلدي ، أنا أبو حامد بن الشرقي أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي ، أخبرنا النضر بن محمد ، أخبرنا عكرمة بن عمار ، أخبرنا يحيى هو ابن أبي كثير قال: حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الربا سبعون باباً أهونها عند الله عز وجل كالذي ينكح أمه ".
275-" الذين يأكلون الربا " أي الآخذون له ، وإنما ذكر الأكل لأنه أعظم منافع المال ، ولأن الربا شائع في المطعومات وهو زيادة في الأجل ، بأن يباع مطعوم ، أو نقد بنقد إلى أجل ، أو في العوض بأن يباع أحدهما بأكثر منه من جنسه ، وإنما كتب بالواو كالصلاة للتفخيم على لغة وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع . " لا يقومون " إذا بعثوا من قبورهم . " إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان " إلا قياماً كقيام المصروع ، وهو وارد على ما يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع ، والخبط ضرب على غير اتساق كخبط العشواء . " من المس " أي الجنون ، وهذا أيضاً من زعمائهم أن الجني يمسه فيختلط عقله ولذلك قيل : جن الرجل . وهو متعلق بـ " لا يقومون " أي لا يقومون من المس الذي بهم بسبب أكل الربا ، أو بيقوم أو بيتخبط فيكون نهوضهم وسقوطهم كالمصروعين لا لاختلال عقولهم ولكن لأن الله أربى في بطونهم ما أكلوه من الربا فأثقلهم . " ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا " أي ذلك العقاب بسبب أنهم نظموا الربا والبيع في سلك واحد لإفضائهما إلى الربح فاستحلوه استحلاله . وكان الأصل إنما الربا مثل البيع ولكن عكس للمبالغة ، كأنهم جعلوا الربا أصلاً وقاسوا به البيع ، والفرق بين فإن من أعطى درهمين بدرهم ضيع درهماً ،ومن اشترى سلعة تساوي درهماً بدرهمين فلعل مساس الحاجة إليها ، أو توقع رواجها يجبر هذا الغبن . " وأحل الله البيع وحرم الربا " إنكار لتسويتهم ، وإبطال القياس بمعارضة النص . " فمن جاءه موعظة من ربه " فمن بلغه وعظ من الله تعالى وزجر كالنفي عن الربا . " فانتهى " فاتعظ وتبع النهي . " فله ما سلف " تقدم أخذه التحريم ولا يسترد منه ، وما في موضع الرفع بالظرف إن جعلت من موصولة ، وبالابتداء إن جعلت شرطية على رأي سيبويه إذ الظرف غير معتمد على ما قبله . " وأمره إلى الله " يجازيه على انتهائه إن كان من قبول الموعظة وصدق النية . وقيل يحكم في شأنه ولا اعتراض لكم عليه . " ومن عاد " إلى تحليل الربا ، إذ الكلام فيه . " فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " لأنهم كفروا به .
275. Those who swallow usury cannot rise up save as he ariseth whom the devil hath prostrated by (his) touch. That is because they say: Trade is just like usury; whereas Allah permitteth trading and forbiddeth usury. He unto whom an admonition from his Lord cometh, and (he) refraineth (in obedience thereto), he shall keep (the profits of) that which is past, and his affair (henceforth) is with Allah. As for him who returneth (to usury) Such are rightful owners of the Fire. They will abide therein.
275 - Those who devour usury will not stand except as stands one whom the evil one by his touch hath driven to madness. that is because they say: trade is like usury, but God hath permitted trade and forbidden usury. those who after receiving direction from their Lord, desist, shall be pardoned for the past; their case is for God (to judge); but those who repeat (the offence) are companions of the fire: they will abide therein (for ever).