[البقرة : 267] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
(يا أيها الذين آمنوا أنفقوا) أي زكوا (من طيبات) جياد (ما كسبتم) من المال (ومــن طيبات (ما أخرجنا لكم من الأرض) من الحبوب والثمار (ولا تيمموا) تقصدوا (الخبيث) الرديء (منه) أي المذكور (تنفقونـ) ـه في الزكاة ، حال من ضمير تيمموا (ولستم بآخذيه) أي الخبيث لو أعطيتموه في حقوقكم (إلا أن تغمضوا فيه) بالتساهل وغض البصر فكيف تؤدون منه حق الله (واعلموا أن الله غني) عن نفقاتكم (حميد) محمود على كل حال
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم الآية روى الحاكم والترمذي وابن ماجة وغيرهم عن البراء قال نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار كنا أصحاب نخل وكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي بالقنو فيه الصيص والحشف وبالقنو قد انكسر فيعلقه فأنزل الله يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم الآية
وروى أبو داود والنسائي والحاكم عن سهل بن حنيف قال كان الناس يتيممون شر ثمارهم يخرجونها في الصدقة فنزلت ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون وروى الحاكم عن جابر قال أمر النبي صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر بصاع من تمر فجاء رجل بتمر رديء فنزل القرآن يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم الآية وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترون الطعام الرخيص ويتصدقون به فأنزل الله هذه الآية
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "يا أيها الذين آمنوا"، صدقوا بالله ورسوله وآي كتابه. ويعني بقوله: "أنفقوا"، زكوا وتصدقوا، كما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "أنفقوا من طيبات ما كسبتم"، يقول: تصدقوا.
يعني بذلك جل ثناؤه: زكوا من طيب ما كسبتم بتصرفكم، إما بتجارة، وإما بصناعة، من الذهب والفضة. ويعني بـالطيبات، الجياد، يقول: زكوا أموالكم التي اكتسبتموها حلالاً وأعطوا في زكاتكم الذهب والفضة، الجياد منها دون الرديء، كما:-
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد في هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم"، قال: من التجارة.
حدثني موسى بن عبد الرحمن قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، وأخبرني شعبة، عن الحكم، عن مجاهد مثله.
حدثني حاتم بن بكر الضبي قال، حدثنا وهب، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد في قوله: "أنفقوا من طيبات ما كسبتم"، قال: التجارة الحلال.
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن معقل: "أنفقوا من طيبات ما كسبتم"، قال: ليس في مال المؤمن من خبيث، ولكن لا تيمموا الخبيث منه تنفقون.
حدثني عصام بن رواد بن الجراح قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أبو بكر الهذلي، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: سألت علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، عن قوله: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم"، قال: من الذهب والفضة.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "من طيبات ما كسبتم"، قال: التجارة.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "أنفقوا من طيبات ما كسبتم"، يقول: من أطيب أموالكم وأنفسه.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم"، قال: من هذا الذهب والفضة.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأنفقوا أيضا مما أخرجنا لكم من الأرض، فتصدقوا وزكوا من النخل والكرم والحنطة والشعير، وما أوجبت فيه الصدقة من نبات الأرض، كما:-
حدثني عصام بن رواد قال، حدثني أبي قال، حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: سألت علياً صلوات الله عليه عن قول الله عز وجل: "ومما أخرجنا لكم من الأرض"، قال: يعني من الحب والثمر، وكل شيء عليه زكاة.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "ومما أخرجنا لكم من الأرض"، قال النخل.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: "ومما أخرجنا لكم من الأرض"، قال: من ثمر النخل.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد قوله: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم"، قال: من التجارة، "ومما أخرجنا لكم من الأرض"، من الثمار.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "ومما أخرجنا لكم من الأرض"، قال: هذا في الثمر والحب.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "ولا تيمموا الخبيث"، ولا تعمدوا، ولا تقصدوا.
وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: (ولا تؤموا) من أممت، وهذه من يممت، والمعنى واحد وإن اختلفت الألفاظ.
يقال: تأممت فلاناً، وتيممته، وأممته، بمعنى: قصدته وتعمدته، كما قال ميمون بن قيس الأعشى:
تيممت قيساً، وكم دونه من الأرض من مهمه ذي شزن
وكما:-
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "ولا تيمموا الخبيث"، ولا تعمدوا.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: "ولا تيمموا"، لا تعمدوا.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة مثله.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: بـ"الخبيث"، الرديء، غير الجيد، يقول: لا تعمدوا الرديء من أموالكم في صدقاتكم فتصدقوا منه، ولكن تصدقوا من الطيب الجيد.
وذلك أن هذه الآية نزلت في سبب رجل من الأنصار علق قنواً من حشف -في الموضع الذي كان المسلمون يعلقون صدقة ثمارهم- صدقةً من تمره.
ذكر من قال ذلك:
حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال، حدثنا أبي، عن أسباط، عن السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب في قول الله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض" إلى قوله: "والله غني حميد"، قال: نزلت في الأنصار. كانت الأنصار إذا كان أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها أقناء البسر، فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل فقراء المهاجرين منه. فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر، يظن أن ذلك جائز. فأنزل الله عز وجل فيمن فعل ذلك: "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، قال: لا تيمموا الحشف منه تنفقون.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، زعم السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب، بنحوه، إلا أنه قال: فكان يعمد بعضهم فيدخل قنو الحشف، ويظن أنه جائز عنه، في كثرة ما يوضع من الأقناء، فنزل فيمن فعل ذلك: "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، القنو الذي قد حشف، ولوأهدي لكم ما قبلتموه.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل، قال، حدثنا سفيان، عن السدي، عن أبي مالك، عن البراء بن عازب قال: كانوا يجيئون في الصدقة بأردإ تمرهم وأردإ طعامهم، فنزلت: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم" الآية.
حدثني عصام بن رواد قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أبو بكر الهذلي، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني قال: سألت علياً عن قول الله: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، قال: فقال علي: نزلت هذه الآية في الزكاة المفروضة، كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه، فيعزل الجيد ناحية. فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الرديء، فقال عز وجل: "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون".
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عبد الجليل بن حميد اليحصبي: أن ابن شهاب حدثه قال، حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف في الآية التي قال الله عز وجل "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، قال: هو الجعرور ولون حبيق، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ في الصدقة.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، قال: كانوا يتصدقون- يعني من النخل- بحشفة وشراره، فنهوا عن ذلك، وأمروا أن يتصدقوا بطيبه.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة : "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم" إلى قوله: "واعلموا أن الله غني حميد"، ذكر لنا أن الرجل كان يكون له الحائطان على عهد نبي الله صلى الله عليه وسلم، فيعمد إلى أردئهما تمراً فيتصدق به، ويخلط فيه من الحشف. فعاب الله ذلك عليهم ونهاهم عنه.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، قال: تعمد إلى رذالة مالك فتصدق به، ولست بآخذه إلا أن تغمض فيه.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن قال: كان الرجل يتصدق برذالة ماله، فنزلت: "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون".
حدثنا المثنى قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرنا عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهداً يقول: "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، قال: في الأقناء التي تعتق، فرأى فيها حشفاً، فقال: ما هذا؟- قال ابن جريج: سمعت عطاء يقول: علق إنسان حشفاً في الأقناء التي تعلق بالمدينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ بئسما علق هذا!! فنزلت: "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون".
وقال آخرون معنى ذلك: ولا تيمموا الخبيث من الحرام منه تنفقون، وتدعوا أن تنفقوا الحلال الطيب.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد -وسألته عن قول الله عز وجل: "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"،- قال: الخبيث الحرام، لا تتيممه تنفق منه، فإن الله عز وجل لا يقبله.
قال أبو جعفر: وتأويل الآية هو التأويل الذي حكيناه عمن حكينا [عنه] من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، [لصحة إسناده]، واتفاق أهل التأويل في ذلك، دون الذي قاله ابن زيد.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولستم بآخذي الخبيث في حقوقكم، والهاء في قوله: "بآخذيه" من ذكر الخبيث، "إلا أن تغمضوا فيه"، يعني: إلا أن تتجافوا في أخذكم إياه عن بعض الواجب لكم من حقكم، فترخصوا فيه لأنفسكم.
يقال منه: أغمض فلان لفلان عن بعض حقه، فهو يغمض، ومن ذلك قول الطرماح بن حكيم:
لم يفتنا بالوتر قوم، وللضيـ ـم رجال يرضون بالإغماض
قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك ولستم بآخذي الرديء من غرمائكم في واجب حقوقكم قبلهم، إلا عن إغماض منكم لهم في الواجب لكم عليهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا عصام بن رواد قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أبو بكر الهذلي، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: سألت علياً عنه فقال: "ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: ولا يأخذ أحدكم هذا الرديء حتى يهضم له.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن السدي، عن أبي مالك، عن البراء بن عازب: "ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: لو كان لرجل على رجل، فأعطاه ذلك لم يأخذه، إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: لو كان لكم على أحد حق، فجاءكم بحق دون حقكم، لم تأخذوا بحساب الجيد حتى تنقصوه، فذلك قوله: "إلا أن تغمضوا فيه"، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسه؟ وهو قوله: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" [آل عمران: 92].
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، قال: لا تأخذونه من غرمائكم ولا في بيوعكم إلا بزيادة على الطيب في الكيل.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، وذلك أن رجالاً كانوا يعطون زكاة أموالهم من التمر، فكانوا يعطون الحشف في الزكاة، فقال: لو كان بعضهم يطلب بعضاً ثم قضاه، لم يأخذه إلا أن يرى أنه قد أغمض عنه حقه.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: "ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: لو كان لك على رجل دين فقضاك أردأ مما كان لك عليه، هل كنت تأخذ ذلك منه إلا وأنت له كاره؟.
حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا جويبر، عن الضحاك في قوله: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم" إلى قوله: "إلا أن تغمضوا فيه"، قال: كانوا -حين أمر الله أن يؤدوا الزكاة- يجيء الرجل من المنافقين باردأ طعام له من تمر وغيره، فكره الله ذلك وقال: "أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض"، يقول: "لستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: لم يكن رجل منكم له حق على رجل فيعطيه دون حقه فيأخذه، إلا وهو يعلم أنه قد نقصه، فلا ترضوا لي ما لا ترضون لأنفسكم، فيأخذ شيئا، وهو مغمض عليه، أنقص من حقه.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث -إذا اشتريتموه من أهله- بسعر الجيد، إلا بإغماض منهم لكم في ثمنه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن عمران بن حدير، عن الحسن: "ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، قال: لو وجدتموه في السوق يباع، ما أخذتموه حتى يهضم لكم من ثمنه.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: لستم بآخذي هذا الرديء بسعر هذا الطيب، إلا أن يغمض لكم فيه.
وقال آخرون: معناه: ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث لو أهدي لكم، إلا أن تغمضوا فيه فتأخذوه وأنتم له كارهون، على استحياء منكم ممن أهداه لكم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال، حدثنا أبي، عن أسباط، عن السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب: "ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، قال: لو أهدي لكم ما قبلتموه إلا على استحياء من صاحبه، أنه بعث إليك بما لم يكن له فيه حاجة.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط قال، زعم السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء نحوه، إلا أنه قال: إلا على استحياء من صاحبه، وغيظاً أنه بعث إليك بما لم يكن له فيه حاجة.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي هذا الرديء من حقكم، إلا أن تغمضوا من حقكم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء، عن ابن معقل: "ولستم بآخذيه"، يقول: ولستم بآخذيه من حق هو لكم، "إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: أغمض لك من حقي.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا على ما فيه من الإثم عليكم في أخذه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، حدثنا ابن وهب قال، قال ابن زيد -وسألته عن قوله: "ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"- قال، يقول: لست آخذاً ذلك الحرام حتى تغمض على ما فيه من الإثم، قال: وفي كلام العرب: أما والله لقد أخذه، ولقد أغمض على ما فيه، وهو يعلم أنه حرام باطل.
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل ذلك عندنا، أن يقال: إن الله عز وجل حث عباده على الصدقة وأداء الزكاة من أموالهم، وفرضها عليهم فيها، فصار ما فرض من ذلك في أموالهم، حقاً لأهل سهمان الصدقة. ثم أمرهم تعالى ذكره أن يخرجوا من الطيب -وهو الجيد من أموالهم- الطيب. وذلك أن أهل السهمان شركاء أرباب الأموال في أموالهم، بما وجب لهم فيها من الصدقة بعد وجوبها. فلا شك أن كل شريكين في مال، فلكل واحد منهما بقدر ملكه، وليس لأحدهما منع شريكه من حقه من الملك الذي هو فيه شريكه، بإعطائه -بمقدار حقه منه- من غيره مما هو أردأ منه وأخس. فكذلك المزكي ماله، حرم الله عليه أن يعطي أهل السهمان، مما وجب لهم في ماله من الطيب الجيد من الحق فصاروا فيه شركاء، من الخبيث الرديء غيره، ويمنعهم ما هو لهم من حقوقهم في الطيب من ماله الجيد. كما لو كان مال رب المال رديئاً كله غير جيد، فوجبت فيه الزكاة وصار أهل سهمان الصدقة فيه شركاء بما أوجب الله لهم فيه، لم يكن عليه أن يعطيهم الطيب الجيد من غير ماله الذي منه حقهم.
فقال تبارك وتعالى لأرباب الأموال: زكوا من جيد أموالكم الجيد، ولا تيمموا الخبيث الرديء تعطونه أهل سهمان الصدقة، وتمنعوهم الواجب لهم من الجيد الطيب في أموالكم، ولستم بآخذي الرديء لأنفسكم مكان الجيد الواجب لكم قبل من وجب لكم عليه ذلك من شركائكم وغرمائكم وغيرهم، إلا عن إغماض منكم وهضم لهم وكراهة منكم لأخذه. يقول: ولا تأتوا من الفعل إلى من وجب له في أموالكم حق، ما لا ترضون من غيركم أن يأتيه إليكم في حقوقكم الواجبة لكم في أموالهم.
فأما إذا تطوع الرجل بصدقة غير مفروضة، فإني وإن كرهت له أن يعطي فيها إلا أجود ماله وأطيبه، لأن الله عز وجل أحق من تقرب إليه بأكرم الأموال وأطيبها، والصدقة قربان المؤمن، فلست أحرم عليه أن يعطي فيها غير الجيد، لأن ما دون الجيد ربما كان أعتم نفعا لكثرته أو لعظم خطره، وأحسن موقعا من المسكين، وممن أعطيه قربة إلى الله عز وجل، من الجيد، لقلته أو لصغر خطره وقلة جدوى نفعه على من أعطيه.
وبمثل ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل العلم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة عن هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، قال: ذلك في الزكاة، الدرهم الزائف أحب إلي من التمرة.
حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة عن ذلك فقال: إنما ذلك في الزكاة، والدرهم الزائف أحب إلي من التمرة.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه"، فقال عبيدة: إنما هذا في الواجب، ولا بأس أن يتطوع الرجل بالتمرة، والدرهم الزائف خير من التمرة.
حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين في قوله: "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، قال: إنما هذا في الزكاة المفروضة، فأما التطوع فلا بأس أن يتصدق الرجل بالدرهم الزائف، والدرهم الزائف خير من التمرة.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واعلموا، أيها الناس، أن الله عز وجل غني عن صدقاتكم وعن غيرها، وإنما أمركم بها وفرضها في أموالكم، رحمة منه لكم ليغني بها عائلكم، ويقوي بها ضعيفكم، ويجزل لكم عليها في الآخرة مثوبتكم، لا من حاجة به فيها إليكم.
ويعني بقوله: "حميد"، أنه محمود عند خلقه بما أولاهم من نعمه، وبسط لهم من فضله، كما:-
حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال، حدثنا أبي، عن أسباط، عن السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب في قوله: "والله غني حميد"، عن صدقاتكم.
فيه إحدى عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا" هذا خطاب لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم . واختلف العلماء في المعنى المراد بالانفاق هنا ، فقال علي بن ابي طالب وعبيدة السلماني و ابن سيرين : هي الزكاة المفروضة ، نهى الناس عن إنفاق الرديء فيها بدل الجيد . قال ابن عطية : والظاهر من قول البراء بن عازب و الحسن و قتادة أن الآية في التطوع ، ندبوا إلى ألا يتطوعوا ألا بمختار جيد . والآية تعم الوجهين ، لكن صاحب الزكاة تعلق بأنها مأمور بها والأمر على الوجوب ، وبأنه نهى عن الرديء وذلك مخصوص بالفرض ، وأما التطوع فكما للمرء أن يتطوع بالقليل فكذلك له أن يتطوع بنازل في القدر ، ودرهم خير من تمرة . تمسك أصحاب الندب بأن لفظة أفعل صالح للندب صلاحيته للفرض ، والرديء منهي عنه في النفل كما هو منهي عنه في الفرض ،والله أحق من أختير له . وروى البراء :
"أن رجلاً علق قنو حشف ، فراه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بئسما علق" فنزلت الآية ، خرجه الترمذي وسيأتي بكماله . والأمر على هذا القول على الندب ، وندبوا إلى ألا يتطوعوا إلا بجيد مختار . وجمهور المتأولين قالوا : معنى "من طيبات" من جيد ومختار "ما كسبتم" . وقال ابن زيد : من خلال "ما كسبتم" .
الثانية : الكسب يكون بتعب بدن وهي الإجارة وسيأتي حكمها ، أو مقاولة في تجارة وهو البيع وسيأتي بيانه . والميراث داخل في هذا ، لأن غير الوارث قد كسبه . قال سهل بن عبد الله : وسئل ابن المبارك عن الرجل يريد أن يكتسب وينوي باكتسابه أن يصل به الرحم وأن يجاهد ويعمل الخيرات ويدخل في آفات الكسب لهذا الشأن . قال : إن كان معه قوام من العيش بمقدار ما يكف نفسه عن الناس فترك هذا افضل ، لأنه إذا طلب حلالاً وأنفق في حلال سئل عنه وعن كسبه وعن إنفاقه ، وترك ذلك زهد فإن الزهد في ترك الحلال .
الثالثة : قال ابن خويز منداد : ولهذه الآية جاز للوالد أن يأكل من كسب ولده ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"اولادكم من طيب أكسابكم فكلوا من أموال أولادكم هنيئا" .
الرابعة : قوله تعالى : "ومما أخرجنا لكم من الأرض" يعني النبات والمعادن والركاز ، وهذه أبواب ثلاثة تضمنتها هذه الآية . أما النبات فروى الدار قطني عن عائشة رضي الله عنها قالت :
"جرت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس فيما دون خمسة أوسق زكاة" والوسق ستون صاعاً ، فذلك ثلاثمائة صاع من الحنطة والشعير والتمر والزبيب . وليس فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة . وقد احتج قوم لـ أبي حنيفة بقول الله تعالى : "ومما أخرجنا لكم من الأرض" وإن ذلك عموم في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره وفي سائر الأصناف ، ورأوا ظاهر الأمر الوجوب . وسيأتي بيان هذا في الأنعام مستوفى . وأما المعدن فروى الأئمة عن ابي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"العجماء جرحها جبار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس" .
قال علماؤنا : لما قال صلى الله عليه وسلم : "وفي الركاز الخمس" دل على أن الحكم في المعادن غير الحكم في الركاز ، لأنه صلى الله عليه وسلم قد فصل بين المعادن والركاز بالواو الفاصلة ، ولو كان الحكم فيهما سواء لقال والمعدن جبار وفيه الخمس ، فلما قال : "وفي الركاز الخمس" علم أن حكم الركاز غير حكم المعدن فيما يؤخذ منه ، والله أعلم .
والركاز أصله في اللغة ما ارتكز بالأرض من الذهب والفضة والجواهر ، وهو عند سائر الفقهاء كذلك ، لأنهم يقولون في الندرة التي توجد في المعدن مرتكزة بالأرض لا تنال بعمل ولا بسعي ولا نصب ، فيها الخمس ، لأنها ركاز . وقد روي عن مالك أن الندرة في المعدن حكمها حكم ما يتكلف فيه العمل مما يستخرج من المعدن في الركاز ، والأول تحصيل مذهبه وعليه فتوى جهور الفقهاء . وروى عبد الله بن سعيد بن ابي سعيد المقبري عن ابيه عن جده عن ابي هريرة قال :
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الركاز قال : "الذهب الذي خلق الله في الأرض يوم خلق السموات والأرض" . عبد الله بن سعيد هذا متروك الحديث ، ذكر ذلك ابن ابي حاتم . وقد روي من طريق أخرى عن ابي هريرة ولا يصح ، ذكره الدار قطني . ودفن الجاهلية لأموالهم عند جماعة العلماء ركاز أيضاً لا يختلفون فيه إذا كان دفنه قبل الإسلام من الأموال العادية ، وأما ما كان من ضرب الإسلام فحكمه عندهم حكم اللقطة .
الخامسة : واختلفوا في حكم الركاز إذا وجد ، فقال مالك : ما وجد من دفن الجاهلية في أرض العرب أو في فيافي الأرض التي ملكها المسلمون بغير حرب فهو لواجده وفيه الخمس ،وأما ما كان في أرض الإسلام فهو كاللقظة . قال : وما وجد من ذلك في أرض العنوة فهو للجماعة الذين افتتحوها دون واجده ، وما وجد من ذلك في أرض الصلح فإنه لأهل تلك البلاد دون الناس ، ولا شيء للواجد فيه إلا أن يكون من أهل الدار فهو له دونهم . وقيل : بل هو لجملة أهل الصلح . قال إسماعيل : وإنما حكم للركاز بحكم الغنيمة لأنه مال كافر وجده مسلم فأنزل منزلة من قاتله وأخذ ماله ، فكان له اربعة أخماسه . وقال ابن القاسم : كان مالك يقول في العروض والجواهر والحديد والرصاص ونحوه يوجد ركازاً : إن فيه الخمس ثم رجع فقال : لا أرى فيه شيئاً ، ثم آخر ما فارقناه أن قال : فيه الخمس . وهو الصحيح لعموم الحديث وعليه جمهور الفقهاء . وقال أبو حنيفة و محمد في الركاز يوجد في الدار : إنه لصاحب الدار دون الواجد وفيه الخمس . وخالفه أبو يوسف فقال : إنه للواجد دون صاحب الدار ، وهو قول الثوري . وإن وجد في الفلاة فهو للواجد في قولهم جميعاً وفيه الخمس ولا فرق عندهم بين أرض الصلح وارض العنوة ، وسواء عندهم أرض العرب وغيرها . وجائز عندهم لواجده أن يحتبس الخمس لنفسه إذا كان محتاجاً وله أن يعطيه للمساكين . ومن أهل المدينة وأصحاب مالك من لا يفرق بين شيء من ذلك وقالوا :سواء وجد الركاز في أرض العنوة أو في أرض الصلح أو أرض العرب أو أرض الحرب إذا لم يكن ملكا لأحد ولم يدعه أحد فهو لواجده وفيه الخمس على عموم ظاهر الحديث ، وهو قول الليث وعبد الله بن نافع و الشافعي وأكثر أهل العلم .
السادسة : وأما ما يوجد من المعادن ويخرج منها فاختلف فيه : فقال مالك وأصحابه : لا شيء فيما يخرج من المعادن من ذهب أو فضة حتى يكون عشرين مثقالاً ذهباً أو خمس أواق فضة . فإذا بلغتا هذا المقدار وجبت فيهما الزكاة ، وما زاد فبحساب ذلك ما دم في المعدن نيل ، فإن انقطع ثم جاء بعد ذلك نيل آخر فإنه تبتدأ فيه الزكاة مكانه . والركاز عندهم بمنزلة الزرع تؤخذ منه الزكاة في حينه ولا ينتظر به حولاً . قال سحنون في رجل له معادن : إنه لا يضم ما في واحد منها إلى غيرها ولا يزكي إلا عن مائتي درهم أو عشرين ديناراً في كل واحد . وقال محمد بن مسلمة : يضم بعضها إلى بعض ويزكي الجميع كالزرع . وقال أبو حنيفة وأصحابه : المعدن كالركاز ، فما وجد في المعدن من ذهب أو فضة بعد إخراج الخمس اعتبر كل واحد منهما ،فمن حصل بيده ما تجب فيه الزكاة زكاة لتمام الحول إن أتى عليه حول وهو نصاب عنده ، هذا إذا لم يكن عنده ذهب أو فضة وجبت الزكاة . فإن كان عنده من ذلك ما تجب فيه الزكاة ضمه إلى ذلك وزكاة . وكذلك عندهم كل فائدة تضم في الحول إلى النصاب من جنسها وتزكى لحول الأصل ، وهو قول الثوري . وذكر المزني عن الشافعي قال : وأما الذي أنا واقف فيه مما يخرج من المعادن . قال المزني : الأولى به على أصله أن يكون ما يخرج من المعدن فائدة يزكى بحوله بعد إخراجه . وقال الليث بن سعد : ما يخرج من المعادن من الذهب والفضة فهو بمنزلة الفائدة يستأنف به حولاً ، وهو قول الشافعي فيما حصله المزني من مذهبه ، وقال به داود وأصحابه إذا حال عليها الحول عند مالك صحيح الملك ، لقوله صلى الله عليه وسلم :
"من استفاد مالا فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول" أخرجه الترمذي و الدار قطني . واحتجوا ايضاً بما رواه عبد الرحمن بن أنعم بن ابي سعد الخدري :
"أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى قوماً من المؤلفة قلوبهم ذهيبة في تربتها" ، بعثها علي رضي الله عنه من اليمن . قال الشافعي : والمؤلفة قلوبهم حقهم في الزكاة ، فتبين بذلك أن المعادن سنتها سنة الزكاة . وحجه مالك حديث عن ربيعة بن ابي عبد الرحمن أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية وهي من ناحية الفرع ، فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلى اليوم إلا الزكاة . وهذا حديث منقطع الإسناد لا يحتج بمثله أهل الحديث ، ولكنه عمل يعمل به عندهم في المدينة . ورواه الدراوردي عن ربيعة عن الحارث بن بلال المزني عن ابيه . ذكره البزار ، ورواه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن ابيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم :
"أنه أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية جلسيها وغوريها ، وحيث يصلح للزرع من قدس ولم يعطه حق مسلم" ، ذكره البزار أيضاً ، وكثير مجمع على ضعفه . هذا حكم ما أخرجته الأرض ، وسيأتي في سورة النحل حكم ما أخرجه البحر إذ هو قسيم الأرض . ويأتي في الأنبياء معنى قوله عليه السلام : "العجماء جرحها جبار" كل في موضعه إن شاء الله تعالى .
السابعة : قوله تعالى : "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" تيمموا معناه تقصدوا ، وستأتي الشواهد من أشعار العرب في ان التيمم القدص في النساء إن شاء الله تعالى . ودلت الآية على أن المكاسب فيها طيب وخبيث . وروى النسائي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف في الآية التي قال الله تعالى فيها : "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" قال : هو الجعرور ولون حبيق ، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذا في الصدقة . وروى الدار قطني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال :
"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقته فجاء رجل من هذا السحل بكبائس ـ قال سفيان : يعني الشيص ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من جاء بهذا ؟ ! وكان لا يجيء أحد بشيء إلا نسب إلى الذي جاء به . فنزلت : "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" . قال : ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجعرور ولون الحبيق أن يؤخذا في الصدقة" ـ قال الزهري : لونين من تمر المدينة ـ وأخرجه الترمذي من حديث البراء وصححه ، وسيأتي . وحكى الطبري و النحاس أن في قراءة عبد الله ولا تأمموا وهما لغتان . وقرأ مسلم بن جندب ولا تيمموا بضم التاء وكسر الميم . وقرأ ابن كثير تيمموا بتشديد التاء . وفي اللفظة لغات ، منها أممت الشيء مخففة الميم الأولى و أممته بشدها ، و يممته وتيممته . وحكى أبو عمرو أن ابن مسعود قرأ ولا تؤمموا بهمزة بعد التاء المضمومة .
الثامنة : قوله تعالى : "منه تنفقون" قال الجرجاني في كتاب نظم القرآن : قال فريق من الناس : إن الكلام تم في قوله تعالى : الخبيث ثم ابتدأ خبراً في وصف الخبيث فقال : "منه تنفقون" وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم أي تساهلتم ، كأن هذا المعنى عتاب للناس وتقريع . والضمير في منه عائد على الخبيث وهو الدون والرديء . قال الجرجاني : وقال فريق آخر : الكلام متصل إلى قوله منه ، فالضمير في منه عائد على ما كسبتم ويجيء تنفقون كأنه في موضع نصب على الحال ، وهو كقولك : أنا أخرج أجاهد في سبيل الله .
التاسعة : قوله تعالى : "ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" أي لستم بأخذيه في ديونكم وحقوقكم من الناس إلا أن تتساهلوا في ذلك وتتركوا من حقوقكم ، وتكرهونه ولا ترضونه . أي فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم : قال معناه البراء بن عازب وابن عابس والضحاك . وقال الحسن : معنى الآية : ولستم بآخذيه ولو وجدتموه في السوق يباع إلا أن يهضم لكم من ثمنه . وروي نحوه عن علي رضي الله عنه . قال ابن عطية : وهذان القولان يشبهان كون الآية في الزكاة الواجبة . قال ابن العربي : لو كانت في الفرض لما قال : ولستم بآخذيه لأن الرديء والمعيب لا يجوز أخذه في الفرض بحال ، لا مع تقدير الإغماض ولا مع عدمه ، وإنما يؤخذ مع عدم إغماض في النفل . وقال البراء بن عاوب أيضاً معناه : ولستم بآخذيه لو أهدي لكم إلا أن تغمضوا فيه أي تستحي من المهدي فتقبل منه ما لا حاجة لك به ولا قدر له في نفسه . قال ابن عطية : وهذا يشبه كون الآية في التطوع . وقال ابن زيد : ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا في مكروهه .
العاشرة : قوله تعالى : "إلا أن تغمضوا فيه" كذا قراءة الجمهور ، من أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه ورضي ببعض حقه وتجاوز ، ومن ذلك قول الطرماح :
لم يفتنا بالوتر قوم وللد ل أناس يرضون بالإغماض
وهذا كالإغضاء عند المكروه . وقد ذكر النقاش هذا المعنى في هذه الآية وأشار إليه مكي ـ وإما من قول العرب : أغمض الرجل إذا أتى غامضاً من الأمر ، كما تقول : أعمن أي أتى عمان ، وأعرق أي أتى العراق ، وأنجد وأغور أي أتى نجداً والغور الذي هو تهامة ، أي فهو يطلب التأويل على أخذه .وقرأ الزهري بفتح التاء وكسر الميم مخففاً ، وعنه أيضاً تغمضوا بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم وشدها . فالأولى على معنى تهضموا سومها من البائع منكم فيحطكم . والثانية ، وهي قراءة قتادة فيما ذكر النحاس ، أي تأخذوا بنقصان . وقال أبو عمرو الداني :معنى قراءتي الزهري حتى تأخذوا بنقصان . وحكى مكي عن الحسن إلا أن تغمضوا مشددة الميم مفتوحة . وقرأ قتادة أيضاً تغمضوا بضم التاء وسكون الغين وفتح الميم مخففاً . قال أبو عمرو الداني :معناه إلا أن يغمض لكم ، وحكاه النحاس عن قتادة نفسه . وقال ابن جني : معناها توجدوا قد غمضتم في الأمر بتأولكم أو بتساهلكم وجريتم على غير السابق إلى النفوس . وهذا كما تقول : أحمدت الرجل وجدته محموداً ، إلى غير ذلك من الأمثلة . قال ابن عطية : وقراءة الجمهور تخرج على التجاوز وعلى تغميض العين ، لأن أغمض بمنزلة غمض . وعلى أنها بمعنى حتى تأتوا غامضاً من التأويل والنظر في أخذ ذلك ، إما لكونه حراماً على قول ابن زيد ، وإما لكونه مهدى أو مأخذوا في دين على قول غيره . وقال المهدوي : ومن قرأ تغمضوا فالمعنى تغمضون أعين بصائركم عن أخذه . قال الجوهري : وغمضت عن فلان إذا تساهلت عليه في بيع أو شراء وأغمضت ، وقال تعالى : "ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" . يقال : أغمض لي فيما بعتني ، كأنك تريد الزيادة منه لرداءته والحط من ثمنه . و أن في موضع نصب ، والتقدير إلا بأن .
الحادية عشرة : قوله تعالى : "واعلموا أن الله غني حميد" نبه سبحانه وتعالى على صفة الغنى ، أي لا حاجة به إلى صدقاتكم ، فمن تقرب وطلب مثوبة فليفعل ذلك بما له قدر وبال ، فإنما يقدم لنفسه . و حميد معناه محمود في كل حال . وقد أتينا على معاني هذين الاسمين في الكتاب الأسنى والحمد لله . قال الزجاج في قوله واعلموا أن الله غني حميد : أي لم يأمركم أن تصدقوا من عوز ولكنه بلا أخباركم فهو حميد على ذلك على جميع نعمه .
يأمر تعالى: عباده المؤمنين بالإنفاق والمراد به الصدقة ههنا, قاله ابن عباس: من طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها, قال مجاهد: يعني التجارة بتيسيره إياها لهم, وقال علي والسدي "من طيبات ما كسبتم" يعني الذهب والفضة, ومن الثمار والزروع التي أنبتها لهم من الأرض, قال ابن عباس: أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه, ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيئه وهو خبيثه, فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً, ولهذا قال: "ولا تيمموا الخبيث" أي تقصدوا الخبيث "منه تنفقون ولستم بآخذيه" أي لو أعطيتموه ما أخذتموه, إلا أن تتغاضوا فيه, فالله أغنى عنه منكم, فلا تجعلوا لله ما تكرهون, وقيل معناه "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" أي لا تعدلوا عن المال الحلال وتقصدوا إلى الحرام فتجعلوا نفقتكم منه, ويذكر ههنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد, حدثنا إسحاق, عن الصباح بن محمد عن مرة الهمداني, عن عبد الله بن مسعود, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب, ولا يعطي الدين إلا لمن أحب, فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه, والذي نفسي بيده لا يسلم عبد, حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه قالوا وما بوائقه يا نبي الله قال غشه وظلمه, ولا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان إلى النار, إن الله لا يمحو السيء بالسيء, ولكن يمحو السيء بالحسن, إن الخبيث لا يمحو الخبيث" والصحيح القول الأول, قال ابن جرير رحمه الله: حدثنا الحسين بن عمر العبقري, حدثني أبي عن أسباط عن السدي, عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب رضي الله عنه, في قول الله "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" الاية, قال: نزلت في الأنصار, كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها البسر فعلقوه على حبل, بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيأكل فقراء المهاجرين منه, فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر, يظن أن ذلك جائز, فأنزل الله فيمن فعل ذلك "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون", ثم رواه ابن جرير وابن ماجه وابن مردويه, والحاكم في مستدركه من طريق السدي, عن عدي بن ثابت عن البراء بنحوه, وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ومسلم, ولم يخرجاه وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل عن السدي عن أبي مالك عن البراء رضي الله عنه, "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" قال: نزلت فينا, كنا أصحاب نخل فكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته, فيأتي الرجل بالقنو فيعلقه في المسجد, وكان أهل الصفة ليس لهم طعام فكان أحدهم إذا جاء فضربه بعصاه فسقط منه البسر والتمر, فيأكل, وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشف والشيص, فيأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه, فنزلت "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" قال: لو أن أحدكم أهدي له مثل ما أعطى ما أخذه إلا على إغماض وحياء, فكنا بعد ذلك يجيء الرجل منا بصالح ما عنده, وكذا رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي, عن عبيد الله هو ابن موسى العبسي, عن إسرائيل عن السدي, وهو إسماعيل بن عبد الرحمن, عن أبي مالك الغفاري واسمه غزوان, عن البراء فذكر نحوه, ثم قال وهذا حديث حسن غريب, وقال ابن أبي حاتم, حدثنا أبي, حدثنا أبو الوليد, حدثنا سليمان بن كثير, عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, نهى عن لونين من التمر الجعرور والحبيق, وكان الناس يتيممون شرار ثمارهم, ثم يخرجونها في الصدقة, فنزلت "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" ورواه أبو داود من حديث سفيان بن حسين عن الزهري, ثم قال: أسنده أبو الوليد عن سليمان بن كثير عن الزهري, ولفظه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجعرور ولون الحبيق, أن يؤخذ في الصدقة, وقد روى النسائي هذا الحديث من طريق عبد الجليل بن حميد اليحصبي, عن الزهري, عن أبي أمامة, ولم يقل عن أبيه, فذكر نحوه, وكذا رواه ابن وهب, عن عبد الجليل, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا يحيى بن المغيرة, حدثنا جرير عن عطاء بن السائب, عن عبد الله بن مغفل, في هذه الاية "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" قال: كسب المسلم لا يكون خبيثاً, ولكن لا يصدق بالحشف والدرهم الزيف وما لا خير فيه, وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد, حدثنا حماد بن سلمة, عن حماد هو ابن سليمان, عن إبراهيم, عن الأسود, عن عائشة, قالت: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بضب, فلم يأكله ولم ينه عنه, قلت: يا رسول الله, نطعمه المساكين ؟ قال "لا تطعموهم مما لا تأكلون". ثم رواه عن عفان عن حماد بن سلمة به، فقلت: يا رسول الله, ألا أطعمه المساكين ؟ قال "لا تطعموهم مما لا تأكلون". وقال الثوري, عن السدي, عن أبي مالك, عن البراء "ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" يقول: لو كان لرجل على رجل فأعطاه ذلك, لم يأخذه إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه, رواه ابن جرير, وقال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس "ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" يقول: لو كان لكم على أحد حق فجاءكم بحق دون حقكم, لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه, قال فذلك قوله: "إلا أن تغمضوا فيه" فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم, وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسه؟ رواه ابن أبي حاتم, وابن جرير, وزاد: وهو قوله: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" ثم روي عن طريق العوفي وغيره, عن ابن عباس, نحو ذلك, وكذا ذكره غير واحد.
وقوله: "واعلموا أن الله غني حميد" أي وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها, فهو غني عنها, وما ذاك إلا أن يساوي الغني الفقير, كقوله "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم" وهو غني عن جميع خلقه وجيمع خلقه فقراء إليه, وهو واسع الفضل, لا ينفد ما لديه, فمن تصدق بصدقة من كسب طيب, فليعلم أن الله غني واسع العطاء, كريم جواد, ويجزيه بها, ويضاعفها له أضعافاً كثيرة, من يقرض غير عديم ولا ظلوم, وهو الحميد أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره, لا إله إلا هو, ولا رب سواه.
وقوله: "الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم" قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا هناد بن السري, حدثنا أبو الأحوص, عن عطاء بن السائب, عن مرة الهمداني, عن عبد الله بن مسعود, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة, فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق, وأما لمة الملك فإيعاد بالخير والتصديق بالحق, فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله, فليحمد الله, ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان" ثم قرأ "الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً" الاية, وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سننهما جميعاً, عن هناد بن السري. وأخرجه ابن حبان في صحيحه, عن أبي يعلى الموصلي, عن هناد به, وقال الترمذي: حسن غريب, وهو حديث أبي الأحوص, يعني سلام بن سليم, لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديثه, كذا قال: وقد رواه أبو بكر بن مردويه في تفسيره, عن محمد بن أحمد ، عن محمد بن عبد الله بن مسعود مرفوعاً نحوه، ولكن رواه مسعر عن عطاء بن السائب, عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة, عن ابن مسعود, فجعله من قوله, والله أعلم, ومعنى قول تعالى: "الشيطان يعدكم الفقر" أي يخوفكم الفقر لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة الله. "ويأمركم بالفحشاء" أي مع نهيه إياكم عن الإنفاق خشية الإملاق, يأمركم بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخلاق, قال تعالى: "والله يعدكم مغفرة منه" أي في مقابلة ما أمركم الشيطان بالفحشاء. "وفضلاً" أي في مقابلة ما خوفكم الشيطان من الفقر "والله واسع عليم"
وقوله: "يؤتي الحكمة من يشاء" قال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: يعني المعرفة بالقرآن, ناسخه ومنسوخه, ومحكمه ومتشابهه, ومقدمه ومؤخره, وحلاله وحرامه, وأمثاله, وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعاً "الحكمة القرآن" يعني تفسيره, قال ابن عباس: فإنه قد قرأه البر والفاجر, رواه ابن مردويه, وقال ابن أبي نجيح, عن مجاهد: يعني بالحكمة الإصابة في القول, وقال ليث بن أبي سليم, عن مجاهد "يؤتي الحكمة من يشاء": ليست بالنبوة, ولكنه العلم والفقه والقرآن, وقال أبو العالية: الحكمة خشية الله, فإن خشية الله رأس كل حكمة, وقد روى ابن مردويه من طريق بقية عن عثمان ابن زفر الجهني, عن أبي عمار الأسدي, عن ابن مسعود مرفوعاً "رأس الحكمة مخافة الله" وقال أبو العالية في رواية عنه: الحكمة الكتاب والفهم, وقال إبراهيم النخعي, الحكمة الفهم, وقال أبو مالك: الحكمة السنة, وقال ابن وهب, عن مالك, قال زيد بن أسلم: الحكمة العقل, قال مالك: وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين الله, وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله, ومما يبين ذلك أنك تجد الرجل عاقلاً في أمر الدنيا إذا نظر فيها, وتجد آخر ضعيفاً في أمر دنياه, عالماً بأمر دينه بصيراً به, يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا, فالحكمة الفقه في دين الله, وقال السدي: الحكمة النبوة, والصحيح أن الحكمة كما قال الجمهور: لا تختص بالنبوة بل هي أعم منها, وأعلاها النبوة, والرسالة أخص, ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع, كما جاء في الأحاديث "من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين كتفيه غير أنه لا يوحى إليه" رواه وكيع بن الجراح في تفسيره, عن إسماعيل بن رافع, عن رجل لم يسمه, عن عبد الله بن عمر, وقوله: وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع ويزيد, قالا: حدثنا إسماعيل يعني ابن أبي خالد عن قيس وهو ابن أبي حازم, عن ابن مسعود, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, يقول "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق, ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها" وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه من طرق متعددة عن إسماعيل أبي خالد به.
وقوله: " وما يذكر إلا أولو الألباب " أي وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لب وعقل, يعي به الخطاب ومعنى الكلام.
قوله: 267- "من طيبات ما كسبتم" أي: من جيد ما كسبتم ومختاره، كذا قال الجمهور. وقال جماعة: إن معنى الطيبات هنا الحلال. ولا مانع من اعتبار الأمرين جميعاً، لأن جيد الكسب ومختاره إنما يطلق على الحلال عند أهل الشرع، وإن أطلقه أهل اللغة على ما هو جيد في نفسه حلالاً كان أو حراماً، فالحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية. وقوله: "ومما أخرجنا لكم من الأرض" أي: ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض، وحذف لدلالة ما قبله عليه، وهي النباتات والمعادن والركاز. قوله: "ولا تيمموا الخبيث" أي: لا تقصدوا المال الرديء، وقرأه الجمهور بفتح حرف المضارعة وتخفيف الياء، وقرأ ابن كثير بتشديدها. وقرأ ابن مسعود ولا تأمموا وهي لغة. وقرأ أبو مسلم بن خباب بضم الفوقية وكسر الميم. وحكى أبو عمرو أن ابن مسعود قرأ تئمموا بهمزة بعد المضمومة. وفي الآية الأمر بإنفاق الطيب والنهي عن إنفاق الخبيث. وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن الآية في الصدقة المفروضة، وذهب آخرون إلى أنها تعم صدقة الفرض والتطوع، وهو الظاهر، وسيأتي من الأدلة ما يؤيد هذا، وتقديم الظرف في قوله: "منه تنفقون" يفيد التخصيص أي لا تخصوا الخبيث بالإنفاق، والجملة في محل نصب على الحال: أي لا تقصدوا المال الخبيث مخصصين الإنفاق به قاصرين له عليه. قوله: "ولستم بآخذيه" أي: والحال أنكم لا تأخذونه في معاملاتكم في وقت من الأوقات هكذا بين معناه الجمهور، وقيل معناه: ولستم بآخذيه لو وجدتموه في السوق يباع. وقوله: "إلا أن تغمضوا فيه" هو من أغمض الرجل في أمر كذا: إذا تساهل ورضي ببعض حقه وتجاوز وغض بصره عنه، ومنه قول الشاعر:
إلى كم وكم أشياء منك تريبني أغمض عنها لست عنها بذي عمى
وقرأ الزهري بفتح التاء وكسر الميم مخففاً. وروي عنه أنه قرا بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم مشددة وكذلك قرأ قتادة، والمعنى على القراءة الأولى من هاتين القراءتين: إلا أن تهضموا سومها من البائع منكم، وعلى الثانية: إلا أن تأخذوا بنقصان. قال ابن عطية: وقراءة الجمهور تخرج على التجاوز أو على تغميض العين، لأن أغمض بمنزلة غمض، وعلى أنها بمعنى حتى: أي حتى تأتوا غامضاً من التأويل، والنظر في أخذ ذلك.
267. " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات " من خيار، قال ابن مسعود رضي الله عنه، و مجاهد : من حلالات " ما كسبتم " بالتجارة والصناعة وفيه دلالة على إباحة الكسب وأنه ينقسم إلى طيب وخبيث.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أخبرنا أبو جعفر الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا يعلى بن عبيد ، أخبرنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه ".
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا عبد الله بن صالح ، أخبرنا أبو معاوية بن صالح عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب أنه حدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وكان داود لا يأكل إلا من عمل يديه ".
أخبرنا أبو القاسم يحيى بن علي بن محمد الكشميهني ، أخبرنا نجاح بن يزيد المحاربي بالكوفة، أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني ، أخبرنا أحمد بن حازم ، أخبرنا يحيى بن عبيد ، أخبرنا أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد عن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لايكتسب عبد مالاً حراماً فيتصدق منه فيقبل الله منه، ولا ينفق منه فيبارك له فيه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث ".
والزكاة واجبة في مال التجارة عند أكثر أهل العلم، فبعد الحول يقوم العرض فيخرج من قيمتها ربع العشر إذا كان قيمتها عشرين ديناراً أو مائتي درهم، قال سمرة بن جندب : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع )).
وعن أبي عمرو بن حماس أن أباه قال: مررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى عنقى أدمة أحملها فقال عمر: ألا تؤدي زكاتك يا حماس؟ فقلت: ما لي غير هذا وأهب في القرظ، فقال ذاك مال، فضع، فوضعتها فحسبها فأخذ منها الزكاة.
قوله تعالى: " ومما أخرجنا لكم من الأرض " قيل هذا بإخراج العشور من الثمار والحبوب واتفق أهل العلم على إيجاب العشر في النخيل والكروم وفيما يقتات من الحبوب إن كان مسقياً بماء السماء أو من نهر يجري الماء إليه من غير مؤنة، وإن كان مسقياً بساقية أو بنضج ففيه نصف العشر.
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن اسماعيل ، أخبرنا سعيد بن أبي مريم ، أخبرنا عبد الله بن وهب ، أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم " فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر، وفيما سقى بالنضج نصف العشر ".
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا عبد الله بن نافع عن محمد بن صالح التمار عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في زكاة الكرم " يخرص كما يخرص النخل ثم تؤدى زكاته زبيباً كما يؤدى زكاة النخل تمراً ".
واختلف أهل العلم فيما سوى النخل والكروم، وفيما سوى ما يقتات به من الحبوب، فذهب قوم إلى أنه لا عشر في شيء منها، وهو قول ابن أبي ليلى و الشافعي رضي الله عنه.
وقال الزهري و الأوزاعي و مالك رضي الله عنهم: يجب في الزيتون، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يجب العشر في جميع البقول والخضراوات كالثمار إلا الحشيش والحطب، وكل حب أوجبنا فيه العشر فوقت وجوبه اشتداد الحب ووقت الإخراج بعد الدياسة والتنقية، ولا يجب العشر في شيء منها تبلغ خمسة أوسق عند أكثر أهل العلم، وعند أبي حنيفة رحمه الله يجب في كل قليل وكثير منها، واحتج من شرط النصاب بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو اسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة، وليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة ".
وروى يحيى بن عبادة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس في حب ولا تمر صدقة حتى تبلغ خمسة أوسق "، وقال قوم: الآية في صدقات التطوع.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا يحيى بن يحيى أخبرنا أبو عوانه عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مؤمن يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كان له به صدقة ".
قوله تعالى: " ولا تيمموا " قرأ ابن كثير برواية البزي بتشديد التاء في الوصل فيها وفي أخواتها وهي واحد وثلاثون موضعاً في القرآن، لأنه في الأصل تاءان اسقطت احداهما فرد هو الساقطة وأدغم وقرأ الآخرون بالتخفيف ومعناه لا تقصدوا " الخبيث منه تنفقون ".
روي عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال: كانت الأنصار تخرج إذا كان جذاذ النخل أقناء من التمر والبسر فيعلقونه على حبل بين السطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل منه فقراء المهاجرين، فكان الرجل منهم يعمد فيدخل قنو الحشف وهو يظن أنه جائز عنه في كثرة ما يوضع من الأقناء، فنزل فيمن فعل ذلك " ولا تيمموا الخبيث " أي الحشف والرديء، وقال الحسن و مجاهد و الضحاك : كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم ورذالة أموالهم ويعزلون الجيد ناحية لأنفسهم، فأنزل الله تعالى " ولا تيمموا الخبيث " الرديء " منه تنفقون " " ولستم بآخذيه " يعني الخبيث " إلا أن تغمضوا فيه " الإغماض غض البصر، وأراد هاهنا التجوز والمساهلة، معناه لو كان لأحدكم على رجل حق فجاءه بهذا لم يأخذه إلا وهو يرى أنه قد أغمض له عن حقه وتركه. وقال الحسن و قتادة ك لو وجدتموه يباع في السوق ما أخذتموه بسعر الجيد.
وروي عن البراء قال: لو أهدي ذلك لكم ما أخذتموه إلا على استحياء من صاحبه وغيظ، فكيف ترضون مالا ترضون لأنفسكم؟ هذا إذا كان المال كله جيداً فليس لع إعطاء الرديء، لأن أهل السهمان شركاؤه فيما عنده، فإن كان كل ماله رديئاً فلا بأس بإعطاء الرديء، " واعلموا أن الله غني " عن صدقاتكم " حميد " محمود في أفعاله.
267-" يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم " من حلاله أو جياده . " ومما أخرجنا لكم من الأرض " أي ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الحبوب والثمرات والمعادن ، فحذف المضاف لتقدم ذكره . " ولا تيمموا الخبيث منه " أي ولا تقصدوا الرديء منه أي من المال ، أو مما أخرجنا لكم . وتخصيصه بدلك لأن التفاوت فيه أكثر ، وقرئ ولا تؤمموا ولا تيمموا بضم التاء . " تنفقون " حال مقدرة من فاعل تيمموا ، ويجوز أن يتعلق به منه ويكون الضمير للخبيث والجملة حالاً منه . " ولستم بآخذيه " أي وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم لردائته . " إلا أن تغمضوا فيه " إلا أن تتسامحوا فيه ، مجاز من أغمض بصره إذا غضه . وقرئ " تغمضوا " أي تحملوا على الإغماض ،أو توجدوا مغمضين . وعن ابن عباس رضي الله عنه : كانوا يتصدقون بحشف التمر وشراره فنهوا عنه . " واعلموا أن الله غني " عن إنفاقكم ، وإنما بأمركم به لانتفاعكم . " حميد " بقبوله وإثابته .
267. O ye who believe! Spend of the good things which ye have earned, and of that which we bring forth from the earth for you, and seek not the bad (with intent) to spend thereof (in charity) when ye would not take it for yourselves save with disdain; and know that Allah is Absolute, Owner of Praise.
267 - O ye who believe! give of the good things which ye have (honorably) earned, and of the fruits of the earth which we have produced for you, and do not even aim at getting anything which is bad, in order that out of it ye may give away something, w hen ye yourselves would not receive it except with closed eyes. and know that God is free of all wants, and worthy of all praise.