[البقرة : 265] وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
(ومثل) نفقات (الذين ينفقون أموالهم ابتغاء) طلب (مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم) أي تحقيقا للثواب عليه بخلاف المنافقين الذين لا يرجونه لإنكارهم له ومن ابتدائية (كمثل جنة) بستان (برُبوة) بضم الراء وفتحها مكان مرتفع مستو (أصابها وابل) [مطر غزير] (فآتت) أعطت (أكْلها) بضم الكاف وسكونها ثمرها (ضعفين) مثلي ما يثمر غيرها (فإن لم يصبها وابل فطلٌّ) مطر خفيف يصيبها ويكفيها لارتفاعها ، المعنى: تثمر وتزكو كثر المطر أم قل فكذلك نفقات من ذكر تزكو عند الله كثرت أم قلت (والله بما تعملون بصير) فيجازيكم به
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: "ومثل الذين ينفقون أموالهم" فيصدقون بها، ويحملون عليها في سبيل الله، ويقوون بها أهل الحاجة من الغزاة والمجاهدين في سبيل الله، وفي غير ذلك من، طاعات الله، طلب مرضاته.
"وتثبيتا من أنفسهم" يعني بذلك: وتثبيتاً لهم على انفاق ذلك في طاعة الله وتحقيقاً، من قول القائل: ثبت فلاناً في هذا الأمر -إذا صححت عزمه، وحققته، وقويت فيه رأيه- أثبته تثبيتاً، كما قال ابن رواحة:
فثبت الله ما آتاك من حسن تثبيت موسى، ونصراً كالذي نصروا
وإنما عنى الله جل وعز بذلك: أن أنفسهم كانت موقنة مصدقة بوعد الله اياها فيما أنفقت في طاعته بغير من ولا أذى، فثبتتهم في إنفاق أموالهم ابتغاء مرضاة الله، وصححت عزمهم وآراءهم، يقيناً منها بذلك، وتصديقاً بوعد الله إياها ما وعدها. ولذلك قال من قال من أهل التأويل في قوله: "وتثبيتا"، وتصديقاً، ومن قال منهم: ويقيناً، لأن تثبيت أنفس المنفقين أموالهم ابتغاء مرضاة الله إياهم، إنما كان عن يقين منها وتصديق بوعد الله.
ذكر من قال ذلك من أهل التأويل:
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سفيان، عن أبي موسى، عن الشعبي: "وتثبيتا من أنفسهم"، قال: تصديقاً ويقيناً.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن أبي موسى، عن الشعبي: "وتثبيتا من أنفسهم"، قال: وتصديقاً من أنفسهم، ثبات ونصرة.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "وتثبيتا من أنفسهم"، قال: يقيناً من أنفسهم. قال: التثبيت اليقين.
حدثني يونس قال، حدثنا علي بن معبد، عن أبي معاوية، عن إسماعيل، عن أبي صالح في قوله: "وتثبيتا من أنفسهم"، يقول: يقيناً من عند أنفسهم.
وقال آخرون: معنى قوله: "وتثبيتا من أنفسهم"، أنهم كانوا يتثبتون في الموضع الذي يضعون فيه صدقاتهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد "وتثبيتا من أنفسهم"، قال: يتثبتون أين يضعون أموالهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن المبارك، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد "وتثبيتا من أنفسهم"، فقلت له: ما ذلك التثبيت؟ قال: يتثبتون أين يضعون أموالهم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد: "وتثبيتا من أنفسهم"، قال: كانوا يتثبتون أين يضعونها.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن علي بن علي بن رفاعة، عن الحسن في قوله: "وتثبيتا من أنفسهم"، قال: كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم- يعني زكاتهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، حدثنا ابن المبارك، عن علي بن علي قال: سمعت الحسن قرأ: "ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم"، قال: كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت، فإن كان لله مضى، وإن خالطه شك أمسك.
قال أبو جعفر: وهذا التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد والحسن، تأويل بعيد المعنى مما يدل عليه ظاهر التلاوة. وذلك أنهم تأولوا قوله: "وتثبيتا من أنفسهم"، بمعنى: وتثبتا، فزعموا أن ذلك إنما قيل كذلك، لأن القوم كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم. ولو كان التأويل كذلك لكان: "وتثبيتا من أنفسهم". لأن المصدر من الكلام كان على تفعلت التفعل، فيقال: تكرمت تكرماً، وتكلمت تكلماً، وكما قال جل ثناؤه: "أو يأخذهم على تخوف" [النحل: 47]، من قول القائل: تخوف فلان هذا الأمر تخوفاً. فكذلك قوله: "وتثبيتا من أنفسهم"، لو كان من تثبت القوم في وضع صدقاتهم مواضعها، لكان الكلام: وتثبتاً من أنفسهم، لا وتثبيتاً. ولكن معنى ذلك ما قلناه من أنه: وتثبيت من أنفس القوم إياهم، بصحة العزم واليمين بوعد الله تعالى ذكره.
فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون ذلك نظير قول الله عز وجل: "وتبتل إليه تبتيلا" [المزمل: 8]، ولم يقل: تبتلاً؟.
قيل: إن هذا مخالف لذلك. وذلك أن هذا إنما جاز أن يقال فيه: تبتيلاً لظهور وتبتل إليه، فكان في ظهوره دلالة على متروك من كلام الذي منه قيل: تبتيلاً. وذلك أن المتروك هو: تبتل فيبتلك الله إليه تبتيلاً. وقد تفعل العرب مثل ذلك أحياناً: تخرج المصادر على غير ألفاظ الأفعال التي تقدمتها، إذا كانت الأفعال المتقدمة تدل على ما أخرجت منه، كما قال جل وعز: "والله أنبتكم من الأرض نباتا" [نوح: 17]، وقال: "وأنبتها نباتا حسنا" [آل عمران: 37]. والنبات مصدر نبت. وإنما جاز ذلك لمجيء أنبت، قبله، فدل على المتروك الذي منه قيل نباتا. والمعنى: والله أنبتكم فنبتم من الأرض نباتاً. وليس في قوله: "وتثبيتا من أنفسهم"، كلام يجوز أن يكون متوهماً به أنه معدول عن بنائه، ومعنى الكلام: ويتثبتون في وضع الصدقات مواضعها، فيصرف إلى المعاني التي صرف إليها قوله: "وتبتل إليه تبتيلا"، وما أشبه ذلك من المصادر المعدولة عن الأفعال التي هي ظاهرة قبلها.
وقال آخرون: معنى قوله: "وتثبيتا من أنفسهم"، واحتساباً من أنفسهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "وتثبيتا من أنفسهم"، يقول: احتساباً من أنفسهم.
قال أبو جعفر: وهذا القول أيضاً بعيد المعنى من معنى التثبيت، لأن التثبيت لا يعرف في شيء من الكلام بمعنى الاحتساب، إلا أن يكون أراد مفسره كذلك: أن أنفس المنفقين كانت محتسبة في تثبيتها أصحابها. فإن كان ذلك كان عنده معنى الكلام، فليس الاحتساب بمعنى حينئذ للتثبيت، فيترجم عنه به.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل وعز: ومثل الذين ينفقون أموالهم فيتصدقون بها ويسبلونها في طاعة الله بغير من على من تصدقوا بها عليه، ولا أذى منهم لهم بها، ابتغاء رضوان الله وتصديقاً من أنفسهم بوعده، "كمثل جنة".
والجنة البستان. وقد دللنا فيما مضى على أن الجنة البستان، بما فيه الكفاية من إعادته.
"بربوة"، والربوة من الأرض ما نشز منها فارتفع عن السيل. وإنما وصفها بذلك جل ثناؤه، لأن ما ارتفع عن المسايل والأودية أغلظ، وجنان ما غلظ من الأرض أحسبن وأزكى ثمراً وغرساً وزرعاً، مما رق منها، ولذلك قال أعشى بني ثعلبة في وصف روضة:
ما روضة من رياض الحزن معشبة خضراء جاد عليها مسبل هطل
فوصفها بأنها من رياض الحزن، لأن الحزون غروسها ونباتها أحسن وأقوى من غروس الأودية والتلاع وزروعها.
وفي الربوة لغات ثلاث، وقد قرأ بكل لغة منهن جماعة من القرأة. وهي ربوة بضم الراء، وبها قرأ عامة قرأة أهل المدينة والحجاز والعراق. وربوة بفتح الراء، وبها قرأ بعض أهل الشام وبعض أهل الكوفة، ويقال انها لغة لتميم. وربوة بكسر الراء وبها قرأ -فيما ذكر- ابن عباس.
قال أبو جعفر: وغير جائز عندي أن يقرأ ذلك إلا بإحدى اللغتين: إما بفتح الراء، وإما بضمها. لأن قراءة الناس في أمصارهم بإحداهما. وأنا لقراءتها بضمها أشد إيثاراً مني بفتحها، لأنها أشهر اللغتين في العرب. فأما الكسر، فإن في رفض القراءة به، دلالة واضحة على أن القراءة به غير جائزة.
وإنما سميت الربوة، لأنها ربت، فغلظت وعلت، من قول القائل: ربا هذا الشيء يربو، إذانتفخ فعظم.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "كمثل جنة بربوة"، قال: الربوة المكان الظاهر المستوي.
حذثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال مجاهد: هي الأرض المستوية المرتفعة.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "كمثل جنة بربوة"، يقول: بنشز من الأرض.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، "كمثل جنة بربوة"، والربوة: المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار، والذي فيه الجنان.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: "بربوة"، برابية من الأرض.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "كمثل جنة بربوة"، والربوة النشز من الأرض.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: "كمثل جنة بربوة"، قال: المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار.
وكان آخرون يقولون: هي المستوية.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: "كمثل جنة بربوة"، قال: هي الأرض المستوية التي تعلو فوق المياه.
قال أبو جعفر: وأما قوله: "أصابها وابل"، فإنه يعني جل ثناؤه: أصاب الجنة التي بالربوة من الأرض، وابل من المطر، وهو الشديد العظيم القطر منه.
وقوله: "فآتت أكلها ضعفين"، فإنه يعني الجنة: أنها أضعف ثمرها ضعفين حين أصابها الوابل من المطر.
والأكل هو الشيء المأكول، وهو مثل الرعب والهزء، وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي على فعل. وأما الأكل بفتح الألف وتسكين الكاف، فهو فعل الأكل، يقال منه: أكلت أكلاً، وأكلت أكلة واحدة، كما قال الشاعر:
وما أكلة إن نلتها بغنيمة، ولا جوعة إن جعتها بغرام
ففتح الألف، لأنها بمعنى الفعل. ويدلك على أن ذلك كذلك قوله: ولا جوعة، وإن ضمت الألف من الأكلة كان معناه: الطعام الذي أكلته، فيكون معنى ذلك حينئذ: ما طعام أكلته بغنيمة.
وأما قوله: "فإن لم يصبها وابل فطل"، فإن الطل، هو الندى، واللين من المطر، كما:-
حدثنا عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج: "فطل"، ندى- عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما الطل، فالندى.
حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "فإن لم يصبها وابل فطل"، أي طش.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: "فطل"، قال: الطل الرذاذ من المطر، يعني اللين منه.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "فطل"، أي طش.
قال أبو جعفر: وإنما يعني تعالى ذكره بهذا المثل: كما ضعفت ثمرة هذه الجنة التي وصفت صفتها حين جاد الوابل، فإن أخطأ هذا الوابل، فالطل كذلك. يضعف الله صدقة المتصدق والمنفق ماله ابتغاء مرضاته وتثبيتاً من نفسه، من غير من ولا أذى، قلت نفقته أو كثرت، لا تخيب ولا تخلف نفقته، كما تضغف الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها، قل ما أصابها من المطر أو كثر، لا يخلف خيرها بحال من الأحوال.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: "فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل"، يقول: كما أضعفت ثمرة تلك الجنة، فكذلك تضاعف ثمرة هذا المنفق ضعفين.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل"، هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن، يقول: ليس لخيره خلف، كما ليس لخير هذه الجنة خلف على أي حال، إما وابل، وإما طل.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قال: هذا مثل من أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: "الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله" الآية، قال: هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن.
فإن قال قائل: وكيف قيل: "فإن لم يصبها وابل فطل"، وهذا خبر عن أمر قد مضى؟.
قيل: يراد فيه كان. ومعنى الكلام: فآتت أكلها ضعفين، فإن لم يكن الوابل أصابها، أصابها طل. وذلك في الكلام نحو قول القائل: حبست فرسين، فإن لم أحبس اثنين فواحداً بقيمته، بمعنى: إلا أكن- لا بد من إضمار كان، لأنه خبر. ومنه قول الشاعر:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ولم تجدي من أن تقري بها بدا
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه "والله بما تعملون"، أيها الناس، في نفقاتكم التي تنفقونها، "بصير" لا يخفى عليه منها ولا من أعمالكم فيها وفي غيرها شيء، يعلم من المنفق منكم بالمن والأذى، والمنفق ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من نفسه، فيحصي عليكم حتى يجازي جميعكم جزاءه على عمله، إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً.
وإنما يعني بهذا القول جل ذكره، التحذير من عقابه في النفقات التي ينفقها عباده وغير ذلك من الأعمال: أن يأتي أحد من خلقه ما قد تقدم فيه بالنهي عنه، أو يفرط فيما قد أمر به، لأن ذلك بمرأى من الله ومسمع، يعلمه ويحصيه عليهم، وهو لخلقه بالمرصاد.
قوله تعالى : "ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم" ابتغاء مفعول من أجله . "وتثبيتا من أنفسهم" عطف عليه . وقال مكي في المشكل : كلاهما مفعول من أجله . قال ابن عطية : وهو مردود ، ولا يصح في تثبيتا أنه مفعول من أجله ، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت. و ابتغاء نصب على المصدر في موضع الحال ، وكان يتوجه فيه النصب على المفعول من أجله ، لكن النصب على المصدر هو الصواب من جهة عطف المصدر الذي هو تثبيتا عليه . ولما ذكر الله تعالى صفة صدقات القوم الذين لا خلاق لصدقاتهم ، ونهى المؤمنين عن مواقعة ما يشبه ذلك بوجه ما ، عقب في هذه الآية بذكر نفقات القوم الذين تزكوا صدقاتهم إذ كانت على وفق الشرع ووجهه . و ابتغاء معناه طلب . و مرضات مصدر من رضي يرضى . وتثبيتا معناه أنهم يتثبتون أين يضعون صدقاتهم ، قاله مجاهد و الحسن . قال الحسن: كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت ، فإن كان ذلك لله أمضاه وإن خالطه شك أمسك . وقيل : معناه تصديقاً ويقيناً ، قاله ابن عباس . وقال ابن عباس أيضاً و قتادة : معناه واحتساباً من أنفسهم . وقال الشعبي و السدي و قتادة أيضاً وابن زيد وأبو صالح وغيرهم : وتثبيتا معناه وتيقناً أي أن نفوسهم لها بصائر فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تعالى تثبيتاً . وهذه الأقوال الثلاثة أصوب من قول الحسن و مجاهد ، لأن المعنى الذي ذهبا إليه إنما عبارته وتثبيتا مصدر على غير المصدر . قال ابن عطية : وهذا لا يسوغ إلا مع ذكر المصدر والإفصاح بالفعل المتقدم ، كقوله تعالى : "والله أنبتكم من الأرض نباتا" ، "وتبتل إليه تبتيلا" . وأما إذا لم يقع إفصاح بفعل فليس لك أن تأتي بمصدر في غير معناه ثم تقول : أحمله على معنى كذا وكذا ، لفعل لم يتقدم له ذكر .قال ابن عطية : هذا مهيع كلام العرب فيما علمته . وقال النحاس : لو كان كما قال مجاهد لكان وتثبتاً من تثبت كتكرمت تكرما ، وقول قتادة : احتسابا ، لا يعرف إلا أن يراد به أن أنفسهم تثبتهم محتسبة ، وهذا بعيد . وقول الشعبي حسن ، أي تثبيتاً من أنفسهم لهم على إنفاق ذلك في طاعة الله عز وجل ، يقال : تثبت فلاناً في هذا الأمر ، أي صححت عزمه ، وقويت قيه رأيه ، أثبته تثبيتاً ، أي أنفسهم موقنة بوعد الله على تثبيتهم في ذلك . وقيل : "وتثبيتا من أنفسهم" أي يقرون بأن الله تعالى يثبت عليها ، أي وتثبيتاً من أنفسهم لثوابها ، بخلاف المنافق الذي لا يحتسب الثواب .
قوله تعالى : "كمثل جنة بربوة" الجنة : البستان ،وهي قطعة أرض تنبت فيها الأشجار حتى تغطيها ، فهي مأخوذة من لفظ الجن والجنين لاستتارهم . وقد تقدم . والربوة : المكان المرتفع ارتفاعاً يسيراً ، معه في الأغلب كثافة تراب ، وما كان كذلك فنباته أحسن ، ولذلك خص الربوة بالذكر . قال ابن عطية : ورياض الحزن ليست من هذا كما زعم الطبري ، بل تلك هي الرياض المنسوبة إلى نجد ، لأنها خير من رياض تهامة ، ونبات نجد أعطر ، ونسيمه أبرد وأرق ، ونجد يقال لها حزن . وقلما يصلح هواء تهامة إلا بالليل ، ولذلك قالت الأعرابية : زوجي كليل تهامة . وقال السدي : بربوة أي برباوة ، وهو ما انخفض من الأرض . قال ابن عطية : وهذه عبارة قلقة ، ولفظ الربوة هو مأخوذ من ربا يربو إذا زاد .
قلت : عبارة السدي ليست بشيء ، لأن بناء رب و معناه الزيادة في كلام العرب ، ومنه الربو للنفس العالي . ربا يربو إذا أخذه الربو . وربا الفرس إذا أخذه الربو من عدو أو فزع . وقال الفراء في قوله تعالى : "فأخذهم أخذة رابية" أي زائدة ، كقولك : أربيت إذا أخذت أكثر مما أعطيت . وربوت في بني فلان وربيت أي نشأت فيهم . وقال الخليل : الربوة أرض مرتفعة طيبة وخص الله تعالى بالذكر التي لا يجري فيها ماء من حيث العرف في بلاد العرب ، فمثل لهم ما يحسونه ويدركونه . وقال ابن عباس : الربوة المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار فيها ماء حار ، ولم يرد جنس التي تجري فيها الأنهار ، لأن الله تعالى قد ذكر ربوة ذات قرار ومعين . والمعروف من كلام العرب أن الربوة ما ارتفع عما جاوره سواء جرى فيها ماء أو لم يجر . وفيها خمس لغات ربوة بضم الراء ، وبها قرأ ابن كثير وحمزة و الكسائي ونافع وأبو عمرو .و ربوة بفتح الراء ، وبها قرأ عاصم وابن عامر و الحسن . وربوة بكسر الراء ، وبها قرأ ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي . و رباوة بالفتح ، وبها قرأ أبو جعفر وأبو عبد الرحمن ، وقال الشاعر :
من منزلي في روضة برباوة بين النخيل إلى بقيع الغرقد؟
و رباوة بالكسر ، وبها قرأ الأشهب العقيلي . قال الفراء : ويقال برباوة وبرباوة ، وكله من الرابية ، وفعله ربا يربو .
قوله تعالى : "أصابها" يعني الربوة . "وابل" أي مطر شديد ، قال الشاعر :
ما روضة من رياض الحزن معشبة خضراء جاد عليها وابل هطل
"فأتت" أي أعطت . "أكلها" بضم الهمزة : الثمر الذي يؤكل ، ومنه قوله تعالى : "تؤتي أكلها كل حين" . والشيء المأكول من كل شيء يقال له أكل . والأكلة : اللقمة ، ومنه الحديث :
"فإن كان الطعام مشفوها قليلاً فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين" يعني لقمة أو لقمتين ، خرجه مسلم . وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص ، كسرج الفرس وباب الدار . وإلا فليس الثمر مما تأكله الجنة .وقرأ نافع و أبن كثير وأبو عمرو أكلها بضم الهمزة وسكون الكاف ، وكذلك كل مضاف إلى مؤنث ، وفارقهما أبو عمرو فيما أضيف إلى مذكر مثل أكله أو كان غير مضاف إلى شيء مثل "أكل خمط" فثقل أبو عمرو ذلك وخففاه . وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة و الكسائي في جميع ما ذكرناه بالتثقيل . ويقال : أكل وأكل بمعنى . "ضعفين" أي أعطت ضعفي ثمر غيرها من الأرضين . وقال بعض أهل العلم : جملت مرتين في السنة ، والأول أكثر ، أي أخرجت من الزرع ما يخرج غيرها في سنتين .
قوله تعالى : "فإن لم يصبها وابل فطل" تأكيد منه تعالى لمدح هذه الربوة بأنها إن لم يصبها وابل فإن الطل
يكفيها وينوب مناب الوابل في إخراج الثمرة ضعفين ، وذلك لكرم الأرض وطيبها . قال المبرد وغيره : تقديره فطل يكفيها . وقال الزجاج : فالذي يصيبها طل . والطل : المطر الضعيف المستدق من القطر الخفيف ، قاله ابن عباس وغيره وهو مشهور اللغة . وقال قوم منهم مجاهد : الطل : الندى . قال ابن عطية : وهو تجوز وتشبيه . قال النحاس : وحكى أهل اللغة وبلت وأوبلت ، وطلت وأطلت . وفي الصحاح : الطل : أضعف المطر والجمع الطلال ، تقول منه ، طلت الأرض وأطلها الندى فهي مطلولة . قاله الماوردي : وزرع الطل أضعف من زرع المطر وأقل ريعاً ، وفيه ـ وإن قل ـ تماسك ونفع . قال بعضم : في الآية تقديم وتأخير ، ومعناه كمثل جنة بربوة أصابها وابل فإن لم يصبها وابل فطل فأتت أكلها ضعفين . يعني اخضرت أوراق البستان وخرجت ثمرتها ضعفين .
قلت : التأويل الأول أصوب ولا حاجة إلى التقديم والتأخير . فشبه تعالى نمو نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربي الله صدقاتهم كتربية الفلو والفصيل بنمو نبات الجنة بالربوة الموصوفة ، بخلاف الصفوان الذي انكشف عنه ترابه فبقي صلدا . وخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم :
"لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمنيه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل أو أعظم" خرجه الموطأ ايضاً .
قوله تعالى : "والله بما تعملون بصير" وعد ووعيد . وقرأ الزهري يعملون بالياء كأنه يريد به الناس أجمع ، أو يريد المنفقين فقط ، فهو وعد محض .

وهذا مثل المؤمنين المنفقين أموالهم ابتغاء مرضاة الله عنهم في ذلك, "وتثبيتاً من أنفسهم" أي وهم متحققون متثبتون أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء, ونظير هذا في معنى قوله عليه السلام في الحديث الصحيح المتفق على صحته "من صام رمضان إيماناً واحتساباً" أي يؤمن أن الله شرعه ويحتسب عند الله ثوابه, قال الشعبي: "وتثبيتاً من أنفسهم" أي تصديقاً ويقيناً, وكذا قال قتادة وأبو صالح وابن زيد, واختاره ابن جريرو وقال مجاهد والحسن: أي يتثبتون أين يضعون صدقاتهم.
وقوله "كمثل جنة بربوة", وهو عند الجمهور: المكان المرتفع من الأرض, وزاد ابن عباس والضحاك وتجري فيه الأنهار. قال ابن جرير رحمه الله: وفي الربوة ثلاث لغات: هن ثلاث قراءات: بضم الراء, وبها قرأ عامة أهل المدينة والحجاز والعراق, وفتحها وهي قراءة بعض أهل الشام, والكوفة, ويقال إنها لغة تميم, وكسر الراء, ويذكر أنها قراءة ابن عباس.
وقوله "أصابها وابل" وهو المطر الشديد, كما تقدم, فآتت "أكلها" أي ثمرتها "ضعفين" أي بالنسبة إلى غيرها من الجنان "فإن لم يصبها وابل فطل" قال الضحاك: هو الرذاذ وهو اللين من المطر, أي هذه الجنة بهذه الربوة لا تمحل أبداً, لأنها إن لم يصبها وابل فطل, وأياً ما كان فهو كفايتها, وكذلك عمل المؤمن لا يبور أبداً, بل يتقبله الله ويكثره وينميه كل عامل بحسبه, ولهذا قال "والله بما تعملون بصير" أي لا يخفى عليه من أعمال عباده شيء.
قوله: 265- " ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم " قيل إن قوله: " ابتغاء مرضاة الله " مفعول له، وتثبيتاً معطوف عليه، وهو أيضاً مفعول له: أي الإنفاق لأجل الابتغاء. والتثبيت كذا قال مكي في المشكل. قال ابن عطية: وهو مردود لا يصح في تثبيتاً أنه مفعول من أجله، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت. قال: وابتغاء نصب على المصدر في موضع الحال، وكان يتوجه فيه النصب على المفعول من أجله، لكن النصب على المصدر هو الصواب من جهة عطف المصدر الذي هو تثبيتاً عليه، وابتغاء معناه طلب، ومرضات مصدر رضي يرضى، وتثبيتاً معناه: أنهم يثبتون من أنفسهم ببذل أموالهم على الإيمان وسائر العبادات رياضةً لها وتدريباً وتمريناً، أو يكون التثبيت بمعنى التصديق: أي تصديقاً للإسلام ناشئاً من جهة أنفسهم. وقد اختلف السلف في معنى هذا الحرف، فقال الحسن ومجاهد: معناه أنهم يتثبتون أن يضعوا صدقاتهم، وقيل: معناه تصديقاً ويقيناً، وروي ذلك عن ابن عباس، وقيل: معناه احتساباً من أنفسهم، قاله قتادة، وقيل: معناه أن أنفسهم لها بصائر فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تثبيتاً، قاله الشعبي والسدي وابن زيد وأبو صالح وهذا أرجح مما قبله. يقال: ثبت فلاناً في هذا الأمر أثبته تثبيتاً: أي صححت عزمه. قوله: "كمثل جنة بربوة أصابها وابل" الجنة: البستان، وهي أرض تنبت فيها الأشجار حتى تغطيها، مأخوذة من لفظ الجن والجنين لاستتارها. والربوة: المكان المرتفع ارتفاعاً يسيراً، وهي مثلثة الراء، وبها قرئ، وإنما خص الربوة لأن نباتها يكون أحسن من غيره، مع كونه لا يصطلمه البرد في الغالب للطافة هوائه بهبوب الرياح المطلفة له. قال الطبري: وهي رياض الحزن منسوبة إلى نجد. لأنها خير من رياض تهامة، ونبات نجد أعطر، ونسيمه أبرد وأرق. ونجد يقال لها حزن، وليست هذه المذكورة هنا من ذاك، ولفظ الربوة مأخوذ من ربا يربو إذا زاد. وقال الخليل الربوة: أرض مرتفعة طيبة. والوابل المطر الشديد كما تقدم، يقال: وبلت السماء تبل، والأرض موبلة. قال الأخفش: ومنه قوله تعالى: "أخذاً وبيلاً" أي شديداً، وضرب وبيل، وعذاب وبيل "فآتت أكلها" بضم الهمزة: الثمر الذي يؤكل كقوله تعالى: "تؤتي أكلها كل حين" وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص كسرج الفرس وباب الدار.قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأكلها بضم الهمزة وسكون الكاف تخفيفاً. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بتحريك الكاف بالضم. وقوله: "ضعفين" أي مثلي ما كانت تثمر بسبب الوابل. فالمراد بالضعف المثل، وقيل أربعة أمثال، ونصبه على الحال من أكلها: أي مضاعفاً. قوله: "فإن لم يصبها وابل فطل" أي فإن الطل يطفيها: وهو المطر الضعيف المستدق القطر. قال المبرد وغيره: وتقديره فطل يكفيها. وقال الزجاج: تقديره فالذي يصيبها طل والمراد أن الطل ينوب مناب الوابل في إخراج الثمرة ضعفين. وقال قوم: الطل الندى. وفي الصحاح الطل: أضعف المطر، والجمع أطلال. قال الماوردي: وزرع الطل أضعف من زرع المطر. والمعنى: أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله لا تضيع بحال وإن كانت متفاوتة، ويجوز أن يعتبر التمثيل ما بين حالهم باعتبار ما صدر عنهم من النفقة الكثيرة والقليلة، وبين الجنة المعهودة باعتبار ما أصابها من المطر الكثير والقليل، فكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكلها، فكذلك نفقتهم جلت أو قلت بعد أن يطلب بها وجه الله زاكية زائدة في أجورهم. وقوله: "والله بما تعملون بصير". قرأ الزهري بالتاء التحتية. وقرأ الجمهور بالفوقية، وفي هذا ترغيب لما لهم في الإخلاص مع ترهيب من الرياء ونحوه، فهو وعد ووعيد.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم في قوله: "كمثل حبة أنبتت سبع سنابل" عن الربيع قال: "كان من بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة ورابط معه بالمدينة ولم يذهب وجهاً إلا بإذنه كانت له الحسنة بسبعمائة ضعف، ومن بايع على الإسلام كانت الحسنة له عشر أمثالها". وأخرج مسلم وأحمد والنسائي والحاكم والبيهقي عن ابن مسعود "أن رجلاً تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة". وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن خزيم بن فاتك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنفق نفقة في سبيل الله كتب له سبعمائة ضعف". وأخرجه البخاري في تاريخه من حديث أنس. وأخرجه أحمد من حديث أبي عبيدة وزاد "ومن أنفق على نفسه وأهله أو عاد مريضاً فالحسنة بعشر أمثالها". وأخرج نحوه النسائي في الصوم. وأخرج ابن ماجه وابن أبي حاتم من حديث عمران بن حصين وعلي وأبي الدرداء وأبي هريرة وأبي أمامة وعبد الله بن عمرو وجابر كلهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة درهم، ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم، ثم تلا هذه الآية "والله يضاعف لمن يشاء"". وأخرجه أيضاً ابن ماجه من حديث الحسن بن علي. وأخرج أحمد من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، يقول الله: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به". وأخرجه أيضاً مسلم. وأخرج الطبراني من حديث معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "طوبى لمن أكثر في الجهاد في سبيل الله من ذكر الله، فإن له بكل كلمة سبعين الف حسنة، كل حسنة منها عشرة أضعاف" وقد تقدم ذكر طرف من أحاديث التضعيف للحسنات عند قوله تعالى: "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة". وقد وردت الأحاديث الصحيحة في أجر من جهز غازياً. وأخرج أبو داود والحاكم وصححه عن سهل بن معاذ عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الصلاة والصوم والذكر تضاعف على النفقة في سبيل الله سبعمائة ضعف". وأخرج أحمد والطبراني في الأوسط والبيهقي في سننه عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف". وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال في تفسير قوله تعالى: "ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى" إن أقواماً يبعثون الرجل منهم في سبيل الله أو ينفق على الرجل أو يعطيه النفقة ثم يمن عليه ويؤذيه: يعني أن هذا سبب النزول. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه. وقد وردت الأحاديث الصحيحة في النهي عن المن والأذى وفي فضل الإنفاق في سبيل الله وعلى الأقارب وفي وجوه الخير، ولا حاجة إلى التطويل بذكرها فهي معروفة في مواطنها. وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن دينار قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من صدقة أحب إلى الله من قول الحق، ألم تسمع قول الله تعالى: "قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى"". وأخرج ابن المنذر عن الضحاك في قوله: "قول معروف" قال: رد جميل، تقول: يرحمك الله، يرزقك الله، ولا تنهره ولا تغلظ له القول. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "لا يدخل الجنة منان وذلك في كتاب الله "لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى"". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "صفوان" يقول: الحجر "فتركه صلداً" يقول: ليس عليه شيء. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: الوابل المطر. وأخرجا عن قتادة قال: الوابل المطر الشديد، قال: وهذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار يوم القيامة: "لا يقدرون على شيء مما كسبوا" يومئذ كما ترك هذا المطر هذا الحجر ليس عليه شيء أنقى مما كان. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "فتركه صلداً" قال: يابساً جاثياً لا ينبت شيئاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في قوله: " ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله " قال: هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الشعبي في قوله: "وتثبيتاً من أنفسهم" قال: تصديقاً ويقيناً. وأخرج ابن جرير عن أبي صالح نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير قال: يتثبتون أين يضعون أموالهم. وأخرجا عن الحسن قال: كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت فإن كان الله أمضاه، وإن خالطه شيء من الرياء أمسك. وأخرج ابن المنذر عن قتادة في قوله: "تثبيتاً" قال: النية. وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: الربوة النشز من الأرض. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: الربوة الأرض المستوية المرتفعة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: هي المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار. وأخرج ابن جرير عنه في قوله تعالى: "فطل" قال: الندى. أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك قال: الطل الرذاذ من المطر: يعني اللين منه. وأخرجا عن قتادة قال: هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن يقول: ليس لخيره خلف كما ليس لخير هذه الجنة خلف على أي حال كان، إن أصابها وابل وإن أصابها طل.
265. قوله تعالى: " ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله " أي طلب رضا الله تعالى " وتثبيتاً من أنفسهم " قال قتادة : احتساباً، وقال الشعبي و الكلبي : تصديقاً من أنفسهم، أي يخرجون الزكاة طيبة بها أنفسهم على يقين بالثواب وتصديق بوعد الله، يعلمون أن ما أخرجوا خير لهم مما تركوا، وقيل على يقين بإخلاف الله عليهم.
وقال عطاء و مجاهد : يثبتون أي يضعون أموالهم، قال الحسن : كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت فإن كان لله أمضى وإن كان يخالطه شك أمسك، وعلى هذا القول يكون التثبيت بمعنى التثبت، كقوله تعالى: " وتبتل إليه تبتيلاً " (8-المزمل) أي تبتلاً، " كمثل جنة " أي بستان قال المبرد و الفراء : إذا كان في البستان نخل فهو جنة وإن كان فيه كرم فهو فردوس " بربوة " قرأ ابن عامر و عاصم بربوة وإلى ربوة في يعلوه الماء ولا يعلو عن الماء، وإنما جعلها بربوة لأن النبات عليها أخحسن وأزكى " أصابها وابل " مطر شديد كثير " فآتت أكلها " ثمرها، قرأ نافع و ابن كثير و أبو عمرو بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتثقيل، وزاد نافع و ابن كثير تخفيف أكله والأكل، وخفف أبو عمرو ورسلنا ورسلكم ورسلهم وسبلنا.
" ضعفين " أي أضعفت في الحمل قال عطاء : حملت في السنة من الريع ما يحمل غيرها في سنتين، وقال عكرمة : حملت في السنة مرتين " فإن لم يصبها وابل فطل " أي فطش، وهو المطر الضعيف الخفيف ويكون دائماً.
قال السدي : هو الندى، وهذا مثل ضربه الله تعالى لعمل المؤمن المخلص فيقول: كما أن هذه الجنة تريع في كل حال ولا تخلف سواء قل المطر أو كثر، كذلك يضعف الله صدقة المؤمن المخلص الذي لا يمن ولا يؤذي سواء قلت نفقته أو كثرت، وذلك أن الطل إذا كان يدوم عمل الوابل الشديد.
" والله بما تعملون بصير "
265-" مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم " و تثبيتاً بعض أنفسهم على الإيمان ، فإن المال شقيق الروح ، فمن بذل ماله لوجه الله ثبت بعض نفسه ومن بذل ماله وروحه ثبتها كلها ، أو تصديقاً للإسلام وتحقيقاً للجزاء مبتدأ من أصل أنفسهم ، وفيه تنبيه على أن حكمة الإنفاق للمنفق تزكية النفس عن البخل وحب المال . " كمثل جنة بربوة " أي ومثل نفقة هؤلاء في الزكاة ، كمثل بستان بموضع مرتفع ، فإن شجره يكون أحسن منظراً وأزكى ثمراً . وقرأ ابن عامر و عاصم " بربوة " بالفتح وقرئ بالكسر وثلاثتها لغات فيها . " أصابها وابل " مطر عظيم القطر . " فآتت أكلها " ثمرتها . وقرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو بالسكون للتخفيف . " ضعفين " مثلي ما كنت تثمر بسبب الوابل . والمراد بالضعف المثل كما أريد بالزوج الواحد في قوله تعالى ز " من كل زوجين اثنين " و قيل : أربعة أمثاله ونصبه على الحال أي مضاعفاً ز " فإن لم يصبها وابل فطل " أي فيصيبها ، أو فالذي يصيبها طل ، أو فطل يكفيها لكرم منبتها وبرودة هوائها لارتفاع مكانها . وهو المطر الصغير القطر ، والمعنى أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله لا تضيع بحال وإن كانت تتفاوت باعتبار ما ينضم إليها من أحواله ، ويجوز أن يكون التمثيل لحالهم عند الله تعالى بالجنة على الربوة ونفقاتهم الكثيرة والقليلة الزائدتين في زلفاهم بالوابل والطل . " والله بما تعملون بصير " تحذير عن الرئاء وترغيب في الإخلاص .
265. And the likeness of those who spend their wealth in search of Allah's pleasure, and for the strengthening of their souls, is as the likeness of a garden on a height. The rainstorm smiteth it and it bringeth forth its fruit twofold. And if the rainstorm smite it not, then the shower. Allah is Seer of what ye do.
265 - And the likeness of those who spend their substance, seeking to please God and to strengthen their souls, is as a garden, high and fertile: heavy rain falls on it but makes it yield a double increase of harvest, and if it receives not heavy rain, light moisture sufficeth it. God seeth well whatever ye do.