[البقرة : 26] إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ
) إن الله لا يستحيي أن يضرب) يجعل (مثلاً) مفعول أول (ما) نكرة موصوفة بما بعدها مفعول ثان أي مثل كان أو زائدة لتأكيد الخسة فما بعدها المفعول الثاني (بعوضةً) مفرد البعوض وهو صغار البق (فما فوقها) أي أكبر منها أي لا يترك بيانه لما فيه من الحكم (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه) أي المثل (الحق) الثابت الواقع موقعه (من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا) تمييز أي بهذا المثل ، وما استفهام إنكار مبتدأ ، وذا بمعنى الذي بصلته خبره أي: أي فائدة فيه قال تعالى في جوابهم (يضل به) أي بهذا المثل (كثيرا) عن الحق لكفرهم به (ويهدي به كثيرا) من المؤمنين لتصديقهم به (وما يضل به إلا الفاسقين) الخارجين عن طاعته
قوله تعالى إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا الآية ك أخرج ابن جرير عن السدي بأسانيده لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين قوله مثله كمثل الذي استوقد نارا وقوله أو كصيب من السماء قال المنافقون الله أعلى
وأجل من أن يضرب هذه الأمثال فأنزل الله إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا إلى قوله هم الخاسرون وأخرج الواحدي من طريق عبد الغني بن سعيد الثقفي عن موسى بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال إن الله ذكر إلهة المشركين فقال وإن يسلبهم الذباب شيئا وذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت فقالوا أرأيت حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد أي شيء كان يصنع بهذا فأنزل الله هذه الآية عبد الغني واه جدا وقال عبد الرزاق في تفسيره أخبرنا معمر عن قتاده لما ذكر الله العنكبوت والذباب قال المشركون ما بال العنكبوت والذباب يذكران فأنزل الله هذه الآية وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال لما نزلت يا أيها الناس ضرب مثل قال المشركون ما هذا من الأمثال فيضرب أو ما يشبه هذه الأمثال فأنزل الله إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا الآية قلت القول الأول أصح إسنادا وأنسب بما تقدم أول السورة وذكر المشركين لا يلائم كون الآية مدنية وما أوردناه عن قتادة والحسن حكاه عنهما الواحدي بلا إسناد بلفظ قالت اليهود وهو أنسب
قال أبو جعفر: اختلف أهل التاويل في المعنى الذي أنزل الله جل ثناؤه فيه هذه الاية وفي تأويلها.
فقال بعضهم بما:حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين يعني قوله: "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا" وقوله: "أو كصيب من السماء"، الآيات الثلاث قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة" إلى قوله: "أولئك هم الخاسرون ".
وقال آخرون بما:حدثني به أحمد بن إبراهيم، قال حدثنا قراد، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، في قوله تعالى: "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها". قال: هذا مثل ضربه الله للدنيا، إن البعوضة تحيا ما جاعت، فإذا سمنت ماتت. وكذلك مثل هؤلاء.القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن: إذا امتلأوا من الدنيا رياً أخذهم الله عند ذلك. قال: ثم تلا: "فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون" (الأنعام: 44).
حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحق بن الحجاج، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس بنحوه إلا أنه قال: فإذا خلت آجالهم وانقطعت مدتهم، صاروا كالبعوضة تحيا ما جاعت، وتموت إذا رويت، فكذلك هؤلاء الذين ضرب الله لهم هذا المثل، إذا امتلئوا من الدنيا ريًا أخذهم الله فأهلكهم. فذلك قوله: "حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون" ( الأنعام :44)
وقال آخرون بما:حدثنا به بشربن معاذ، قال: حدثنا يزيد عن سعيد، عن قتادة، قوله: "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها" أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكرمنه شيئاً ما قل منه أو كثر. إن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله: "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها".
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة،قال: لما ذكر الله العنكبوت والذباب، قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله:"إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها".
وقد ذهب كل قائل ممن ذكرنا قوله في هذه الآية، وفي المعنى الذي نزلت فيه، مذهبًا، غيرأن أولى ذلك بالصواب وأشبهه بالحق، ما ذكرنا من قول ابن مسعود وابن عباس.
وذلك أن الله جل ذكره أخبر عباده أنه لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها، عقيب أمثال قد تقدمت في هذه السورة، ضربها للمنافقين، دون الأمثال التي ضربها في سائر السور غيرها. فلأن يكون هذا القول أعني قوله: "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما " جواباً لنكير الكفار والمنافقين ما ضرب لهم من الأمثال في هذه السورة، أحق وأولى من أن يكون ذلك جوابًا لنكيرهم ما ضرب لهم من الأمثال في غيرها من السور.
فإن قال قائل: إنما أوجب أن يكون ذلك جوابًا لنكيرهم ما ضرب من الأمثال في سائر السور، لأن الأمثال التي ضربها الله لهم ولآلهتهم في سائر السور أمثال موافقة المعنى لما أخبر عنه: أنه لا يستحيي أن يضربه مثلاً، إذ كان بعضها تمثيلاً لآلهتهم بالعنكبوت، وبعضها تشبيهًا لها في الضعف والمهانة بالذباب. وليس ذكر شيء من ذلك بموجود في هذه السورة، فيجوز أن يقال: إن الله لا يستحيي أن يضربه مثلاً.
فإن ذلك بخلاف ما ظن. وذلك أن قول الله جل ثناؤه: "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها"، إنما هو خبر منه جل ذكره أنه لايستحيي أن يضرب في الحق من الأمثال صغيرها وكبيرها، ابتلاء بذلك عباده واختبارًا منه لهم، ليميز به أهل الإيمان والتصديق به من أهل الضلال والكفر به، إضلالاً منه به لقوم، وهداية منه به لآخرين.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح،عن مجاهد في قوله: "مثلا ما بعوضة"، يعني الأمثال صغيرها وكبيرها، يؤمن بها المؤمنون، ويعلمون أنها الحق من ربهم، ويهديهم الله بها ويضل بها الفاسقين. يقول: يعرفه المؤمنون فيؤمنون به، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به.
حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدمثله.
حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج عن مجاهد، مثله.
قال أبو جعفر:لا أنه جل ذكره قصد الخبر عن عين البعوضة أنه لا يستحيي من ضرب المثل بها، ولكن البعوضة لما كانت أضعف الخلق.
كما حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة، قال: البعوضة أضعف ما خلق الله.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، بنحوه.
خصها الله بالذكر في القلة، فأخبر أنه لا يستحيي أن يضرب أقل الأمثال في الحق وأحقرها وأعلاها إلى غير نهاية في الارتفاع، جوابًا منه جل ذكره لمن أنكر من منافقي خلقه ما ضرب لهم من المثل بموقد النار والصيب من السماء، على ما نعتهما به من نعتهما.
فإن قال لنا قائل: وأين ذكر نكير المنافقين الأمثال التي وصفت، الذي هذا الخبر جوابه، فنعلم أن القول في ذلك ما قلت؟
قيل: الدلالة على ذلك بينة في قول الله تعالى ذكره: " فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا " (البقرة: 26). وإن القوم الذين ضرب لهم الأمثال في الآيتين المقدمتين اللتين مثل ما عليه المنافقون مقيمون فيهما: بموقد النار والصيب من السماء، على ما وصف من ذلك قبل قوله: "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا" قد أنكروا المثل وقالوا: ماذا أراد الله بهذا مثلاً؟ فأوضح لهم تعالى ذكره خطأ قيلهم ذلك، وقبح لهم ما نطقوا به، وأخبرهم بحكمهم في قيلهم ما قالوا منه، وأنه ضلال وفسوق، وأن الصواب والهدى ما قاله المؤمنون دون ما قالوه.
وأما تأويل قوله: "إن الله لا يستحيي" فإن بعض المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب كان يتأول معنى "إن الله لا يستحيي ": إن الله لا يخشى أن يضرب مثلاً، ويستشهد على ذلك من قوله بقول الله تعالى: "وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه" ( الأحزاب: 37،) ويزعم أن معنى ذلك: وتستحي الناس والله أحق أن تستحيه فيقول: الاستحياء بمعنى الخشية، والخشية بمعنى الاستحياء.
وأما معنى قوله: "أن يضرب مثلا"، فهو أن يبين ويصف، كما قال جل ثناؤه: "ضرب لكم مثلا من أنفسكم" ( الروم: 28)، بمعنى وصف لكم، وكما قال الكميت:
وذلك ضرب أخماس أريدت لأسداس، عسى أن لا تكونا
بمعنى: وصف أخماس.
والمثل: الشبه، يقال: هذا مثل هذا ومثله، كما يقال: شبهه وشبهه، ومنه قول كعب بن زهير:
كانت مواعيدعرقوب لهامثلاً وما مواعيدها إلا الأباطيل
يعني شبهاً، فمعنى قوله إذا: "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا": إن الله لا يخشى أن يصف شبهًا لماشبه به.
وأما ما التي مع أمثل ، فإنها بمعنى الذي ، لأن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة في الصغر والقلة فما فوقها مثلاً.
فإن قال لنا قائل: فإن كان القول في ذلك ما قلت، فما وجه نصب البعوضة، وقد علمت أن تأويل الكلام ما تأولت: أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً الذي هو بعوضة؟ فالبعوضة على قولك في محل الرفع؟ فأنى أتاها النصب؟
قيل: أتاها النصب من وجهين: أحدهما، أن ما لما كانت في محل نصب بقوله يضرب ، وكانت البعوضة لها صلة، عربت بتعريبها، فألزمت إعرابها، كما قال حسان بن ثابت:
وكفى بنا فضلاًعلى من غيرنا حب النبي محمد إيانا
فعربت غير بإعراب من . والعرب تفعل ذلك خاصة في من و ما، تعرب صلاتهما بإعرابهما، لأنهما يكونان معرفة أحياناً، ونكرة أحياناً.
وأما الوجه الآخر، فأن يكون معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بين البعوضة إلى ما فوقها، ثم حذف ذكر بين و إلى ، إذ كان في نصب البعوضة ودخول الفاء في ما الثانية، دلالة عليهما، كما قالت العرب: مطرنا ما زبالة فالثعلبية ، و له عشرون ما ناقة فجملا، و هي أحسن الناس ما قرنا فقدما، يعنون: ما بين قرنها إلى قدمها،. وكذلك يقولون في كل ما حسن فيه من الكلام دخول: ما بين كذا إلى كذا، ينصبون الأول والثاني، ليدل النصب فيهما على المحذوف من الكلام. فكذلك ذلك في قوله: "ما بعوضة فما فوقها".
وقد زعم بعض أهل العربية أن ما التي مع المثل صلة في الكلام بمعنى التطول، وأن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة مثلا بعوضة فما فوقها. فعلى هذا التأويل، يجب أن تكون بعوضة منصوبة ب يضرب وأن تكون ما الثانية التي في فما فوقها معطوفة على البعوضة لا على ما.
وأما تأويل قوله "فما فوقها": فما هو أعظم منها عندي لما ذكرنا قبل من قول قتادة وابن جريج: أن البعوضة أضعف خلق الله، فإذ كانت أضعف خلق الله فهي نهاية في القلة والضعف. وإذ كانت كذلك، فلا شك أن ما فوق أضعف الأشياء، لا يكون إلا أقوى منه. فقد يجب أن يكون المعنى على ما قالاه فما فوقها في العظم والكبر، إذ كانت البعوضة نهاية في الضعف والقلة. وقيل في تأويل قوله "فما فوقها"، في الصغر والقلة. كما يقال في الرجل يذكره الذاكر فيصفه باللؤم والشح، فيقول السامع: نعم، وفوق ذاك ، يعني فوق الذي وصفت في الشح واللؤم، وهذا قول خلاف تأويل أهل العلم الذين ترتضى معرفتهم بتأويل القران.
فقد تبين إذا، بما وصفنا، أن معنى الكلام: إن الله لايستحي أن يصف شبها لما شبه به الذي هو ما بين بعوضة إلى ما فوق البعوضة.
فأما تأويل الكلام لو رفعت البعوضة، فغير جائز في ما، إلا ما قلنا من أن تكون اسمًا، لا صلة بمعنى التطول.
القول في تأويل قوله: " فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا".
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "فأما الذين آمنوا"، فأما الذين صدقوا الله ورسوله. وقوله: "فيعلمون أنه الحق من ربهم "، يعني: فيعرفون أن المثل الذي ضربه الله، لما ضربه له، مثل.
كما حدثني به المثنى، قال: حدثنا إسحق بن الحجاج، قال: حدثنا عبدالله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: "فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم "، أن هذا المثل الحق من ربهم، وأنه كلام الله ومن عنده.
وكما حدثنا بشربن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، قوله "فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم "، أي يعلمون أنه كلام الرحمن، وأنه الحق من الله. "وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا".
قال أبو جعفر: وقوله "وأما الذين كفروا"، يعني الذين جحدوا آيات الله، وأنكروا ما عرفوا، وستروا ما علموا أنه حق، وذلك صفة المنافقين، وإياهم عنى الله جل وعز ومن كان من نظرائهم وشركائهم من المشركين من أهل الكتاب وغيرهم بهذه الاية، فيقولون: ماذا أراد الله بهذا مثلاً، كما قد ذكرنا قبل من الخبر الذي رويناه عن مجاهد الذي:حدثنا به محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد: "فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم " الآية، قال: يؤمن بها المؤمنون، ويعلمون أنها الحق من ربهم ويهديهم الله بها، ويضل بها الفاسقون. يقول: يعرفه المؤمنون فيؤمنون به، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به.
وتأويل قوله: "ماذا أراد الله بهذا مثلا"، ما الذي أراد الله بهذا المثل مثلا. فذا، الذي مع ما في معنى الذي ، وأراد صلته، وهذا إشارة إلى المثل.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: "يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا".
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل وعز: "يضل به كثيرا"، يضل الله به كثيرا من خلقه. والهاء في به من ذكر المثل. وهذا خبر من الله جل ثناؤه مبتدأ، ومعنى الكلام: أن الله يضل بالمثل الذي يضربه كثيرًا من أهل النفاق والكفر:كما حدثني موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "يضل به كثيرا" يعني المنافقين، "ويهدي به كثيرا"، يعني المؤمنين. فيزيد هؤلاء ضلالاً إلى ضلالهم، لتكذيبهم بما قد علموه حقاً يقيناً من المثل الذي ضربه الله لما ضربه له، وأنه لما ضربه له موافق. فذلك إضلال الله إياهم به. و "يهدي به "، يعني المثل، كثيرًا من أهل الإيمان والتصديق، فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيماناً إلى إيمانهم. لتصديقهم بما قد علموه حقاً يقيناً أنه موافق ما ضربه الله له مثلاً، وإقرارهم به. وذلك هداية من الله لهم به. وقد زعم بعضهم أن ذلك خبر عن المنافقين، كأنهم قالوا: ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد، يضل به هذا ويهدي به هذا. ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله، فقال الله: "وما يضل به إلا الفاسقين ". وفيما في سورة المدثر من قول الله: "وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء"( المدثر: 31) ماينبىء عن أنه في سورة البقرة كذلك، مبتدأ أعني قوله: "يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا".
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: "وما يضل به إلا الفاسقين".
وتأويل ذلك ما:حدثني به موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "وما يضل به إلا الفاسقين "، هم المنافقون.
وحدثنا بشربن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: "وما يضل به إلا الفاسقين "، فسقوا فأضلهم الله على فسقهم.
حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: "وما يضل به إلا الفاسقين "، هم أهل النفاق.
قال أبو جعفر: وأصل الفسق في كلام العرب: الخروج عن الشيء. يقال منه: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها. ومن ذلك سميت الفأرة فويسفة، لخروجها عن جحرها، فكذلك المنافق والكافر سميا فاسقين، لخروجهما عن طاعة ربهما. ولذلك قال جل ذكره في صفة إبليس: "إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه" ( الكهف: 50) يعني به خرج عن طاعته واتباع أمره. كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس في قوله: "بما كانوا يفسقون" ( البقرة: 59)، أي بما بعدوا عن أمري.
فمعنى قوله: "وما يضل به إلا الفاسقين "، وما يضل الله بالمثل الذي يضربه لأهل الضلال والنفاق، إلا الخارجين عن طاعته، والتاركين اتباع أمره، من أهل الكفر به من أهل الكتاب، وأهل الضلال من أهل النفاق.
قوله تعالى : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين " .
قوله تعالى : "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا" قال ابن عباس في رواية ابن صالح : لما ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين : يعني "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا" وقوله : "أو كصيب من السماء" قالوا : الله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال ، فأنزل الله هذه الآية . وفي رواية عطاء عن ابن عباس قال : لما ذكر الله آلهة المشركين فقال : "وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه" وذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت ، قالوا : أرأيت حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد ، أي شيء يصنع ؟ فأنزل الله الآية . وقال الحسن و قتادة : لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل ، ضحكت اليهود وقالوا : ما يشبه هذا كلام الله ، فأنزل الله الآية .
و "يستحيي" أصله يستحي ، عينه ولامه حرفا علة ، أعلت اللام منه بأن استثقلت الضمة على الياء فسكنت . واسم الفاعل على هذا : مستحيى ، والجمع مستحيون ومستحيين . وقرأ ابن محيصن يستحى بكسر الحاء وياء واحدة ساكنة ، وروي عن ابن كثير ، وهي لغة تميم وبكر بن وائل ، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت ، ثم استثقلت الضمة على الثانية فسكنت ، فحذفت إحداهما للالتقاء ، واسم الفاعل مستح ، والجمع مستحون ومستحين . قاله الجوهري . واختلف المتأولون في معنى يستحي في هذه الآية ، فقيل: لا يخشى ، ورجحه الطبري ، وفي التنزيل : "وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه" بمعنى تستحي . وقال غيره : لا يترك . وقيل : لا يمتنع . وأصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفاً من مواقعة القبيح ، وهذا محال على الله تعالى . وفي صحيح مسلم عن ام سلمة رضي الله عنها قالت :
"جاءت أم سلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن الله لا يستحي من الحق" . المعنى لا يأمر بالحياء فيه ، ولا يمتنع من ذكره .
قوله تعالى : "أن يضرب مثلا ما" يضرب معناه يبين ، و أن مع الفعل في موضع نصب بتقدير حذف من . مثلا منصوب بيضرب . بعوضة في نصبها أربعة أوجه :
الأول : تكو ن ما زائدة ، و بعوضة بدلاً من قوله مثلا .
الثاني : تكون ما نكرة في موضع نصب على البدل من قوله : مثلا و بعوضة نعت لما ، فوصفت ما بالجنس المنكر لإبهامها لأنها بمعنى قليل ، قاله الفراء والزجاج وثعلب .
الثالث : نصبت على تقدير إسقاط الجار ، والمعني أن يضرب مثلاً ما بين بعوضة ، فحذفت بين واعربت بإعرابها ،والفاء بمعنى إلى ، أي إلى ما فوقها . وهذا قول الكسائي والفراء أيضاً ، وأنشد ابو العباس :
يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم ولا حبال محب واصل تصل
أراد ما بين قرن ، فلما أسقط بين نصب .
الرابع : أن يكو ن يضرب بمعنى يجعل ، فتكون بعوضة المفعول الثاني . وقرأ الضحاك وإبراهيم بن ابي عبلة ورؤبة بن العجاج بعوضة بالرفع ، وهي لغة تميم . قال أبو الفتح : ووجه ذلك أن ما اسم بمنزلة الذي ، و بعوضة رفع على إضمار المبتدأ ، مبتدأ . ومثله قراءة بعضهم : "تماما على الذي أحسن" أي على الذي هو أحسن . وحكي سيبويه : ما أنا بالذي قائل لك شيئاً ، أي هو قائل . قال النحاس : والحذف في ما أقبح منه في الذي ، لأن الذي إنما له وجه واحد والاسم معه أطول . ويقال : إن معنى ضربت له مثلاً ، مثلت له مثلاً . وهذه الأبنية على ضرب واحد ، وعلى مثال واحد ونوع واحد ، والضرب النوع . والبعوضة : فعولة من بعض إذا قطع اللحم ، يقال : بضع وبعض بمعنى ،وقد بعضته تبعيضاً ، أي جزأته فتبعض . والبعوض : البق ، الواحدة بعوضة ، سميت بذلك لصغرها . قاله الجوهري وغيره .
قوله تعالى : "فما فوقها" قد تقدم أن الفاء بمعنى إلى ، ومن جعل ما الأولى صلة وائدة فـ ما الثانية عطف عليها . وقال الكسائي و أبو عبيدة وغيرهما : معنى فما فوقها ـ والله أعلم ـ ما دونها ، أي إنها فوقها في الصغر . قال الكسائي : وهذا كقولك في الكلام : أتراه قصيراً ؟ فيقول القائل : أو فوق ذلك ، أي هو أقصر مما ترى . وقال قتادة و ابن جريج : المعنى في الكبر . والضمير في أنه عائد على المثل ، أي إن المثل حق . والحق خلاف الباطل . والحق : واحد الحقوق . والحقة ( بفتح الحاء )أخص منه ، يقال : هذه حقتي ، أي حقي .
قوله تعالى : "وأما الذين كفروا" لغة بني تميم وبني عامر في أما أيما ، يبدلون من إحدى الميمين ياء كراهية التضعيف ، وعلى هذا ينشد بيت عمر بن ابي ربيعة :
رأت رجلاً إيما إذا الشمس عارضت فيضحى وأيما بالعشي فيخصر
قوله تعالى : "فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا" اختلف النحويون في ماذا ، فقيل : هي بمنزلة اسم واحد بمعنى أي شيء اراد الله ، فيكون في موضع نصب بـ أراد . قال ابن كيسان : وهو الجيد .وقيل : ما اسم تام في موضع رفع بالابتداء ، و ذا بمعنى الذي وهو خبر الابتداء ، ويكون التقدير : ما الذي أراده الله بهذا مثلاً . ومعنى كلامهم هذا : الإنكار بلفظ الاستفهام . و مثلا منصوب على القطع ، التقدير : أراد مثلا ، قاله ثعلب . وقال ابن كيسان : هو منصوب على التمييز الذي وقع موقع الحال .
قوله تعالى : "يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا" قيل : هو من قول الكافرين ، أي ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلاله وإلى هدىً . وقيل : بل هو خبر من الله عز وجل ، وهو أشبه ، لأنهم يقرون بالهدى أنه من عنده ، فالمعنى : قل يضل الله به كثيراً ويهدي به كثيراً ، أي يوفق ويخذل ، وعليه فيكون فيه رد على من تقدم ذكرهم من المعتزلة وغيرهم في قولهم : إن الله لا يخلق الضلال ولا الهدى . قالوا : ومعنى "يضل به كثيرا" التسمية هنا ، أي يسميه ضالاً ، كما يقال : فسقت فلاناً ، يعني سميته فاسقاً ، لأن الله تعالى لا يضل أحداً . هذا طريقهم في الإضلال ، وهو خلاف أقاويل المفسرين ، وهو غير محتمل في اللغة ، لأنه يقال : ضلله إذا سماه ضالاً ، ولا يقال : اضله إذا سماه ضالاً ، ولكن معناه ما ذكره المفسرون أهل التأويل من الحق أنه يخذل به كثيراً من الناس مجازاة لكفرهم . ولا خلاف أن قوله .
"وما يضل به إلا الفاسقين" أنه من قول الله تعالى . و الفاسقين نصب بوقوع الفعل عليهم ، والتقدير : وما يضل به أحداً إلا الفاسقين الذين سبق في علمه أنه لا يهديهم . ولا يجوز أن تنصبهم على الاستثناء لأن الاستثناء لا يكون إلا بعد تمام الكلام . وقال نوف البكالي : قال عزير فيما يناجي ربه عز وجل : إلهي تخلق خلقاً فتضل من تشاء وتهدي من تشاء . قال فقيل : يا عزير أعرض عن هذا ! لتعرضن عن هذا أو لأمحونك من النبوة ، إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون . والضلال أصله الهلاك ، يقال منه : ضل الماء في اللبن إذا استهلك ، ومنه قوله تعالى : " أإذا ضللنا في الأرض " وقد تقدم في الفاتحة . والفسق أصله في كلام العرب الخروج عن الشيء ، يقال فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها ، والفأرة من جحرها . والفويسقة : الفأرة ، وفي الحديث:
"خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا" . روته عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أخرجه مسلم . وفي رواية العقرب مكان الحية . فأطلق صلى الله عليه وسلم عليها اسم الفسق لأذيتها ، على ما يأتي بيانه في هذا الكتاب ان شاء الله تعالى . وفسق الرجل يفسق أيضاً ـ عن الأخفش ـ فسقاً وفسوقاً ، أبي فجر . فأما قوله تعالى : "ففسق عن أمر ربه" فمعناه خرج . وزعم ابن الإعرابي أنه لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسق . قال : وهذا عجب ، وهو كلام عربي حكاه عنه ابن فارس و الجوهري .
قلت : وقد ذكر أبو بكر الأنباري في كتاب الزاهر له لما تكلم على معنى الفسق قول الشاعر :
يذهبن في نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائرا
والفسيق : الدائم الفسق . ويقال في النداء : يا فسق ويا خبث ، يريد : يأيها الفاسق ، ويأيها الخبيث . والفسق في عرف الاستعمال الشرعي : الخروج من طاعة الله عز وجل ، فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان :
قال السدي في تفسيره عن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين يعني قوله تعالى: "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً" وقوله: "أو كصيب من السماء" الايات الثلاث، قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله هذه الاية إلى قوله تعالى: "هم الخاسرون" وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة لما ذكر الله تعالى العنكبوت والذباب، قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران ؟ فأنزل الله "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها" وقال سعيد عن قتادة أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئاً مما قل أو كثر ، وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا ؟ فأنزل الله "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها" (قلت) العبارة الأولى عن قتادة فيها إشعار أن هذه الاية مكية وليس كذلك، وعبارة رواية سعيد عن قتادة أقرب، والله أعلم. وروى ابن جريج عن مجاهد نحو هذا الثاني عن قتادة. وقال ابن أبي حاتم روي عن الحسن وإسماعيل بن أبي خالد نحو قول السدي وقتادة. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في هذه الاية قال هذا مثل ضربه الله للدنيا أن البعوضة تحيا ما جاعت فإذا سمنت ماتت وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب لهم هذا مثل في القرآن إذا امتلؤوا من الدنيا رياً أخذهم الله عند ذلك ثم تلا: "فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء" هذا رواه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية بنحوه فالله أعلم، فهذا اختلافهم في سبب النزول. وقد اختار ابن جرير ما حكاه السدي لأنه أمس بالسورة وهو مناسب، ومعنى الاية أنه تعالى أخبر أنه لا يستحيي أي لا يستنكف وقيل لا يخشى أن يضرب مثلاً ما، أي: أي مثل كان بأي شيء كان صغيراً كان أو كبيراً وما ههنا للتقليل وتكون بعوضة منصوبة على البدل كما تقول لأضربن ضرباً ما، فيصدق بأدنى شيء أو تكون ما نكرة موصوفة ببعوضة، واختار ابن جرير أن ما موصولة وبعوضة معربة بإعرابها، قال وذلك سائغ في كلام العرب أنهم يعربون صلة ما ومن بإعرابهما لأنهما يكونان معرفة تارة ونكرة أخرى كما قال حسان بن ثابت:
يكفي بنا فضلاً على من غيرنا حب النبي محمد إيانا
قال ويجوز أن تكون بعوضة منصوبة بحذف الجار ، وتقدير الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بين بعوضة إلى ما فوقها، وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء وقرأ الضحاك وإبراهيم بن عبلة بعوضة بالرفع، قال ابن جني وتكون صلة لما وحذف العائد كما في قوله "تماماً على الذي أحسن" أي على الذي هو أحسن، وحكى سيبويه: ما أنا بالذي قائل لك شيئاً، أي بالذي هو قائل لك شيئاً وقوله تعالى: "فما فوقها" فيه قولان: أحدهما فما دونها في الصغر والحقارة كما إذا وصف رجل باللؤم والشح فيقول السامع نعم وهو فوق ذلك ـ يعني فيما وصفت ـ وهذا قول الكسائي وأبي عبيد قاله الرازي وأكثر المحققين. وفي الحديث "لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما سقى كافراً منها شربة ماء" والثاني: فما فوقها لما هو أكبر منها لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة وهذا قول قتادة بن دعامة واختيار ابن جرير، فإنه يؤيده ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة" فأخبر أنه لا يستصغر شيئاً يضرب به مثلاً ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة، كما لا يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف من ضرب المثل بها كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله "يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب" وقال: "مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون" وقال تعالى: " ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون * ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار * يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء " وقال تعالى: "ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء" الاية، ثم قال: " وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل " الاية، كما قال: " ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم " الاية. قال: "ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون" الاية. وقال: "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون" وفي القرآن أمثال كثيرة، قال بعض السلف: إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي لأن الله قال: "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون" وقال مجاهد في قوله تعالى: "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها" الأمثال صغيرها وكبيرها يؤمن بها المؤمنون ويعلمون أنها الحق من ربهم ويهديهم الله بها. وقال قتادة "فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم" أي يعلمون أنه كلام الرحمن وأنه من عند الله، وروي عن مجاهد والحسن والربيع بن أنس نحو ذلك. وقال أبو العالية "فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم" يعني هذا المثل "وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً" كما قال في سورة المدثر " وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو " وكذلك قال ههنا "يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين" قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة يضل به كثيراً يعني به المنافقين ويهدي به المؤمنين، فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالتهم لتكذيبهم بما قد علموه حقاً يقيناً من المثل الذي ضربه الله بما ضرب لهم، وأنه لما ضرب له موافق، فذلك إضلال الله إياهم به، ويهدي به يعني المثل كثيراً من أهل الإيمان والتصديق فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيماناً إلى إيمانهم لتصديقهم بما قد علموه حقاً يقيناً أنه موافق لما ضربه الله له مثلاً وإقرارهم به وذلك هداية من الله لهم به "وما يضل به إلا الفاسقين" قال هم المنافقون، وقال أبو العالية "وما يضل به إلا الفاسقين" قال هم أهل النفاق وكذا قال الربيع بن أنس، وقال ابن جريج عن مجاهد عن ابن عباس "وما يضل به إلا الفاسقين" قال يقول يعرفه الكافرون فيكفرون به. وقال قتادة "وما يضل به إلا الفاسقين" فسقوا فأضلهم الله على فسقهم، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي عن إسحاق بن سليمان عن أبي سنان عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن سعد "يضل به كثيراً" يعني الخوارج. وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد قال سألت أبي فقلت: قوله تعالى "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" إلى آخر الاية: فقال: هم الحرورية، وهذا الإسناد وإن صح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فهو تفسير على المعنى لا أن الاية أريد منها التنصيص على الخوارج الذين خرجوا على علي بالنهروان، فإن أولئك لم يكونوا حال نزول الاية وإنما هم داخلون بوصفهم فيها مع من دخل لأنهم سموا خوارج لخروجهم عن طاعة الإمام والقيام بشرائع الإسلام، والفاسق في اللغة هو الخارج عن الطاعة أيضاً، وتقول العرب فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها، ولهذا يقال للفأرة فويسقة لخروجها عن حجرها للفساد، وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور" فالفاسق يشمل الكافر والعاصي، ولكن فسق الكافر أشد وأفحش، والمراد به من الاية الفاسق الكافر، والله أعلم بدليل أنه وصفهم بقوله تعالى "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون" وهذه الصفات صفات الكفار المبانية لصفات المؤمنين كما قال تعالى في سورة الرعد " أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب * الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق * والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب " الايات، إلى أن قال "والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار" وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه, فقال بعضهم هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم عما أمرهم به من طاعته ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه وعلى لسان رسله، ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به.
وقال آخرون بل هي في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم، وعهد الله الذي نقضوه هو ما أخذ الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم، ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته وإنكارهم ذلك وكتمانهم علم ذلك عن الناس بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه، فأخبر تعالى أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً. وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله وهو قول مقاتل بن حيان.
وقال آخرون بل عنى بهذه الاية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق وعهده إلى جميعهم في توحيده ما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته وعهد إليهم في أمره ونهيه ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثله، الشاهدة لهم على صدقهم، قالوا ونقضهم ذلك تركهم الإقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة، وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق. وروي عن مقاتل بن حيان أيضاً نحو هذا وهو حسن، وإليه مال الزمخشري فإنه قال، فإن قلت: فما المراد بعهد الله ؟ قلت: ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم، وهو معنى قوله تعالى "وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى" إذ أخذ الميثاق عليهم من الكتب المنزلة عليهم كقوله "وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم" وقال آخرون: العهد الذي ذكره تعالى هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصف في قوله "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا" الايتين، ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به، وهكذا روي عن مقاتل بن حيان أيضاً، حكى هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: " الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون " قال هي ست خصال من المنافقين إذا كانت فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه الخصال، إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الخصال الثلاث: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا. وكذا قال الربيع بن أنس أيضاً، وقال السدي في تفسيره بإسناده قوله تعالى "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" قال: هو ما عهد إليهم في القرآن، فأقروا به ثم كفروا فنقضوه.
وقوله: "ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل" قيل المراد به صلة الأرحام والقرابات كما فسره قتادة كقوله تعالى "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم" ورجحه ابن جرير، وقيل المراد أعم من ذلك فكل ما أمر الله بوصله وفعله فقطعوه وتركوه. وقال مقاتل بن حيان في قوله تعالى: "أولئك هم الخاسرون" قال في الاخرة، وهذا كما قال تعالى: "أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار" وقال الضحاك عن ابن عباس كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل خاسر فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الاسلام، فإنما يعني به الذنب. وقال ابن جرير في قوله تعالى "أولئك هم الخاسرون" الخاسرون جمع خاسر وهم الناقصون أنفسهم حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه وكذلك المنافق والكافر خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته، يقال منه خسر الرجل يخسر الرجل يخسر خسراً وخساراً كما قال جرير بن عطية:
إن سليطاً في الخسار إنه أولاد قوم خلقوا أقنه
أنزل الله هذه الآية رداً على الكفار لما أنكروا ما ضربه سبحانه من الأمثال كقوله: "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً" وقوله: "أو كصيب من السماء" فقالوا الله أجل وأعلا من أن يضرب الأمثال. وقال الرازي: إنه تعالى لما بين الدليل كون القرآن معجزاً أورد ها هنا شبهة أوردها الكفار قدحاً في ذلك وأجاب عنها، وتقرير الشبهة أنه جاء في القرآن ذكر النحل والعنكبوت والنمل، وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء فاشتمال القرآن عليها يقدح في فصاحته فضلاً عن كونه معجزاً. وأجاب الله عنها بأن صغر هذه الأشياء لا تقدح في الفصاحة إذا كان ذكرها مشتملاً على حكمة بالغة انتهى. ولا يخفاك أن تقرير هذه الشبهة على هذا الوجه وإرجاع الإنكار إلى مجرد الفصاحة لا مستند له ولا دليل عليه، وقد تقدمه إلى شيء من هذا صاحب الكشاف، والظاهر ما ذكرناه أولاً لكون هذه الآية جاءت بعقب المثلين اللذين هما مذكوران قبلهما، ولا يستلزم استنكارهم لضرب الأمثال بالأشياء المحقرة أن يكون ذلك لكونه قادحاً في الفصاحة والإعجاز. والحياء: تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم: كذا في الكشاف، وتبعه الرازي في مفاتيح الغيب. وقال القرطبي: أصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفاً من مواقعة القبيح، وهذا محال على الله انتهى. وقد اختلفوا في تأويل ما في هذه الآية من ذكر الحياء فقيل: ساغ ذلك لكونه واقعاً في الكلام المحكي عن الكفار، وقيل: هو من باب المشاكلة كما تقدم، وقيل: هو جار على سبيل التمثيل. قال في الكشاف: مثل تركه تخييب العبد وأنه لا يرد يديه صفراً من عطائه لكرمه بترك من يترك رد المحتاج إليه حياءً منه انتهى. وقد قرأ ابن محيصن وابن كثير في رواية عنه ويستحي بياء واحدة وهي لغة تميم وبكر بن وائل، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت، ثم استثقلت الضمة على الثانية فسكنت، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين. وضرب المثل: اعتماده وصنعه. وما في قوله: 26- "ما بعوضة" إبهامية أي موجبة لإبهام ما دخلت عليه حتى يصير أعم مما كان عليه وأكثر شيوعاً في أفراده، وهي في موضع نصب على البدل من قوله: "مثلاً" و"بعوضة" نعت لها لإبهامها، قاله الفراء والزجاج وثعلب، وقيل: إنها زائدة، وبعوضة بدل من مثل. ونصب بعوضة في هذين الوجهين ظاهر، وقيل: إنها منصوبة بنزع الخافض، والتقدير: أن يضرب مثلاً ما بين بعوضة فحذف لفظ بين. وقد روي هذا عن الكسائي، وقيل إن يضرب بمعنى يجعل فتكون بعوضة لفظ بين. وقد روي هذا عن الكسائي، وقيل إن يضرب بمعنى يجعل فتكون بعوضة المفعول الثاني. وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤبة بن العجاج بعوضة بالرفع وهي لغة تميم. قال أبو الفتح: وجه ذلك أن ما اسم بمنزلة الذي، وبعوضة رفع على إضمار المبتدأ، ويحتمل أن تكون ما إستفهامية كأنه قال تعالى: "ما بعوضة فما فوقها" حتى لا يضرب المثل به، بل يدان لمثل بما هو أقل من ذلك بكثير، والبعوضة فعولة من بعض: إذا قطع، يقال: بعض وبضع بمعنى، والبعوض: البق، الواحدة بعوضة، سميت بذلك لصغرها قاله الجوهري وغيره. وقوله: "فما فوقها" قال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما. فما فوقها والله أعلم ما دونها: أي أنها فوقها في الصغر كجناحها. قال الكسائي: وهذا كقولك في الكلام أتراه قصيراً فيقول القائل: أو فوق ذلك أي أقصر مما ترى. ويمكن أن يراد فما زاد عليها في الكبر. وقد قال بذلك الجماعة. قوله: " فأما الذين آمنوا " أما حرف فيه معنى الشرط، وقدره سيبويه بمهما يكن من شيء فكذا. وذكر صاحب الكشاف أن فائدته في الكلام أنه يعطيه فضل توكيد وجعل تقدير سيبويه دليلاً على ذلك. والضمير في "أنه" راجع إلى المثل. و"الحق" الثابت، وهو المقابل للباطل والحق واحد الحقوق، والمراد هنا الأول. وقد اختلف النحاة في "ماذا" فقيل: هي بمنزلة اسم واحد بمعنى: أي شيء أراد الله، فتكون في موضع نصب بأراد. قال ابن كيسان: وهو الجيد. وقيل: ما اسم تام في موضع رفع بالابتداء، وذا بمعنى الذي، وهو خبر المبتدأ مع صلته، وجوابه يكون على الأول منصوباً وعلى الثاني مرفوعاً. والإرادة نقيض الكراهة، وقد اتفق المسلمون على أنه يجوز إطلاق هذا اللفظ على الله سبحانه، و"مثلاً" قال ثعلب: منصوب على القطع، والتقدير: أراد مثلاً. وقال ابن كيسان: هو منصوب على التمييز الذي وقع موقع الحال، وهذا أقوى من الأول. وقوله: "يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً" هو كالتفسير للجملتين السابقتين المصدرتين بأما، فهو خبر من الله سبحانه. وقيل: هو حكاية لقول الكافرين كأنهم قالوا: ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة وإلى هدى؟ وليس هذا بصحيح، فإن الكافرين لا يقرون بأن في القرآن شيئاً من الهداية، ولا يعترفون على أنفسهم بشيء من الضلالة. قال القرطبي: ولا خلاف أن قوله: " وما يضل به إلا الفاسقين " من كلام الله سبحانه. وقد نقح البحث الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب في هذا الموضع تنقيحاً نفسياً، وجوده وطوله وأوضح فروعه وأصوله، فليرجع إليه فإنه مفيد جداً. وأما صاحب الكشاف فقد اعتمد ها هنا على عصاه التي يتوكأ عليها في تفسيره، فجعل إسناد الإضلال إلى الله سبحانه بكونه سبباً، فهو من الإسناد المجازي إلى ملابس للفاعل الحقيقي. وحكى القرطبي عن أهل الحق من المفسرين أن المراد بقوله: "يضل" يخذل. والفسق: الخروج عن الشيء، يقال: فسقت الرطبة: إذا خرجت عن قشرها. والفأرة من جحرها ذكر معنى هذا الفراء. وقد استشهد أبو بكر بن الأنباري في كتاب الزاهر له على معنى الفسق بقول رؤبة بن العجاج:
يهوين في نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائر
وقد زعم ابن الأعرابي أنه لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسق، وهذا مردود عليه، فقد حكي ذلك عن العرب وأنه من كلامهم جماعة من أئمة اللغة كابن فارس والجوهري وابن الأنباري وغيرهم. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خمس فواسق" الحديث. وقال في الكشاف: الفسق الخروج عن القصد، ثم ذكر عجز بيت رؤية المذكور، ثم قال: والفاسق في الشريعة: الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة انتهى. وقال القرطبي: والفسق في عرف الاستعمال الشرعي: الخروج من طاعة الله عز وجل، فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان انتهى. وهذا هو أنسب بالمعنى اللغوي، ولا وجه لقصره على بعض الخارجين دون بعض. قال الرازي في تفسيره: واختلف أهل القبلة هل هو مؤمن أو كافر؟ فعند أصحابنا أنه مؤمن، وعند الخوارج أنه كافر، وعند المعتزلة لا مؤمن ولا كافر، واحتج المخالف بقوله تعالى: "بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان" وقوله: "إن المنافقين هم الفاسقون" وقوله: "حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان" وهذه المسألة طويلة مذكورة في علم الكلام انتهى.
26. قوله تعالى " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها " سبب نزول هذه الآية أن الله تعالى لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت فقال: " إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له " (73-الحج) وقال: " مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً " (41-العنكبوت) قالت اليهود: ما أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة؟ وقيل: قال المشركون: إنا لا نعبد إلهاً يذكر مثل هذه الأشياء فأنزل الله تعالى " إن الله لا يستحيي " أي لا يترك ولا يمنعه الحياء " أن يضرب مثلاً " يذكر شبهاً، " ما بعوضة " ما: صلة، أي مثلاً بالبعوضة، وبعوضة نصب بدل عن المثل.
والبعوض صغار البق سميت بعوضة كأنها بعض البق " فما فوقها " يعنى الذباب والعنكبوت وقال أبو عبيدة أي فما دونها كما يقال وفوق ذلك أي وأجهل " فأما الذين آمنوا " بمحمد والقرآن " فيعلمون أنه " يعني: المثل هو " الحق " الصدق " من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً "؟ أي بهذا المثل فلما حذف الألف واللام نصبه على الحال والقطع ثم أجابهم فقال " يضل به " أي بهذا المثل " كثيراً " من الكفار وذلك أنهم يكذبونه فيزدادون ضلالاً " ويهدي به " أي بهذا المثل " كثيراً " من المؤمنين فيصدقونه، والإضلال: هو الصرف عن الحق إلى الباطل. وقيل: هو الهلاك يقال ضل الماء في اللبن إذا هلك " وما يضل به إلا الفاسقين " الكافرين وأصل الفسق الخروج يقال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها قال الله تعالى: " ففسق عن أمر ربه " (50-الكهف) أي خرج ثم وصفهم فقال:

26-" إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة " لما كانت الآيات السابقة متضمنة لأنواع من التمثيل ، عقب ذلك ببيان حسنه ، وما هو الحق له والشرط فيه ، وهو أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي تعلق بها التمثيل في العظم والصغر والخسة والشرف دون الممثل ، فإن التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعنى الممثل له ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ، ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه فإن المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة من الوهم ، لأن من طبعه الميل إلى الحس وحب المحاكاة ، ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء ، وإشارات الحكماء ، فيمثل الحقير كما يمثل العظيم بالعظيم ، وإن كان المثل أعظم من كل عظيم ، كما مثل في الإنجيل غل الصدور ، بالنخالة . والقلوب القاسية ، بالحصاة . ومخاطبة السفهاء ، بإثارة الزنابير . وجاء في كلام العرب : أسمع من قراد وأطيش من فراشه ، وأعز من مخ البعوض . لا ما قالت الجهلة من الكفار : لما مثل الله حال المنافقين بحال المستوقدين ؟ وأصحاب الصيب وعبادة الأصنام في الوهن والضعف ببيت العنكبوت ؟ وجعلها أقل من الذباب وأخس قدراً منه ؟ الله سبحانه وتعالى أعلى وأجل من أن يضرب الأمثال ويذكر الذباب والعنكبوت . وأيضاً ، لما أرشدهم إلى ما يدل على أن المتحدي به وحي منزل ؟ورتب عليه وعيد من كفر به ووعد من آمن به بعد ظهور أمره ؟ شرع في جواب ما طعنوا به فيه فقال تعالى : " إن الله لا يستحي " أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحي أن يمثل بها لحقارتها . والحياء : انقباض النفس عن القبيح مخالفة الذم ، وهو الوسط بين الوقاحة : التي هي الجراءة على القبائح وعدم المبالاة بها ، والخجل : الذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقاً . واشتقاقه من الحياة فإنه انكسار يعتري القوة الحيوانية فيردها عن أفعالها فقيل : حيي الرجل كما يقال نسي وحشي ، إذا اعتلت نساه وحشاه . وإذا وصف به الباري تعالى كما جاء في الحديث " إن الله يستحي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه " . " إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً " فالمراد به الترك اللازم للانقباض ، كما أن المراد من رحمته وغضبه إصابة المعروف والمكروه اللازمين لمعنييهما ، ونظيره قول من يصف إبلاً :
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه كرعن بسبت في إناء من الورد
وإنما عدل به عن الترك ، لما فيه من التمثيل والمبالغة ، وتحتمل الآية خاصة أن يكون مجيئه على المقابلة لما وقع في كلام الكفرة . وضرب المثل اعتماله من ضرب الخاتم ، وأصله وقع شئ على آخر ، وأن بصلتها المحل عند الخليل بإضمار من ، منصوب بإفضاء الفعل إليه بعد حذفها عند سيبويه . وما إبهامية تزيد النكرة إبهاماً وشياعاً وتسد عنها طرق التقييد ، كقولك أعطني كتاباً ما ، أي : أي كتاب كان . أو مزيدة للتأكيد كالتي في قوله تعالى : " فبما رحمة من الله " ولا نعني بالمزيد اللغو الضائع ، فإن القرآن كله هدى وبيان ، بل ما لم يوضع لمعنى يراد منه ، وإنما وضعت لأن تذكر مع غيرها فتفيد له وثاقةً وقوةً وهو زيادة في الهدى غير قادح فيه . وبعوضة عطف بيان لمثلاً . أو مفعول ليضرب ، ومثلاً حال تقدمت عليه لأنه نكرة . أو هما مفعولاه لتضمنه معنى الجمل . وقرئت بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وعلى هذا يحتمل " ما " وجوهاً أخر : أن تكون موصولة حذف صدر صلتها ، كما حذف في قوله : " تماماً على الذي أحسن " وموصولة بصفة كذلك ، ومحلها النصب بالبدلية على الوجهين .واستفهامية هي المبتدأ ، كأنه لما رد استبعادهم ضرب الله الأمثال ، قال بعده : ما البعوضة فما فوقها حتى لا يضرب به المثل ، بل له أن يمثل بما هو أحقر من ذلك . ونظيره فلان لا يبالي مما يهب ما دينار وديناران . والبعوض : فعول من البعض ، وهو القطع كالبضع والعضب ، غلب على هذا النوع كالخموش .
" فما فوقها " عطف على بعوضة ، أو ما إن جعل اسماً ، ومعناه ما زاد عليها في الجثة كالذباب والعنكبوت ، كأنه قصد به رد ما استنكروه . والمعنى : أنه لا يستحي ضرب المثل بالبعوض فضلاً عما هو أكبر منه ، أو في المعنى الذي جعلت فيه مثلاً ، وهو الصغر والحقارة كجناحها فإنه عليه الصلاة والسلام ضربه مثلاً للدنيا ، ونظيره في الاحتمالين ما روي أن رجلاً بمنى خر على طنب فسطاط فقالت عائشة رضي الله عنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها ، إلا كتبت له بها درجة ، ومحيت عنه بها خطيئة " فإنه يحتمل ما تجاوز الشوكة في الألم كالخرور وما زاد عليها في القلة كنخبة النملة ، لقوله عليه الصلاة والسلام " ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة لخطاياه حتى نخبة النملة " .
" فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم " أما حرف تفصيل يفصل ما أجمل ويؤكد ما به صدر ويتضمن معنى الشرط ، ولذلك يجاب بالفاء . قال سيبويه : أما زيد فذاهب معناه ، مهما يكن من شئ فزيد ذاهب لا محالة وأنه منه عزيمة ، وكان الأصل دخول الفاء على الجملة لأنها الجزاء ، لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوها على الخبر ، وعوضوا المبتدأ عن الشرط لفظاً ، وفي تصديره الجملتين به إخماد لأمر المؤمنين واعتداد بعلمهم ، وذم بليغ للكافرين على قولهم ، والضمير في " أنه " للمثل ، أو لأن يضرب . و
" الحق " الثابت الذي لا يسوغ إنكاره ، يعم الأعيان الثابتة والأفعال الصائبة والأقوال الصادقة ، من قولهم حق الأمر ، إذا ثبت ومنه : ثوب محقق أي : محكم النسج .
"وأما الذين كفروا فيقولون" كان من حقه وأما الذين كفروا فلا يعلمون ليطابق قرينه ويقابل قسيمه لكن لما كان قولهم هذا دليلا واضحا على كمال جهلهم عدل إليه على سبيل الكناية ليكون كالبرهان عليه.
" ماذا أراد الله بهذا مثلاً " يحتمل وجهين : أن تكون ما استفهامية و ذا بمعنى الذي وما بعده صلته ، والمجموع خبر ما . وأن تكون ما مع ذا اسماً واحداً بمعنى : أي شئ ، منصوب المحل على المفعولية مثل ما أراد الله ، والأحسن في جوابه الرفع على الأول ، والنصب على الثاني ، ليطابق الجواب السؤال . والإرادة : نزوع النفس وميلها إلى الفعل بحيث يحملها عليه ، وتقال للقوة التي هي مبدأ النزوع ، والأول مع الفعل والثاني قبله ، وكلا المعنيين غير متصور اتصاف الباري تعالى به ، ولذلك اختلف في معنى إرادته فقيل : إرادته لأفعاله أنه غير ساه ولا مكره ، ولأفعال غيره أمره بها . فعلى هذا لم تكن المعاصي بإرادته ، وقيل : علمه باشتمال الأمر على النظام الأكمل ، والوجه الأصلح فإنه يدعر القادر إلى تحصيله ، والحق : أنه ترجيح أحد مقدوريه على الآخر وتخصيصه بوجه دون وجه ، أو معنى يوجب هذا الترجيح ، وهي أعم من الاختيار فإنه ميل مع تفضيل وفي هذا استحقار واسترذال . و " مثلاً " نصب على التمييز ، أو الحال كقوله تعالى : " هذه ناقة الله لكم آية " .
" يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً " جواب ماذا ، أي : إضلال كثير وإهداء كثير ، وضع الفعل موضع المصدر للإشعار بالحدوث والتجدد ، أو بيان للجملتين المصدرتين بإما ، و تسجيل بأن العلم بكونه حقاً هدى وبيان ، وأن الجهل - بوجه إيراده والإنكار لحسن مورده - ضلال وفسوق ، وكثرة كل واحد من القبيلتين بالنظر إلى أنفسهم لا بالقياس إلى مقابليهم ، فإن المهديين قليلون بالإضافة إلى أهل الضلال كما قال تعالى : " وقليل ما هم " ، " وقليل من عبادي الشكور " ويحتمل أن يكون كثرة الضالين من حيث العدد ، وكثرة المهديين باعتبار الفضل والشرف كما قال :
قليل إذا عدوا كثير إذا شدوا
وقال :
إن الكرام كثير في البلاد وإن قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا
" وما يضل به إلا الفاسقين " أي الخارجين عن حد الإيمان ، كقوله تعالى : " إن المنافقين هم الفاسقون " من قولهم : فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت . وأصل الفسق : الخروج عن القصد قال رؤبة :
فواسقاً عن قصدها جوائراً
والفاسق في الشرع : الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة ، وله درجات ثلاث :
الأولى : التغابي وهو أن يرتكبها أحياناً مستقبحاً إياها .
الثانية : الانهماك وهو أن يعتاد ارتكابها غير مبال بها .
الثالثة : الجحود وهو أن يرتكبها مستصوباً إياها ، فإذا شارف هذا المقام وتخطى خططه خلع ربقة الإيمان من عنقه ، ولابس الكفر . وما دام هو في درجة التغابي أو الانهماك فلا يسلب عنه اسم المؤمن لإتصافه بالتصديق الذي هو مسمى الإيمان ، ولقوله تعالى : " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا " والمعتزلة لما قالوا : الإيمان : عبارة عن مجموع التصديق والإقرار والعمل ،والكفر تكذيب الحق وجحوده . جعلوه قسماً ثالثاً نازلاً بين منزلتي المؤمن والكافر لمشاركته كل واحد منهما في بعض الأحكام ، وتخصيص الإضلال بهم مرتباً على صفة الفسق يدل على أنه الذي أعدهم للإضلال ، وأدى بهم إلى الضلال . وذلك لأن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم بالباطل صرفت وجوه أفكارهم عن حكمة المثل إلى حقارة الممثل به ، حتى رسخت به جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروه واستهزؤوا به وقرئ ( يضل ) بالبناء للمفعول و الفاسقون بالرفع .
26. Lo! Allah disdaineth not to coin the similitude even of a gnat. Those who believe know that it is the truth from their Lord; but those who disbelieve say: What doth Allah wish (to teach) by such a similitude? He misleadeth many thereby, and He guideth many thereby; and He misleadeth thereby only miscreants;
26 - God disdains not to use the similitude of things, lowest as well as highest. those who believe know that it is truth from their Lord; but those who reject faith say: what means God by this similitude? by it he causes many to stray, and many he leads into the right path; but he causes not to stray, except those who forsake (the path),