[البقرة : 258] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
(ألم تر إلى الذي حاجَّ) جادل (إبراهيم في ربه) لـ (أن آتاه الله الملك) أي حمله بطره بنعمة الله على ذلك وهو نمرود (إذ) بدل من حاجَّ (قال إبراهيم) لما قال له من ربك الذي تدعونا إليه ، (ربيَّ الذي يحيي ويميت) أي يخلق الحياة والموت في الأجساد (قال) هو (أنا أحيي وأميت) بالقتل والعفو عنه ودعا برجلين فقتل أحدهما وترك الآخر ، فلما رآه غبياً (قال إبراهيم) منتقلا إلى حجة أوضح منها (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها) أنت (من المغرب فبهت الذي كفر) تحير ودهش (والله لا يهدي القوم الظالمين) بالكفر إلى محجة الاحتجاج
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، ألم تر، يا محمد، بقلبك، "الذي حاج إبراهيم"، يعني: الذي خاصم "إبراهيم"، يعني: إبراهيم نبي الله صلى اله عليه وسلم، "في ربه أن آتاه الله الملك"، يعني بذلك: حاجه فخاصمه في ربه، لأن الله آتاه الملك.
وهذا تعجيب من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، من الذي حاج إبراهيم في ربه. ولذلك أدخلت "إلى" في قوله: "ألم تر إلى الذي حاج"، وكذلك تفعل العرب إذا أرادت التعجيب من رجل في بعض ما أنكرت من فعله، قالوا: ما ترى إلى هذا؟! والمعنى: هل رأيت مثل هذا، أو كهذا؟!.
وقيل: إن "الذي حاج إبراهيم في ربه" جبار كان ببابل يقال له: نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح، وقيل: إنه نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قي قول الله: "ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك"، قال: هو نمرود بن كنعان. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد مثله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن النضر بن عربي، عن مجاهد مثله.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، قال: كنا نحدث أنه ملك يقال له نمرود، وهو أول ملك تجبر في الأرض، وهو صاحب الصرح ببابل.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: هو اسمه نمرود، وهو أول من تجبر في الأرض، حاج إبراهيم في ربه.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: "ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك"، قال: ذكر لنا أن الذي حاج إبراهيم في ربه كان ملكا يقال له نمرود، وهو أول جبار تجبر في الأرض، وهو صاحب الصرح ببابل.
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: هو نمرود بن كنعان.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: هو نمرود.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرني زيد بن أسلم بمثله.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهداً يقول: هو نمرود، قال ابن جريج: هو نمرود، ويقال إنه أول ملك فى الأرض.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ألم تر، يا محمد، إلى الذي حاج إبراهيم في ربه حين قال له إبراهيم: "ربي الذي يحيي ويميت"، يعني بذلك: ربي الذي بيده الحياة والموت، يحيي من يشاء ويميت من أراد بعد الإحياء. قال: أنا أفعل ذلك، فأحيي وأميت، أستحيي من أردت قتله فلا أقتله، فيكون ذلك مني إحياءً له، وذلك عند العرب يسمى إحياء، كما قال تعالى ذكره: "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا" [المائدة: 32] وأقتل آخر، فيكون ذلك مني إماتة له. قال إبراهيم شكي صلى الله عليه وسلم: فإن الله الذي هو ربي يأتي بالشمس من مشرقها، فأت بها -إن كنت صادقاً أنك إله- من مغربها! قال الله تعالى ذكره: "فبهت الذي كفر"، يعني: انقطع وبطلت حجته.
يقال منه: بهت يبهت بهتاً. وقد حكي عن بعض العرب أنها تقول بهذا المعنى: بهت. ويقال: بهت الرجل، إذا افتريت عليه كذباً، بهتاً وبهتاناً وبهاتة.
وقد روي عن بعض القرأة أنه قرأ: "فبهت الذي كفر"، بمعنى: فبهت إبراهيم الذي كفر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: "إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت"، وذكر لنا أنه دعا برجلين فقتل أحدهما واستحيى الآخر، فقال: أنا أحيي هذا! أنا أستحيي من شئت، وأقتل من شئت! قال إبراهيم عند ذلك: "فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب"، "فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين".
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: "أنا أحيي وأميت"، أقتل من شئت وأستحيي من شئت، أدعه حياً فلا أقتله. وقال: ملك الأرض مشرقها ومغربها أربعة نفر: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: سليمان بن داود وذو القرنين، والكافران: بختنصر ونمرود بن كنعان، لم يملكها غيرهم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم: أول جبار كان في الأرض نمرود، فكان الناس يخرجون فيمتارون من عنده الطعام، فخرج إبراهيم يمتار مع من يمتار، فإذا مر به ناس قال: من ربكم؟ قالوا: أنت! حتى مر إبراهيم، قال: من ربك؟ قال: الذي يحيي ويميت؟ قال: أنا أحيي وأميت! قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب! فبهت الذي كفر. قال: فرده بغير طعام. قال: فرجع إبراهيم إلى أهله، فمر على كثيب أعفر، فقال: ألا آخذ من هذا، فأتي به أهلي، فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم! فأخذ منه فأتى أهله. قال: فوضع متاعه ثم نام، فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته، فإذا هي بأجود طعام رآه أحد، فصنعت له منه فقربته إليه، وكان عهد أهله ليس عندهم طعام، فقال: من أين هذا؟ قالت: من الطعام الذي جئت به! فعلم أن الله رزقه، فحمد الله. ثم بعث الله إلى الجبار ملكاً: أن آمن بي وأتركك على ملكك! قال: وهل رب غيري؟! فجاءه الثانية فقال له ذلك، فأبى عليه. ثم أتاه الثالثة فأبى عليه، فقال له الملك: اجمع جموعك الى ثلاثة أيام! فجمع الجبار جموعه، فأمر الله الملك ففتح عليه باباً من البعوض، فطلعت الشمس فلم يروها من كثرتها، فبعثها الله عليهم فأكلت لحومهم وشربت دماءهم، فلم يبق إلا العظام، والملك كما هو لم يصبه من ذلك شيء. فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره، فمكث أربعمئة سنة يضرب رأسه بالمطارق، وأرحم الناس به من جمع يديه وضرب بهما رأسه. وكان جباراً أربعمئة عام، فعذبه الله أربعمئة سنة كملكه وأماته الله. وهو الذي بنى صرحا إلى السماء، فأتى الله بنيانه من القواعد، وهو الذي قال الله: "فأتى الله بنيانهم من القواعد" [النحل: 26].
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قول الله: "ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، قال: هو نمرود، كان بالموصل والناس يأتونه، فإذا دخلوا عليه قال: من ربكم؟ فيقولون: أنت! فيقول أميروهم. فلما دخل إبراهيم ومعه بعير خرج يمتار به لولده، قال: فعرضهم كلهم فيقول: من ربكم؟ فيقولون: أنت! فيقول: أميروهم! حتى عرض إبراهيم مرتين، فقال: من ربك؟! قال: ربي الذي يحيي ويميت! قال: أنا أحيي وأميت، إن شئت قتلتك فأمتك، وإن شئت استحييتك. قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب!! "فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين". قال: أخرجوا هذا عني فلا تميروه شيئا! فخرج القوم كلهم قد امتاروا، وجوالقا إبراهيم يصطفقان، حتى إذا نظر إلى سواد جبال أهله قال: ليحزني صبيتي إسماعيل وإسحاق! لو أني ملأت هذين الجوالقين من هذه البطحاء، فذهبت بهما، قرت عينا صبيتي، حتى إذا كان الليل أهرقته! قال: فملأهما، ثم خيطهما، ثم جاء بهما. فترامى عليهما الصبيان فرحاً، وألقى رأسه في حجر سارة ساعة، ثم قالت: ما يجلسني! قد جاء إبراهيم تعباً لغباً، لو قمت فصنعت له طعاماً إلى أن يقوم! قال: فأخذت وسادة فأدخلتها مكانها، وانسلت قليلًا قليلًا لئلا توقظه. قال: فجاءت إلى إحدى الغرارتين ففتقتها، فإذا حوارى من النقي لم يروا مثله عند أحد قط، فأخذت منه فعجنته وخبزته، فلما أتت توقظ إبراهيم جاءته حتى وضعته بين يديه، فقال: أي شيء هذا يا سارة؟ قالت: من جوالقك، لقد جئت وما عندنا قليل ولا كثير! قال: فذهب ينظر إلى الجوالق الأخر فإذا هو مثله، فعرف من أين ذاك.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق، قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: لما قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت! قال هو -يعني نمرود-: فأنا أحيي وأميت! فدعا برجلين فاستحيى أحدهما وقتل الأخر، قال: أنا أحيي وأميت!، قال: أي أستحيي من شئت، فقال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب! "فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين".
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما خرج إبراهيم من النار أدخلوه على الملك، ولم يكن قبل ذلك دخل عليه، فكلمه وقال له: من ربك؟ قال: ربي الذي يحيي ويميت! قال نمرود: أنا أحيي وأميت! أنا أدخل أربعة نفر بيتا فلا يطعمون ولا يسقون، حتى إذا هلكوا من الجوع أطعمت اثنين وسقيتهما فعاشا، وتركت اثنين فماتا. فعرف إبراهيم أن له قدرة بسلطانه وملكه على أن يفعل ذلك، قال له إبراهيم: فإن ربي الذي يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب! فبهت الذي كفر، وقال: إن هذا إنسان مجنون! فأخرجوه، ألا ترون أنه من جنونه اجترأ على آلهتكم فكسرها، وأن النار لم تأكله! وخشي أن يفتضح في قومه، أعني نمرود، وهو قول الله تعالى ذكره: "وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه" [الأنعام: 83] فكان يزعم أنه رب، وأمر بإبراهيم فاخرج.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير، أنه سمع مجاهداً يقول، قال: أنا أحيي وأميت، أحيي فلا أقتل، وأميت من قتلت، قال ابن جريج: كان أتى برجلين فقتل أحدهما وترك الأخر، فقال: أنا أحيي وأميت. قال: أقتل فأميت من قتلت، وأحيي، قال: أستحيي، فلا أقتل.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: ذكر لنا، والله أعلم، أن نمرود قال لإبراهيم فيما يقول: أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته، وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره، ما هو؟ قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت. قال نمرود: فأنا أحيي وأميت! فقال له إبراهيم: كيف تحيي وتميت؟ قال: آخذ رجلين قد استوجبا القتل في حكمي، فأقتل أحدهما فأكون قد أمته، وأعفو عن الأخر فأتركه، وأكون قد أحييته! فقال له إبراهيم عند ذلك: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، أعرف أنه كما تقول! فبهت عند ذلك نمرود ولم يرجع إليه شيئا، وعرف أنه لا يطيق ذلك. يقول تعالى ذكره: "فبهت الذي كفر"، يعني وقعت عليه الحجة، يعني نمرود.
قال أبو جعفر: وقوله: "والله لا يهدي القوم الظالمين"، يقول: والله لا يهدي أهل الكفر إلى حجة يدحضون بها حجة أهل الحق عند المحاجة والمخاصمة، لأن أهل الباطل حججهم داحضة.
وقد بينا أن معنى الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والكافر وضع جحوده ما جحد في غير موضعه، فهو بذلك من فعله ظالم لنفسه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق: "والله لا يهدي القوم الظالمين"، أي: لا يهديهم في الحجة عند الخصومة، لما هم عليه من الضلالة.
فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : " ألم تر " هذه ألف التوقيف ، وفي الكلام معنى التعجب ، أي اعجبوا له ، وقال الفراء : (( ألم تر )) بمعنى هل رأيت ، أي هل رأيت الذي حاج إبراهيم ، وهل رأيت الذي مر على قرية ، وهو النمروذ بن كوش بن كنعان بن سام بن نوح ملك زمانه وصاحب النار والبعوضة ! هذا قول ابن عباس و مجاهد و قتادة و الربيع و السدي و ابن إسحاق و زيد بن أسلم وغيرهم ، وكان إهلاكه لما قصد المحاربة مع الله تعالى بأن فتح الله تعالى عليه باباً من البعوض فستروا عين الشمس وأكلوا عسكره ولم يتركوا إلا العظام ، ودخلت واحدة منها في دماغه فأكلته حتى صارت مثل الفأرة ، فكان أعز الناس عنده بعد ذلك من يضرب دماغه بمطرقة عتيدة لذلك ، فبقي في البلاء أربعين يوماً قال ابن جريج : هو أول ملك في الأرض ، قال ابن عطية : وهذا مردود ، وقال قتادة : هو أول من تجبر وهو صاحب الصرح ببابل ، وقيل : إنه ملك الدنيا بأجمعها ، وهو أحد الكافرين ، والآخر بحتنصر ، وقيل : إن الذي حاج إبراهيم نمروذ بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أوفخشد بن سام ، حكى جميعه ابن عطية وحكى السهيلي أنه النمروذ بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح وكان ملكاً على السواد وكان ملكه الضحاك الذي يعرف بالأزدهاق ، واسمه بيوراسب بن أندراست ، وكان ملك الأقاليم كلها ، وهو الذي قتله أفريدون بن أثقيان ، وفيه يقول حبيب :
وكأنه الضحاك من فتكاته في العالمين وأنت أفريدون
وكان الضحاك طاغياً جباراً ودام ملكه ألف عام فيما ذكروا ، وهو أول من صلب وأول من قطع الأيدي والأرجل ، وللنمروذ ابن لصلبه يسمى (( كوشا )) أو نحو هذا الاسم ، وله ابن يسمى نمروذ الأصغر ، وكان ملك نمروذ الأصغر عاماً واحداً ، وكان ملك نمروذ الأكبر أربعمائة عام فيما ذكروا ، وفي قصص هذه المحاجة ، روايتان : إحداهما أنهم خرجوا إلى عيد لهم فدخل إبراهيم على أصنامهم فكسرها ، فلما رجعوا قال لهم : أتعبدون ما تنحتون ؟ فقالو : فمن تعبد ؟ قال : أعبد ربي الذي يحيي ويميت ، وقال بعضهم : إن نمروذ كان يحتكر الطعام فكانوا إذا احتاجوا إلى الطعام يشترونه منه ، فإذا دخلوا عليه سجدوا له ، فدخل إبراهيم فلم يسجد له ، فقال : ما لك لا تسجد لي ! قال أنا لا أسجد إلا لربي ، فقال له نمروذ ، من ربك ! ؟ قال إبراهيم : ربي الذي يحيى ويميت ، وذكر زيد بن أسلم : أن النمروذ هذا قعد يأمر الناس بالميرة ، فكلما جاء قوم يقول : من ربكم وإلهكم ؟ قال إبراهيم : ربي الذي يحيى ويميت ، فلما سمعها نمروذ قال : أنا أحييى وأميت ، فعارضه إبراهيم بأمر الشمس فبهت الذي كفر ، وقال لا تميروه ، فرجع إبراهيم إلى أهله دون شيء فمر على كثيب رمل كالدقيق فقال في نفسه : لو ملأت غرارتي من هذا فإذا دخلت به فرح الصبيان حتى أنظر لهم ، فذهب بذلك فلما بلغ منزله فرح الصبيان وجعلوا يلعبون فوق الغرارتين ، ونام هو من الإعياء ، فقالت : امرأته : لو صنعت له طعاماً يجده حاضراً إذا انتبه ، ففتحت إحدى الغرارتين فوجدت أحسن ما يكون من الحوارى فخبزته ، فلما قام وضعته بين يديه فقال : من أين هذا ؟ فقالت : من الدقيق الذي سقت ، فعلم إبراهيم أن الله تعالى يسر لهم ذلك .
قلت : وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي صالح قال : انطلق إبراهيم النبي عليه السلام يمتار فلم يقدر على الطعام ، فمر بسلهة حمراء فأخذ منها ثم رجع إلى أهله فقالوا : ما هذا ؟ فقال : حنطة حمراء ، ففتحوها فوجدوها حنطة حمراء ، قال : وكان إذا زرع منها شيئاً جاء سنبله من أصلها إلى فرعها حباً متراكباً ، وقال الربيع وغيره في هذا القصص : إن النمروذ لما قال أنا أحيي وأميت أحضر رجلين فقتل أحدهما وأرسل الآخر فقال : قد أحييت هذا وأمت هذا ، فلما رد عليه بأمر الشمس بهت ، وروي في الخبر : أن الله تعالى قال : وعزتي وجلالي لا تقوم الساعة حتى آتي بالشمس من المغرب ليعلم أني أنا القادر على ذلك ، ثم أمر نمروذ بإبراهيم فألقي في النار ، وهكذا عادة الجبابرة فإنهم إذا عورضوا بشيء ، وعجزوا عن الحجة اشتغلوا بالعقوبة ، فأنجاه الله من النار ، على ما يأتي وقال السدي : إنما لما خرج إبراهيم من النار أدخلوه على الملك ولم يكن قبل ذلك دخل عليه ، فكلمه وقال له : من ربك ؟ فقال : ربي الذي يحيي ويميت ، قال النمروذ : أنا أحيي وأميت ، وأنا آخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتاً ولا يطعمون شيئاً ولا يسقون حتى إذا جاعوا أخرجتهم فأطعمت اثنين فحييا وتكرت اثنين فماتا ، فعارضه إبرهيم بالشمس فبهت ، وذكر الأصوليون ، في هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام لما وصف وبه تعالى بما هو صفة له من الإحياء والإمانة لكنه أمر له حقيقة ومجاز ، قصد إبراهيم عليه السلام إلى الحقيقة ، وفزع نمروذ إلى المجاز وموه على قومه ، فسلم له إبراهيم تسليم الجدل وانتقل معه من المثال وجاءه بأمر لا مجاز فيه " فبهت الذي كفر " أي انقطعت حجته ولم يمكنه أن يقول أنا الآتي بها من المشرق ، لأن ذوي الألباب يكذبونه .
الثانية : هذه الآية تدل على جواز تسمية الكافر ملكاً إذا آتاه الله الملك والعز والرفعة في الدنيا ، وتدل على إثبات المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة ، وفي القرآن والسنة من هذا كثير لمن تأمله ، قال الله تعالى : " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " [ البقرة : 111 ] ، " إن عندكم من سلطان " [ يونس : 68 ] ، أي من حجة ، وقد وصف خصومة إبراهيم عليه السلام قومه ورده عليهم في عبادة الأوثان كما في سورة (( الأنبياء )) وغيرها ، وقال في قصة نوح عليه السلام : " قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا " [ هود : 32 ] ، الآيات إلى قوله : " وأنا بريء مما تجرمون " [ هود : 35 ] ، وكذلك مجادلة موسى مع فرعون إلى غير ذلك من الآي ، فهو كله تعليم من الله عز وجل السؤال والجواب والمجادلة في الدين ، لأنه لا يظهر الفرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل ، وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وباهلهم بعد الحجة ، على ما يأتي بيانه في (( آل عمران )) وتحاج آدم وموسى فغلبه آدم بالحجة ، وتجادل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السقيفة وتدافعوا وتقرروا وتناظروا حتى صدر الحق في أهله ، وتناظروا بعد مبايعة أبي بكر في أهل الردة ، إلى غير ذلك مما يكثر إبراده ، وفي قول الله عز وجل : " فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم " [ آل عمران : 66 ] ، دليل على أن الاحتجاج بالعلم مباح شائع لمن تدبر ، قال المزني صاحب الشافعي : ومن حق المناظرة أن يراد بها الله عز وجل وأن يقبل منها ما تبين ، وقالوا : لا تصح المناظرة ويظهر الحق بين المتناظرين حتى يكونوا متقاربين أو مستويين في مرتبة واحدة من الدين والعقل والفهم والإنصاف ، وإلا فهو مراء ومكابرة .
قراءات قرأ علي بن بن أبي طالب (( ألم تر )) بجزم الراء ، والجمهور بتحريكها ، وحذفت الياء للجزم ، (( أن أتاه الله الملك )) في موضع نصب ، أي لأن آتاه الله ، أو من أجل أن آتاه الله ، وقرأ جمهور القراء (( أن أحيي )) بطرح الألف التي بعد النون من (( أنا )) في الوصل ، وأثبتها نافع و ابن أبي أويس ، إذا لقيتها همزة في كل القرآن إلا في قوله تعالى " إن أنا إلا نذير " [ الأعراف : 188 ] ، فإنه يطرحها في هذا الموضع مثل سائر القراء لقلة ذلك ، فإنه لم يقع منه في القرآن إلا ثلاثة مواضع أجراها مجرى ما ليس بعده همزة لقلته فحذف الألف في الوصل ، قال النحويون : ضمير المتكلم الاسم فيه الهمزة والنون ، فإذا قلت : أنا أو أنه فالألف والهاء لبيان الحركة في الوقف ، فإذا اتصلت الكلمة بشيء سقطتا ، لأن الشيء الذي تتصل به الكلمة يقوم مقام الألف ، فلا يقال : أنا فعلت بإثبات الألف إلا شاذاً في الشعر كما قال الشاعر :
أنا سيف العشيرة فاعرفوني حميداً قد تذريت السناما
قال النحاس : على أن نافعاً ، قد أثبت الألف فقرأ " أنا أحيي وأميت " ولا وجه له قال مكي : والألف زائدة عند البصريين ، والاسم المضمر عندهم الهمزة والنون وزيدت الألف للتقوية ، وقيل : زيدت للوقف لتظهر حركة النون ، والاسم عند الكوفيين (( أنا )) بكماله ، فنافع في إثبات الألف على قولهم على الأصل ، وإنما حذف الألف من حذفها تخفيفاً ، ولأن الفتحة تدل عليها قال الجوهري : وأما قولهم (( أنا )) فهو اسم مكني وهو للمتكلم وحده ، وإنما بني على الفتح فرقاً بينه وبين (( أن )) التي هي حرف ناصب للفعل ، والألف الأخير إنما هي لبيان الحركة في الوقف ، فإن توسطت الكلام سقطت إلا في لغة رديئة كما قال :
أنا سيف العشيرة فاعرفوني حميداً قد تذريت السناما
وبهت الرجل وبهت وبهت إذا انقطع وسكت متحيراً ، عن النحاس وغيره وقال الطبري : وحكي عن بعض العرب في هذا المعنى (( بهت )) بفتح الباء والهاء ، قال ابن جني قرأ أبو حيوة : (( فبهت الذي كفر )) بفتح الباء وضم الهاء ، وهي لغة في (( بهت )) بكسر الهاء قال : وقرأ ابن السميقع (( فبهت )) بفتح الباء والهاء على معنى فبهت إبراهيم الذي كفر ، فالذي في موضع نصب ، قال : وقد يجوز أن يكون بهت بفتحها لغة في بهت قال : وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة (( فبهت )) بكسر الهاء كغرق ودهش ، قال : والأكثرون بالضم في الهاء قال ابن عطية : وقد تأول قوم في قراءة من قرأ (( فبهت )) بفتحها أنه بمعنى سب وقذف ، وأن نمروذ هو الذي سب حين انقطع ولم تكن له حيلة .
هذا الذي حاج إبراهيم في ربه هو ملك بابل نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ويقال نمرود بن فالخ بن عبار بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح, والأول قول مجاهد وغيره, قال مجاهد: وملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة: مؤمنان وكافران, فالمؤمنان سليمان بن داود, وذو القرنين, والكافران: نمرود وبختنصر, والله أعلم. ومعنى قوله: "ألم تر" أي بقلبك يا محمد "إلى الذي حاج إبراهيم في ربه", أي وجود ربه, وذلك أنه أنكر أن يكون ثم إله غيره, كما قال بعده فرعون لملئه "ما علمت لكم من إله غيري". وما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشديدة, إلا تجبره, وطول مدته في الملك, وذلك أنه يقال: أنه مكث أربعمائة سنة في ملكه, ولهذا قال: "أن آتاه الله الملك" وكان طلب من إبراهيم دليلاً, على وجود الرب الذي يدعو إليه, فقال إبراهيم "ربي الذي يحيي ويميت" أي إنما الدليل على وجوده, حدوث هذه الأشياء, المشاهدة بعد عدمها, وعدمها بعد وجودها, وهذا دليل على وجود الفاعل المختار , ضرورة, لأنها لم تحدث بنفسها, فلا بد لها من موجد أوجدها, وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له. فعند ذلك قال المحاج ـ وهو النمرود ـ "أنا أحيي وأميت". قال قتادة ومحمد بن إسحاق والسدي, وغير واحد: وذلك أني أوتى بالرجلين, قد استحقا القتل فآمر بقتل أحدهما ـ فيقتل, وآمر بالعفو عن الاخر فلا يقتل, فذلك معنى الإحياء والإماتة ـ والظاهر والله أعلم ـ أنه ما أراد هذا لأنه ليس جواباً لما قال إبراهيم, ولا في معناه لأنه غير مانع لوجود الصانع, وإنما أراد أن يدعي لنفسه هذا المقام عناداً ومكابرة ويوهم أنه الفاعل لذلك, وأنه هو الذي يحيي ويميت, كما اقتدى به فرعون في قوله "ما علمت لكم من إله غيري" ولهذا قال له إبراهيم, لما ادعى هذه المكابرة: "فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب" أي إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت, فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته, فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق, فإن كنت إلهاً كما ادعيت تحيي وتميت, فأت بها من المغرب ؟ فلما علم عجزه وانقطاعه وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام, بهت, أي أخرس, فلا يتكلم, وقامت عليه الحجة, قال الله تعالى: "والله لا يهدي القوم الظالمين" أي لا يلهمهم حجة ولا برهاناً, بل حجتهم داحضة عند ربهم, وعليهم غضب, ولهم عذاب شديد, وهذا التنزيل على هذا المعنى أحسن مما ذكره كثير من المنطقيين, إن عدول إبراهيم عن المقام الأول إلى المقام الثاني انتقال من دليل إلى أوضح منه, ومنهم من قد يطلق عبارة رويةً ترديه وليس كما قالوه, بل المقام الأول يكون كالمقدمة للثاني, ويبين بطلان ما ادعاه نمرود في الأول والثاني, ولله الحمد والمنة. وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة. كانت بين إبراهيم ونمرود بعد خروج إبراهيم من النار , ولم يكن اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم فجرت بينهما هذه المناظرة. وروى عبد الرزاق عن معمر, عن زيد بن أسلم أن النمرود كان عنده طعام وكان الناس يغدون إليه للميرة, فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة, فكان بينهما هذه المناظرة, ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس, بل خرج وليس معه شيء من الطعام, فلما قرب من أهله, عمد إلى كثيب من التراب فملأ منه عدليه, وقال: أشغل أهلي عني إذا قدمت عليهم, فلما قدم وضع رحاله, وجاء فاتكأ فنام, فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملانين طعاماً طيباً, فعملت طعاماً, فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه, فقال: أنى لك هذا ؟ قالت: من الذي جئت به, فعلم أنه رزق رزقهم الله عز وجل. قال زيد بن أسلم: وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكاً, يأمره بالإيمان بالله, فأبى عليه, ثم دعاه الثانية فأبى ثم الثالثة فأبى, وقال: اجمع جموعك وأجمع جموعي, فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس, وأرسل الله عليهم باباً من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس, وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم, وتركتهم عظاماً بادية, ودخلت واحدة منها في منخري الملك, فمكثت في منخري الملك أربعمائة سنة, عذبه الله بها, فكان يضرب برأسه بالمرازب في هذه المدة, حتى أهلكه الله بها.
في هذه الآية استشهاد على ما تقدم ذكره من أن الكفرة أولياؤهم الطاغوت، وهمزة الاستفهام لإنكار النفي والتقرير المنفي: أي ألم ينته علمك أو نظرك إلى هذا الذي صدرت منه هذه المحاجة. قال الفراء: ألم تر بمعنى هل رأيت: أي هل رأيت الذي حاج إبراهيم وهو النمروذ بن كوس بن كنعان بن سلم بن نوح، وقيل: إنه النمروذ بن فالخ بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام. وقوله: 258- "أن آتاه الله الملك" أي لأن آتاه الله، أو من أجل أن آتاه الله على معنى أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتو، فحاج لذلك، أو على أنه وضع المحاجة التي هي أقبح وجوه الكفر موضع ما يجب عليه من الشكر، كما يقال: عاديتني لأني أحسنت إليك، أو وقت أن آتاه الله الملك. وقوله: "إذ قال إبراهيم" هو ظرف لحاج، وقيل: بدل من قوله: "أن آتاه الله الملك" على الوجه الأخير وهو بعيد. قوله: "ربي الذي يحيي ويميت" بفتح ياء ربي، وقرئ بحذفها. قوله: "أنا أحيي" قرأ جمهور القراء أنا أحيي بطرح الألف التي بعد النون من أنا في الوصل وأثبتها نافع وابن أبي أويس كما في قول الشاعر:
أنا شيخ العشيرة فاعرفوني حميداً قد تذربت السناما
أراد إبراهيم عليه السلام أن الله هو الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد، وأراد الكافر أنه يقدر أن يعفو عن القتل فيكون ذلك إحياءً، وعلى أن يقتل فيكون ذلك إماتة، فكان هذا جواباً أحمق لا يصح نصبه في مقابلة حجة إبراهيم، لأنه أراد غير ما أراده الكافر، فلو قال له: ربه الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد فهل تقدر على ذلك؟ لبهت الذي كفر بادئ بدء وفي أول وهلة، ولكنه انتقل معه إلى حجة أخرى تنفيساً لخناقه، وإرسالاً لعنان المناظرة فقال: "فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب" لكون هذه الحجة لا تجري فيها المغالطة ولا يتيسر للكافر أن يخرج عنها بمخرج مكابرة ومشاغبة. قوله: "فبهت الذي كفر" بهت الرجل وبهت وبهت: إذا انقطع وسكت متحيراً. قال ابن جرير: وحكي عن بعض العرب في هذا المعنى بهت بفتح الباء والهاء. قال ابن جني: قرأ أبو حيوة فبهت بفتح الباء وضم الهاء، وهي لغة في بهت بكسر الهاء، قال: وقرأ ابن السميفع فبهت بفتح الباء والهاء على معنى فبهت إبراهيم الذي كفر، فـ"الذي" في موضع نصب، قال: وقد يجوز أن يكون بهت بفتحهما لغة في بهت. وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة فبهت بكسر الهاء، قال: والأكثر بالفتح في الهاء. قال ابن عطية: وقد تأول قوم في قراءة من قرأ فبهت بفتحهما أنه بمعنى سب وقذف، وأن النمروذ هو الذي سب حين انقطع ولم يكن له حيلة انتهى. وقال سبحانه: "فبهت الذي كفر" ولم يقل فبهت الذي حاج، إشعاراً بأن تلك المحاجة كفر. وقوله: "والله لا يهدي القوم الظالمين" تذييل مقرر لمضمون الجملة التي قبله.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب أن الذي حاج إبراهيم في ربه هو نمروذ بن كنعان. وأخرجه ابن جرير عن مجاهد وقتادة والربيع والسدي. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن زيد بن أسلم: أن أول جبار كان في الأرض نمروذ، وكان الناس يخرجون يمتارون من عنده الطعام، فخرج إبراهيم عليه السلام يمتار مع من يمتار، فإذا مر به ناس قال: من ربكم؟ قالوا: أنت، حتى مر به إبراهيم، فقال: من ربك؟ قال: الذي يحيي ويميت، قال: أنا أحيي وأميت، قال: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، فبهت الذي كفر، فرده بغير طعام. فرجع إبراهيم إلى أهله فمر على كثيب من رمل أصفر فقال: ألا آخذ من هذا فآتي به أهلي، فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم، فأخذ منه فأتى أهله فوضع متاعه ثم نام، فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هي بأجود طعام رآه آخذ، فصنعت له منه فقربته إليه، وكان عهده بأهله أنه ليس عندهم طعام، فقال: من أين هذا؟ قالت: من الطعام الذي جئت به، فعرف أن الله رزقه فحمد الله. ثم بعث الله إلى الجبار ملكاً أن آمن وأتركك على ملكك. قال: فهل رب غيري؟ فجاءه الثانية فقال له ذلك فأبى عليه، ثم أتاه الثالثة فأبى عليه، فقال له الملك: فاجمع جموعك إلى ثلاثة أيام، فجمع الجبار جموعه فأمر الله الملك ففتح عليه باباً من البعوض وطلعت الشمس فلم يروها كثرتها، فبعثها الله عليهم فأكلت شحومهم وشربت دماءهم فلم يبق إلا العظام، والملك كما هو لا يصيبه من ذلك شيء، فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق، وأرحم الناس به من جمع يديه ثم ضرب بهما رأسه، وكان جباراً أربعمائة سنة، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه، ثم أماته الله، وهو الذي كان بنى صرحاً إلى السماء فأتى الله بنياته من القواعد. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في الآية، قال: هو نمروذ بن كنعان يزعمون أنه أول من ملك في الأرض أتى برجلين قتل أحدهما وترك الآخر، فقال: "أنا أحيي وأميت". وأخرج أبو الشيخ عن السدي "والله لا يهدي القوم الظالمين" قال: إلى الإيمان.
258. قوله تعالى: " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " معناه هل انتهىإليك يا محمد خبر الذي حاج إبراهيم أي خاصم وجادل، وهو نمرود وهو أول من وضع التاج على رأسه، وتجبر في الأرض وادعى الربوبية؟ " أن آتاه الله الملك " أي لأن آتاه الله الملك فطغى أي كانت تلك المحاجة من بطر الملك وطغيانه، قال مجاهد : ملك الأرض أربعة، مؤمنان وكافران فأما المؤمنان فسليمان وذو القرنين، وأما الكافران فنمرود وبختنصر.
واختلفوا في وقت هذه المناظرة، قال مقاتل : لما كسر إبراهيم الأصنام سجنه نمرود ثم أخرجه ليحرقه بالنار فقال له: من ربك الذي تدهونا إليه؟ فقال: ربي الذي يحيي ويميت، وقال آخرون: كان هذا بعد إلقائه في النار، وذلك أن الناس قحطوا على عهد نمرود وكان الناس يمتارون من عنده الطعام، فكان إذا أتاه الرجل في طلب الطعام سأله من ربك؟ فإن قال أنت، باع منه الطعام، فأتاه إبراهيم فيمن أتاه فقال له نمرود: منربك؟ قال: ربي الذي يحيي ويميت، فاشتغل بالمحاجة ولم يعطه شيئاً فرجع إبراهيم فمر على كثيب من رمل أعفر فأخذ منه تطييباً لقلوب أهله إذا دخل عليهم، فلما أتى أهله ووضع متاعه نام، فقامت إمرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هو أجود طعام ما رآه أحد، فأخذته فصنعت له منه فقربته إليه فقال: من أين هذا؟ قالت من الطعام الذي جئت به فعرف أن الله رزقه، فحمد الله.
قال الله تعالى: " إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت " [وهذا جواب سؤال غير مذكور تقديره قال له: من ربك؟ فقال إبراهيم " ربي الذي يحيي ويميت "] قرأ حمزة " ربي الذي يحيي ويميت " بإسكان الياء وكذلك " حرم ربي الفواحش " (33-الأعراف) و " عن آياتي الذين يتكبرون " (146-الأعراف) و " قل لعبادي الذين " (31-إبراهيم) و " آتاني الكتاب " (30-مريم) و " مسني الضر " (83-الأنبياء) و " عبادي الصالحون " (105-الأنبياء) و " عبادي الشكور " (13-سبأ) و " مسني الشيطان " (41-صلى الله عليه وسلم) و " إن أرادني الله " (38-الزمر) و " إن أهلكني الله " (28-الملك) اسكن الياء فيهن حمزة ، ووافق ابن عامر و الكسائي في " لعبادي الذين آمنوا " و ابن عامر " آياتي الذين " وفتحها الآخرون، " قال " نمرود " أنا أحيي وأميت ".
قرأ أهل المدينة (أنا) بإثبات الألف والمد في الوصل إذا تلتها مفتوحة أو مضمومة والباقون بحذف الألف، ووقفوا جميعا ًبالأف، قال أكثر المفسرين : دعا نمرود برجلين فقتل أحدهما واستحيا الآخر فجعل ترك القتل إحياء له، فانتقل إبرهيم إلى حجة أخرى ،لاعجزاً له فأن حجته كانت لازمة لأنه أراد بالأحياء إحياء الميت فكان له أن يقول : فأحي من أمت إن كنت صادقاً فانتقل إلى حجه أخرى أوضح من الأولى
" قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر " أي تحير ودهش وانقطعت حجته .فإن قيل : كيف بهت وكان يمكنه أن يعارض إبراهيم فيقول له :سل أنت ربك حتى يأتي بهأمن المغرب قيل: إنما لم يقله لأنه خاف أن لوسأل ذللك دعا أبراهيم ربه فكان زيادة في فضيحته وأنقطاعه، والصحيح أن الله صرفه عن تللك المعارضة إظهاراً للحجه عليه أو معجزة لإبراهيم عليه السلام " والله لا يهدي القوم الظالمين ".

258-" ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " تعجيب من محاجة نمرود وحماقته . " أن آتاه الله الملك " لأن آتاه أي أبطره إيتاء الملك وحمله على المحاجة ، أو حاج لأجله شكراً له على طريقة العكس كقولك عاديتني لأني أحسنت إليك ، أو وقت أن آتاه الله الملك وهو حجه على من منع إيتاء الله الملك الكافر من المعتزلة . " إذ قال إبراهيم " ظرف لـ " حاج " ، أو بدل من " أن آتاه الله الملك " على الوجه الثاني . " ربي الذي يحيي ويميت " بخلق الحياة والموت في الأجساد . وقرأ حمزة رب بحذف الياء . " قال أنا أحيي وأميت " بالعفو عن القتل وبالقتل . وقرأ نافع أنا بلا ألف . " قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب " أعرض إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن الاعتراض على معارضته الفاسدة إلى الاحتجاج بما لا يقدر فيه نحو هذا التمويه دفعاً للمشاغبة ، وهو في الحقيقة عدول عن مثال خفي إلى مثال جلي من مقدوراته التي يعجز عن الإتيان بها غيره ، لا عن حجة إلى أخرى . ولعل نمرود زعم أنه يقدر أن يفعل كل جنس يفعله الله فنقضه إبراهيم بذلك ، وإنما حمله عليه بطر الملك وحماقته ، أو اعتقاد الحلول . وقيل لما كسر إبراهيم عليه الصلاة والسلام الأصنام سجنه أياماً ثم أخرجه ليحرقه ، فقال له من ربك الذي تدعو إليه وحاجة فيه . " فبهت الذي كفر " فصار مبهوتاً . وقرئ " فبهت " أي فغلبت إبراهيم الكافر . " والله لا يهدي القوم الظالمين " الذين ظلموا أنفسهم بالامتناع عن قبول الهداية . وقيل لا يهديهم محجة الاحتجاج أو سبيل النجاة ، أو طريق الجنة يوم القيامة .
258. Bethink thee of him who had an argument with Abraham about his Lord, because Allah had given him the kingdom; how, when Abraham said: My Lord is He who giveth life and causeth death, he answered: I give life and cause death. Abraham said: Lo! Allah causeth the sun to rise in the East, so do thou cause it to come up from the West. Thus was the disbeliever abashed. And Allah guideth not wrong doing folk.
258 - Fast thou not turned thy vision to one who disputed with Abraham about his Lord, because God had granted him power? Abraham said: my Lord is he who giveth life and death. he said: i give life and death. said Abraham: but it is God that causeth the sun to rise from the east: do thou then cause him to rise from the west. thus was he confounded who (in arrogance) rejected faith. nor doth God give guidance to a people unjust.