[البقرة : 256] لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(لا إكراه في الدين) على الدخول فيه (قد تبين الرشد من الغي) أي ظهر بالآيات البينات أن الإيمان رشد والكفر غي نزلت فيمن كان له من الأنصار أولاد أراد أن يكرههم على الإسلام (فمن يكفر بالطاغوت) الشيطان أو الأصنام وهو يطلق على المفرد والجمع (ويؤمن بالله فقد استمسك) تمسك (بالعروة الوثقى) بالعقد المحكم (لا انفصام) انقطاع (لها والله سميع) بما يقال (عليم) بما يفعل
قوله تعالى لا اكراه في الدين روى أبو داود والنسائي وابن حبان عن ابن عباس قال كانت المرأة تكون مقلاة فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا لا ندع أبناءنا فأنزل الله لا إكراه في الدين
أخرج ابن جرير من طريق سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال نزلت لا إكراه في الدين في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين كان له إبنان نصرانيان وكان هو مسلما فقال للنبي صلى الله عليه وسلم ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية فأنزل الله الآية
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك. فقال بعضهم: نزلت هذه الآية في قوم من الأنصار- أو في رجل منهم - كان لهم أولاد قد هودوهم أو نصروهم، فلما جاء الله بالإسلام أرادوا إكراههم عليه، فنهاهم الله عن ذلك حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الإسلام. ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاتا، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده. فلما أجليت بنو النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا : لا ندع أبناءنا! فأنزل الله تعالى ذكره: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي".
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: كانت المرأة تكون مقلىً ولا يعيش لها ولد -قال شعبة: وإنما هو مقلات - فتجعل عليها إن بقي لها ولد لتهودنه. قال: فلما أجليت بنو النضير كان فيهم منهم، فقالت الأنصار: كيف نصنع بأبنائنا؟ فنزلت هذه الآية: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي". قال : من شاء أن يقيم أقام ، ومن شاء أن يذهب ذهب.
حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، وحدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن عامر قال: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاتاً لا يعيش لها ولد، فتنذر إن عاش ولدها أن تجعله مع أهل الكتاب على دينهم، فجاء الإسلام وطوائف من أبناء الأنصار على دينهم، فقالوا: إنما جعلناهم على دينهم ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا! وإذ جاء الله بالإسلام، فلنكرهنهم! فنزلت: "لا إكراه في الدين"، فكان فصل ما بين من اختار اليهودية والإسلام ، فمن لحق بهم اختار اليهودية، ومن أقام اختار الإسلام. ولفظ الحديث لحميد.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا معتمر بن سليمان قال، سمعت داود، عن عامر، بنحو معناه، إلا أنه قال: فكان فصل ما بينهم، إجلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، فلحق بهم من كان يهودياً ولم يسلم منهم، وبقي من أسلم.
حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر، بنحوه، إلا أنه قال: إجلاء النضير إلى خيبر، فمن اختار الإسلام أقام، ومن كره لحق بخيبر.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد الحرشي مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ، يقال له: الحصين، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلاً مسلماً، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أستكرههما، فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك.
حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر قال: سألت سعيد بن جبير عن قوله: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، قال نزلت هذه في الأنصار، قال: قلت: خاصة؟ قال: خاصة! قال: كانت المرأة في الجاهلية تنذر إن ولدت ولداً أن تجعله في اليهود، تلتمس بذلك طول بقائه. قال: فجاء الإسلام وفيهم منهم، فلما أجليت النضير قالوا: يا رسول الله، أبناؤنا وإخواننا فيهم! قال: فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى ذكره: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" قد خير أصحابكم، فإن اختاروكم فهم منكم، وإن اختاروهم فهم منهم، قال: فأجلوهم معهم".
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" إلى "لا انفصام لها"، قال: "نزلت في رجل من الأنصار يقال له أبو الحصين، كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت. فلما باعوا وأرادوا أن يرجعوا، أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانية، فتنصرا فرجعا إلى الشام معهم .فأتى أبوهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:إن ابني تنصرا وخرجا، فأطلبهما؟ قال: "لا إكراه في الدين"، ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب، وقال: أبعدهما الله! فهما أول من كفر! فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم، حين لم يبعث في طلبهما، فنزلت: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما" [النساء: 65]. ثم إنه نسخ: "لا إكراه في الدين"، فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة ".
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "لا إكراه في الدين"، قال: كانت اليهود، يهود بني النضير، أرضعوا رجالاً من الأوس، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلائهم، قال أبناؤهم من الأوس: لنذهبن معهم، ولندينن بدينهم! فمنعهم أهلوهم وأكرهوهم على الإسلام، ففيهم نزلت هذه الآية.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد، جميعاً، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد: "لا إكراه في الدين"، قال: كان ناس من الأنصار مسترضعين في بني قريظة ، فأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام، فنزلت: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي".
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال مجاهد: كانت النضير يهوداً فأرضعوا، ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم، قال ابن جريج، وأخبرني عبد الكريم، عن مجاهد: أنهم كانوا قد دان بدينهم أبناء الأوس، دانوا بدين النضير.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي: أن المرأة من الأنصار كانت تنذر إن عاش ولدها لتجعلنه في أهل الكتاب، فلما جاء الإسلام قالت الأنصار: يا رسول الله، ألا نكره أولادنا الذين هم في يهود على الإسلام؟ فإنا إنما جعلناهم فيها ونحن نرى أن اليهودية أفضل الأديان، فأما إذ جاء الله بالإسلام، أفلا نكرههم على الإسلام؟ فأنزل الله تعالى ذكره: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي".
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن داود، عن الشعبي مثله، وزاد، قال: كان فصل ما بين من اختار اليهود منهم وبين من اختار الإسلام، إجلاء بني النضير، فمن خرج مع بني النضير كان منهم، ومن تركهم اختار الإسلام.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "لا إكراه في الدين" إلى قوله: "العروة الوثقى"، قال: هذا منسوخ.
حدثني سعيد بن الربيع الرازي قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ووائل، عن الحسن: أن أناساً من الأنصار كانوا مسترضعين في بني النضير، فلما أجلوا أراد أهلوهم أن يلحقوهم بدينهم، فنزلت: "لا إكراه في الدين".
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يكره أهل الكتاب على الدين إذا بذلوا الجزية، ولكنهم يقرون على دينهم. وقالوا: الآية في خاص من الكفار، ولم ينسخ منها شيء.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، قال: أكره عليه هذا الحي من العرب، لأنهم كانوا أمة أمية ليس لهم كتاب يعرفونه، فلم يقبل منهم غير الإسلام. ولا يكره عليه أهل الكتاب إذا أقروا بالجزية أو بالخراج، ولم يفتنوا عن دينهم، فيخلى عنهم.
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو هلال قال، حدثنا قتادة في قوله: "لا إكراه في الدين"، قال: هو هذا الحي من العرب، أكرهوا على الدين، لم يقبل منهم إلا القتل أو الإسلام، وأهل الكتاب قبلت منهم الجزية، ولم يقتلوا.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير قال، حدثنا عمرو بن قيس، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: "لا إكراه في الدين"، قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الأوثان، فلم يقبل منهم إلا: لا إله إلا الله، أو السيف، ثم أمر فيمن سواهم بأن يقبل منهم الجزية، فقال: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي".
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "لا إكراه في الدين"، قال: كانت العرب ليس لها دين، فأكرهوا على الدين بالسيف. قال: ولا يكره اليهود ولا النصارى والمجوس، إذا أعطوا الجزية.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح قال: سمعت مجاهداً يقول لغلام له نصراني: يا جرير، أسلم. ثم قال: هكذا كان يقال لهم.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، قال: وذلك لما دخل الناس في الإسلام، وأعطى أهل الكتاب الجزية.
وقال آخرون: هذه الآية منسوخة، وإنما نزلت قبل أن يفرض القتال.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري قال: سألت زيد بن أسلم عن قول الله تعالى ذكره: "لا إكراه في الدين"، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحداً في الدين، فأبى المشركون إلا أن يقاتلوهم، فاستأذن الله في قتالهم فأذن له.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآية في خاص من الناس- وقال: عنى بقوله تعالى ذكره: "لا إكراه في الدين"، أهل الكتابين والمجوس وكل من جاء إقراره على دينه المخالف دين الحق وأخذ الجزية منه، وأنكروا أن يكون شيء منها منسوخاً.
وإنما قلنا: هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لما قد دللنا عليه في كتابنا كتاب اللطيف من البيان عن أصول الأحكام: من أن الناسخ غير كائن ناسخاً إلا ما نفى حكم المنسوخ فلم يجز اجتماعهما. فأما ما كان ظاهره العموم من الأمر والنهي، وباطنه الخصوص، فهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل.
وإذ كان ذلك كذلك، وكان غير مستحيل أن يقال: لا إكراه لأحد ممن أخذت منه الجزية في الدين، ولم يكن في الآية دليل على أن تأويلها بخلاف ذلك، وكان المسلمون جميعاً قد نقلوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه أكره على الإسلام قوماً فأبى أن يقبل منهم إلا الإسلام، وحكم بقتلهم إن امتنعوا منه، وذلك كعبدة الأوثان من مشركي العرب، وكالمرتد عن دينه دين الحق إلى الكفر ومن أشبههم، وأنه ترك إكراه آخرين على الإسلام بقبوله الجزية منه وإقراره على دينه الباطل، وذلك كأهل الكتابين ومن أشبههم ، كان بيناً بذلك أن معنى قوله: "لا إكراه في الدين"، إنما هو لا إكراه في الدين لأحد ممن حل قبول الجزية منه بأدائه الجزية، ورضاه بحكم الإسلام.
ولا معنى لقول من زعم أن الآية منسوخة الحكم، بالإذن بالمحاربة.
فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما روي عن ابن عباس وعمن روي عنه: من أنها نزلت في قوم من الأنصار أرادوا أن يكرهوا أولادهم على الإسلام؟.
قلنا: ذلك غير مدفوعة صحته، ولكن الآية قد تنزل في خاص من الأمر، ثم يكون حكمها عاماً في كل ما جانس المعنى الذي أنزلت فيه. فالذين أنزلت فيهم هذه الآية -على ما ذكر ابن عباس غيره- إنما كانوا قوماً دانوا بدين أهل التوراة قبل ثبوت عقد الإسلام لهم، فنهى الله تعالى ذكره عن إكراههم على الإسلام، وأنزل بالنهي عن ذلك آية يعم حكمها كل من كان في مثل معناهم، ممن كان على دين من الأديان التي يجوز أخذ الجزية من أهلها، وإقرارهم عليها، على النحو الذي قلنا في ذلك.
قال أبو جعفر: ومعنى قوله: "لا إكراه في الدين"، لا يكره أحد في دين الإسلام عليه. وإنما أدخلت الألف واللام في الدين، تعريفاً للدين الذي عنى الله بقوله: لا إكراه فيه، وأنه هو الإسلام.
وقد يحتمل أن يكون أدخلتا عقيباً من الهاء المنوية في الدين، فيكون معنى الكلام حينئذ: وهو العلي العظيم، لا إكراه في دينه، قد تبين الرشد من الغي. وكأن هذا القول أشبه بتأويل الآية عندي.
قال أبو جعفر: وأما قوله: "قد تبين الرشد"، فإنه مصدر من قول القائل: رشدت فأنا أرشد رشداً ورشداً ورشاداً، وذلك إذا أصاب الحق والصواب.
وأما "الغي"، فإنه مصدر من قول القائل: قد غوى فلان فهو يغوى غياً وغواية، وبعض العرب يقول: غوي فلان يغوى، والذي عليه قراءة القرأة: "ما ضل صاحبكم وما غوى" [النجم: 2] بالفتح، وهي أفصح اللغتين، وذلك إذا عدا الحق وتجاوزه، فضل.
فتأويل الكلام إذاً: قد وضح الحق من الباطل، واستبان لطالب الحق والرشاد وجه مطلبه، فتميز من الضلالة والغواية، فلا تكرهوا من أهل الكتابين، ومن أبحت لكم أخذ الجزية منه، [أحداً] على دينكم دين الحق، فإن من حاد عن الرشاد بعد استبانته له، فإلى ربه أمره، وهو ولي عقوبته في معاده.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى الطاغوت.
فقال بعضهم: هو الشيطان.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحق، عن حسان بن فائد العبسي قال، قال عمر بن الخطاب: الطاغوت الشيطان.
حدثني محمد بن المثنى قال، حدثني اين أبي عدي، عن شعبة، عن أبي إسحق، عن حسان بن فائد، عن عمر مثله.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عمن حدثه، عن مجاهد قال: الطاغوت الشيطان.
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا زكريا، عن الشعبي قال: الطاغوت الشيطان.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: "فمن يكفر بالطاغوت"، قال: الشيطان.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: الطاغوت الشيطان.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: "فمن يكفر بالطاغوت"، بالشيطان.
وقال آخرون: الطاغوت هو الساحر.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن أبي العالية أنه قال: الطاغوت الساحر.
وقد خولف عبد الأعلى في هذه الرواية، وأنا ذاكر الخلاف بعد.
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا حماد بن مسعدة قال، حدثنا عوف، عن محمد قال: الطاغوت الساحر.
وقال آخرون: بل الطاغوت هو الكاهن.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: الطاغوت الكاهن.
حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن رفيع قال: الطاغوت الكاهن.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: "فمن يكفر بالطاغوت"، قال: كهان تنزل عليها شياطين، يلقون على ألسنتهم وقلوبهم. أخبرني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله أنه سمعه يقول: -وسئل عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها فقال-: كان في جهينة واحد، وفي أسلم واحد، في كل حي واحد، وهي كهان ينزل عليها الشيطان.
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في الطاغوت، أنه كل ذي طغيان على الله، فعبد من دونه، إما بقهر منه لمن عبده، وإما بطاعة ممن عبده له، إنساناً كان ذلك المعبود، أو شيطاناً، أو وثناً، أو صنماً، أو كائناً ما كان من شيء.
وأرى أن أصل الطاغوت، الطغووت من قول القائل: طغا فلان يطغو، إذا عدا قدره، فتجاوز حده، كـالجبروت من التجبر، والخلبوت من الخلب، ونحو ذلك من الأسماء التي تأتي على تقدير فعلوت بزيادة الواو والتاء. ثم نقلت لامه -أعني لام الطغووت- فجعلت له عيناً، وحولت عينه فجعلت مكان لامه، كما قيل: جذب وجبذ، وجاذب وجابذ، وصاعقة وصاقعة، وما أشبه ذلك من الأسماء التي على هذا المثال.
فتأويل الكلام إذاً: فمن يجحد ربوبية كل معبود من دون الله، فيكفر به، "ويؤمن بالله"، يقول: ويصدق بالله أنه إلهه وربه ومعبوده، "فقد استمسك بالعروة الوثقى"، يقول: فقد تمسك بأوثق ما يتمسك به من طلب الخلاص لنفسه من عذاب الله وعقابه، كما:-
حدثني أحمد بن سعيد بن يعقوب الكندي قال، حدثنا بقية بن الوليد قال، حدثنا ابن أبي مريم، عن حميد بن عقبة، عن أبي الدرداء: أنه عاد مريضاً من جيرته، فوجده في السوق وهو يغرغر، لا يفقهون ما يريد. فسألهم: يريد أن ينطق؟ قالوا: نعم، يريد أن يقول: آمنت بالله وكفرت بالطاغوت. قال أبو الدرداء: وما علمكم بذلك؟ قالوا: لم يزل يرددها حتى انكسر لسانه، فنحن نعلم أنه إنما يريد أن ينطق بها. فقال أبو الدرداء: أفلح صاحبكم! إن الله يقول: "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم".
قال أبو جعفر: والعروة، في هذا المكان، مثل للإيمان الذي اعتصم به المؤمن، فشبهه في تعلقه به وتمسكه به، بالمتمسك بعروة الشيء الذي له عروة يتمسك بها، إذ كان كل ذي عروة فإنما يتعلق من أراده بعروته.
وجعل تعالى ذكره الإيمان الذي تمسك به الكافر بالطاغوت المؤمن بالله، من أوثق عرى الأشياء بقوله: "الوثقى".
و"الوثقى"، فعلى من الوثاقة. يقال في الذكر: هو الأوثق، وفي الأنثى: هي الوثقى، كما يقال: فلان الأفضل، وفلانة الفضلى.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "بالعروة الوثقى"، قال: الإيمان.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: "العروة الوثقى"، هو الإسلام.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن أبي السوداء، عن جعفر -يعني ابن أبي المغيرة- عن سعيد بن جبير قوله: "فقد استمسك بالعروة الوثقى"، قال: لا إله إلا الله.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي السوداء النهدي، عن سعيد بن جبير مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: "فقد استمسك بالعروة الوثقى"، مثله.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "لا انفصام لها"، لا انكسار لها. والهاء والألف، في قوله: "لها" عائدة على "العروة".
ومعنى الكلام: فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، فقد اعتصم من طاعة الله بما لا يخشى مع اعتصامه خذلانه إياه، وإسلامه عند حاجته إليه في أهوال الآخرة، كالمتمسك بالوثيق من عرى الأشياء التي لا يخشى انكسار عراها.
وأصل الفصم الكسر، ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
ومبسمها عن شتيت النبات غير أكس ولا منفصم
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "لا انفصام لها"، قال: لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "لا انفصام لها"، قال: لا انقطاع لها.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره : "والله سميع"، إيمان المؤمن بالله وحده الكافر بالطاغوت، عند إقراره بوحدانية الله وتبرئه من الأنداد والأوثان التي تعبد من دون الله، "عليم" بما عزم عليه من توحيد الله وإخلاص ربوبيته قلبه، وما انطوى عليه من البراءة من الآلهة والأصنام والطواغيت ضميره، وبغير ذلك مما أخفته نفس كل أحد من خلقه، لا ينكتم عنه سر، ولا يخفى عليه أمر، حتى يجازي كلاً يوم القيامة بما نطق به لسانه، وأضمرته نفسه، إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً.
قوله تعالى : " لا إكراه في الدين " فيه مسألتان :
الأولى قوله تعالى : " لا إكراه في الدين " الدين في هذه الآية المعتقد والملة بقرينة قوله : " قد تبين الرشد من الغي " والإكراه الذي في الأحكام من الإيمان والبيوع والهبات وغيرها ليس هذا موضعه ، وإنما يجيء في تفسير قوله ك " إلا من أكره " [ النحل : 106 ] وقرأ أبو عبد الرحمن (( قد تبين الرشد من الغي )) وكذا روي عن الحسن و الشعبي ، يقال : رشد يرشد رشداً ، ورشد يرشد رشداً ، إذا بلغ ما يحب ، وغوى ضده ، عن النحاس وحكى ابن عطية عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قرأ (( الرشاد )) بالألف .
وروي عن الحسن أيضاً (( الرشد )) بضم الراء والشين ، " الغي " مصد من غوى يغوي إذا صل في معتقد أو رأي ، ولا يقال الغي في الضلال على الإطلاق .
الثانية : اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أقوال :
الأول : قيل إنها منسوخة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام ، قاله سليمان بن موسى ، قال : نسختها " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين " [ التوبة : 73 ] ، وروي هذا عن ابن مسعود وكثير من المفسرين .
الثاني : ليست بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة ، وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية ، والذين يكرهون أهل الأوثان فلا يقبل منهم إلا الإسلام فهم الذين نزل فيهم " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين " [ التوبة : 73 ] ، هذا قول الشعبي و قتادة و الحسن و الضحاك والحجة لهذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية : أسلمي أيتها العجوز تسلمي ، إن الله بعث محمداً بالحق ، قالت : أنا عجوز كبيرة والموت إلي كبيرة والموت إلي قريب ! فقال عمر : اللهم اشهد ، وتلا " لا إكراه في الدين " .
الثالث : ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال : نزلت هذه في الأنصار ، كانت تكون المرأة مقلاتاً فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده ، فلما أجليت بنو النضر كان فيهم كثير من أبناء الأنصار فقالوا : لا ندع أبناءنا ! فأنزل الله تعالى : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " قال أبو داود : والمقلات التي لا يعيش لها ولد ، في رواية إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه ، وأما إذا جاء الله بالإسلام فنكرههم عليه فنزلت : " لا إكراه في الدين " من شاء التحق بهم ومن شاء دخل في الإسلام ، وهذا قول سعيد بن جبير و الشعبي و مجاهد إلا أنه قال : كان سبب كونهم في بني النضير الاسترضاع ، قال النحاس : قول ابن عباس في هذه الآية أولى الأقوال لصحة إسناده ، وإن مثله لا يؤخذ بالرأي .
الرابع : قال السدي : نزلت الآية في رجل من الأنصار يقال له أبو حصين كان له ابنان ، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت ، فلما أرادوا الخروج أتاهم ابنا الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا ومضيا ومضيا معهم إلى الشام ، فأتى أبوهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتكياً أمرهما ، ورغب في أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يردهما فنزلت : " لا إكراه في الدين " ولم يؤمر بقتال أهل الكتاب ، وقال : أبعدهما الله هم أول من كفر ، فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما فأنزل الله جل ثناؤه " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم " [ النساء : 65 ] ، الآية ثم إنه نسخ " لا إكراه في الدين " فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة (( براءة )) والصحيح في سبب قوله تعالى ، " فلا وربك لا يؤمنون " حديث الزبير مع جاره الأنصاري في السقي ، على ما يأتي في (( النساء )) بيانه إن شاء الله تعالى ، وقيل : معناها لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف مجبراً مكرهاً ، وهو القول الخامس ، وقول السادس ، وهو أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا إذا كانوا كباراً ، وإن كانوا مجوساً صغاراً أو كباراً أو وثنيين فإنهم يجبرون على الإسلام ، لأن من سباهم لا ينتفع بهم مع كونهم وثنيين ، ألا ترى أنه لا تؤكل ذبائحهم ولا توطأ نساؤهم ، ويدينون بأكل الميتة والنجاسات وغيرهما ، ويستقذرهم المالك لهم ويتعذر عليه الإنتفاع بهم من جهة الملك فجاز له الإجبار ، ونحو هذا روى ابن القاسم عن مالك وأما أشهب فإنه قال : هم على دين من سباهم ، فإذا امتنعوا أجبروا على الإسلام ، والصغار لا دين لهم فلذلك أجبروا على الدخول في دين الإسلام لئلا يذهبوا إلى دين باطل ، فأما سائر أنواع متى بذلوا الجزية لم نكرههم على الإسلام سواء كانوا عرباً أم عجماً قريشاً أو غيرهم ، وسيأتي بيان هذا وما للعلماء في الجزية ومن تقبل منه في (( براءة )) إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : " فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله " جزم بالشرط ، والطاغوت مؤنثة من طغى يطغى - وحكى الطبري يطغو - إذا جاوز الحد بزيادة عليه ، ووزنه فعلوت ، ومذهب سيبويه أنه اسم مذكر مفرد كأنه اسم جنس يقع للقليل والكثير ، ومذهب أبي علي أنه مصدر كرهبوت وجبروت ، وهو يوصف به الواحد والجمع ، وقلبت لامه إلى موضع العين وعينه موضع اللام كجبذ وجذب ، فقلبت الواو ألفاً لتحركها وتحرك ما قبلها فقيل طاغوت ، واختار هذا القول النحاس ، وقيل : أصل طاغوت في اللغة مأخوذة من الطغيان يؤدي معناه من غير اشتقاق ، كما قيل : لآل من اللؤلؤ ، وقال المبرد : هو جمع قال ابن عطية : وذلك مردود ، قال الجوهري : والطاغوت الكاهن والشيطان وكل رأس في الضلال ، وقد يكون واحداً قال الله تعالى : " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به " [ النساء : 60 ] ، وقد يكون جمعاً قال الله تعالى : " أولياؤهم الطاغوت " والجمع الطوغيت ، " ويؤمن بالله " عطف " فقد استمسك بالعروة الوثقى " جواب الشرط ، وجمع الوثقى الوثق مثل الفضلى والفضل ، فالوثقى فعلى من الوثاقة ، وهذه الآية تشبيه ، واختلفت عبارة المفسرين في الشيء المشبه به ، فقال مجاهد : العروة الإيمان ، وقال السدي : الإسلام وقال ابن عباس و سعيد بن جبير و الضحاك : لا إله إلا الله ، وهذه عبارات ترجع إلى معنى واحد ، ثم قال : " لا انفصام لها " قال مجاهد ، أي لا يغير الله ما يقوم حتى يغيروا ما بانفسهم ، أي لا يزيل عنهم اسم الإيمان حتى يكفروا ، والإنفصام : الإنكسار من غير بينونة والقصم : كسر ببينونة ، في صحيح الحديث : " فيفصم عنه الوحي وإن جبينه ليتفصد عرقاً " ، أي يقلع قال الجوهري فصم الشيء كسره من غير أن يبين ، تقول : فصمته فانفصم ، قال الله تعالى : " لا انفصام لها " وتفصم مثله ، قال ذو الرمة يذكر غزالاً يشبهه بدملج فصة :
كأنه دملج من فضة نبه في ملعب من جواري الحي مفصوم
وإنما جعله مفصوماً لتثنيه وانحنائه إذا نام ، ولم يقل (( مقصوم )) بالقاف فيكون بائناً باثنين ، وأفصم المطر : وأفصمت عنه الحمى ، ولما كان الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات " سميع " من أجل النطق " عليم " من أجل المعتقد .
يقول تعالى: "لا إكراه في الدين" أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام, فإنه بين واضح, جلي دلائله وبراهينه, لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه, بل من هداه الله للإسلام, وشرح صدره, ونور بصيرته, دخل فيه علي بينة, ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره, فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً, وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الاية في قوم من الأنصار, وإن كان حكمها عاماً. وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا ابن أبي عدي, عن شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: كانت المرأة تكون مقلاة, فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده, فلما أجليت بنو النضير, كان فيهم من أبناء الأنصار, فقالوا: لا ندع أبناءنا, فأنزل الله عز وجل "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي", وقد رواه أبو داود والنسائي جميعاً عن بندار به, ومن وجوه أخر عن شعبة به نحوه. وقد رواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه من حديث شعبة به, وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم, أنها نزلت في ذلك. وقال محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد الحرشي مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة أو عن سعيد, عن ابن عباس قوله: "لا إكراه في الدين" قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف, يقال له الحصيني, كان له ابنان نصرانيان وكان هو رجلاً مسلماً, فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا استكرههما, فإنهما قد أبيا إلا النصرانية, فأنزل الله فيه ذلك, رواه ابن جرير. وروى السدي نحو ذلك, وزاد: وكانا قد تنصرا على يدي تجار قدموا من الشام يحملون زيتاً, فلما عزما على الذهاب معهم, أراد أبوهما أن يستكرههما, وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث في آثارهما, فنزلت هذه الاية, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عمرو بن عوف, أخبرنا شريك عن أبي هلال عن أسق, قال: كنت في دينهم مملوكاً نصرانياً لعمر بن الخطاب, فكان يعرض علي الإسلام, فآبى, فيقول "لا إكراه في الدين" ويقول: يا أسق, لو أسلمت لا ستعنا بك على بعض أمور المسلمين, وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء , أن هذه محمولة على أهل الكتاب, ومن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية, وقال آخرون: بل هي منسوخة بآية القتال, وإنه يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف, دين الإسلام, فإن أبى أحد منهم الدخول فيه, ولم ينقد له أو يبذل الجزية, قوتل حتى يقتل, وهذا معنى الإكراه, قال الله تعالى "ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون" وقال تعالى: "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم" وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين" وفي الصحيح "عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل" يعني الأسارى الذين يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثائق والأغلال والقيود والأكبال, ثم بعد ذلك يسلمون, وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونون من أهل الجنة. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن حميد عن أنس, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل أسلم, قال: إني أجدني كارهاً, قال: وإن كنت كارهاً فإنه ثلاثي صحيح, ولكن ليس من هذا القبيل, فإنه لم يكرهه النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام, بل دعاه إليه, فأخبره أن نفسه ليست قابلة له, بل هي كارهة, فقال له: أسلم وإن كنت كارهاً, فإن الله سيرزقك حسن النية والإخلاص.
وقوله: "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم" أي من خلع الأنداد والأوثان, وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله, ووحد الله فعبده وحده, وشهد أنه لا إله إلا هو "فقد استمسك بالعروة الوثقى" أي فقد ثبت في أمره, واستقام على الطريق المثلى, والصراط المستقيم, قال أبو قاسم البغوي: حدثنا أبو روح البلدي, حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم, عن أبي إسحاق عن حسان, هو ابن قائد العبسي قال: قال عمر رضي الله عنه: إن الجبت السحر, والطاغوت الشيطان, وإن الشجاعة والجبن غرائز تكون في الرجال, يقاتل الشجاع عمن لا يعرف, ويفر الجبان من أمه, وإن كرم الرجل دينه, وحسبه خلقه, وإن كان فارسياً أو نبطياً. وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث الثوري, عن أبي إسحاق عن حسان بن قائد العبسي عن عمر, فذكره, ومعنى قوله في الطاغوت: إنه الشيطان, قوي جداً, فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية من عبادة الأوثان والتحاكم إليها, والاستنصار بها.
وقوله: "فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها" أي فقد استمسك من الدين بأقوى سبب, وشبه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصم, هي في نفسها محكمة مبرمة قوية وربطها قوي شديد, ولهذا قال "فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها" الاية, قال مجاهد: العروة الوثقى يعني الإيمان, وقال السدي: هو الإسلام, وقال سعيد بن جبير والضحاك: يعني لا إله إلا الله, وعن أنس بن مالك: العروة الوثقى القرآن. وعن سالم بن أبي الجعد قال: هو الحب في الله, والبغض في الله, وكل هذه الأقوال صحيحة, ولا تنافي بينها. وقال معاذ بن جبل في قوله: "لا انفصام لها" دون دخول الجنة, وقال مجاهد وسعيد بن جبير "فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها" ثم قرأ "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف, حدثنا ابن عوف عن محمد بن قيس بن عباد, قال: كنت في المسجد, فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع, فصلى ركعتين أوجز فيهما, فقال القوم: هذا رجل من أهل الجنة, فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله, فدخلت معه فحدثته, فلما استأنس, قلت له: إن القوم لما دخلت المسجد, قالوا: كذا وكذا, قال: سبحان الله, ما ينبغي لأحد أن يقول مالا يعلم, وسأحدثك لم, إني رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, قصصتها عليه, رأيت كأني في روضة خضراء. قال ابن عون فذكر من خضرتها وسعتها ـ وفي وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء, في أعلى عروة, فقيل لي اصعد عليه, فقلت: لا أستطيع, فجاءني منصف ـ قال ابن عون هو الوصيف ـ فرفع ثيابي من خلفي, فقال: اصعد, فصعدت حتى أخذت بالعروة, فقال: استمسك بالعروة, فاستيقظت وإنها لفي يدي, فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقصصتها عليه فقال "أما الروضة, فروضة الإسلام, وأما العمود فعمود الإسلام, وأما العروة فهي العروة الوثقى, أنت على الإسلام حتى تموت" قال: وهو عبد الله بن سلام. أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الله بن عون, فقمت إليه. وأخرجه البخاري من وجه آخر, عن محمد بن سيرين به.
(طريق أخرى وسياق آخر) قال الإمام أحمد: أنبأنا حسن بن موسى وعثمان, قالا: أنبأنا حماد بن سلمة, عن عاصم بن بهدلة, عن المسيب بن رافع, عن خرشة بن الحر, قال قدمت المدينة فجلست إلى مشيخة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم, فجاء شيخ يتوكأ على عصاً له, فقال القوم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة, فلينظر إلى هذا. فقام خلف سارية فصلى ركعتين, فقلت له: قال بعض القوم: كذا وكذا, فقال: الجنة لله, يدخلها من يشاء, وإني رأيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا: كأن رجلاً أتاني فقال: انطلق, فذهبت معه فسلك بي منهجاً عظيماً, فعرضت لي طريق عن يساري, فأردت أن أسلكها, فقال: إنك لست من أهلها, ثم عرضت لي طريق عن يميني, فسلكتها حتى انتهيت إلى جبل زلق, فأخذ بيدي فزجل بي حتى أخذت بالعروة, فقال: استمسك, فقلت: نعم, فضرب العمود برجله, فاستمسك بالعروة, فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "رأيت خيراً, أما المنهج العظيم فالمحشر, وأما الطريق التي عرضت عن يسارك فطريق أهل النار, ولست من أهلها, وأما الطريق التي عرضت عن يمينك فطريق أهل الجنة, وأما الجبل الزلق فمنزل الشهداء, وأما العروة التي استمسكت بها فعروة الإسلام, فاستمسك بها حتى تموت" قال: فإنما أرجو أن أكون من أهل الجنة, قال: وإذا هو عبد الله بن سلام, وهكذا رواه النسائي عن أحمد بن سليمان عن عفان, وابن ماجه عن أبي شيبة عن الحسن بن موسى الأشيب, كلاهما عن حماد بن سلمة به نحوه, وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش, عن سليمان بن مسهر, عن خرشة بن الحر الفزاري به.
قد اختلف أهل العلم في قوله: 256- "لا إكراه في الدين" على أقوال: الأول إنها منسوخة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام، والناسخ لها قوله تعالى: "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين" وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين" وقال: " ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون "، وقد ذهب إلى هذا كثير من المفسرين. القول الثاني أنها ليست بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة، وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، بل الذين يكرهون هم أهل الأوثان، فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وإلى هذا ذهب الشعبي والحسن وقتادة والضحاك. القول الثالث: أن هذه الآية في الأنصار خاصة، وسيأتي بيان ما ورد في ذلك. القول الرابع: أن معناها لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف إنه مكره فلا إكراه في الدين. القول الخامس: أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا على الإسلام. وقال ابن كثير في تفسيره: أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا تحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً، وهذا يصلح أن يكون قولاً سادساً. وقال في الكشاف في تفسيره هذه الآية: أي لم يجبر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر، ولكن على التمكين والاختيار، ونحوه قوله: "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" أي: لو شاء لقسرهم على الإيمان، ولكن لم يفعل، وبني الأمر على الاختيار، وهذا يصلح أن يكون قولاً سابعاً. والذي ينبغي اعتماده ويتعين الوقوف عنده: أنها في السبب الذي نزلت لأجله محكمة غير منسوخة، وهو أن المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت يهود بني نضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا فنزلت، أخرجه أبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه والبيهقي في السنن والضياء في المختارة عن ابن عباس. وقد وردت هذه القصة من وجوه، حاصلها ما ذكره ابن عباس مع زيادات تتضمن أن الأنصار قالوا: إنما جعلناهم على دينهم: أي دين اليهود، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا، وأن الله جاء بالإسلام فلنكرهنهم، فلما نزلت خير الأبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكرههم على الإسلام. وهذا يقتضي أن أهل الكتاب لا يكرهون على الإسلام إذا اختاروا البقاء على دينهم وأدوا الجزية. وأما أهل الحرب فالآية وإن كانت تعمهم، لأن النكرة في سياق النفي وتريف الدين يفيدان ذلك، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لكن قد خص هذا العموم بما ورد من آيات في إكراه أهل الحرب من الكفار على الإسلام. قوله: "قد تبين الرشد من الغي" الرشد هنا الإيمان، والغي الكفر: أي قد تميز أحدهما على الآخر. وهذا استئناف يتضمن التعليل لما قبله. والطاغوت فعلوت من طغى يطغي ويطغو: إذا جاوز الحد. قال سيبويه: هو اسم مذكر مفرد: أي اسم جنس يشمل القليل والكثير، وقال أبو على الفارسي: إنه مصدر كرهبوت وجبروت يوصف به الواحد والجمع، وقلبت لامه إلى موضع العين وعينه إلى موضع اللام كجبذ وجذب، ثم تقلب الواو ألفاً لتحركها وتحرك ما قبلها، فقيل: طاغوت، واختار هذا القول النحاس، وقيل: أصل الطاغوت في اللغة مأخوذ من الطغيان يؤدي معناه من غير اشتقاق، كما قيل: لآلئ من اللؤلؤ. وقال المبرد: هو جمع. قال ابن عطية: وذلك مردود. قال الجوهري: والطاغوت: الكاهن والشيطان وكل رأس في الضلال، وقد يكون واحداً. قال الله تعالى :"يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به" وقد يكون جمعاً. قال الله تعالى: "أولياؤهم الطاغوت" والجمع طواغيت: أي فمن يكفر بالشيطان أو الأصنام أو أهل الكهانة ورؤوس الضلالة أو بالجميع "ويؤمن بالله" عز وجل بعد ما تميز له الرشد من الغي فقد فاز وتمسك بالحبل الوثيق: أي المحكم. والوثقى فعلى من الوثاقة وجمعها وثق مثل الفضلى والفضل. وقد اختلف المفسرون في تفسير العروة الوثقى بعد اتفاقهم على أن ذلك من باب التشبيه والتمثيل لما هو معلوم بالدليل بما هو مدرك بالحاسة، فقيل: المراد بالعروة الإيمان، وقيل: الإسلام، وقيل: لا إله إلا الله، ولا مانع من الحمل على الجميع. والانفصام: الانكسار من غير بينونة. قال الجوهري: فصم الشيء كسره من غير أن يبين. وأما القصم بالقاف فهو الكسر مع البينونة، وفسر صاحب الكشاف الانفصام بالانقطاع.
256. قوله تعالى: " لا إكراه في الدين " قال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة - (المقلاة من النساء) لا يعيش لها ولد - وكانت تنذر لئن عاش لها ولد لتهودنه فإذا عاش ولدها جعلته في اليهود، فجاء الإسلام وفيهم منهم فلما أجلبت بنو النضير كان فيهم عدد من أولاد الأنصار فأرادت الأنصار استردادهم وقالوا: هم أبناؤنا وإخوانن فنزلت هذه الآية " لا إكراه في الدين " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خيروا أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم وإن اختاروهم فأجلوهم معهم ".
وقال مجاهد : كان ناس مسترضعين في اليهود من الأوس فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلاء بني النضير قال الذين كانوا مسترضعين فيهم: لنذهبن معهم ولندينن بدينهم، فمنهم أهلوهم، فنزلت " لا إكراه في الدين ".
وقال مسروق : كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان فتنصرا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الطعام فلزمهما أبوهما وقال: لا أدعكما حتى تسلما، فتخاصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر فأنزل الله تعالى " لا إكراه في الدين " فخلى سبيلهما.
وقال قتادة و عطاء : نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا الجزية، وذلك أن العرب كانت أمة أمية لم يكن لهم كتاب فلم يقبل منهم إلا الإسلام، فلما أسلموا طوعاً أو كرهاً أنزل الله تعالى: " لا إكراه في الدين " فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا أو يقروا بالجزية فمن أعطى منهم الجزية لم يكره على الإسلام، وقيل كان هذا في الابتداء قبل أن يؤمر بالقتال فصارت منسوخة بآية السيف، وهو قول ابن مسعود رضي الله عنهما، " قد تبين الرشد من الغي " أي الإيمان من الكفر والحق من الباطل " فمن يكفر بالطاغوت " يعني الشيطان، وقيل: كل ما عبد من دون الله تعالى فهو طاغوت، وقيل كل ما يطغي الإنسان، فاعول من الطغيان، زيدت التاء فيه بدلاً من لام الفعل، كقولهم حانوت وتابوت، فالتاء فيها مبدلة من هاء التأنيث " ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى " أي تمسك واعتصم بالعقد الوثيق المحكم في الدين، والوثقى تأنيث الأوثق وقيل العروة الوثقى السبب الذي يوصل إلى رضا الله تعالى: " لا انفصام لها " لا انقطاع لها " والله سميع " قيل: لدعائك إياهم إلى الإسلام " عليم " بحرصك على إيمانهم.
256-" لا إكراه في الدين " إذ الإكراه إلزام الغير فعلاً لا يرى فيه خيراً يحمله عليه ، ولكن " قد تبين الرشد من الغي " تميز الإيمان من الكفر بالآيات الواضحة ، ودلت الدلائل على أن الإيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية والكفر غي يؤدي إلى الشقاوة السرمدية ، والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسه إلى الإيمان طلباً للفوز بالسعادة والنجاة ، ولم يحتج إلى الإكراه والإلجاء . وقبل إخبار في معنى النهي ، أي لا تكرهوا في الدين ، وهو إما عام منسوخ بقوله ، " جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم " ، أو خاص بأهل الكتاب لما روي ( أن أنصارياً كان له ابنان تنصرا قبل المبعث ، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما فأبيا ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : الأنصاري يا رسول الله أيدخل بعقبي النار وأنا أنظر إليه فنزلت فخلاهما ) . " فمن يكفر بالطاغوت " بالشيطان ، أو الأصنام ، أو كل ما عبد من دون الله ، أو صد عن عبادة الله تعالى . فعلوت من الطغيان قلبت عينه ولامه . " ويؤمن بالله " بالتوحيد وتصديق الرسل . " فقد استمسك بالعروة الوثقى " طلب الإمساك عن نفسه بالعروة الوثقى من الحبل الوثيق ، وهي مستعارة لمتمسك الحق من النظر الصحيح والرأي القويم . " لا انفصام لها " لا انقطاع لها يقال فصمته فانفصم إذا كسرته . " والله سميع " بالأقوال " عليم " بالنيات ، ولعله تعديد على النفاق .
256. There is no compulsion in religion. The right direction is henceforth distinct from error. And he who rejecteth false deities and believeth in Allah hath grasped a firm hand hold which will never break. Allah is Hearer, Knower.
256 - Let there be no compulsion in religion: truth stands out clear from error: whoever rejects evil and believes in God hath grasped the most trustworthy hand hold, never breaks. and God heareth and knoweth all things.