[البقرة : 246] أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
(ألم تر إلى الملأ) الجماعة (من بني إسرائيل من بعد) موت (موسى) أي إلى قصتهم وخبرهم (إذ قالوا لنبي لهم) هو شمويل (ابعث) أقم (لنا ملِكا نقاتل) معه (في سبيل الله) تنتظم به كلمتنا ونرجع إليه (قال) النبي لهم (هل عسيتم) بالفتح والكسر (إن كتب عليكم القتال أ) ن (لا تقاتلوا) خبر عسى والاستفهام لتقرير التوقيع بها (قالوا وما لنا أ) ن (لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا) بسببهم وقتلهم وقد فعل بهم ذلك قوم جالوت أي لا مانع منه مع وجود مقتضيه ، قال تعالى: (فلما كتب عليهم القتال تولوا) عنه وجبنوا (إلا قليلا منهم) وهم الذين عبروا النهر مع طالوت كما سيأتي (والله عليم بالظالمين) فمجازيهم وسأل النبيُّ إرسالَ ملكٍ فأجابه إلى إرسال طالوت
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "ألم تر"، ألم تر، يا محمد، بقلبك، فتعلم بخبري إياك، يا محمد، "إلى الملإ"، يعني: إلى وجوه بني إسرائيل وأشرافهم ورؤسائهم، "من بعد موسى"، يقول: من بعد ما قبض موسى فمات، "إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله"، فذكر لي أن النبي الذي قال لهم ذلك شمويل بن بالي بن علقمة بن يرحام بن إليهوبن تهوبن صوف بن علقمة بن ماحث بن عموصا بن عزريا بن صفنية بن علقمة بن أبي ياسف بن قارون بن يصهربن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن وهب بن منبه.حدثني أيضا المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: هو شمويل، هو شمويل- ولم ينسبه كما نسبه ابن إسحاق.وقال السدي: بل اسمه شمعون. وقال: إنما سمي شمعون ، لأن أمه دعت الله أن يرزقها غلاما، فاستجاب اللة لها دعاءها، فرزقها، فولدت غلاما فسمته شمعون ، تقول: الله تعالى سمع دعائي.حدثني بذلك موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي. فكأن شمعون فعلون عند السدي، من قولها: إنه سمع الله دعاءها. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: "ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم"، قال: شمؤل.
وقال آخرون: بل الذي سأله قومه من بني إسرائيل أن يبعث لهم ملكا يقاتلون في سبيل الله، يوشع بن نون بن أفرائيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.حدثني بذلك الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "وقال لهم نبيهم"، قال: كان نبيهم الذي بعد موسى يوشع بن نون، قال: وهو أحد الرجلين اللذين أنعم الله عليهما. وأما قوله: "ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله"، فاختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله سأل الملأ من بني إسرائيل نبيهم ذلك فقال بعضهم: كان سبب مسألتهم إياه، ما:- حدثنا به محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبه قال: خلف بعد موسى في بني إسرائيل يوشع بن نون، يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتى قبضه الله. ثم خلف فيهم كالب بن يوفنا يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتى قبضه الله تعالى. ثم خلف فيهم حزقيل بن بوزي، وهو ابن العجوز. ثم إن الله قبض حزقيل، وعظمت في بني إسرائيل الأحداث، ونسوا ما كان من عهد الله إليهم، حتى نصبوا الأوثان وعبدوهدا من دون الله. فبعث الله إليهم إلياس بن نسي بن فنحاص بن العيزاربن هارون بن عمران نبيا. وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى، ييعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة. وكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل يقال له أحاب، وكان يسمع منه ويصدقه. فكان إلياس يقيم له أمره. وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه من دون الله، فجعل إلياس يدعوهم إلى الله، وجعلوا لا يسمعون منه شيئا، إلا ما كان من ذلك الملك. والملوك متفرقة بالشام، كل ملك له ناحية منها يأكلها. فقال ذلك الملك- الذي كان إلياس معه يقوم له أمره، ويراه على هدى من بين أصحابه- يوما: يا إلياس، والله ما أرى ما تدعو إليه الناس إلا باطلا! والله ما أرى فلانا وفلانا- وعدد ملوكا من ملوك بني إسرائيل- قد عبدوا الأوثان من دون الله، إلا على مثل ما نحن عليه، يأكلون ويشربون ويتنعمون مملكين، ما ينقص من دنياهم أمرهم الذي تزعم أنه باطل، وما نرى لنا عليهم من فضل. فيزعمون- والله أعلم- أن إلياس استرجع وقام شعر رأسه وجلده، ثم رفضه وخرج عنه. ففعل ذلك الملك فعل أصحابه، عبد الأوثان وصنع ما يصنعون. ثم خلف من بعده فيهم اليسع، فكان فيهم ما شاء الله أن يكون، ثم قبضه الله إليه. وخلفت فيهم الخلوف، وعظمت فيهم الخطايا، وعندهم التابوت يتوارثونه كابرا عن كابر، فيه السكينة وبقية مما ترك آل موسى وال هارون. فكانوا لا يلقاهم عدو فيقدمون التابوت ويزحفون به معهم، إلا هزم الله ذلك العدو. ثم خلف فيهم ملك يقال له إيلاء، وكان الله قد بارك لهم في جبلهم من إيليا، لا يدخله عليهم عدو، ولا يحتاجون معه إلى غيره. وكان أحدهم- فيما يذكرون- يجمع التراب على الصخرة، ثم ينبذ فيه الحب فيخرج الله له ما يأكل سنته هو وعياله. ويكون لأحدهم الزيتونة، فيعتصر منها ما يأكل هو وعياله سنته. فلما عظمت أحداثهم، وتركوا عهد الله إليهم، نزل بهم عدو فخرجوا إليه، وأخرجوا معهم التابوت كما كانوا يخرجونه، ثم زحفوا به، فقوتلوا حتى استلب من بين أيديهم. فأتى ملكهم إيلاء فأخبر أن التابوت قد أخذ واستلب، فمالت عنقه، فمات كمدا عليه. فمرج أمرهم عليهم، ووطئهم عدوهم، حتى أصيب من أبنائهم ونسائهم. وفيهم نبي لهم قد كان الله بعثه إليهم، فكانوا لا يقبلون منه شيئا، يقال له شمويل ، وهو الذي ذكر الله لنبيه محمد: "ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " إلى قوله "وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"، يقول الله: "فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم" إلى قوله: "إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ". قال ابن إسحاق: فكان من حديثهم فيما حدثني به بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه: أنه لما نزل بهم البلاء ووطئت بلادهم، كلموا نبيهم شمويل بن بالي فقالوا: "ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله". وإنما كان قوام بني إسرائيل الاجتماع على الملوك، وطاعة الملوك أنبياءهم. وكان الملك هو يسير بالجموع، والنبي يقوم له أمره ويأتيه بالخبر من ربه. فإذا فعلوا ذلك صلح أمرهم، فإذا عتت ملوكهم وتركوا أمر أنبيائهم فسد أمرهم. فعانت الملوك إذا تابعتها الجماعة على الضلالة تركوا أمر الرسل، ففريقا يكذبون فلا يقبلون منه شيئا، وفريقا يقتلون. فلم يزل ذلك البلاء بهم حتى قالوا له: "ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله". فقال لهم: إنه لشى عندكم وفاء ولا صدق ولا رغبة في الجهاد. فقالوا: إنما كنا نهاب الجهاد ونزهد فيه، أنا كنا ممنوعين في بلادنا لا يطؤها أحد، فلا يظهر علينا فيها عدو، فأما إذ بلغ ذلك، فإنه لا بد من الجهاد، فنطيع ربنا في جهاد عدونا، ونمنع أبناءنا ونساءنا وذرارينا.حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل" إلى "والله عليم بالظالمين"، قال الربيع: ذكر لنا- والله أعلم- أن موسى لما حضرته الوفاة، استخلف فتاه يوشع بن نوط على بني إسرائيل، وأن يوشع بن نون سار فيهم بكتاب الله التوراة وسنة نبيه موسى. ثم إن يوشع بن نون توفي، واستخلف فيهم آخر، فسار فيهم بكتاب الله وسنة نبيه موسى صلى الله عليه وسلم. ثم استخلف آخر فسار فيهم بسيرة صاحبيه. ثم استخلف آخر فعرفوا وأنكروا. ثم استخلف آخر، فأنكروا عامة أمره. ثم استخلف آخر فأنكروا أمره كله. ثم إن بني إسرائيل أتوا نبيا من أنبيائهم حين أوذوا في أنفسهم وأموالهم، فقالوا له: سل ربك أن يكتب علينا القتال! فقال لهم ذلك النبي: " هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا "، إلى قوله: "والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم".حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله: "ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا"، قال قال ابن عباس: هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم.حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا"، قال: هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان.وقال آخرون: كان سبب مسئلتهم نبيهم ذلك، ما:-حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله"، قال: كانت بنو إسرائيل يقاتلون العمالقة، وكان ملك العمالقة جالوت، وأنهم ظهروا على بني إسرائيل فضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم. وكانت بنو إسرائيل يسألون الله أن يبعث لهم نبيا يقاتلون معه. وكان سبط النبوة قد هلكوا، فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى، فأخذوها فحبسوها في بيت، رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام، لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها. فجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاما، فولدت غلاما سمته شمعون. فكبر الغلام، فأسلمته يتعلم التوراة في بيت المقدس، وكفله شيخ في علمائهم وتبناه. فلما بلغ الغلام أن يبعثه الله نبيا، أتاه جبريل والغلام نائم الى جنب الشيخ، وكان لا يتمن (1) عليه أحدا غيره، فدعاه بلحن الشيخ: يا شماول! ، فقام الغلام فزعا إلى الشيخ، فقال: يا أبتاه، دعوتني؟ فكره الشيخ أن يقول: لا فيفزع الغلام، فقال: يا بني ارجع فنم! فرجع فنام. ثم دعاه الثانية، فأتاه الغلام أيضا فقال: دعوتني؟ فقال: ارجع فنم، فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني! فلما كانت الثالثة، ظهر له جبريل فقال: اذهب إلى قومك فبفغهم رسالة ربك، فإن الله قد بعثك فيهم نبيا. فلما أتاهم كذبوه وقالوا: استعجلت بالنبوة ولم تئن لك! وقالوا: إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، اية من نبوتك! فقال لهم شمعون: عسى إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا.قال أبو جعفر: وغير جائز في قول الله تعالى ذكره: "نقاتل في سبيل الله" إذا قرىء بالنون غير الجزم، على معنى المجازاة وشرط الأمر. فإن ظن ظان أن الرفع فيه جائز وقد قرىء بالنون، بمعنى: الذي نقاتل به في سبيل الله، فإن ذلك غير جائز. لأن العرب لا تضمر حرفين. ولكن لو كان قرىء ذلك بالياء لجاز رفعه، لأنه يكون لو قرىء كذلك صلة لـالملك ، فيصير تأويل الكلام حينئذ: ابعث لنا الذي يقاتل في سبيل الله، كما قال تعالى ذكره: "وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك"، [البقرة: 129]، لأن قوله: يتلو من صلة الرسول.قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: قال النبي الذي سألوه أن يبعث لهم ملكا يقاتلوا في سبيل الله: "هل عسيتم"، هل تعدون "إن كتب"، يعني: إن فرض عليكم القتال، " أن لا تقاتلوا "، يعني: أن لا تفوا بما تعدون الله من أنفسكم، من الجهاد في سبيله، فإنكم أهل نكث وغدر وقلة وفاء بما تعدون؟ " قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله "، يعنى: قال الملأ من بني إسرائيل لنبيهم ذلك: وأي شيء يمنعنا أن لا نقاتل في سبيل الله عدونا وعدو الله، "وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"، بالقهر والغلبة؟. فإن قال قائل: ما وجه دخول أن فى قوله: " وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله "، وحذفه من قوله:"وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم" [الحديد: 8].قيل: هما لغتان فصيحتان للعرب: تحذف أن مرة مع قولها: مالك ، فتقول: مالك لا تفعل كذا، بمعنى: مالك غير فاعله، كما قال الشاعر:
مالك ترغين ولا ترغو الخلف
وذلك هو الكلام الذي لا حاجة بالمتكلم به إلى الاستشهاد على صحته، لفشو ذلك على ألسن العرب.وتثبت أن فيه أخرى، توجيها لقولها: مالك إلى معناه، إذ كان معناه: ما منعك؟ كما قال تعالى ذكره: " ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك " [الأعراف: 12]، ثم قال في سورة أخرى في نظيره: " ما لك أن لا تكون مع الساجدين" [الحجر: 32]، فوضعع ما منعك موضع مالك ، ومالك موضع ما منعك ، لاتفاق معنييهما، وإن اختلفت ألفاظهما، كما تفعل العرب ذلك في نظائره مما تتفق معانيه وتختلف ألفاظه، كما قال الشاعر:
يقول إذا اقلولى عليها وأقردت: ألا هل أخو عشر لذيذ بدائم؟
فأدخل في دائم الباء مع هل ، وهي استفهام. وإنما تدخل في خبر ما التي في معنى الجحد، لتقارب معنى الاستفهام والجحد.وكان بعض أهل العربية يقول: أدخلت أن، في " أن لا تقاتلوا "، لأنه بمعنى قول القائل: مالك في ألا تقاتل. ولو كان ذلك جائزا، لجاز أن يقال: مالك !حدثنا قمت، ومالك أنك قائم ، وذلك غير جائز. لأن المنع إنما يكون للمستقبل من الأفعال، كما يقال: منعتك أن تقوم ولا يقال: منعتك أن قمت ، فلذلك قيل في مالك : مالك ألا تقوم ولم يقل: مالك أن قمت .وقال آخرون منهم: أن ههنا زائدة بعد ما لنا، كما تزاد لما و لو، وهي تزاد في هذا المعنى كثيرا. قال : ومعناه: وما لنا لا نقاتل في سبيل الله؟ فأعمل أن وهي زائدة، وقال الفرزدق:
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها إذن للام ذوو أحسابها عمرا
والمعنى: لو لم تكن غطفان لها ذنوب، ولا زائدة فأعملها.
وأنكر ما قال هذا القائل من قوله الذي حكينا عنه، آخرون. وقالوا: غير جائز أن تجعل أن زائدة في الكلام وهو صحيح في المعنى وبالكلام إليه الحاجة. قالوا: والمعنى: ما يمنعنا ألا نقاتل- فلا وجه لدعوى مدع أن أن زائدة، معنى مفهوم صحيح. قالوا وأما قوله:
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها
فإن لا غير زائدة في هذا الموضع، لأنه جحد، والجحد إذا جحد صار إثباتا. قالوا: فقوله: لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها، إثبات الذنوب لها، كما يقال: ما أخوك ليس يقوم ، بمعنى: هو يقوم. وقال اخرون: معنى قوله: " ما لنا أن لا نقاتل ": ما لنا ولأن لا نقاتل، ثم حذفت الواو فتركت، كما يقال في الكلام: مالك ولأن تذهب إلى فلان ، فألقي منها الواو، لأن أن حرف غير متمكن في الأسماء. وقالوا: نجيز أن يقال: مالك أن تقوم ، ولا نجيز: مالك القيام ، لأن القيام اسم صحيح وأن اسم غير صحيح. وقالوا: قد تقول العرب: إياك أن تتكلم ، بمعنى: إياك وأن تتكلم.وأنكر ذلك من قولهم آخرون وقالوا: لو جاز أن يقال ذلك على التأويل الذي تأوله قائل من حكينا قوله، لوجب أن يكون جائزا: ضربتك بالجارية وأنت كفيل ، بمعنى: وأنت كفيل بالجارية، وأن تقول: رأيتك إيانا وتريد، بمعنى: رأيتك وإيانا تريد. لأن العرب تقول: إياك بالباطل تنطق ، قالوا: فلو كانت الواو مضمرة في أن ، لجاز جميع ما ذكرنا، ولكن ذلك غير جائز، لأن ما بعد الواو من الأفاعيل غير جائز له أن يقع على ما قبلها، واستشهدوا على فساد قول من زعم أن الواو مضمرة مع أن بقول الشاعر:
فبح بالسرائر في أهلها وإياك في غيرهم أن تبوحا
وأن أن تبوحا، لو كان فيها واو مضمرة، لم يجز تقديم في غيرهم عليها. وأما تأويل قوله: "وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"، فإنه يعني: وقد أخرج من غلب عليه من رجالنا ونسائنا من ديارهم وأولادهم، ومن سبي. وهذا الكلام ظاهره العموم وباطنه الخصوص، لأن الذين قالوا لنبيهم: "ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله"، كانوا في ديارهم وأوطانهم، وإنما كان أخرج من داره وولده من أسر وقهر منهم. وأما قوله: "فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم"، يقول: فلما فرض عليهم قتال عدوهم والجهاد في سبيله، "تولوا إلا قليلا منهم"، يقول: أدبروا مولين عن القتال، وضيعوا ما سألوه نبيهم من فرض الجهاد. والقليل الذين استثناهم الله منهم، هم الذين عبروا النهر مع طالوت. وسنذكر سبب تولي من تولى
منهم، وعبور من عبر منهم النهر بعد إن شاء الله، إذا أتينا عليه. يقول الله تعالى ذكره: "والله عليم بالظالمين"، يعني: والله ذو علم بمن ظلم منهم نفسه، فأخلف الله ما وعده من نفسه، وخالف أمر ربه فيما سأله ابتداء أن يوجبه عليه. وهذا من الله تعالى ذكره تقريع لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، في تكذيبهم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، ومخالفتهم أمر ربهم. يقول الله تعالى ذكره لهم: إنكم، يا معشر اليهود، عصيتم الله وخالفتم أمره فيما سألتموه أن يفرضه عليكم ابتداء، من غير أن يبتدئكم ربكم بفرض ما عصيتموه فيه، فأنتم بمعصيته- فيما ابتدأكم به من إلزام فرضه- أحرى.وفي هذا الكلام متروك قد استغني بذكر ما ذكر عما ترك منه. وذلك أن معنى الكلام: قالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا، فسأل نبيهم ربهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله، فبعث لهم ملكا، وكتب عليهم القتال، "فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين".
ذكر في التحريض على القتال قصة أخرى جرت في بني إسرائيل ، والملأ الأشراف من الناس ، كأنهم ممتلئون شوفاً ، وقال الزجاج : سموا بذلك لأنهم ممتلئون مما يحتاجون إليه منهم ، والملأ في هذه الآية القوم ، لأن المعنى يقتضيه ، والملأ : اسم للجمع كالقوم والرهط ، والملأ أيضاً ، حسن الخلق ، ومنه الحديث :
" أحسنوا الملأ فكلكم سيروى " خرجه مسلم .
قوله تعالى : " من بعد موسى " أي بعد وفاته : " إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا " قيل : هو شمويل بن بال بن علقمة ويعرف بابن العجوز ، ويقال فيه : شمعون ، قاله السدي ، وإنما قيل : ابن العجوز لأن أمه كانت عجوزاً فسألت الله الولد وقد كبرت وعقمت فوهبه الله تعالى لها ، ويقال له : سمعون لأنها دعت الله أن يرزقها الولد فسمع دعاءها فولدت غلاماً فسمته (( سمعون )) ، تقول : سمع الله دعائي ، والسين تصير شيئاً بلغة العبرانية ، وهو من ولد يعقوب ، وقال مقاتل : هو من نسل هارون عليه السلام ، وقال قتادة هو يوشع بن نون ، ، قال ابن عطية : وهذا ضعيف لأن مدة داود هي من بعد موسى بقرون من الناس ، ويوشع هو فتى موسى ، وذكر المحاسبي أن اسمه إسماعيل ، والله أعلم ، وهذه الآية هي خبر عن قوم من بني إسرائيل نالتهم ذلة وغلبة عدو فطلبوا الإذن في الجهاد وأن يؤمروا به ، فلما أمروا كع أكثرهم وصبر الأقل فنصرهم الله ، وفي الخير أن هؤلاء المذكورين هم الذين أميتوا ثم أحيوا ، والله أعلم .
قوله تعالى : " نقاتل " بالنون والجزم وقراءة جمهور القراء على جواب الأمر ، وقرأ الضحاك و ابن أبي عبلة بالياء ورفع الفعل ، فهو في موضع الصفة للملك .
قوله تعالى : " قال هل عسيتم " و (( عسيتم )) بالفتح والكسر لغتان ، وبالثانية قرأ نافع ، والباقون بالأولى وهي الأشهر ، قال أبو حاتم : وليس للكسر وجه ، وبه قرأ الحسن و طلحة ، قال مكي في اسم الفاعل ، عس فهذا يدل على كسر السين في الماضي والفتح في السين في اللغة الفاشية ، قال أبو علي ، ووجه الكسر قول العرب : هو عس بذلك ، مثل حر وشج ، وقد جاء فعل وفعل في نحو نعم ونعم ، وكذلك عسيت وعسيت ، فإن أسند الفعل إلى ظاهر فقياس عسيتم أن يقال : عسي زيد ، مثل رضي زيد ، فإن قيل فهو القياس ، وإن لم يقل ، فسائغ أن يؤخذ باللغتين فتستعمل إحداهما موضع الأخرى ، ومعنى هذه المقالة : هل أنتم قريب من التولي والفرار ؟ " إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا " قال الزجاج : (( ألا تقاتلوا )) في موضع نصب ، أي هل عسيتم مقاتلة ، " قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله " قال الأخفش : (( أن )) زائدة ، وقال الفراء ،هو محمول على المعنى ، أي وما منعنا ، كما تقول : مالك ألا تصلي ؟ أي ما منعك ، وقيل : المعنى وأي شيء لنا في ألا نقاتل في سبيل الله ! قال النحاس : وهذا أجودها ، (( وأن )) في موضع نصب ، " وقد أخرجنا من ديارنا " تعليل ، وكذلك " وأبنائنا " أي بسبب ذرارينا .
قوله تعالى : " فلما كتب عليهم " أي فرض عليهم " القتال تولوا " أخبر تعالى أنه لما فرض عليهم القتال ورأوا الحقيقة ، ورجعت أفكارهم إلى مباشرة الحرب وأن نفوسهم ربما قد تذهب (( تولوا )) أي اضطربت نياتهم وفترت عزائمهم ، وهذا شأن الأمم المتنعمة المائلة إلى الدعة تتمنى الحرب أوقات الأنفة فإذا حضرت الحرب كعت وانقادت لطبعها ، وعن هذا المعنى " نهى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا " ، رواه الأئمة ، ثم أخبر الله تعالى عن قليل منهم أنهم ثبتوا على النية الأولى واستمرت عزيمتهم على القتال في سبيل الله تعالى .
قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: هذا النبي هو يوشع بن نون قال ابن جرير: يعني ابن أفرايم بن يوسف بن يعقوب, وهذا القول بعيد لأن هذا كان بعد موسى بدهر طويل, وكان ذلك في زمان داود عليه السلام, كما هو مصرح به في القصة, وقد كان بين داود وموسى ما ينيف عن ألف سنة, والله أعلم وقال السدي: هو شمعون. وقال مجاهد: هو شمويل عليه السلام, وكذا قال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه: وهو شمريل بن بالي بن علقمة بن ترخام بن اليهد بن بهرض بن علقمة بن ماجب بن عموصا بن عزريا بن صفية بن علقمة بن أبي ياشف بن قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام. وقال وهب بن منبه وغيره: كان بنو إسرائيل بعد موسى عليه السلام على طريق الاستقامة مدة من الزمان, ثم أحدثوا الأحداث, وعبد بعضهم الأصنام, ولم يزل بين أظهرهم من الأنبياء من يأمرهم بالمعروف, وينهاهم عن المنكر, ويقيمهم على منهج التوراة, إلى أن فعلوا ما فعلوا, فسلط الله عليهم أعداءهم, فقتلوا منهم مقتلة عظيمة, وأسروا خلقاً كثيراً, وأخذوا منهم بلاداً كثيرة, ولم يكن أحد يقاتلهم إلا غلبوه, وذلك أنهم كان عندهم التوراة, والتابوت الذي كان في قديم الزمان, وكان ذلك موروثاً لخلفهم عن سلفهم إلى موسى الكليم عليه الصلاة والسلام, فلم يزل بهم تماديهم على الضلال حتى استلبه منهم بعض الملوك في بعض الحروب, وأخذوا التوراة من أيديهم, ولم يبق من يحفظها فيهم إلا القليل, وانقطعت النبوة من أسباطهم, ولم يبق من سبط لاوي الذي يكون فيه الأنبياء إلا امرأة حامل من بعلها وقد قتل, فأخذوها فحبسوها في بيت, واحتفظوا بها لعل الله يرزقها غلاماً يكون نبياً لهم, ولم تزل المرأة تدعو الله عز وجل أن يرزقها غلاماً, فسمع الله لها ووهبها غلاماً, فسمته شمويل, أي سمع الله دعائي, ومنهم من يقول: شمعون, وهو بمعناه, فشب ذلك الغلام, ونشأ فيهم, وأنبتها لله نباتاً حسناً, فلما بلغ سن الأنبياء أوحى الله إليه, وأمره بالدعوة إليه وتوحيده, فدعا بني إسرائيل, فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكاً يقاتلون معه أعداءهم, وكان الملك أيضاً قد باد فيهم, فقال لهم النبي: فهل عسيتم إن أقام الله لكم ملكاً ألا تقاتلوا وتفوا بما التزمتم من القتال معه, " قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا " أي وقد أخذت منا البلاد وسبيت الأولاد, قال الله تعالى: "فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين" أي ما وفوا بما وعدوا بل نكل عن الجهاد أكثرهم, والله عليم بهم.
قوله: 246- " ألم تر إلى الملإ " الكلام فيه كالكلام في قوله: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم" وقد قدمناه، والملأ الأشراف من الناس كأنهما ملئوا شرفاً. وقال الزجاج: سموا بذلك لأنهم ملئون بما يحتاج إلأيه منهم، وهو اسم جمع كالقوم والرهط. ذكر الله سبحانه في التحريض على القتال قصة أخرة جرت في بني إسرائيل بعد القصة المتقدمة وقوله: "من بعد موسى" من ابتدائية وعاملها مقدر: أي كائنين من بعد موسى: أي بعد وفاته. وقوله: "لنبي لهم" قيل: هو شمويل بن يار بن علقمة ويعرف بابن العجوز، ويقال فيه شمعون، وهو من ولد يعقوب، وقيل: من نسل هارون، وقيل: هو يوشع بن نون، وهذا ضعيف جداً لأن يوشع هو فتى موسى، ولم يوجد إلا بعد ذلك بدهر طويل، وقيل اسمه إسماعيل. وقوله: "ابعث لنا ملكاً" أي أميراً نرجع إليه ونعمل على رأيه. وقوله: "نقاتل" بالنون والجزم على جواب الأمر، وبه قرأ الجمهور. وقرأ الضحاك وابن أبي عبلة بالياء ورفع الفعل على أنه صفة للملك. وقرئ بالنون والرفع على أنه حال أو كلام مستأنف. وقوله: "هل عسيتم" بالفتح للسين وبالكسر لغتان، وبالثانية قرأ نافع، وبالأولى قرأ الباقون. قال في الكشاف: وقراءة الكسر ضعيفة. وقال أبو حاتم: ليس للكسر وجه انتهى. وقال أبو علي: وجه الكسر قول العرب: هو عس بذلك، مثل حر وشج، وقد جاء فعل وفعل في نحو نقم ونقم، فكذلك عسيت وعسيت، وكذا قال مكي. وقد قرأ بالكسر أيضاً الحسن وطلحة فلا وجه لتضعيف ذلك، وهو من أفعال المقاربة: أي هل قاربتم أن لا تقاتلوا، وإدخال حرف الاستفهام على فعل المقاربة لتقرير ما هو متوقع عنده والإشعار بأنه كائن، وإدخال حرف الاستفهام على فعل المقاربة لتقرير ما هو متوقع عنده والإشعار بأنه كائن، وفصل بين عسى وخبرها بالشرط للدلالة على الاعتناء به. قال الزجاج: أن لا تقاتلوا في موضع نصب: أي هل عسيتم مقاتلة. قال الأخفش: أن في قوله: " وما لنا أن لا نقاتل " زائدة. وقال الفراء: هو محمول على المعنى: أي وما منعنا كما تقول ما لك ألا تصلي، وقيل المعنى: وأي شيء لنا في أن لا نقاتل. قال النحاس: وهذا أجودها. وقوله: "وقد أخرجنا" تعليل والجملة حالية، وإفراد الأولاد بالذكر لأنهم الذين وقع عليهم السبي، أو لأنهم بمكان فوق مكان سائر القرابة "فلما كتب" أي فرض، أخبر سبحانه أنهم تولوا لاضطراب نياتهم وفتور عزائمهم. واختلف في عدد القليل الذين استثناهم الله سبحانه، وهم الذين اكتفوا بالغرفة.
246. قوله تعالى: " ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل " والملأ من القوم: وجوههم وأشرافهم، وأصل الملأ الجماعة من الناس ولا واحد له من لفظه، كالقوم والرهط وافبل والخيل والجن وجمعه أملاء " من بعد موسى " أي من بعد موت موسى " إذ قالوا لنبي لهم " واختلفوا في ذلك النبي فقال قتادة هو يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف عليه السلام وقال السدي : اسمه شمعون، وإنما سمي شمعون، لأن أمة دعت الله أن يرزقها غلاماً فاستجاب الله دعاءها فولدت غلاماً فسمته سمعون تقول سمع الله تعالى دعائي والسين تصير شيئاً بالعبرانية، وهو شمعون بن صفية بن علقمة من ولد لاوي بن يعقوب، وقال سائر المفسرين: هو اشمويل وهو بالعبرانية اسماعيل بن يال بن علقمة، وقال مقاتل : هو من نسل هارون، وقال مجاهد : هو اشمويل وهو بالعبرانية اسماعيل بن يال بن علقمة.
وقال وهب و ابن إسحاق و الكلبي وغيرهم : كان سبب مسألتهم إياه ذلك لما مات موسى عليه السلام خلف بعده في بني إسرائيل يوشع بن نون، يقيم فيهم التوراة وأمر الله تعالى حتى قبضه الله تعالى، ثم خلف فيهم كالب كذلك حتى قبضه الله تعالى، ثم خلف حزقيل حتى قبضه الله، ثم عظمت الأحداث في بني اسرائيل ونسوا عهد الله حتى عبدوا الأوثان، فبعث الله إليهم إلياس نبياً فدعاهم إلى الله تعالى، وكانت الأنبياء من بني إسرائيل من بعد موسى يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة، ثم خلف من بعد إلياس اليسع فكان فيهم ما شاء الله ثم قبضه الله، وخلف فيهم الخلوف وعظمت الخطايا فظهر لهم عدو يقال له البلشاثا، وهم قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين وهم العمالقة فظهروا على بني إسرائيل وغلبوا على كثير من أرضهم وسبوا كثيراً من ذراريهم وأسروا من أبناء ملوكهم اربعين وأربعمائة غلاماً، فضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم، ولقي بنو إسرائيل منهم بلاء وشدة ولم يكن لهم نبي يدير أمرهم، وكان سبط النبوة قد هلكوا، فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى فحبسوها في بيت رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني اسرائيل في ولدها وجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاماً فولدت غلاماً، فسمته اشمويل تقول: سمع الله تعالى دعائي، فكبر الغلام فأسلمته ليتعلم التوراة في بيت المقدس فكفله شيخ من علمائهم وتبناه، فلما بلغ الغلام أتاه جبريل وهو نائم إلى جنب الشيخ وكان لا يأتمن عليه أحداً فدعاه جبريل بلحن الشيخ يا اشمويل، فقام الغلام فزعاً إلى الشيخ فقال: له يا أبتاه دعوتني؟ فكره الشيخ أن يقول لا فيفزع الغلام فقال يا بني ارجع فنم، فرجع الغلام فنام ثم دعاه الثانية فقال الغلام يا أبت دعوتني؟ فقال ارجع فنم فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني (فرجع الغلام فنام) فلما كانت الثالثة ظهر له جبريل فقال له: اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك، فإن الله عز وجل قد بعثك فيهم نبياً، فلما أتاهم كذبوه وقالوا: استعجلت بالنبوة ولم تنلك، وقالوا له: إن كنت صادقاً فابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، آية من نبوتك، وإنما كان قوام أمر بني اسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعة الملوك لأنبيائهم، فكان الملك هو الذي يسير بالجموع، والنبي يقيم له أمره ويشير عليه برشده ويأتيه بالخبر من ربه، قال وهب بن منبه : ببعث الله تعالىاشمويل نبياً فلبثوا أربعين سنة بأحسن حال، ثم كان من أمر جالوت والعمالقة ما كان فقالوا لاشمويل: " ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله " جزم على جواب الأمر فلما قالوا ذلك " قال هل عسيتم " استفهام شك.
قرأ نافع : عسيتم بكسر السين كل القرآن، وقرأ الباقون بالفتح وهي اللغة الفصيحة بدليل قوله تعالى: " عسى ربكم " " إن كتب " فرض " عليكم القتال " مع ذلك الملك " أن لا تقاتلوا " أن لاتفوا بما تقولوا معه " قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله " فإن قيل فما وجه دخول أن في هذا الموضع والعرب لا تقول مالك أن لا تفعل وإنما يقال مالك لا تفعل؟ قيل: دخول أن وحذفها لغتان صحيحتان فالإثبات كقوله تعالى: " ما لك أن لا تكون مع الساجدين " (32-الحجر) والحذف كقوله تعالى: " ما لكم لا تؤمنون بالله " (8-الحديد) وقال الكسائي : معناه وما لنا في أن لا نقاتل فحذف (( في )) وقال الفراء : أي وما يمنعنا أن لا نقاتل في سبيل الله كقوله تعالى: " ما منعك أن لا تسجد " (12-الأعراف) وقال الأخفش : ((أن)) هاهنا زائدة معناه: وما لنا لا نقاتل في سبيل الله " وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا " أي أخرج من غلب عليهم من ديارهم، ظاهر الكلام العموم وباطنه الخصوص، لأن الذين قالوا لنبيهم: ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله كانوا في ديارهم وأوطانهم وإنما أخرج من أسر منهم، ومعنى الآية أنهم قالوا مجيبين لنبيهم: إنما كنا نزهد في الجهاد إذ كنا ممنوعين في بلادنا لا يظهر علينا عدونا، فأما إذا بلغ ذلك منا فنطيع ربنا في الجهاد ونمنع نساءنا وأولادنا.
قال الله تعالى: " فلما كتب عليهم القتال تولوا " أعرضوا عن الجهاد وضيعوا أمر الله " إلا قليلاً منهم " وهم الذين عبروا النهر مع طالوت واقتصروا على الغرفة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، " والله عليم بالظالمين ".

246-" ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل " " الملأ " جماعة يجتمعون للتشاور ، ولا واحد له كالقوم ومن للتبعيض . " من بعد موسى " أي من بعد وفاته ومن للابتداء . " إذ قالوا لنبي لهم " هو يوشع ، أو شمعون ، أو شمويل عليهم السلام . " ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله " أقم لنا أميراً ننهض معه للقتال يدبر أمره ونصدر فيه عن رأيه ، وجزم نقاتل على الجواب . وقرئ بالرفع على أنه حال أي أبعثه لنا مقدرين القتال ،ويقاتل بالياء مجزوماً ومرفوعاً على الجواب والوصف لملكا . " قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا " فصل بين عسى وخبره بالشرط ، والمعنى أتوقع جبنكم عن القتال إن كتب عليكم ، فأدخل هل على فعل التوقع مستفهماً عما هو المتوقع عنده تقريراً وتثبيتاً . وقرأ نافع " عسيتم " السين . " قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا " أي غرض لنا في ترك القتال وقد عرض لنا ما يوجبه ويحث عليه من الإخراج عن الأوطان والإفراد عن الأولاد ، وذلك أن جالوت ومن معه من العمالقة كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين ، فظهروا على بني إسرائيل فأخذوا ديارهم وسبوا أولادهم وأسروا من أبناء الملوك أربعمائة وأربعين . " فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم " ثلاثمائة وثلاثة عشر بعدد أهل بدر " والله عليم بالظالمين " وعيد لهم على ظلمهم في ترك الجهاد .
246. Bethink thee of the leaders of the Children of Israel after Moses, how they said unto a Prophet whom they had: Set up for us a King and we will fight in Allah's way. He said: Would ye then refrain from fighting if fighting were prescribed for you? They said: Why should we not fight in Allah's way when we have been driven from our dwellings with our children? Yet, when fighting was prescribed for them, they turned away, all save a few of them. Allah is Aware of evil doers.
246 - Last thou not turned thy vision to the chiefs of the children of Israel after (the time of) Moses? they said to a prophet (that was) among them: appoint for us a king, that we may fight in the cause of God. he said: is it not possible, if ye were commanded to fight, that ye will not fight? they said: how could we refuse to fight in the cause of God, seeing that we were turned out of our homes and our families? but when they were commanded to fight; they turned back, except a small band among them. but God has full knowledge of those who do wrong.