[البقرة : 243] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ
(ألم تر) استفهام تعجب وتشويق إلى استماع ما بعده أي ينته علمك (إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف) أربعة أوثمانية أو عشرة أو ثلاثون أو أربعون أو سبعون ألفا (حذر الموت) مفعول له وهم قوم من بني إسرائيل وقع الطاعون ببلادهم ففروا (فقال لهم الله موتوا) فماتوا (ثم أحياهم) بعد ثمانية أيام أو أكثر بدعاء نبيهم حِزْقيل بكسر المهملة والقاف وسكون الزاي [وهو نبي الله ذي الكفل] فعاشوا دهرا عليهم أثر الموت لا يلبسون ثوبا إلا عاد كالكفن واستمرت في أسباطهم (إن الله لذو فضل على الناس) ومنه إحياء هؤلاء (ولكن أكثر الناس) وهم الكفار (لا يشكرون) والقصد من ذكر خبر هؤلاء تشجيع المؤمنين على القتال ولذا عطف عليه
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: "ألم تر"، ألم تعلم، يا محمد؟، وهو من رؤية القلب لارؤية العين ، لأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم لم يدرك الذين أخبر الله عنهم هذا الخبر، ورؤية القلب ما رآه، علمه به. فمعنى ذلك: ألم تعلم يا محمد، الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف؟. ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "وهم ألوف"فقال بعضهم: في العدد، بمعنى جماع ألف ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، وحدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا وكيع، قال، حدثنا سفيان، عن ميسرة النهدي، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"، قال: كانوا أربعة آلاف، خرجوا فرارا من الطاعون، قالوا: نأتي أرضا ليس فيها موت ! حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا، قال لهم الله: موتوا، فمر عليهم نبي من الأنبياء، فدعا ربه أن يحييهم، فأحياهم، فتلا هذه الآية: "إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون".حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن ميسرة النهدي، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"، قال: كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون، فأماتهم الله، فمر عليهم نبي من الأنبياء، فدعا ربه أن يحييهم حتى يعبدوه، فأحياهم. حدثنا محمد بن سهل بن عسكر قال، أخبرنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد: أنه سمع وهب بن منبه يقول: أصاب ناسا من بني إسرائيل بلاء وشدة من الزمان، فشكوا ما أصابهم وقالوا: يا ليتنا قد متنا فاسترحنا مما نحن فيه ! فأوحى الله إلى حزقيل: إن قلإمك صاحوا من البلاء، وزعموا أنهم ودوا لو ماتوا فاستراحوا، وأي راحة لهم في الموت؟ أيظنون أني لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت؟ فانطلق إلى جبانة كذا وكذا، فإن فيها أربعة آلاف- قال وهب: وهم الذين قال الله: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"- فقم فيهم فنادهم، وكانت عظامهم قد تفرقت، فرقتها الطير والسباع. فناداها حزقيل فقال: يا أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تجتمعي ! فاجتمع عظام كل إنسان منهم معا. ثم نادى ثانية حزقيل فقال: أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تكتسي اللحم ، فاكتست اللحم، وبعد اللحم جلدا، فكانت أجسادا. ثم نادى حزقيل الثالثة فقال: أيتها الأرواح، إن الله يأمرك أن تعودي في أجسادك ! فقاموا بإذن الله، وكبروا تكبيرة واحدة.حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف"، يقول: عدد كثير، خرجوا فرارا من الجهاد في سبيل الله، فأماتهم الله، ثم أحياهم وأمرهم أن يجاهدوا عدوهم، فذلك قوله: " وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم " [البقرة:244]حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أشعث بن أسلم البصري قال: بينما عمر يصلي ويهوديان خلفه، وكان عمر إذا أراد أن يركع خوى (1)، فقال أحدهما لصاحبه، أهو هو؟ فلما انفتل عمر قال: أرأيت قول أحدكما لصاحبه: أهو هو؟ فقالا: إنا نجده في كتابنا: قرنا من حديد، يعطى ما يعطى حزقيل الذي أحمى الموتى بإذن الله . فقال عمر: ما نجد في كتاب الله حزقيل ولا أحيى الموتى بإذن الله ، إلا عيسى. فقالا: أما تجد في كتاب الله "ورسلا لم نقصصهم عليك"، [النساء: 164]، فقال عمر: بلى! قالا: وأما إحياء الموتى فسنحدثك: إن بني إسرائيل وقع عليهم الوباء، فخرج منهم قوم حتى إذا كانوا على رأس ميل أماتهم الله، فبنوا عليهم حائطا، حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل فقام عليهم فقال ما شاء الله، فبعثهم الله له، فأنزل الله في ذلك: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف"، الآية.حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن الحجاج بن أرطأة قال: كانوا أربعة آلاف.حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف" إلى قوله: "ثم أحياهم"، قال: كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط، وقع بها الطاعون، فهرب عامة أهلها فنزلوا ناحية منها، فهلك من بقي في القرية، وسلم الآخرون، فلم يمت منهم كبير. فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا: أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا، لو صنعنا كما صنعوا بقينا! ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن معهم. فوقع في قابل فهربوا، وهم بضعة وثلاثون ألفا، حتى نزلوا ذلك المكان، وهو واد أفيح، فناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه: أن موتوا! فماتوا، حتى إذا هلكوا وبليت أجسادهم، مر بهم نبي يقال له حزقيل، فلما رآهم وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم ويلوي شدقه وأصابعه فأوحى الله إليه: يا حزقيل، أتريد أن أريك فيهم كيف أحييهم؟ قال: وإنما كان تفكره أنه تعجب من قدرة الله عليهم، فقال: نعم! فقيل له: ناد! فنادى: يا أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تجتمعي! ، فجعلت تطير العظام بعضها إلى بعض، حتى كانت أجسادا من عظام، ثم أوحى الله إليه أن ناد: يا أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تكتسي لحما، فاكتست لحما ودما، وثيابها التي ماتت فيها وهي عليها. ثم قيل له: ناد! فنادى: يا أيتها الأجساد إن الله يأمرك أن تقومي ، فقاموا.حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، قال: فزعم منصور بن المعتمر، عن مجاهد: أنهم قالوا حين أحيوا: سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت ، فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى، سحنة الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوبا إلا عاد دسما مثل الكفن، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبد الرحمن بن عوسجة، عن عطاء الخراساني: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف"، قال: كانوا ثلاثة آلاف أو أكثر. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: كانوا أربعين ألفا وثمانية آلاف، حظر عليهم حظائر، وقد أروحت أجسادهم وأنتنوا، فإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح، وهم ألوف فرارا من الجهاد في سبيل الله، فأماتهم الله ثم أحياهم، فأمرهم بالجهاد، فذلك قوله: "وقاتلوا في سبيل الله" [البقرة: 110 و 244] الاية. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبه أن كالب بن يوفنا لما قبضه الله بعد يوشع، خلف فيهم- يعني في بني إسرائيل- حزقيل بن بوزي، وهو ابن العجوز، وإنما سمي ابن العجوز أنها سألت الله الولد وقد كبرت وعقمت، فوهبه الله لها، فلذلك قيل له ابن إلعجوز، وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب لمحمد صلى الله عليه وسلم كما بلغنا: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون " حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: بلغني أنه كان من حديثهم أنهم خرجوا فرارا من بعض الأوباء، من الطاعون، أو من سقم كان يصيب الناس، حذرا من الموت وهم ألوف، حتى إذا نزلوا بصعيد من البلاد قال لهم الله: "موتوا"، فماتوا جميعا فعمد أهل تلك البلاد فحظروا عليهم حظيرة دون السباع، ثم تركوهم فيها، وذلك أنهم كثروا عن أن يغيبوا. فمرت بهم الأزمان والدهور، حتى صاروا عظاما نخرة، فمر بهم حزقيل بن بوزي، فوقف عليهم، فتعجب لأمرهم ودخلته رحمة لهم، فقيل له: أتحب أن يحييهم الله؟ فقال: نعم! فقيل له: نادهم فقل: أيتها العظام الرميم التي قد رفت وبليت، ليرجع كل عظم إلى صاحبه . فناداهم بذلك، فنظر إلى العظام تواثب يأخذ بعضها بعضا، ثم قيل له: قل: أيها اللحم والعصب والجلد، اكس العظام بإذن ربك ، قال: فنظر إليها والعصب يأخذ العظام ثم اللحم والجلد والأشعار، حتى استووا خلقا ليست فيهم الأرواح. ثم دعا لهم بالحياة، فتغشاه من السماء شيء كربه حتى غشي عليه منه، ثم أفاق والقوم جلوس يقولون: سبحان الله سبحان الله ، قد أحياهم الله. وقال آخرون: معنى قوله: "وهم ألوف"، وهم مؤتلفون ذكر من قال ذلك:حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد في قول الله: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم" قال: قرية كانت نزل بها الطاعون، فخرجت طائفة منهم وأقامت طائفة، فألح الطاعون بالطائفة التي أقامت، والتي خرجت لم يصبهم شيء. ثم ارتفع، ثم نزل العام القابل، فخرجت طائفة أكثر من التي خرجت أولا، فاستحر الطاعون بالطائفة التي أقامت. فلما كان العام الثالث، نزل فخرجوا بأجمعهم وتركوا ديارهم، فقال الله تعالى ذكره: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف"، ليست الفرقة أخرجتهم، كما يخرج للحرب والقتال، قلوبهم مؤتلفة، إنما خرجوا فرارا. فلما كانوا حيث ذهبوا يبتغون الحياة، قال لهم الله: "موتوا"، في المكان الذي ذهبوا إليه يبتغون فيه الحياة. فماتوا، ثم أحياهم الله، "إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون". قال: ومر بها رجل وهي عظام تلوح، فوقف ينظر فقال: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها" [البقرة: 259]، فأماته الله مئة عام.ذكر الأخبار عمن قال: كان خروج هؤلاء القوم من ديارهم فرارا من الطاعون.حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن الأشعث، عن الحسن في قوله :"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"، قال: خرجوا فرارا من الطاعون، فأماتهم قبل آجالهم، ثم أحياهم إلى آجالهم.حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"، قال: فروا من الطاعون، فقال لهم الله: "موتوا"، ثم أحياهم ليكملوا بقية آجالهم.حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن عمرو بن دينار في قول الله تعالى ذكره: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"، قال: وقع الطاعون في قريتهم، فخرج أناس وبقي أناس، فهلك الذين بقوا في القرية، وبقي الآخرون. ثم وقع الطاعون في قريتهم الثانية، فخرج أناس وبقي أناس، ومن خرج أكثر ممن بقي. فنجى الله الذين خرجوا، وهلك الذين بقوا. فلما كانت الثالثة خرجوا بأجمعهم إلا قليلا، فأماتهم الله ودوابهم، ثم أحياهم فرجعوا إلى بلادهم أوقد أنكروا قريتهم، ومن تركوا،. وكثروا بها، يقول بعضهم لبعض: من أنتم؟.حدثني المثنى قال، حدثنا أبوحذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح قال: سمعت عمرو بن دينار يقول: وقع الطاعون في قريتهم. ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا سويد قال، حدثنا سعيد عن قتادة: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف" الاية، مقتهم الله على فرارهم من الموت، فأماتهم الله عقوبة، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم ليستوفوها، ولو كانت اجال القوم جاءت ما بعثوا بعد موتهم. حدثت عن عماربن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن حصين، عن هلال بن يساف في قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين خرجوا" الآية، قال: هؤلاء قوم من بني إسرائيل، كان إذا وقع فيهم الطاعون خرج أغنياؤهم وأشرافهم، وأقام فقراؤهم وسفلتهم. قال: فاستحر الموت على المقيمين منهم، ونجا من خرج منهم. فقال الذين خرجوا: لو أقمنا كما أقام هؤلاء، لهلكنا كما هلكوا! وقال المقيمون:. لو ظعنا كما ظعن هؤلاء، لنجونا كما نجوا! فظعنوا جميعاً في عام واحد، أغنياؤهم وأشرافهم وفقراؤهم وسفلتهم. فأرسل عليهم الموت فصاروا عظاما تبرق. قال: فجاءهم أهل القرى فجمعوهم في مكان واحد، فمر بهم نبي فقال: يا رب لو شئت أحييت هؤلاء فعمروا بلادك وعبدوك! قال: أو أحب أليك أن أفعل؟ قال: نعم! قال: فقل: كذا وكذا! فتكلم به، فنظر إلى العظام، وإن العظم ليخرج من عند العظم الذي ليس منه إلى العظم الذي هو منه. ثم تكلم بما أمر، فإذا العظام تكسى لحما. ثم أمر بأمر فتكلم به، فإذا هم قعود يسبحون ويكبرون. ثم قيل لهم: " قاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم ".حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن حماد بن عثمان، عن الحسن: أنه قال في الذين أماتهم الله ثم أحياهم قال: هم قوم فروا من الطاعون، فأماتهم الله عقوبة ومقتا، ثم أحياهم لآجالهم.قال أبو جعفر: وأولى القولين في تأويل قوله: "وهم ألوف" بالصواب، قول من قال: عنى بالألوف كثرة العدد، دون قول من قال: عنى به الائتلاف ، بمعنى ائتلاف قلوبهم، وأنهم خرجوا من ديارهم من غير افتراق كان منهم ولا تباغض، ولكن فراراً: إما من الجهاد، وإما من الطاعون، لإجماع الحجة على أن ذلك تأويل الاية، ولا يعارض بالقول الشاذ ما استفاض به القول من الصحابة والتابعين. وأولى الأقوال- في مبلغ عدد القوم الذين وصف الله خروجهم من ديارهم- بالصواب، قول من حد عددهم بزيادة عن عشرة آلاف، دون من حده بأربعة آلاف، وثلاثة آلاف، وثمانية آلاف. وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم كانوا ألوفا، وما دون العشرة آلاف لا يقال لهم: "ألوف". وإنما يقال هم الاف ، إذا كانوا ثلاثة آلاف فصاعدا إلى العشرة آلاف. وغير جائز أن يقال هم خمسة ألوف، أو عشرة ألوف. وإنما جمع قليله على أفعال ، ولم يجمع على أفعل ، مثل سائر الجمع القليل الذي يكون ثاني
مفرده ساكنا للألف التي في أوله. وشأن العرب في كل حرف كان أوله، ياء أو واوا أو ألفا، اختيار جمع قليله على أفعال، كما جمعوا الوقت أوقاتا و اليوم أياما، واليسر أيسارا، للواو والياء اللتين في أول ذلك. وقد يجمع ذلك أحيانا على أفعل ، إلا أن الفصيح من كلامهم ما ذكرنا، ومنه قول الشاعر:
كانوا ثلاثة آلف وكتيبة ألفين أعجم من بني الفدام
وأما قوله: "حذر الموت"، فإنه يعني أنهم خرجوا من حذر الموت، فرارا منه، كما:حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "حذر الموت"، فرارا من عدوهم، حتى ذاقوا الموت الذي فروا منه. فأمرهم فرجعوا، وأمرهم أن يقاتلوا في سبيل الله، وهم الذين قالوا لنبيهم: "ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله" [البقرة: 246].قال أبو جعفر: وإنما حث الله تعالى ذكره عباده بهذه الاية، على المواظبة على الجهاد في سبيله، والصبر على قتال أعداء دينه. وشجعهم بإعلامه إياهم وتذكيره لهم، أن الإماتة والإحياء بيديه وإليه، دون خلقه، وأن الفرار من القتال والهرب من الجهاد ولقاء الأعداء، إلى التحصن في الحصون، والاختباء في المنازل والدور، غير منج أحدا من قضائه إذا حل بساحته، ولا دافع عنه أسباب منيته إذا نزل بعقوته، كما لم ينفع الهاربين من الطاعون، الذين وصف الله تعالى ذكره صفتهم في قوله: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"، فرارهم من أوطانهم، وانتقالهم من منازلهم إلى الموضع الذي أملوا بالمصير إليه السلامة، وبالموئل النجاة من المنية، حتى أتاهم أمر الله فتركهم جميعا خمودا صرعى، وفي الأرض هلكى، ونجا مما حل بهم الذين باشروا كرب الوباء، وخالطوا بأنفسهم عظيم البلاء. قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: إن الله لذو فضل ومن على خلقه، بتبصيره إياهم سبيل الهدى، وتحذيره لهم طريق الردى، وغير ذلك من نعمه التي ينعمها عليهم في دنياهم ودينهم، وأنفسهم واموالهم- كما أحيى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت بعد إماتته إياهم، وجعلهم لخلقه مثلا وعظة يتعظون بهم، وعبرة يعتبرون بهم، وليعلموا أن الأمور كلها بيده، فيستسلموا لقضائه، ويصرفوا الرغبة كلها والرهبة اليه. ثم أخبر تعالى ذكره أن أثر من ينعم عليه من عباده بنعمه الجليلة، ويمن عليه بمننه الجسيمة، يكفر به ويصرف الرغبة والرهبة إلى غيره، ويتخذ إلها من دونه، كفرانا منه لنعمه التي يوجب أصغرها عليه من الشكر ما يفدحه، ومن الحمد ما يثقله، فقال تعالى ذكره: "ولكن أكثر الناس لا يشكرون"- يقول: لا يشكرون نعمتي التي أنعمتها عليهم، وفضلي الذي تفضلت به عليهم، بعبادتهم غيري، وصرفهم رغبتهم ورهبتهم إلى من دوني ممن لا يملك لهم ضرا ولا نفعا، ولا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا.
فيه ست مسائل :
الاولى : قوله تعالى : " ألم تر " هذه رؤية القلب بمعنى ألم تعلم والمعنى عند سيبويه تنبه إلى أمر الذين ، ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي (( ألم تر )) بجزم الراء ، وحذفت الهمزة حذفاً من غير إلقاء حركة لأن الأصل ألم ترء ، وقصة هؤلاء أنهم قوم من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء ، وكانوا بقرية يقال لها (( داوردان )) فخرجوا منها هاربين فنزلوا وادياً فأماتهم الله تعالى ، قال ابن عباس ، كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراً من الطاعون وقالوا : نأتي أرضاً ليس بها موت ، فأماتهم الله تعالى ، فمر بهم نبي الله تعالى فأحياهم ، وقيل : إنهم ماتوا ثمانية أيام وقيل : سبعة والله أعلم ، قال الحسن : أماتهم الله قبل آجالهم عقوبة لهم ، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم ، وقيل : إنما فعل ذلك بهم معجزة لنبي من أنبيائهم ، قيل : كان اسمه شمعون ، وحكى النقاش أنهم فروا من الحمى ، وقيل : إنهم فروا من الجهاد ولما أمرهم الله به على لسان حزقيل النبي عليه السلام ، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد فخرجوا من ديارهم فراراً من ذلك ، فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء ، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله تعالى : " وقاتلوا في سبيل الله " [ البقرة : 190 ] ، قاله الضحاك قال ابن عطية : وهو القصص كله لين الأسانيد ، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إخباراً في عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فراراً من الموت فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم ، ليروا هم وكل من خلف من بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله تعالى لا بيد غيره ، فلا معنى لخوف خائف ولا لا غترار مغتر ، وجعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمره المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد ، هذا قول الطبري وهو ظاهر رصف الآية ، قوله تعالى : " وهم ألوف " قال الجمهور ، هي جمع ألف ، قال بعضهم : كانوا ستمائة ألف ، وقيل : كانوا ثمانين ألفاً ، ابن عباس : أربعين ألفاً ، أبو مالك ثلاثين ألفاً ، السدي : سبعة وثلاثين ألفاً ، وقيل سبعين ألفاً ، قاله عطاء بن أبي رباح ، وعن ابن عباس أيضاً أربعين ألفاً ، وثمانية آلاف ، رواه عنه ابن جريج وعنه أيضاً ثمانية آلاف ، وعنه أيضاً أربعة آلاف ، وقيل : ثلاثة آلاف ، والصحيح أنهم زادوا على عشرة آلاف لقوله تعالى : " وهم ألوف " وهو جمع الكثرة ، ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف ، وقال ابن زيد في لفظه ألوف ، إنما معناها وهم مؤتلفون ، أي لم تخرجهم فرقة قومهم ولا فتنة بينهم إنما كانوا مؤتلفين ، فخالفت هذه الفرقة فخرجت فراراً من الموت وإبتغاء الحياة بزعمهم ، فأماتهم الله في منجاهم بزعمهم ، فألوف على هذا جمع آلف ، مثل جالس وجلوس ، قال ابن العربي : أماتهم الله تعالى مدة عقوبة لهم ثم أحياهم ، وميتة العقوبة بعدها حياة ، وميتة الأجل لا حياة بعدها ، قال مجاهد إنهم لما أحيوا رجعوا إلى قومهم يعرفون أنهم كانوا موتى ولكن سحنة الموت على وجوههم ، ولا يلبس أحد منهم ثوباً إلا عاد كفناً دسماً حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم ، وروى ابن جريج عن ابن عباس : وبقيت الرائحة على ذلك السبط من بني إسرائيل إلى اليوم ، وروي أنهم كانوا بواسط العراق ، ويقال : إنهم أحيوا بعد أن أنتنوا ، فتلك الرائحة موجودة في نسلهم إلى اليوم .
الثانية : قوله تعالى : " حذر الموت " أي لحذر الموت ، فهو نصب لأنه مفعول له ، و" موتوا " أمر تكوين ، ولا يبعد أن يقال : نودوا وقيل لهم : موتوا ، وقد حكي أن ملكين صاحا بهم ، موتوا فماتوا ، فالمعنى قال لهم الله بواسطة الملكين (( موتوا )) ، والله أعلم .
الثالثة : أصح هذه الأقوال وأبينها وأشهرها أنهم خرجوا فراراً من الوباء رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : خرجوا فراراً من الطاعون فماتوا ، فدعا الله نبي من الأنبياء أن يحييهم حتى يعبدوه فأحياهم الله ، وقال عمرو بن دينار في هذه الآية ، وقع الطاعون في قريتهم فخرج أناس وبقي أناس ، ومن خرج أكثر ممن بقي ، قال : فنجا الذي خرجوا ومات الذين أقاموا ، فلما كانت الثانية خرجوا بأجمعهم إلا قليلاً فأماتهم الله ودوابهم ، ثم أحياهم فرجعوا إلى بلادهم وقد توالدت ذريتهم ، وقال الحسن : خرجوا حذاراً من الطاعون فأماتهم الله ودوابهم في ساعة واحدة ، وهم أربعون ألفاً .
قلت : وعلى هذا ترتيب الأحكام في هذه الآية ، فروى الأئمة واللفظ لـ البخاري من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أسامة بن زيد يحدث سعداً " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الوجع فقال : رجز أو عذاب عذب به بعض الأمم ثم بقي منه بقية فيذهب المرة ويأتي الأخرى فمن سمع به بأرض فلا يقدمن عليه ومن كان بأرض وقع بها فلا يخرج فراراً منه " ، وأخرجه أيو عيسى الترمذي فقال : حدثنا قتيبة أنبأنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن عامر بن سعد عن أسامة بن زيد " أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الطاعون فقال : بقية رجز أو عذاب أرسل على طائفة من بني إسرائيل فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليها " ، قال : حديث حسن صحيح ، وبمقتضى هذه الأحاديث عمل عمر والصحابة رضوان الله عليهم : لما رجعوا من سرغ حين أخبرهم عبد الرحمن بن عوف بالحديث ، على ما هو مشهور في الموطأ وغيره ، وقد كره قوم الفرار من الوباء والأرض السقيمة ، روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : الفرار من الوباء كالفرار من الزحف ، وقصة عمر في خروجه إلى الشام مع أبي عبيدة معروفة ، وفيها : أنه رجع : وقال الطبري : في حديث سعد دلالة على أن على المرء توقي المكاره قبل نزولها ، وتجنب الأشياء المخوفة قبل هجومها ، وأن عليه الصبر ترك الجزع بعد نزولها ، وذلك أنه عليه السلام نهى من لم يكن في أرض الوباء عن دخولها إذا وقع فيها ، ونهى من هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعه فيها فراراً منه ، فكذلك الواجب أن يكون حكم كل متق من الأمور غوائلها ، سبيله في ذلك سبيل الطاعون ، وهذا المعنى نظير قوله عليه السلام : " لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا " ، قلت : وهذا هو الصحيح في الباب ، وهو مقتضى قول الرسول عليه السلام ، وعليه عمل أصحابه البررة الكرام رضي الله عنهم ، وقد قال عمر لأبي عبيدة محتجاً عليه لما قال له : أفراراً من قدر الله ! فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ! نعم ، نفر من قدر الله إلى قدر الله ،المعنى : أي لا محيص للإنسان عما قدره الله له وعليه ، لكن أمرنا الله تعالى بالتحرز من المخاوف والمهلكات ، وباستفراغ الوسع في الترقي من المكروهات ، ثم قال هل : أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت وادياً له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله ، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله عز وجل ، فرجع عمر من موضعه ذلك إلى المدينة ، قال الكيا الطبري : ولا نعلم خلافاً أن الكفار أو قطاع الطريق إذا قصدوا بلدة ضعيفة لا طاقة لأهلها بالقاصدين فلهم أن يتنحوا من بين أيديهم ، وإن كاننت الآجال المقدرة لا تزيد ولا تنقص ، وقد قيل : إنما نهي عن الفرار منه لأن الكائن بالموضع الذي الوباء فيه لعله قد أخذ بحظ منه ، لاشتراك أهل ذلك الموضع في سبب ذلك المرض العام ، فلا فائدة لفراره ، بل يضيف إلى ما أصابه من مبادئ الوباء مشقات السفر ، فتتضاعف الآلام ويكثر الضرر فيهلكون بكل طريق ويطرحون في كل فجوة ومضيق ، ولذلك يقال : ما فر أحد من الوباء فسلم ، حكاه ابن المدائني ، ويكفي في ذلك موعظة قوله تعالى : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا " ولعله إن فر ونجا يقول : إنما نجوت من أجل خروجي عنه ، فيسوء اعتقاده ، وبالجملة فالفرار منه ممنوع لما ذكرناه ، ولما فيه من تخلية البلاد : ولا تخلو من مستضعفين يصعب عليهم الخروج منها ، ولا يتأتى لهم ذلك ، ويتأذون بخلو البلاد من المياسير الذين كانوا أركاناً للبلاد ومعونة للمستضعفين ، وإذا كان الوباء بأرض فلا يقدم عليه أحد أخذاً بالحزم والحذر والتحرز من مواضع الضرر ، ودفعاً للأوهام المشوشة لنفس الإنسان ، وفي الدخول عليه الهلال ، وذلك لا يجوز في حكم الله تعالى، فإن صيانة النفس عن المكروه واجبة ، وقد يخاف عليه من سوء الاعتقاد بأن يقول : لولا دخولي في هذا المكان لما نزل بي مكروه ، فهذه فائدة النهي عن دخول أرض بها الطاعون أو الخروج منها ، والله أعلم ، وقد قال ابن مسعود : الطاعون فتنة على المقيم والفار . فأما الفار فيقول : فبفراري نجوت ، وأما المقيم فيقول : أقمت فمت ، وإلى نحو هذا أشار مالك حين سئل عن كراهة النظر إلى المجذوم فقال : ما سمعت فيه بكراهة ، وما أرى ما جاء من النهي عن ذلك إلا خيفة أن يفزعه أو يخيفه شيء يقع في نفسه ، " قال النبي صلى الله عليه وسلم في الوباء : إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه " ، وسئل أيضاً عن البلدة يقع فيها الموت وأمراض ، فهل يكره الخروج منها ؟ فقال : ما أرى بأساً خرج أو أقام .
الرابعة : في قوله عليه السلام : " إذا وقع الوباء بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه "، دليل على أنه يجوز الخروج من بلدة الطاعون على غير سبيل الفرار منه ، إذا اعتقد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وكذلك حكم الداخل إذا أيقن أن دخولها لا يجلب إليه قدراً لم يكن الله قدره له ، فباح له الدخول إليه والخروج منه على هذا الحد الذي ذكرناه ، والله أعلم .
الخامسة : في فضل الصبر على الطاعون وبيانه ، الطاعون وزنه فاعول من الطعن غير إنه لما عدل به عن أصله وضع دالاً على الموت العام بالوباء ، قاله الجوهري ويروى من " حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فناء أمتي بالطعن والطاعون ، قالت : الطعن قد عرفنا فما الطاعون ؟ قال : غدة كغدة البعير تخرج في المراق والآباط " ، قال العلماء : وهذا وباء قد يرسله الله نقمة وعقوبة على من يشاء من العصاة من عبيده وكفرتهم ، وقد يرسله شهادة ورحمة للصالحين ، كما قال معاذ في طاعون عمواس : إنه شهادة ورحمة لكم ودعوة نبيكم ، اللهم أعط معاذاً وأهله نصيبهم من رحمتك ، فطعن في كفه رضي الله عنه قال أبو قلابة : قد عرفت الشهادة والرحمة ولم أعرف ما دعون نبيكم ؟ فسألت عنها فقيل : دعا عليه السلام أن يجعل فناء أمته بالطعن والطاعون حين دعا ألا يجعل بأس أمته بينهم فمنعها فدعا بهذا ويروى من حديث جابر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الفار من الطاعون كالفار من الزحف والصابر فيه كالصابر في الزحف " ، وفي البخاري عن يحيى بن يعمر " عن عائشة أنها أخبرته أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرها نبي الله صلى الله عليه وسلم : أنه كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء فجعله الله رحمة للمؤمنين فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلد صابراً يعلم أنه يعلم يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد " ، وهذا تفسير لقوله عليه الصلاة والسلام : " الطاعون شهادة والمطعون شهيد "، أي الصابر المحتسب أجره على الله العالم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله عليه ، ولذلك تمنى معاذ أن يموت فيه لعلمه أن من مات فهو شهيد ، وأما من جزع من الطاعون وكرهه وفر منه فليس بداخل في معنى الحديث ، والله أعلم .
السادسة : قال أبو عمر : لم يبلغني أن أحداً من حملة العلم فر من الطاعون إلا ما ذكره ابن المدائني أن علي بن زيد بن جدعان هرب من الطاعون إلى السيالة فكان يجمع كل جمعة ويرجع ، فكان إذا جمع صاحوا به : فر من الطاعون ! فمات بالسيالة قال : وهرب عمرو بن عبيد و رباط بن محمد إلى الرباطية فقال إبراهيم بن علي الفقيمي في ذلك :
ولما استفز الموت كل مكذب صبرت ولم يصبر رباط ولا عمرو
وذكر أبو حاتم عن الأصمعي قال : هرب بعض البصريين من الطاعون فركب حماراً له ومضى بأهله نحو سفوان ، فسمع حادياً يحدو خلفه :
لن يسبق الله على حمار ولا على ذي منعة طيار
أو يأتي الحتف على مقدار قد يصبح الله أمام الساري
وذكر المدائني قال : وقع الطاعون بمصر في ولاية عبد العزيز بن مروان فخرج هارباً منه فنزل قرية من قرى الصعيد يقال لها (( سكر )) ، فقدم عليه حين نزلها رسول لعبد الملك بن مروان ، فقال له عبد العزيز : ما أسمك ؟ فقال : له : طالب بن مدرك فقال : أوه ما أراني راجعاً إلى الفسطاط ! فمات في تلك القرية . k
روي عن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلاف, وعنه كانوا ثمانية آلاف وقال أبو صالح: تسعة آلاف, وعن ابن عباس أربعون ألفاً, وقال وهب بن منبه وأبو مالك: كانوا بضعة وثلاثين ألفاً. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس, قال: كانوا أهل قرية يقال لها داوردان. وكذا قال السدي وأبو صالح وزاد من قبل واسط , وقال سعيد بن عبد العزيز: كانوا من أهل أذرعات, وقال ابن جريج عن عطاء قال: هذا مثل. وقال علي بن عاصم: كانوا من أهل داوردان قرية على فرسخ من قبل واسط . وقال وكيع بن الجراح في تفسيره: حدثنا سفيان عن ميسرة بن حبيب النهدي, عن المنهال بن عمرو الأسدي, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت" قال: كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراً من الطاعون قالوا: نأتي أرضاً ليس بها موت حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال الله لهم "موتوا" فماتوا, فمر عليهم نبي من الأنبياء, فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم, فذلك قوله عز وجل "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت" الاية. وذكر غير واحد من السلف, أن هؤلاء القوم, كانوا أهل بلدة في زمان بني إسرائيل استوخموا أرضهم, وأصابهم بها وباء شديد, فخرجوا فراراً من الموت, هاربين إلى البرية, فنزلوا وادياً أفيح, فملؤوا ما بين عدوتيه, فأرسل الله إليهم ملكين, أحدهما من أسفل الوادي, والاخر من أعلاه, فصاحا بهم صيحة واحدة, فماتوا عن آخرهم موتة رجل واحد, فحيزوا إلى حظائر, وبني عليهم جدران وقبور, وفنوا وتمزقوا وتفرقوا, فلما كان بعد دهر, مر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل, يقال له حزقيل, فسأل الله أن يحييهم على يديه, فأجابه إلى ذلك, وأمره أن يقول: أيتها العظام البالية, إن الله يأمرك أن تجتمعي, فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض, ثم أمره فنادى: أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً وعصباً وجلداً, فكان ذلك وهو يشاهد, ثم أمره فنادى: أيتها الأرواح, إن الله يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره فقاموا أحياءً ينظرون قد أحياهم الله بعد رقدتهم الطويلة وهم يقولون: سبحانك لا إله إلا أنت. وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة, ولهذا قال: "إن الله لذو فضل على الناس", أي فيما يريهم من الايات الباهرة والحجج القاطعة والدلالات الدامغة "ولكن أكثر الناس لا يشكرون" أي لا يقومون بشكر ما أنعم الله به عليهم في دينهم ودنياهم. وفي هذه القصة عبرة ودليل, على أنه لن يغني حذر من قدر, وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه, فإن هؤلاء خرجوا فراراً من الوباء, طلباً لطول الحياة, فعوملوا بنقيض قصدهم, وجاءهم الموت سريعاً في آن واحد. ومن هذا القبيل, الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى, أخبرنا مالك وعبد الرزاق, أخبرنا معمر كلاهما عن الزهري عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن عبد الله بن الحارث بن نوفل, عن عبد الله بن عباس, أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ, لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه, فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام, فذكر الحديث, فجاءه عبد الرحمن بن عوف, وكان متغيباً لبعض حاجته فقال: إن عندي من هذا علماً, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه, وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه" فحمد الله عمر ثم انصرف, وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به بطريق أخرى لبعضه. قال أحمد: حدثنا حجاج ويزيد العمي, قالا: أخبرنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن سالم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عبد الرحمن بن عوف أخبر عمر وهو في الشام عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن هذا السقم عذب به الأمم قبلكم فإذا سمعتم به في أرض, فلا تدخلوها, وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً" قال: فرجع عمر من الشام, وأخرجاه في الصحيحين من حديث مالك, عن الزهري بنحوه. وقوله: "وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم" أي كما أن الحذر لا يغني من القدر, كذلك الفرار من الجهاد وتجنبه, لا يقرب أجلاً ولا يبعده, بل الأجل المحتوم والرزق المقسوم مقدر مقنن لا يزاد فيه ولا ينقص منه, كما قال تعالى: " الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ", وقال تعالى: " وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا * أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " وروينا عن أمير الجيوش, ومقدم العساكر, وحامي حوزة الإسلام, وسيف الله المسلول على أعدائه: أبي سليمان خالد بن الوليد رضي الله عنه, أنه قال وهو في سياق الموت: لقد شهدت كذا وكذا موقفاً. وما من عضو من أعضائي إلا وفيه رمية أو طعنة أو ضربة وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت العير, فلا نامت أعين الجبناء ـ يعني أنه يتألم لكونه ما مات قتيلاً في الحرب, ويتأسف على ذلك, ويتألم أن يموت على فراشه. وقوله: "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة", يحث تعالى عباده على الانفاق في سبيل الله, وقد كرر تعالى هذه الاية في كتابه العزيز في غير موضع, وفي حديث النزول أنه يقول تعالى: "من يقرض غير عديم ولا ظلوم" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة, حدثنا خلف بن خليفة, عن حميد الأعرج, عن عبد الله بن الحارث, عن عبد الله بن مسعود, قال: لما نزلت "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له", قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله, وإن الله عز وجل ليريد منا القرض ؟ قال: "نعم يا أبا الدحداح". قال: أرني يدك يا رسول الله. قال: فناوله يده, قال: فإني قد أقرضت ربي عز وجل حائطي, قال: وحائط له فيه ستمائة نخلة, وأم الدحداح فيه وعيالها. قال فجاء أبو الدحداح فنادها: يا أم الدحداح. قالت: لبيك. قال: اخرجي, فقد أقرضته ربي عز وجل. وقد رواه ابن مردويه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه, عن عمر رضي الله عنه مرفوعاً بنحوه, وقوله: "قرضاً حسناً" روي عن عمر وغيره من السلف هو النفقة في سبيل الله, وقيل: هو النفقة على العيال, وقيل: هو التسبيح والتقديس. وقوله: "فيضاعفه له أضعافاً كثيرة" كما قال تعالى: "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء" الاية, وسيأتي الكلام عليها. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, أخبرنا مبارك بن فضالة, عن علي بن زيد, عن أبي عثمان النهدي, قال: أتيت أبا هريرة رضي الله عنه, فقلت له: إنه بلغني أنك تقول إن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة, قال: وما أعجبك من ذلك, لقد سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة" هذا حديث غريب, وعلي بن زيد بن جدعان عنده مناكير, لكن رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال: حدثنا أبو خلاد سليمان بن خلاد المؤدب, حدثنا يونس بن محمد المؤدب, حدثنا محمد بن عقبة الرفاعي عن زياد الجصاص عن أبي عثمان النهدي, قال: لم يكن أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني, فقدم قبلي حاجاً, قال: وقدمت بعده, فإذا أهل البصرة يأثرون عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم, يقول "إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة" فقلت: ويحكم, والله ما كان أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني, فما سمعت هذا الحديث, قال: فتحملت أريد أن ألحقه فوجدته قد انطلق حاجاً, فانطلقت إلى الحج ألقاه في هذا الحديث, فلقيته لهذا, فقلت: يا أبا هريرة, ما حديث سمعت أهل البصرة يأثرون عنك ؟ قال: ما هو ؟ قلت: زعموا أنك تقول: إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة, قال: يا أبا عثمان, وما تعجب من ذا, والله يقول "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة" ويقول " فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل " والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم, يقول: "إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة". وفي معنى هذا الحديث ما رواه الترمذي وغيره من طريق عمرو بن دينار, عن سالم, عن عبد الله بن عمر بن الخطاب, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال "من دخل سوقاً من الأسواق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد, وهو على كل شيء قدير ـ كتب الله له ألف ألف حسنة, ومحا عنه ألف ألف سيئة" الحديث, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة إسماعيل بن إبراهيم بن بسام, حدثنا أبو إسماعيل المؤدب عن عيسى بن المسيب, عن نافع, عن ابن عمر, قال: لما نزلت "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل" إلى آخرها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رب زد أمتي", فنزلت "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة". قال "رب زد أمتي", فنزلت "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب". وروى ابن أبي حاتم أيضاً. عن كعب الأحبار: أنه جاءه رجل فقال: إني سمعت رجلاً يقول: من قرأ "قل هو الله أحد" مرة واحدة, بنى الله له عشرة آلاف ألف غرفة من در وياقوت في الجنة, أفأصدق ذلك ؟ قال: نعم, أو عجبت من ذلك ؟ قال: نعم, وعشرين ألف ألف وثلاثين ألف ألف وما لا يحصي ذلك إلا الله, ثم قرأ "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة" فالكثير من الله لا يحصى وقوله "والله يقبض ويبسط" أي أنفقوا ولا تبالوا, فالله هو الرازق يضيق على من يشاء من عباده في الرزق, ويوسعه على آخرين, له الحكمة البالغة في ذلك "وإليه ترجعون" أي يوم القيامة.
الاستفهام هنا للتقرير، والرؤية المذكورة هي رؤية القلب لا رؤية البصر. والمعنى عند سيبويه: تنبيه إلى أمر الذين خرجوا، ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين كذا قيل. وحاصله أن الرؤية هنا التي بمعنى الإدراك مضمنة معنى التنبيه، ويجوز أن تكون مضمنة معنى الانتهاء: أي ألم ينته علمك إليهم، أو معنى الوصول: أي ألم يصل علمك إليهم، ويجوز أن تكون بمعنى الرؤية البصرية: أي ألم تنظر إلى الذين خرجوا. جعل الله سبحانه قصة هؤلاء لما كانت بمكان من الشيوع والشهرة يحمل كل أحد على الإقرار بها بمنزلة المعلومة لكل فرد، أو المبصرة لكل مبصر، لأن أهل الكتاب قد أخبروا بها ودونوها وأشهروا أمرها، والخطاب هنا لكل من يصلح له. والكلام جار مجرى المثل في مقام التعجيب ادعاء لظهوره وجلائه بحيث يستوي في إدراكه الشاهد والغائب. وقوله: 243- "وهم ألوف" في محل نصب على الحال من ضمير خرجوا، وألوف من جموع الكثرة، فدل على أنها ألوف كثيرة. وقوله: "حذر الموت" مفعول له. وقوله :"فقال لهم الله موتوا" هو أمر تكوين عبارة عن تعلق إرادته بموتهم دفعة، أو تمثيل لإماتته سبحانه إياهم ميتة نفس واحدة كأنهم أمروا فأطاعوا. قوله: "ثم أحياهم" هو معطوف على مقدر يقتضيه المقام: أي قال الله لهم موتوا فماتوا ثم أحياهم، أو على قال لما كان عبارة عن الإماتة وقوله: "إن الله لذو فضل على الناس" التنكير في قوله فضل للتعظيم: أي لذو فضل عظيم على الناس جميعاً، أما هؤلاء الذين خرجوا فلكونه أحياهم ليعتبروا، وأما المخاطبون فلكونه قد أرشدهم إلى الاعتبار والاستبصار بقصة هؤلاء.
243. قوله تعالى: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم " قال أكثر أهل التفسير: كانت قرية يقال لها: داوردان قبل واسط بها وقع الطاعون، فخرجت طائفة منها وبقيت طائفة، فهلك أكثر من بقي في القرية وسلم الذين خرجوا، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا: أصحابنا كانوا أحزم منا، لو صنعنا كما صنعوا لبقينا، ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن إلى أرض لاوباء بها، فوقع الطاعون من قابل فهرب عامة أهلها، وخرجوا حتى نزلوا وادياً أفيح فلما نزلوا المكان الذي يبتغون فيه النجاة ناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه: أن موتوا فماتوا جميعاً.
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو اسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام فلما جاء سرع بلغه أن الوباء قد وقع بالشام فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه " فرجع عمر من سرغ، قال الكلبي و مقاتل و الضحاك : إنما فروا من الجهاد وذلك أن ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوهم، فعسكروا ثم جبنوا وكرهوا الموت فاعتلوا وقالوا لملكهم: إن الأرض التي تأتيها بها الوباء فلا نأتيها حتى ينقطع منها الوباء، فأرسل الله عليهم الموت فخرجوا من ديارهم فراراً من الموت فلما رأى الملك ذلك قال: اللهم رب يعقوب وإله موسى قد ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم حتى يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار منك، فلما خرجوا قال لهم الله تعالى: موتوا، عقوبة لهم، فماتوا جميعاً وماتت دوابهم كموت رجل واحد فأتى عليهم ثمانية أيام حتى انتفخوا وأروحت أجسادهم فخرج إليهم الناس فعجزوا عن دفنهم، فحظروا عليهم حظيرة دون السباع وتركوهم فيها.
واختلفوا في مبلغ عددهم، قال عطاء الخراساني : كانوا ثلاثة آلاف، وقال وهب : أربعة آلاف وقال مقاتل و الكلبي : ثمانية آلاف، وقال أبو روق : عشرة آلاف، وقالى السدي : بضعة وثلاثون ألفاً، وقال ابن جريج : أربعون ألفاً، وقال عطاء ابن رباح: سبعون ألفاً، وأولى الأقاويل: قول من قال كانوا زيادة على عشرة آلاف، لأن الله تعالى قال " وهم ألوف " والألوف جمع الكثير وجمعه القليل آلاف، ولا يقال لما دون عشرة آلاف ألوف، قالوا: فأتت على ذلك م******************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************** فأحياهم الله وقيل: دعا حزقيل ربه أن يحييهم فأحياهم.
وقال مقاتل و الكلبي : هم كانوا قوم حزقيل أحياهم الله بعد ثمانية أيام، وذلك أنه لما أصابهم ذلك خرج حزقيل في طلبهم فوجدهم موتى موتى فبكى وقال: يارب كنت في قوم يحمدونك ويسبحونك ويقدسونك ويكبرونك ويهللونك فبقيت وحيداً لا قوم لي، فأوحى الله تعالى إليه: أني جعلت حياتهم إليك، قال حزقيل: إحيوا بإذن الله فعاشوا.
قال مجاهد : إنهم قالوا حين أحيوا، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت فرجعوا إلى قومهم وعاشوا دهراً طويلاً وسحنة الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوباً إلا عاد دسماً مثل الكفن حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: وانها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح، قال قتادة : مقتهم الله على فرارهم من الموت فأماتهم عقوبة لهم ثم بعثوا ليستوفوا مدة آجالهم [ولو جاءت آجالهم] ما بعثوا فذلك قوله تعالى: " ألم تر " أي ألم تعلم بإعلامي إياك، وهو من رؤية القلب.
قال أهل المعاني: هو تعجيب يقول هل رأيت مثلهم؟ كما تقول: ألم تر إلى ما يصنع فلان؟ وكل ما في القرآن أم تر ولم يعاينه النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا وجهه " إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " جمع ألف وقيل مؤتلفة قلوبهم جمع آلف مثل قاعد وقعود، والصحيح أن المراد منه العدد " حذر الموت " أي خوف الموت " فقال لهم الله موتوا " أمر تحويل كقوله " كونوا قردة خاسئين " (65-البقرة) " ثم أحياهم " بعد موتهم " إن الله لذو فضل على الناس " قيل هو على العموم في حق الكافة في الدنيا، وقيل على الخصوص في حق المؤمنين " ولكن أكثر الناس لا يشكرون " أما الكفار فلم يشكروا وأما المؤمنون فلم يبلغوا غاية الشكر.

243-" ألم تر " تعجيب وتقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأرباب التواريخ ، وقد يخاطب به من لم ير ومن لم يسمع فإنه صار مثلاً في التعجب . " إلى الذين خرجوا من ديارهم " يريد أهل داوردان قرية قبل واسط وقع فيها طاعون فخرجوا هاربين ، فأماتهم الله ثم أحياهم ليعتبروا ويتيقنوا أن لا مفر من قضاء الله تعالى وقدره . أو قوماً من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد ففروا حذر الموت فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم . " وهم ألوف " أي ألوف كثيرة . قيل عشرة . وقيل ثلاثون . وقيل سبعون وقيل متألفون جمع إلف أو آلف كقاعد وقعود والواو للحال . " حذر الموت " مفعول له . " فقال لهم الله موتوا " أي قال لهم موتوا فماتوا كقوله : " كن فيكون " والمعنى أنهم ماتوا ميتة رجل واحد من غير علة ، بأمر الله تعالى ومشيئته . وقيل ناداهم به ملك وإنما أسند إلى الله تعالى تخويفاً وتهويلاً . " ثم أحياهم " قيل مر حزقيل عليه السلام على أهل داوردان وقد عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم ، فتعجب من ذلك فأوحى الله تعالى إليه ناد فيهم أن قوموا بإذن الله تعالى ، فنادى فقاموا يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت . وفائدة القصة تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة ، وحثهم على التوكل والاستسلام للقضاء . " إن الله لذو فضل على الناس " حيث أحياهم ليعتبروا ويفوزوا وقص عليهم حالهم ليستبصروا " ولكن أكثر الناس لا يشكرون " أي لا يشكرونه كما ينبغي ،ويجوز أن يراد بالشكر الاعتبار والاستبصار .
243. Bethink thee (O Muhammad) of those of old, who went forth from their habitations in their thousands, fearing death, and Allah said unto them: Die, and then He brought them back to life. Lo! Allah is a Lord of Kindness to mankind, but most of mankind give not thanks.
243 - Didst thou not turn by vision to those who abandoned their homes, though they were thousands (in number), for fear of death? God said to them: die: then he restored them to life. for God is full of bounty to mankind, but most of them are ungrateful.