[البقرة : 242] كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
(كذلك) كما يبين لكم ما ذكر (يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون) تتدبرون
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما بينت لكم ما يلزمكم لأزواجكم ويلزم أزواجكم لكم، أيها المؤمنون، وعرفتكم أحكامي والحق الواجب لبعضكم على بعض في هذه الايات، فكذلك أبين لكم سائر الأحكام في آياتي التي أنزلتها على نبيي محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب، لتعقلوا- أيها المؤمنون بي وبرسولي- حدودي، فتفهموا اللازم لكم من فرائضي، وتعرفوا بذلك ما فيه صلاح دينكم ودنياكم، وعاجلكم وآجلكم، فتعملوا به ليصلح ذات بينكم، وتنالوا به الجزيل من ثوابي في معادكم.
" كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون "
اختلف الناس في هذه الآية ، فقال أبو ثور : هي محكمة ، والمتعة لكل مطلقة وكذلك قال الزهري ، قال الزهري حتى للأمة يطلقها زوجها ، وكذلك قال سعيد بن جبير ، لكل مطلقة متعة وهو أحد قولي الشافعي لهذه الآية ، وقال مالك ، لكل مطلقة اثنتين أو واحدةبنى بها أم لا ، سمى لها صداقاً أم لا المتعة ، إلا المطلقة قبل البناء وقد سمى لها صداقاً فحسبها نصفه ، ولو لم يكن سمى لها كان لها المتعة أقل من صداق المثل أو أكثر ، وليس هذه المتعة حد ، حكاه عنه ابن القاسم ، وقال ابن القاسم في إرخاء الستور من المدونة ، قال : جعل الله تعالى المتعة لكل مطلقة بهذه الآية ، ثم استثنى في الآية الأخرى التي قد فرض لها ولم يدخل بها فأخرجها من المتعة ، وزعم ابن زيد أنها نسختها قال ابن عطية : ففر ابن القاسم من لفظ النسخ إلى لفظ الاستثناء والاستثناء لا يتجه في هذا الموضع ، بل هو نسخ محض كما قال زيد بن أسلم ، وإذا التزم ابن القاسم أن قوله : " وللمطلقات " يعم كل مطلقة لزمه القول بالنسخ ولا بد وقال عطاء بن أبي رباح وغيره : هذه الآية في الثيبات اللواتي قد جومعن ، إذ تقدم في المسيس لم تدخل قط في العموم فهذا يجيء على أن قوله تعالى : " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن " [ البقرة : 237 ] ، مخصصة لهذا الصنف من النساء ، ومتى قيل : إن هذا العموم يتناولها فذلك نسخ لا تخصيص ، وقال الشافعي في القول الآخر : إنه لا متعة إلا للتي طلقت قبل الدخول وليس ثم مسيس ولا فرض ، لأن من استحقت شيئاً من المهر لم تحتج في حقها إلى المتعة ، وقول الله عز وجل في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم : " فتعالين أمتعكن " [ الأحزاب : 28 ] ، محمول على أنه تطوع من النبي صلى الله عليه وسلم ، لا وجوب له ، وقوله ، " فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن " [ الأحزاب : 49 ] ، محمول على غير المفروضة أيضاً ، قال الشافعي : والمفروض لها المهر إذا طلقت قبل المسيس لا متعة لها ، لأنها أخذت نصف المهر من غير جريان وطء ، والمدخول بها إذا طلقت فلها المتعة ، ، لأن المهر يقع في مقابلة الوطء والمتعة بسبب الابتذال بالعقد ، وأوجب الشافعي المتعة للمختلعة والمبارئة ، وقال أصحاب مالك : كيف يكون للمفتدية متعة وهي تعطي ، فكيف تأخذ متاعاً ! لا متعة لمختارة الفراق من مختلعة أو مفتدية أو مبارئة أو مصالحة أو ملاعنة أو معتقة تختار الفراق ، دخل بها أم لا ، سمى لها صداقاً أم لا ، وقد مضى هذا مبيناً .
قال الأكثرون: هذه الاية منسوخة بالتي قبلها, وهي قوله "يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً". قال البخاري: حدثنا أمية حدثنا يزيد بن زريع, عن حبيب, عن ابن أبي مليكة, قال ابن الزبير: قلت لعثمان بن عفان "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً" قد نسختها الاية الأخرى, فلم تكتبها أو تدعها, قال يا ابن أخي, لا أغير شيئاً منه من مكانه. ومعنى هذا الإشكال الذي قاله ابن الزبير لعثمان: إذا كان حكمها قد نسخ بالأربعة الأشهر فما الحكمة في إبقاء رسمها مع زوال حكمها, وبقاء رسمها بعد التي نسختها يوهم بقاء حكمها ؟ فأجابه أمير المؤمنين, بأن هذا أمر توقيفي, وأنا وجدتها مثبتة في المصحف كذلك بعدها, فأثبتها حيث وجدتها, قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح, حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء, عن ابن عباس في قوله: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج" فكان للمتوفى عنها زوجها نفقتها وسكناها في الدار سنة, فنسخها آية المواريث فجعل لهن الثمن أو الربع مما ترك الزوج, ثم قال: وروي عن أبي موسى الأشعري وابن الزبير ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك وزيد بن أسلم والسدي ومقاتل بن حيان وعطاء الخراساني والربيع بن أنس أنها منسوخة. وروي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس, قال: كان الرجل إذا مات وترك امرأته اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله, ثم أنزل الله بعد "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً" فهذه عدة المتوفى عنها زوجها, إلا أن تكون حاملاً, فعدتها أن تضع ما في بطنها, وقال "ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم" فبين ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة, قال: وروي عن مجاهد والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك والربيع ومقاتل بن حيان, قالوا: نسختها "أربعة أشهر وعشراً". قال: وروي عن سعيد بن المسيب, قال: نسختها التي في الأحزاب "يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات" الاية, (قلت) وروي عن مقاتل وقتادة أنها منسوخة بآية الميراث, وقال البخاري: حدثنا إسحاق بن راهويه, حدثنا روح, حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً" قال: كانت هذه للمعتدة, تعتد عند أهل زوجها واجب. فأنزل الله " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف " قال: جعل الله تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة, وصية إن شاءت سكنت في وصيتها, وإن شاءت خرجت, وهو قول الله "غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم" فالعدة كما هي واجب عليها, زعم ذلك عن مجاهد رحمه الله, وقال عطاء: قال ابن عباس: نسخت هذه الاية عدتها عند أهلها, فتعتد حيث شاءت, وهو قول الله تعالى: "غير إخراج" قال عطاء: إن شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت في وصيتها, وإن شاءت خرجت, لقول الله "فلا جناح عليكم فيما فعلن" قال عطاء: ثم جاء الميراث, فنسخ السكنى فتعتد حيث شاءت, ولا سكنى لها, ثم أسند البخاري عن ابن عباس مثل ما تقدم عنه بهذا القول, الذي عول عليه مجاهد وعطاء, من أن هذه الاية لم تدل على وجوب الاعتداد سنة, كما زعمه الجمهور, حتى يكون ذلك منسوخاً بالأربعة الأشهر وعشر, وإنما دلت على أن ذلك كان من باب الوصاة بالزوجات بأن يمكن من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولاً كاملاً إن اخترن ذلك, ولهذا قال "وصية لأزواجهم" أي يوصيكم الله بهن وصية كقوله "يوصيكم الله في أولادكم" الاية, وقوله: "وصية من الله" وقيل: إنما انتصب على معنى فلتوصوا لهن وصية وقرأ آخرون بالرفع وصية على معنى كتب عليكم وصية واختارها ابن جرير, ولا يمنعنه من ذلك لقوله "غير إخراج" فأما إذا انقضت عدتهن بالأربعة أشهر والعشر, أو بوضع الحمل, واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل, فإنهن لا يمنعن من ذلك لقوله " فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف " وهذا القول له اتجاه, وفي اللفظ مساعدة له, وقد اختاره جماعة منهم الإمام أبو العباس بن تيمية ورده آخرون, منهم الشيخ أبو عمر بن عبد البر, وقول عطاء ومن تابعه, على أن ذلك منسوخ بآية الميراث, إن أرادوا ما زاد على الأربعة أشهر والعشر فمسلم, وإن أرادوا أن سكنى الأربعة أشهر وعشر لا تجب في تركة الميت, فهذا محل خلاف بين الأئمة وهما قولان للشافعي رحمه الله, وقد استدلوا على وجوب السكنى في منزل الزوج, بما رواه مالك في موطئه, عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة, عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة, أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري, رضي الله عنهما, أخبرتها أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة, فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة, فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة, قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم قالت: فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر بي فنوديت له فقال كيف قلت؟ فرددت عليه القصة التي ذكرت له شأن زوجي, فقال "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً, قالت: فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك, فأخبرته فاتبعه وقضى به, وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث مالك به. ورواه النسائي أيضاً وابن ماجه من طرق عن سعد بن إسحاق به, وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقوله "وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين" قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لما نزل قوله تعالى: "متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين" قال رجل: إن شئت أحسنت ففعلت, وإن شئت لم أفعل, فأنزل الله هذه الاية "وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين" وقد استدل بهذه الاية, من ذهب من العلماء, إلى وجوب المتعة لكل مطلقة, سواء كانت مفوضة, أو مفروضاً لها, أو مطلقة قبل المسيس, أو مدخولاً بها, وهو قول عن الشافعي رحمه الله, وإليه ذهب سعيد بن جبير, وغيره من السلف, واختاره ابن جرير, ومن لم يوجبها مطلقاً, يخصص من هذا العموم مفهوم قوله تعالى: " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين " وأجاب الأولون بأن هذا من باب ذكر بعض أفراد العموم, فلا تخصيص على المشهور المنصوص, والله أعلم.
ـ وقوله "كذلك يبين الله لكم آياته" أي في إحلاله وتحريمه وفروضه وحدوده, فيما أمركم ونهاكم عنه, بينه ووضحه وفسره, ولم يتركه مجملاً في وقت احتياجكم إليه "لعلكم تعقلون" أي تفهمون وتتدبرون.
242- " كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون ".
242. " كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون ".
242-" كذلك " إشارة إلى ما سبق من أحكام الطلاق والعدة . " يبين الله لكم آياته " وعد بأنه سيبين لعباده من الدلائل والأحكام ما يحتاجون إليه معاشاً ومعاداً . " لعلكم تعقلون " لعلكم تفهمونها فتستعملون العقل فيها .
242. Thus Allah expoundeth unto you His revelations so that ye may understand.
242 - Thus doth God make clear his signs to you: in order that ye may understand.