[البقرة : 240] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
(والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً) فليوصوا (وصيةً) وفي قراءة بالرفع أي عليهم (لأزواجهم) وليعطوهن (متاعاً) ما يتمتعن به من النفقة والكسوة (إلى) تمام (الحول) من موتهم الواجب عليهن تربصه (غير إخراج) حال أي غير مخرجات من مسكنهن (فإن خرجن) بأنفسهن (فلا جناح عليكم) يا أولياء الميت (في ما فعلن في أنفسهن من معروف) شرعا كالتزين وترك الإحداد وقطع النفقة عنها (والله عزيز) في ملكه (حكيم) في صنعه ، والوصية المذكورة منسوخة بآية الميراث وتربص الحول بآية أربعة أشهرٍ وعشراً السابقة المتأخرة في النزول ، والسُكنى ثابتة لها عند الشافعي رحمه الله
قوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا الآية أخرج إسحق ابن راهويه في تفسيره عن مقاتل بن حبان أن رجلا من أهل الطائف قدم المدينة وله أولاد رجال ونساء ومعه أبواه وامرأته فمات بالمدينة فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعطى الوالدين وأعطى أولاده بالمعروف ولم يعط إمرأته شيئا غير أنهم أمروا أن ينفقوا عليها تركة زوجها إلى الحول وفيه نزلت والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا الآية
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: "والذين يتوفون منكم"، أيها الرجال ويذرون أزواجا، يعني زوجات كن له نساء في حياته، بنكاح، لا ملك يمين. ثم صرف الخبر عن ذكر من ابتدأ الخبر بذكره، نظير الذي مضى من ذلك في قوله: " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " [البقرة: 234]، إلى الخبر عن ذكر أزواجهن. وقد ذكرنا وجه ذلك، ودللنا على صحة القول فيه في نظيره الذي قد تقدم قبله، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
ثم قال تعالى ذكره: "وصية لأزواجهم". فاختلفت القرأة في قراءة ذلك:فقرأ بعضهم: "وصية لأزواجهم"، بنصب الوصية، بمعنى: فليوصوا وصية لأزواجهم، أو: عليهم أن يوصوا، وصية لأزواجهم.وقرأ آخرون: وصية لازواجهم برفع الوصية . ثم اختلف أهل العربية في وجه رفع الوصية.فقال بعضهم: رفعت بمعنى: كتبت عليهم الوصية. واعتل في ذلك بأنها كذلك في قراءة عبد الله. فتأويل الكلام على ما قاله هذا القائل: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا، كتبت عليهم وصية لأزواجهم- ثم ترك ذكر كتبت ورفعت الوصية بذلك المعنى، وإن كان متروكا ذكره.
وقال آخرون منهم: بل الوصية مرفوعة بقوله: "لأزواجهم" فتأول: لأزواجهم وصية. والقول الأول أولى بالصواب في ذلك، وهو أن تكون الوصية إذا رفعت مرفوعة بمعنى: كتب عليكم وصية لأزواجكم. لأن العرب تضمر النكرات مرافعها قبلها إذا أضمرت، فإذا أظهرت بدأت به قبلها، فتقول: جاءني رجل اليوم ، وإذا قالوا: رجل جاءني اليوم لم يكادوا يقولونه إلا والرجل حاضر يشيرون إليه ب هذا، أو غائب قد علم المخبر عنه خبره، أو بحذف هذا وإضماره وإن حذفوه، لمعرفة السامع بمعنى المتكلم، كما قال الله تعالى ذكره "سورة أنزلناها" [النور: 1] و "براءة من الله ورسوله" [التوبة:1] فكذلك ذلك في قوله: وصية لأزواجهم .قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا قراءة من قرأه رفعاً، لدلالة ظاهر القرآن على أن مقام المتوفى عنها زوجها في بيت زوجها المتوفى حولا كاملا، كان حقا لها قبل نزول قوله: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا" [البقرة: 234]، وقبل نزول اية الميراث، ولتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي دل عليه الظاهر كن ذلك، أوصى لهن أزواجهن بذلك قبل وفاتهن، أو لم يوصوا لهن به.فإن قال قائل: وما الدلالة على ذلك؟.قيل: لما قال الله تعالى ذكره: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم"، وكان الموصي لا شك، إنما يوصي في حياته بما يأمر بإنفاذه بعد وفاته، وكان محالا أن يوصي بعد وفاته، وكان تعالى ذكره إنما جعل لامرأة الميت سكن الحول بعد وفاته، علمنا أنه حق لها وجب في ماله بغير وصية منه لها، إذ كان الميت مستحيلا أن تكون منه وصية بعد وفاته.ولو كان معنى الكلام على ما تأوله من قال: فليوص وصية، لكان التنزيل: والذين تحضرهم الوفاة ويذرون أزواجا، وصية لأزواجهم، كما قال: "كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية" [البقرة: 18].
وبعد، فلو كان ذلك واجبا لهن بوصية من أزواجهن المتوفين: لم يكن ذلك حفا لهن إذا لم يوص أزواجهن لهن به قبل وفاتهم، ولكان قد كان لورثتهم إحراجهن قبل الحول، وقد قال الله تعالى ذكره: "غير إخراج". ولكن الأمر في ذلك بخلاف ما ظنه في تأويله قارئه: "وصية لأزواجهم"، بمعنى: أن الله تعالى كان أمر أزواجهن بالوصية لهن. وإنما تأويل ذلك: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا، كتب الله لأزواجهم عليكم وصية منه لهن أيها المؤمنون- أن لا تخرجوهن من منازل أزواجهن حولا، كما قال تعالى ذكره في سورة النساء "غير مضار وصية من الله" [النساء: 12]، ثم ترك ذكر: كتب الله ، اكتفاء بدلالة الكلام عليه، ورفعت الوصية بالمعنى الذي قلنا قبل. فإن قال قائل : فهل يجوز نصب "الوصية" على الحال، بمعنى: موصين، لهن وصية؟.قيل: لا، لأن ذلك إنما كان يكون جائزا لو تقدم الوصية من الكلام ما يصلح أن تكون الوصية خارجة منه، فأما ولم يتقدمه ما يحسن أن تكون منصوبة بخروجها منه، فغير جائز نصبها بذلك المعنى. ذكر بعض من قال: إن سكنى حول كامل كان حقا لأزواج المتوفين بعد موتهم، على ما قلنا، أوصى بذلك أزواجهن لهن أو لم يوصوا لهن به، وأن ذلك نسخ بما ذكرنا من الأربعة الأشهر والعشر وا لميراث. حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن منهال قال، حدثنا همام بن يحيى قال، سألت قتادة عن قوله: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج" فقال: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها كان لها السكنى والنفقة حولا في مال زوجها، ما لم تخرج. ثم نسخ ذلك بعد في سورة النساء، فجعل لها فريضة معلومة: الثمن إن كان له ولد، والربع إن لم يكن له ولد، وعدتها أربعة أشهر وعشرا، فقال تعالى ذكره: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا" [البقرة: 234]، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر الحول.حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج" الآية، قال: كان هذا من قبل أن تنزل آية الميراث، فكانت المرأة إذا توفي عنها زوجها كان لها السكنى والنفقة حولا إن شاءت، فنسخ ذلك في سورة النساء، فجعل لها فريضة معلومة: جعل لها الثمن إن كان له ولد، وإلن لم يكن له ولد فلها الربع، وجعل عدتها أربعة أشهر وعشر فقال: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا". حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج"، فكان الرجل إذا مات وترك امرأته، اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله، ثم أنزل الله تعالى ذكره بعد: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، فهذه عدة المتوفى عنها زوجها. إلا أن تكون حاملا، فعدتها أن تضع ما في بطنها. وقال في ميراثها: "ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن" [النساء: 12]، فبين الله ميراث المرأة، وترك الوصية واننفقة. حدثت عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ قال، سمعت عبيد الله بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج"، كان الرجل إذا توفي أنفق على امرأته في عامه إلى الحول، ولا تزوج حتى تستكمل الحول. وهذا منسوخ: نسخ النفقة عليها الربع والثمن من الميراث، ونسخ الحول أربعة أشهر وعشر.حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج" قال: الرجل إذا توفي أنفق على امرأته إلى الحول، ولا تزوج حتى يمضي الحول، فأنزل الله تعالى ذكره: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، فنسخ الأجل الحول، ونسخ النفقة الميراث: الربع والثمن. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن قوله: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج"، قال: كان ميراث المرأة من زوجها من ربعه (1): أن تسكن إن شاءت من يوم يموت زوجها إلى الحول، يقول: "فإن خرجن فلا جناح عليكم" الآية، ثم نسخها ما فرض الله من الميراث، قال، وقال مجاهد: "وصية لأزواجهم" سكنى الحول، ثم نسخ هذه الآية الميراث.حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كان لأزواج الموتى حين كانت الوصية، نفقة سنة. فنسخ الله ذلك الذي كتب للزوجة من نفقة السنة بالميراث، فجعل لها الربع أو الثمن، وفي قوله: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، قال: هذه الناسخة.ذكر من قال: كان ذلك يكون لهن بوصية من أزواجهن لهن به :حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا" الآية، قال: كانت هذه من قبل الفرائض، فكان الرجل يوصي لامرأته ولمن شاء. ثم نسخ ذلك بعد، فألحق الله تعالى بأهل المواريث ميراثهم، وجعل للمرأة إن كان له ولد الثمن، وءإن لم يكن له ولد فلها الربع. وكان ينفق على المرأة حولا من مال زوجها، ثم تحول من بيته. فنسخته العدة أربعة أشهر وعشرا، ونسخ الربع أو الثمن الوصية لهن، فصارت الوصية لذوي القرابة الذين لا يرثون.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم" إلى " فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف "، يوم نزلت هذه الاية، كان الرجل إذا مات أوصى لامرأته بنفقتها وسكناها سنة، وكانت عدتها أربعة أشهر وشهرا، فإن هي خرجت حين تنقضي أربعة أشهر وعشرا، انقطعت عنها النفقة، فذلك قوله: "فإن خرجن"، وهذا قبل أن تنزل آية الفرائض، فنسخه الربع والثمن، فأخذت نصيبها، ولم يكن لها سكنى ولا نفقة.حدثني أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أبي قال، يزعم قتادة أنه كان يوصى للمرأة بنفقتها إلى رأس الحول. ذكر من قال: نسخ ذلك ما كان لهن من المتاع إلى الحول، من غير تبيينه على أي وجه كان ذلك لهن :حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن إبراهيم في قوله: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول"، قال: هى منسوخة.-حدثنا الحسن بن الزبرقان قال، حدثنا أسامة، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت قال: سمعت إبراهيم يقول، فذكر نحوه.حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن حصين، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج"، نسخ ذلك بآية الميراث وما فرض لهن فيها من الربع والثمن، ونسخ أجل الحول أن جعل أجلها أربعة أشهر وعشرا.حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، عن ابن سيرين، عن ابن عباس: أنه قام يخطب الناس ههنا، فقرأ لهم سورة البقرة، فبين لهم منها، فأتى على هذه الآية: "إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين" [البقرة: 180]، قال: فنسخت هذه. ثم قرأ حتى أتى على هذه الآية: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا" إلى قوله: "غير إخراج"، فقال: فقال: وهذه.وقال آخرون: هذه الاية ثابتة الحكم، لم ينسخ منها شيء.ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا" [البقرة: 234]، قال: كانت هذه للمعتدة، تعتد عند أهل زوجها، واجبا ذلك عليها، فأنزل الله: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج" إلى قوله: "من معروف". قال: جعل الله لهم تمام السنة، سبعة أشهر وعشرين ليلة، وصية: إن شاءت سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قول الله تعالى ذكره: "غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم"، قال: والعدة كما هي واجبة.حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى- وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال حدثنا شبل- عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس أنه قال. نسخت هذه الآية عدتها عند أهله، تعتد حيث شاءت، وهو قول الله: "غير إخراج". قال عطاء: إن شاءت اعتدت عند أهله وسكنت في وصيتها، وان شاءت خرجت، لقول الله تعالى ذكره: "فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن"، قال عطاء: جاء الميراث بنسخ السكنى، تعتد حيث شاءت ولا سكنى لها. قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي فى ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره كان جعل لأزواج من مات من الرجال بعد موتهم، سكنى حول في منزله، ونفقتها في مال زوجها الميت إلى انقضاء السنة، ووجب على ورثة الميت أن لا يخرجوهن قبل تمام الحول من المسكن الذي يسكنه، وان هن تركن حقهن من ذلك وخرجن، لم تكن ورثة الميت من خروجهن في حرج. ثم إن الله تعالى ذكره نسخ النفقة بآية الميراث، وأبطل مما كان جعل لهن من سكنى حول سبعة أشهر وعشرين ليلة، وردهن إلى أربعة أشهر وعشر، على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا حجاج قال، أخبرنا حيوة بن شريح، عن ابن عجلان، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، أخبره عن عمته زينب ابنة كعب بن عجرة، "عن فريعة أخت أبي سعيد الخدري: أن زوجها خرج في طلب عبد له، فلحقه بمكان قريب فقاتله، وأعانه عليه أعبد معه فقتلوه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجها خرج في طلب عبد له، فلقيه علوج فقتلوه، وإني في مكان ليس فيه أحد غيري، وإن أجمع لأمري أن أنتقل إلى أهلي! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل امكثى مكانك حتى يبلغ الكتاب أجله".وأما قوله: "متاعا"، فإن معناه: جعل ذلك لهن متاعا، أي الوصية التي كتبها الله لهن.وإنما نصب المتاع لأن في قوله: "وصية لأزواجهم"، معنى: متعهن الله، فقيل: "متاعا"، مصدرا من معناه لا من لفظه. وقوله: "غير إخراج"، فإن معناه أن الله تعالى ذكره جعل ما جعل لهن من الوصية متاعا منه لهن إلى الحول، لا إخراجا من مسكن زوجها، يعني: لا إخراج فيه منه حتى ينقضي الحول. فنصب غير على النعت لـ المتاع كقول القائل: هذا قيام غير قعود، بمعنى: هذا قيام لا قعود معه، أو: لا قعود فيه. وقد زعم بعضهم أنه منصوب بمعنى: لا تخرجوهن إخراجا، وذلك خطأ من القول. لأن ذلك إذا نصب على هذا التأويل، كان نصبه من كلام اخر غير الأول، وإنما هو منصوب بما نصب المتاع على النعت له.قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن المتاع الذي جعله الله لهن إلى الحول في مال أزواجهن بعد وفاتهم وفي مساكنهم، ونهى ورثته عن إخراجهن، إنما هو لهن ما أقمن في مساكن أزواجهن، وأن حقوقهن من ذلك تبطل بخروجهن إن خرجن من منازل أزواجهن قبل الحول من قبل أنفسهن، بغير إخراج من ورثة الميت.ثم أخبر تعالى ذكره: أنه لا حرج على أولياء الميت في خروجهن وتركهن الحداد على أزواجهن.لأن المقام حولا في بيوت أزواجهن والحداد عليه تمام حول كامل، لم يكن فرضا عليهن، وإنما كان ذلك إباحة من الله تعالى ذكره لهن إن أقمن تمام الحول محدات. فأما إن خرجن، فلا جناح على أولياء الميت ولا عليهن فيما فعلن في أنفسهن من معروف، وذلك ترك الحداد. يقول: فلا حرج عليكم في التزين ان تزين وتطيبن وتزوجن، لأن ذلك لهن. وإنما قلنا: لا حرج عليهن في خروجهن ، وإن كان إنما قال تعالى ذكره: "فلا جناح عليكم"
لأن ذلك لو كان عليهن فيه جناح، لكان على أولياء الرجل فيه جناح بتركهم إياهن والخروج، مع قدرتهم على منعهن من ذلك. ولكن لما لم يكن عليهن جناح في خروجهن وترك الحداد، وضع عن أولياء الميص وغيرهم الحرج فيما فعلن من معروف، وذلك في أنفسهن.وقد مضت الرواية عن أهل التأويل بما قلنا في ذلك قبل. وأما قوله: "والله عزيز حكيم"، فإنه يعني تعالى ذكره: "والله عزيز"، في انتقامه ممن خالف أمره ونهيه وتعدى حدوده من الرجال والنساء، فمنع من كان من الرجال نساءهم وأزواجهم ما فرض لهن عليهم في الايات التي مضت قبل: من المتعة والصداق والوصية، وإخراجهن قبل انقضاء الحول، وترك المحافظة على الصلوات وأوقاتها، ومنع من كان من النساء ما ألزمهن الله من التربص عند وفاة أزواجهن عن الأزواج، وخالف أمره في المحافظة على أوقات الصلوات، "حكيم"، فيما قضى بين عباده من قضاياه التي قد تقدمت في الايات قبل قوله: "والله عزيز حكيم"، وفي غير ذلك من أحكامه وأقضيته.
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا " ، ذهب جماعة من المفسرين في تأويل هذه الآية أن المتوفى عنها زوجها كانت تجلس في بيت المتوفى عنها حولاً ، وينفق عليها من ماله ما لم تخرج من المنزل ، فإن خرجت لم يكن على الورثة جناح في قطع النفقة عنها ، ثم نسخ الحول بالأربعة الأشهر والعشر ، ونسخت النفقة بالربع والثمن في سورة (( النساء )) قاله ابن عباس و قتادة و الضحاك و ابن زيد و الربيع وفي السكنى خلاف للعلماء ، روى البخاري عن ابن الزبير قال : قلت لعثمان هذه الآية التي في (( البقرة )) : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا " إلى قوله : " غير إخراج " قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها ؟ قال : يا ابن أخي لا أغير شيئا ً منه من مكانه ، وقال الطبري عن مجاهد : إن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها ، والعدة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشراً ، ثم جعل الله لهن وصية منه سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة ، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها ، وإن شاءت خرجت ، وهو قول الله عز وجل : " غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم " ، قال ابن عطية : وهذا كله قد زال حكمه بالنسخ المتفق عليه إلا قوله الطبري مجاهداً رحمهما الله تعالى ، وفي ذلك نظر على الطبري ، وقال القاضي عياض : والإجماع منعقد على أن الحول منسوخ وأن عدتها أربعة أشهر وعشر ، قال غيره معنى قوله (( وصية )) أي من الله تعالى تجب على النساء بعد وفاة الزوج بلزوم البيوت سنة ثم نسخ ، قلت : ما ذكره الطبري عن مجاهد صحيح ثابت ، خرج البخاري قال : حدثنا إسحاق قال حدثنا روح قال حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا " قال : كانت هذه العدة تعتد عند أهل زوجها واجبة فأنزل الله تعالى : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا " إلى قوله : " من معروف " قال : جعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية ، إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت ، وهو قول الله تعالى : " غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم " إلا أن القول الأول أظهر لقوله عليه السلام : " إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة عند رأس الحول "، الحديث ، وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم عن حالة المتوفى أزواجهن قبل ورود الشرع ، فلما جاء الإسلام أمرهن الله تعالى بملازمة البيوت حولاً ثم نسخ بالأربعة الأشهر والعشر ، هذا مع وضوحه في السنة الثابتة المنقولة بأخبار الآحاد إجماع من علماء المسلمين لا خلاف فيه ، قاله أبو عمر ، قال : وكذلك سائر الآية ، فقوله عز وجل : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج " منسوخ كله عند جمهور العلماء ، ثم نسخ الوصية بالسكنى للزوجات في الحول ، إلا رواية شاذة مهجورة جاءت عن ابن أبي نجيح عن مجاهد لم يتابع عليها ، ولا قال بها فيما زاد على الأربعة الأشهر والعشر أحد من علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فيما علمت ، وقد روى ابن جريج عن مجاهد مثل ما عليه الناس ، فانعقد الإجماع وارتفع الخلاف ، وبالله التوفيق .
الثانية : قوله تعالى : " وصية " قرأ نافع و ابن كثير و الكسائي و عاصم في رواية أبي بكر (( وصية )) بالرفع على الابتداء ، وخبره " لأزواجهم " ، ويحتمل أن يكون المعنى عليهم وصية ، ويكون قوله : " لأزواجهم " صفة ، قال الطبري : قال بعض النحاة : المعنى كتبت عليهم وصية ، ويكون قوله " لأزواجهم " صفة ، قال : وكذل هي قراءة عبد الله بن مسعود ، وقرأ أبو عمر و حمزة و ابن عامر (( وصية )) بالنصب ، وذلك حمل على الفعل ، أي فليوصوا وصية ، ثم الميت لا يوصي ، ولكنه أراد إذا قربوا من الوفاة ، و (( لأزواجهم )) على هذه القراءة أيضاً صفة ، وقيل : المعنى أوصى الله وصية ، (( متاعاً )) أي متعوهن متاعاً ، أو جعل الله لهن ذلك متاعاً لدلالة الكلام عليه ، ويجوز أن يكون نصباً على الحال أو بالمصدر الذي هو الوصية ، كقوله : " أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما " [ البلد : 14 - 15 ] ، والمتاع هاهنا نفقة سنتها .
الثالثة : قوله تعالى : " غير إخراج " معناه ليس لأولياء الميت ووارثي المنزل إخراجها و (( غير )) نصب على المصدر عند الأخفش ، كأنه قال لا إخراجاً ، وقيل : نصب لأنه صفة المتاع ، وقيل : نصب على الحال من الموصين ، أي متعوهن غير مخرجات وقيل : بنزع الخافض ، أي من غير إخراج .
الرابعة : قوله تعالى : " فإن خرجن " الآية ، معناه باختيارهن قبل الحول ، " فلا جناح عليكم " ، أي لا حرج على أحد ولي أو حاكم أو غيره ، لأنه لا يجب عليها المقام في بيت زوجها حولاً وقيل : أي لا جناح في قطع النفقة عنهن ، أو لا جناح عليهن في التشوف إلى الأزواج ، إذ قد انقطعت عنهن مراقبتكم أيها الورثة ، ثم عليها ألا تتزوج قبل انقضاء العدة بالحول ، أو لا جناح في تزويجهن بعد انقضاء العدة ، لأنه قال " من معروف " وهو ما يوافق الشرع ، " والله عزيز " صفة تقتضي الوعيد بالنسبة لمن خالف الحد في هذه النازلة فأخرج المرأة وهي لا تريد الخروج ، " حكيم " أي محكم لما يريد من أمور عباده .
قال الأكثرون: هذه الاية منسوخة بالتي قبلها, وهي قوله "يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً". قال البخاري: حدثنا أمية حدثنا يزيد بن زريع, عن حبيب, عن ابن أبي مليكة, قال ابن الزبير: قلت لعثمان بن عفان "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً" قد نسختها الاية الأخرى, فلم تكتبها أو تدعها, قال يا ابن أخي, لا أغير شيئاً منه من مكانه. ومعنى هذا الإشكال الذي قاله ابن الزبير لعثمان: إذا كان حكمها قد نسخ بالأربعة الأشهر فما الحكمة في إبقاء رسمها مع زوال حكمها, وبقاء رسمها بعد التي نسختها يوهم بقاء حكمها ؟ فأجابه أمير المؤمنين, بأن هذا أمر توقيفي, وأنا وجدتها مثبتة في المصحف كذلك بعدها, فأثبتها حيث وجدتها, قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح, حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء, عن ابن عباس في قوله: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج" فكان للمتوفى عنها زوجها نفقتها وسكناها في الدار سنة, فنسخها آية المواريث فجعل لهن الثمن أو الربع مما ترك الزوج, ثم قال: وروي عن أبي موسى الأشعري وابن الزبير ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك وزيد بن أسلم والسدي ومقاتل بن حيان وعطاء الخراساني والربيع بن أنس أنها منسوخة. وروي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس, قال: كان الرجل إذا مات وترك امرأته اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله, ثم أنزل الله بعد "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً" فهذه عدة المتوفى عنها زوجها, إلا أن تكون حاملاً, فعدتها أن تضع ما في بطنها, وقال "ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم" فبين ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة, قال: وروي عن مجاهد والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك والربيع ومقاتل بن حيان, قالوا: نسختها "أربعة أشهر وعشراً". قال: وروي عن سعيد بن المسيب, قال: نسختها التي في الأحزاب "يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات" الاية, (قلت) وروي عن مقاتل وقتادة أنها منسوخة بآية الميراث, وقال البخاري: حدثنا إسحاق بن راهويه, حدثنا روح, حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً" قال: كانت هذه للمعتدة, تعتد عند أهل زوجها واجب. فأنزل الله " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف " قال: جعل الله تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة, وصية إن شاءت سكنت في وصيتها, وإن شاءت خرجت, وهو قول الله "غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم" فالعدة كما هي واجب عليها, زعم ذلك عن مجاهد رحمه الله, وقال عطاء: قال ابن عباس: نسخت هذه الاية عدتها عند أهلها, فتعتد حيث شاءت, وهو قول الله تعالى: "غير إخراج" قال عطاء: إن شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت في وصيتها, وإن شاءت خرجت, لقول الله "فلا جناح عليكم فيما فعلن" قال عطاء: ثم جاء الميراث, فنسخ السكنى فتعتد حيث شاءت, ولا سكنى لها, ثم أسند البخاري عن ابن عباس مثل ما تقدم عنه بهذا القول, الذي عول عليه مجاهد وعطاء, من أن هذه الاية لم تدل على وجوب الاعتداد سنة, كما زعمه الجمهور, حتى يكون ذلك منسوخاً بالأربعة الأشهر وعشر, وإنما دلت على أن ذلك كان من باب الوصاة بالزوجات بأن يمكن من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولاً كاملاً إن اخترن ذلك, ولهذا قال "وصية لأزواجهم" أي يوصيكم الله بهن وصية كقوله "يوصيكم الله في أولادكم" الاية, وقوله: "وصية من الله" وقيل: إنما انتصب على معنى فلتوصوا لهن وصية وقرأ آخرون بالرفع وصية على معنى كتب عليكم وصية واختارها ابن جرير, ولا يمنعنه من ذلك لقوله "غير إخراج" فأما إذا انقضت عدتهن بالأربعة أشهر والعشر, أو بوضع الحمل, واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل, فإنهن لا يمنعن من ذلك لقوله " فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف " وهذا القول له اتجاه, وفي اللفظ مساعدة له, وقد اختاره جماعة منهم الإمام أبو العباس بن تيمية ورده آخرون, منهم الشيخ أبو عمر بن عبد البر, وقول عطاء ومن تابعه, على أن ذلك منسوخ بآية الميراث, إن أرادوا ما زاد على الأربعة أشهر والعشر فمسلم, وإن أرادوا أن سكنى الأربعة أشهر وعشر لا تجب في تركة الميت, فهذا محل خلاف بين الأئمة وهما قولان للشافعي رحمه الله, وقد استدلوا على وجوب السكنى في منزل الزوج, بما رواه مالك في موطئه, عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة, عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة, أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري, رضي الله عنهما, أخبرتها أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة, فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة, فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة, قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم قالت: فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر بي فنوديت له فقال كيف قلت؟ فرددت عليه القصة التي ذكرت له شأن زوجي, فقال "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً, قالت: فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك, فأخبرته فاتبعه وقضى به, وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث مالك به. ورواه النسائي أيضاً وابن ماجه من طرق عن سعد بن إسحاق به, وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقوله "وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين" قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لما نزل قوله تعالى: "متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين" قال رجل: إن شئت أحسنت ففعلت, وإن شئت لم أفعل, فأنزل الله هذه الاية "وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين" وقد استدل بهذه الاية, من ذهب من العلماء, إلى وجوب المتعة لكل مطلقة, سواء كانت مفوضة, أو مفروضاً لها, أو مطلقة قبل المسيس, أو مدخولاً بها, وهو قول عن الشافعي رحمه الله, وإليه ذهب سعيد بن جبير, وغيره من السلف, واختاره ابن جرير, ومن لم يوجبها مطلقاً, يخصص من هذا العموم مفهوم قوله تعالى: " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين " وأجاب الأولون بأن هذا من باب ذكر بعض أفراد العموم, فلا تخصيص على المشهور المنصوص, والله أعلم.
ـ وقوله "كذلك يبين الله لكم آياته" أي في إحلاله وتحريمه وفروضه وحدوده, فيما أمركم ونهاكم عنه, بينه ووضحه وفسره, ولم يتركه مجملاً في وقت احتياجكم إليه "لعلكم تعقلون" أي تفهمون وتتدبرون.
هذا عود إلى بقية الأحكام المفصلة فيما سلف. وقد اختلف السلف ومن تبعهم من المفسرين في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ فذهب الجمهور إلى أنها منسوخة بالأربعة الأشهر والعشر كما تقدم، وأن الوصية المذكورة فيها منسوخة بما فرض الله لهن من الميراث. وحكى ابن جرير عن مجاهد أن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها، وأن العدة أربعة أشهر وعشر، ثم جعل الله لهن وصية منه سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت. وقد حكى ابن عطية والقاضي عياض أن الإجماع منعقد على أن الحول منسوخ وأن عدتها أربعة أشهر وعشر. وقد أخرج عن مجاهد ما أخرجه ابن جرير عنه البخاري في صحيحه. وقوله: 240- "وصية" قرأ نافع وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر والكسائي بالرفع على أن ذلك مبتدأ لخبر محذوف يقدر مقدماً: أي عليهم وصية، وقيل: إن الخبر قوله: "لأزواجهم" وقيل: إنه خبر محذوف: أي وصية الذين يتوفون وصية أو حكم الذين يتوفون وصية. وقرأ أبو عمر وحمزة وابن عامر بالنصب على تقدير فعل محذوف: أي فليوصوا وصية، أو أوصى الله وصية، أو كتب الله عليهم وصية. وقوله: "متاعاً" منصوب بوصية أو بفعل محذوف: أي متعوهن متاعاً، أو جعل الله لهن ذلك متاعاً، ويجوز أن يكون منتصباً على الحال. والمتاع هنا: نفقة السنة. وقوله: "غير إخراج" صفة لقوله: "متاعاً" وقال الأخفش: إنه مصدر كأنه قال: لا إخراجاً، وقيل إنه حال: أي متعوهن غير مخرجات، وقيل: منصوب بنزع الخافض: أي من غير إخراج، والمعنى: أنه يجب على الذين يتوفون أن يوصوا قبل نزول الموت بهم لأزواجهم أن يمتعن بعدهم حولاً كاملاً بالنفقة والسكنى من تركهم ولا يخرجن من مساكنهن. وقوله: "فإن خرجن" يعني باختيارهن قبل الحول "فلا جناح عليكم" أي: لا حرج على الولي والحاكم وغيرهما "فيما فعلن في أنفسهن" من التعرض للخطاب والتزين لهم. وقوله: "من معروف" أي: بما هو معروف في الشرع غير منكر. وفيه دليل على أن النساء كن مخيرات في سكنى الحول وليس ذلك بحتم عليهن، وقيل: المعنى لا جناح عليكم في قطع النفقة عنهن وهو ضعيف، لأن متعلق الجناح هو مذكور في الآية بقوله: "فيما فعلن".
240. قوله تعالى: " والذين يتوفون منكم " يا معشر الرجال " ويذرون " أي يتركون " أزواجاً " أي زوجات " وصية لأزواجهم " قرأ أهل البصرة و ابن عامر و حمزة و حفص وصية بالنصب على معنى فليوصوا وصية، وقرا الباقون بالرفع أي كتب عليكم الوصية " متاعاً إلى الحول " متاعاً نصب على المصدر أي متعوهن متاعاً، وقيل: جعل الله ذلك لهن متاعاً، والمتاع نفقة سنة لطعامها وكسوتها وسكنها وما تحتاج إليه " غير إخراج " نصب على الحال، وقيل بنزع حرف على الصفة أي من غير إخراج، نزلت هذه الآية في رجل من أهل الطائف يقال له حكيم بن الحارث هاجر إلى المدينة وله اولاد ومعه أبواه وامرأته فمات، فأنزل الله هذه الآية فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم والديه وأولاده من ميراثه ولم يعط امرأته شيئاً، وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولاً كاملاً، وكانت عدة الوفاة في ابتداء الإسلام حولاً وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول، وكانت نفقتها وسكناها واجبة في مال زوجها تلك السنة مالم تخرج، ولم يكن لها الميراث، فإن خرجت من بيت زوجها سقطت نفقتها، وكان على الرجل أن يوصي بها فكان كذلك حتى نزلت آية الميراث، فنسخ الله تعالى نفقة الحول بالربع والثمن، ونسخ عدة الحول بأربعة أشهر وعشر.
قوله تعالى: " فإن خرجن " يعني من قبل أنفسهن قبل الحول من غير إخراج الورثة " فلا جناح عليكم " يا أولياء الميت " في ما فعلن في أنفسهن من معروف " يعني التزين للنكاح، وارفع الجناح عن الرجال وجهان: أحدهما: لا جناح عليكم في قطع النفقة إذا خرجن قبل انقضاء الحول.
والآخر: لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج لأن مقامها في بيت زوجها حولا غير واجب عليها خيرها الله تعالى بين أن تقيم حولاً ولها النفقة والسكنى، وبين أن تخرج فلا نفقة ولا سكنى إلى أن نسخه بأربعة أشهر وعشر.
" والله عزيز حكيم "
240" والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصيةً لأزواجهم " قرأها بالنصب أبو عمرو و ابن عامر و حمزة و حفص عن عاصم على تقدير والذين يتوفون منكم يوصون وصية ، أو ليوصوا وصية ، أو كتب الله عليهم وصية ، أو ألزم الذين يتوفون وصية . ويؤيد ذلك قراءة كتب عليكم الوصية لأزواجكم متاعاً إلى الحول مكانه . وقرأ الباقون بالرفع على تقدير ووصية الذين يتوفون ، أو وحكمهم وصية ، أو والذين يتوفون أهل وصية ، أو كتب عليهم وصية ، أو عليهم وصية وقرئ متاع بدلها . " متاعاً إلى الحول " نصب بيوصون إن أضمرت وإلا فبالوصية وبمتاع على قراءة من قرأ لأنه بمعنى التمتيع . " غير إخراج " بدل منه ، أو مصدر مؤكد كقولك هذا القول غير ما تقول ، أو حال من أزواجهم أي غير مخرجات ، والمعنى : أنه يجب على الذين يتوفون أن يوصوا قبل أن يحتضروا لأزواجهم بأن يمتعن بعدهم حولاً بالسكنى والنفقة ، وكان ذلك في أول الإسلام ثم نسخت المدة بقوله : " أربعة أشهر وعشراً " وهو وإن كان متقدماً في التلاوة فهو متأخر في النزول ، وسقطت النفقة بتوريثها الربع أو الثمن ، والسكنى لها بعد ثابتة عندنا خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله . " فإن خرجن " عن منزل الأزواج . " فلا جناح عليكم " أيها الأئمة . " فيما فعلن في أنفسهن " كالتطيب وترك الإحداد . " من معروف " مما لم ينكره الشرع ، وهذا يدل على أنه لم يكن يجب عليها ملازمة مسكن الزوج والحداد عليه وإنما كانت مخيرة بين الملازمة وأخذ النفقة وبين الخروج وتركها . " والله عزيز " ينتقم ممن خالفه منهم . " حكيم " يراعي مصالحهم .
240. (In the case of) those of you who are about to die and leave behind them wives, they should bequeath unto their wives a provision for the year without turning them out, but if they go out (of their own accord) there is no sin for you in that which they do of themselves within their rights. Allah is Mighty, Wise.
240 - Those of you who die and leave widows should bequeath for their widows a year's maintenance and residence; but if they leave (the residence), there is no blame on you for what they do with themselves, provided it is reasonable. and God is exalted in power, wise.