[البقرة : 219] يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
(يسألونك عن الخمر والميسر) القمار ما حكمهما (قل) لهم (فيهما) أي في تعاطيهما (إثم كبير) عظيم ، وفي قراءة بالمثلثة {كثير} لما يحصل بسببهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش (ومنافع للناس) باللذة والفرح في الخمر وإصابة المال بلا كد في الميسر (وإثمهما) أي ما ينشأ عنهم من المفاسد (أكبر) أعظم (من نفعهما) ولما نزلت شربها قوم وامتنع عنها آخرون إلى أن حرمتها آية المائدة (ويسألونك ماذا ينفقون) أي ما قدره (قل) أنفقوا (العفوَ) أي الفاضل عن الحاجة ولا تنفقوا ما تحتاجون إليه وتضيعوا أنفسكم ، وفي قراءة بالرفع بتقدير هو (كذلك) أي كما بين لكم ما ذكر (يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون)
قوله تعالى يسألونك عن الخمر يأتي حديثها في سورة المائدة
قوله تعالى ويسألونك ماذا ينفقون أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد أو عكرمة عن ابن عباس أن نفرا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا فما ننفق منها فأنزل الله ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو وأخرج أيضا عن يحيى أنه بلغه أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله إن لنا أرقاء وأهلين فما ننفق من أموالنا فأنزل هذه الآية
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك أصحابك يا محمد عن الخمر وشربها. و "الخمر" كل شراب خمر العقل فستره وغطى عليه. وهو من قول القائل: خمرت الإناء إذا غطيته، و خمر الرجل، إذا دخل في الخمر. ويقال: هو في خمار الناس وغمارهم، يراد به دخل في عرض الناس. ويقال للضبع: خامري أم عامر، أي استتري. وما خامر العقل من داء وسكر فخالطه وغمره فهو خمر. ومن ذلك أيضا خمار المرأة، وذلك لأنها تستر به، رأسها فتغطيه. ومنه يقال: هو يمشي لك الخمر، أي مستخفيا، كما قال العجاج:
في لامع العقبان لا يأتي الخمر يوجه الأرض ويستاق الشجر
ويعني بقوله: لا يأتي الخمر، لا يأتي مستخفيا ولا مسارقة، ولكن ظاهرا برايات وجيوش. و العقبان جمع عقاب ، وهي الرايات. وأما "الميسر" فإنها، المفعل من قول القائل: يسر لي هذا الأمر، إذا وجب لى فهو ييسر لي يسرا وميسرا والياسر الواجب، بقداح وجب ذلك، أو فتاحة أو غير ذلك. ثم قيل للمقامر، ياسر ويسر، كما قال الشاعر:
فبت كأنني يسر غبين يقلب، بعدما اختلع، القداحا
وكما قال النابغة:
أو ياسر ذهب القداح بوفره أسف تآكله الصديق مخلع
يعني بالياسر: المقامر. وقيل للقمار ميسر. وكان مجاهد يقول نحو ما قلنا في ذلك. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصمقال، حدثنا عيسى، عن ابن ابي نجيح، عن مجاهد في قوله: "يسألونك عن الخمر والميسر" قال: القمار، وإنما سمي الميسر لقولهم: أيسروا واجزروا، كقولك: ضع كذا وكذا. حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصمقال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: كل القمار من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز.
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله: إياكم وهذه الكعاب الموسومة التي تزجرون زجرا، فإنهن من الميسر.حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي الأحوص مثله.حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن نافع قال، حدثنا شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي الأحوص، عن عبد الله أنه قال: إياكم وهذه الكعاب التي تزجرون زجرا، فإنها من الميسر.حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا علي بن مسهر، عن عاصم، عن محمد بن سيرين قال: القمار ميسر. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا سفيان، عن عاصم الأحول، عن محمد بن سيرين قال: كل شيء له خطر- أو: في خطر، أبوعامر شك- فهو من الميسر.
حدثنا الوليد بن شجاع أبو همام قال، حدثنا علي بن مسهر، عن عاصم، عن محمد بن سيرين قال: كل قمار ميسر، حتى اللعب بالنرد على القيام والصياح والريشة يجعلها الرجل في رأسه. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن ابن سيرين قال: كل لعب فيه قمار من شرب أو صياح أو قيام، فهومن الميسر. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا الأشعث، عن الحسن أنه قال: الميسر القمار. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا المعتمر، عن ليث، عن طاوس وعطاء قالا: كل قمار فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد قال: الميسر القمار.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن عمير، عن أبي الأحوص، عن عبيد الله قال: إياكم وهاتين الكعبتين يزجر بهما زجرا، فإنهما من الميسر.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة قال: أما قوله: "والميسر"، فهو القمار كله. حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عبيد الله بن عمر: أنه سمع عمر بن عبيد الله يقول للقاسم بن محمد: النرد ميسر، أرأيت الشطرنج؟ ميسر هو؟ فقال القاسم: كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر. حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: الميسر القمار. كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله. حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: الميسر القمار. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: الميسر القمار. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الليث، عن مجاهد وسعيد بن جبير قالا: الميسر القمار كله، حتى الجوز الذي يلعب به الصبيان. حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، سمعت عبيد الله بن سليمان يحدث، عن الضحاك قوله: "والميسر"، قال: القمار. حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: الميسر القمار. حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد قال، حدثنا موسى بن عقبة، عن نافع: أن ابن عمر كان يقول: القمار من الميسر. حدثنا القاسمقال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: الميسر، قداح العرب وكعاب فارس، قال: وقال ابن جريج: وزعم عطاء بن ميسرة: أن الميسر القمار كله. حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد بن عبد العزيز قال، قال مكحول: الميسر القمار. حدثنا الحسين بن محمد الذارع قال، حدثنا الفضل بن سليمان وشجاع بن الوليد، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: الميسر القمار. وأما قوله: "قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس"، فإنه يعني بذلك جل ثناؤه: قل يا محمد لهم: فيهما، يعني في الخمر والميسر "إثم كبير"، فالإثم الكبير الذي فيهما ما ذكر عن السدي فيما:- حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:
أما قوله: "فيهما إثم كبير"، فإثم الخمر أن الرجل يشرب فيسكر فيؤذي الناس. وإثم الميسر أن يقامر الرجل فيمنع الحق ويظلم.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصمقال، حدثنا عيسى، عن ابن ابي نجيح،عن مجاهد: "قل فيهما إثم كبير"، قال: هذا أول ما عيبت به الخمر. حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: "قل فيهما إثم كبير"، يعني ما ينقص من الدين عند من يشربها. قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل الإثم الكبير الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه في الخمر الميسر: في الخمر ما قاله السدي: زوال عقل شارب الخمر إذا سكر من شربه إياها حتى يعزب عنه معرفة ربه، وذلك أعظم الآثام. وذلك معنى قول ابن عباس إن شاء الله. وأما في الميسر، فما فيه من الشغل به عن ذكر الله وعن الصلاة، ووقوع العداوة والبغضاء بين المتياسرين بسببه، كما وصف ذلك به ربنا جل ثناؤه بقوله: "إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة" [المائدة: 91]. وأما قوله: "ومنافع للناس"، فإن منافع الخمر كانت أثمانها قبل تحريمها، وما يصلون إليه بشربها من اللذة، كما قال الأعشى في صفتها:
لنا من ضحاها خبث نفس وكأبة وذكرى هموم ما تغب أذاتها
وعند العشاء طيب نفس ولذة ومال كثير، عزة نشواتها
وكما قال حسان:
فنشربها فتتركنا ملوكا وأسدا، ما ينهنهنا اللقاء
وأما منافع الميسر، فما يصيبون فيه من أنصباء الجزور. وذلك أنهم كانوا يياسرون على الجزور، وإذا أفلج الرجل منهم صاحبه نحره، ثم اقتسموا أعشارا على عدد القداح، وفي ذلك يقول أعشى بني ثعلبة:
وجزور أيسار دعوت إلى الندى ونياط مقفرة أخاف ضلالها
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصمقال، حدثنا عيسى، عن ابن ابي نجيح، عن مجاهد قال: المنافع ههنا ما يصيبون من الجزور. حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما منافعهما، فإن منفعة الخمر في لذته وثمنه، ومنفعة الميسر فيما يصاب من القمار. حدثنا أبو هشام الرفاعي قال حدثنا ابن أبي زائدة، عن ورقاء، عن ابن ابي نجيح، عن مجاهد: "قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس"، قال: منافعهما قبل أن يحرما. حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية عن علي، عن ابن عباس: "ومنافع للناس"، قال: يقول فيما يصيبون من لذتها وفرحها إذا شربوها.
واختلفت القرأة في قراءة ذلك: فقرأه عظم أهل المدينة وبعض الكوفيين والبصريين: "قل فيهما إثم كبير" بالباء، بمعنى قل: في
شرب هذه، والقمار هذا، كبير من الآثام. وقرأه آخرون من أهل المصرين البصرة والكوفة: قل فيهما إثم كثير، بمعنى الكثرة من الاثام. وكأنهم رأوا أن الإثم بمعنى الآثام وإن كان في اللفظ واحدا، فوصفوه بمعناه من الكثرة. قال أبو جعفر: وأولى القرائتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأه بالباء: "قل فيهما إثم كبير"، لإجماع جميعهم على قوله: "وإثمهما أكبر من نفعهما"، وقرائته بالباء. وفي ذلك دلالة بينة على أن الذي وصف به الإثم الأول من ذلك، هو العظم والكبر، لا الكثرة في العدد. ولو كان الذي وصف به من ذلك الكثرة، لقيل: وإثمهما أكثر من نفعهما. قال أبو جعفر: يعني بذلك عز ذكره: والإثم بشرب [الخمر] هذه والقمار هذا، أعظم وأكبر مضرة عليهم من النفع الذي يتناولون بهما. وإنما كان ذلك كذلك، لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض، وقاتل بعضهم بعضا، وإذا ياسروا وقع بينهم فيه بسببه الشر، فأداهم ذلك إلى ما يأثمون به. ونزلت هذه الآية في الخمر قبل أن يصرح بتحريمها، فأضاف الإثم جل ثناؤه إليهما، وإنما الإثم بأسبابهما، إذ كان عن سببهما يحدث. وقد قال عدد من أهل التأويل: معنى ذلك: وإثمهما بعد تحريمهما أكبر من نفعهما قبل تحريمهما. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "وإثمهما أكبر من نفعهما"، قال: منافعهما قبل التحريم، وإثمهما بعدعا حرما. حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن ابي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما"، ينزل المنافع قبل التحريم، والإثم بعدما حرم. حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "وإثمهما أكبر من نفعهما"، يقول: إثمهما بعد التحريم، أكبر من نفعهما قبل التحريم. حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: "وإثمهما أكبر من نفعهما"، يقول: ما يذهب من الدين والإثم فيه، أكبر مما يصيبون في فرحها إذا شربوها. قال أبو جعفر: وإنما اخترنا ما قلنا في ذلك من التأويل لتواتر الأخبار وتظاهرها بأن هذه نزلت قبل تحريم الخمر والميسر، فكان معلوما بذلك أن الإثم الذي ذكره الله في هذه الآية فأضافه إليهما، إنما عنى به الإثم الذي يحدث عن أسبابهما- على ما وصفنا- لا الإثم بعد التحريم.
ذكر الأخبار الدالة على ما قلنا من أن هذه الآية نزلت قبل تحريم الخمر: حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا قيس، عن سالم، عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس"، فكرهها قوم لقوله: "فيهما إثم كبير"، وشربها قوم لقوله: "ومنافع للناس"، حتى نزلت: "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون" [النساء: 43]، قال: فكانوا يدعونها في الصلاة ويشربونها في غير حين الصلاة، حتى نزلت: "إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه" [المائدة: 90] فقال عمر: ضيعة لك! اليوم قرنت بالميسر!. حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا محمد بن أبي حميد، عن أبي توبة المصري، قال، " سمعت عبدالله بن عمر يقول: أنزل الله عز وجل في الخمر ثلاثا، فكان أول ما أنزل: "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير" الآية، فقالوا: يا رسول الله، ننتفع بها ونشربها كما قال الله جل وعز في كتابه! ثم نزلت هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" الآية، قالوا: يا رسول الله، لا نشربها عند قرب الصلاة. قال: ثم نزلت: "إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه" الآية، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرمت الخمر". حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن قالا: قال الله: "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون"، و "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما"، فنسختها الآية التي في المائدة، فقال: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر"، الآية. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عوف، عن أبي القموص زيد بن علي قال: أنزل الله عز وجل في الخمر ثلاث مرات. فأول ما أنزل قال الله: "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما"، قال: فشربها من المسلمين من شاء الله منهم للى ذلك، حتى شرب رجلان فدخلا في الصلاة فجعلا يهجران كلاما لا يدري عوف ما هو، فأنزل الله عز وجل فيهما: "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون"، فشربها من شربها منهم، وجعلوا يتقونها عند الصلاة، حتى شربها- فيما زعم أبو القموص- رجل، فجعل ينوح على قتلى بدر:
تحيي بالسلامة أم عمرو وهل لك بعد رهطك من سلام!
ذريني أصطبح بكرا، فإني رأيت الموت نقب عن هشام
وود بنو المغيرة لو فدوه بألف من رجال أو سوام
كأي بالطوي طوي بدر من الشيزى يكلل بالسنام
كأي بالطوي طوي بدر من الفتيان والحلل الكرام
قال: فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فزعا يجر رداءه من الفزع، حتى انتهى إليه، فلما عاينه الرجل، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا كان بيده ليضربه، قال: أعوذ بالله من غضب الله ورسوله! والله لا أطعمها أبدا! فأنزل الله تحريمها: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس" إلى قوله: "فهل أنتم منتهون" [المائدة: 90]، فقال عمربن الخطاب رضي الله عنه: انتهينا، انتهينا!!. حدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا إسحاق الأزرق، عن زكريا، عن سماك، عن الشعبي قال: نزلت في الخمر أربع آيات: "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس"، فتركوها، ئم نزلت: "تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا" [النحل: 67]، فشربوها ثم نزلت الآيتان في المائدة: "إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام" إلى قوله: "فهل أنتم منتهون". حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال نزلت هذه الآية: "يسألونك عن الخمر والميسر" الاية، فلم يزالوا بذلك يشربونها، حتى صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما، فدعا ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم علي بن أبي طالب، فقرأ: "قل يا أيها الكافرون"، ولم يفهمهما. فأنزل الله عز وجل يشدد في الخمر: "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون"، فكانت لهم حلالا يشربون من صلاة الفجر حتى يرتفع النهار، أو ينتصف، فيقومون إلى صلاة الظهر وهم مصحون، ثم لا يشربونها حتى يصلوا العتمة- وهي العشاء- ثم يشربونها حتى ينتصف الليل، وينامون، ثم يقومون إلى صلاة الفجر وقد صحوا- فلم يزالوا بذلك يشربونها حتى صنع سعد بن أبي وقاص طعاما، فدعا ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم رجل من الأنصار، فشوى لهم رأس بعير ثم دعاهم عليه، فلما أكلوا وشربوا من الخمر، سكروا وأخذوا في الحديث. فتكلم سعد بشيء فغضب الأنصاري، فرفع لحي البعير فكسر أنف سعد، فأنزل الله نسخ الخمر وتحريمها وقال: "إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام" إلى قوله: "فهل أنتم منتهون".
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة- وعن رجل، عن مجاهد- في قوله: "يسألونك عن الخمر والميسر"، قال: لما نزلت هذه الآية شربها بعض الناس وتركها بعض، حتى نزل تحريمها في سورة المائدة. حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصمقال، حدثنا عيسى، عن ابن ابي نجيح، عن مجاهد: "قل فيهما إثم كبير"، قال: هذا أول ما عيبت به الخمر. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس"، فذمهما الله ولم يحرمهما، لما أراد أن يبلغ بهما من المدة والأجل. ثم أنزل الله في سورة النساء أشد منها: "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون"، فكانوا يشربونها، حتى إذا حضرت الصلاة سكتوا عنها، فكان السكر عليهم حراما. ثم أنزل الله جل وعز في سورة المائدة بعد غزوة الأحزاب: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر" إلى: "لعلكم تفلحون" فجاء تحريمها في هذه الآية، قليلها وكثيرها، ما أسكر منها وما لم سكر. وليس للعرب يومئذ عيش أعجب إليهم منها. حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن ابي جعفر، عن أبيه عن الربيع قوله: "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما"، قال: لما نزلت هذه الآية " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ربكم يقدم في تحريم الخمر قال: ثم نزلت "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن ربكم يقدم في تحريم الخمر. قال: ثم نزلت: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه" " [المائدة: 90]، فحرمت الخمر عند ذلك.حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "يسألونك عن الخمر والميسر" الآية كلها، قال: نسخت ثلاثة، في سورة المائدة، وبالحد الذي حد النبي صلى الله عليه وسلم، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم. قال: كان النبي-صلى الله عليه وسلم يضربهم بذلك حدا، ولكنه كان يعمل في ذلك برأيه، ولم يكن حدا مسمى وهو حد، وقرأ: "إنما الخمر والميسر" الآية.
قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بذلك: ويسألك يا محمد أصحابك: أي شيء ينفقون من أموالهم بتصدقون به؟ فقل لهم يا محمد: أنفقوا منها العفو. واختلف أهل التأويل في معنى "العفو" في هذا الموضع. فقال بعضهم: معناه الفضل. ذكر من قال ذلك:
حدثنا عمرو بن علي الباهلي قال، حدثنا وكيع- ح، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي-عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: العفوما فضل عن أهلك. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "قل العفو"، أي الفضل. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: هو الفضل. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء في قوله:"العفو"، قال: الفضل. حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال:"العفو"، يقول: الفضل. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: كان القوم يعملون في كل يوم بما فيه، فإن فضل ذلك اليوم فضل عن العيال قدموه، ولا يتركون عيالهم جوعا ويتصدقون به على الناس. حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا يونس، عن الحسن في قوله: "ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: هو الفضل، فضل المال.
وقال آخرون: معنى ذلك: ما كان عفواً لا يبين على من أنفقه أو تصدق به. ذكر من قال ذلك: حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبدالله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس: "ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، يقول: ما لا يتبين في أموالكم. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن جريج، عن طاوس في قول الله جل وعز: "ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: اليسير من كل شيء. وقال آخرون: معنى ذلك: الوسط من النفقة، ما لم يكن إسرافا ولا إقتارا. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر بن المفضل، عن عوف، عن الحسن
في قوله: "ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، يقول: لا تجهد مالك حتى ينفد للناس. حدثنا القاسمقال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن قوله: "يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: العفو في النفقة: أن لا تجهد مالك حتى ينفد فتسأل الناس. حدثنا القاسمقال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال سألت عطاء عن قوله: "يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: العفو ما لم يسرفوا ولم يقتروا في الحق، قال: وقال مجاهد: العفو صدقة عن ظهر غنى. حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا عوف، عن الحسن في قوله: "يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: هو أن لا تجهد مالك.
وقال آخرون ة معنى ذلك: "قل العفو"، خذ منهم ما أتوك به من شيء قليلا أو كثيرا. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، يقول: ما أتوك به من شيء قليل أو كثير فاقبله منهم. وقال آخرون: معنى ذلك: ما طاب من أموالكم. ذكر من قال ذلك:حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن ابي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: "يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال يقول: الطيب منه، يقول: أفضل مالك وأطيبه. حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن ابي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قال: كان يقول: العفو، الفضل، يقول: أفضل مالك. وقال آخرون: معنى ذلك: الصدقة المفروضة. ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن ابي نجيح، عن قيس بن سعد- أوعيسى، عن قيس، عن مجاهد- شك أبوعاصم- قول الله جل وعز: "قل العفو"، قال: الصدقة المفروضة.قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى "العفو": الفضل من مال الرجل
عن نفسه وأهله في مؤونتهم ما لا بد لهم منه. وذلك هو الفضل الذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإذن في الصدقة، وصدقته في وجوه البر. ذكر بعض الأخبار التي رويت عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم بذلك: حدثنا علي بن مسلم قال، حدثنا أبو عاصم، وابن عجلان، عن المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رجل: يا رسول الله، عندي دينار! قال: أنفقه على نفسك. قال: عندي آخر! قال: أنفقه على أهلك. قال: عندي آخر! قال: أنفقه على ولدك! قال: عندي آخر! قال: فأنت أبصر! حدثني محمد بن معمر البحراني قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا ابن جريج قال، أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه، فإن كان له فضل فليبدأ مع نفسه بمن يعول، ثم إن وجد فضلا بعد ذلك فليتصدق على غيرهم". حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمربن قتادة، عن محمود بن لبيد، " عن جابر بن عبد الله قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل ببيضة من ذهب أصابها في بعض المعادن، فقال: يا رسول الله، خذ هذه مني صدقة، فوالله ما أصبحت أملك غيرها! فأعرض عنه، فأتاه من ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك، فأعرض عنه. ثم قال له مثل ذلك، فأعرض عنه. ثم قال له مثل ذلك، فقال: هاتها! مغضبا، فأخذها فحذفه بها حذفة لو أصابه شجه أو عقره، ثم قال: يجيء أحدكم بماله كله يتصدق به، ويجلس يتكفف الناس إنما الصدقة عن ظهر غنى". حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن إبراهيم المخرمي قال: سمعت أبا الأحوص يحدث، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ارضخ من الفضل، وابدأ بمن تعول، ولا تلام على كفاف". وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستقصاء ذكرها الكتاب. فإذا كان الذي أذن صلى الله عليه وسلم لأمته، الصدقة من أموالهم بالفضل عن حاجة المتصدق، فالفضل من ذلك هو "العفو" من مال الرجل، إذ كان "العفو"، في كلام العرب، في المال وفي كل شيء: هو الزيادة والكثرة- ومن ذلك قوله جل ثناؤه: "حتى عفوا" بمعنى: زادوا على ما كانوا عليه من العدد وكثروا، ومنه قول الشاعر:
ولكنا نعض السيف منها بأسوق عافيات الشحم كوم
يعني به: كثيرات الشحوم. ومن ذلك قيل للرجل: خذ ما عفا لك من فلان ، يراد به ما فضل فصفا لك عن جهده بما لم يجهده، كان بينا (1) أن الذي أذن الله به في قوله: "قل العفو" لعباده من النفقة، فأذنهم بإنفاقه إذا أرادوا إنفاقه، هو الذي بين لأمته رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "خير الصدقة ما أنفقت عن غنى" ، وأذنهم به. فإن قال لنا قائل: وما تنكر أن يكون ذلك "العفو" هو الصدقة المفروضة؟. قيل: أنكرنا ذلك لقيام الحجة على أن من حفت في ماله الزكاة المفروضة فهلك جميع ماله إلا قدر الذي لزم ماله لأهل سهمان الصدقة، أن عليه أن يسلمه إليهم، إذا كان هلاك ماله بعد تفريطه في أداء الواجب كان لهم في ماله، إليهم. وذلك لا شك أنه جهده- إذا سلمه إليهم- لا عفوه. وفي تسمية الله جل ثناؤه ما علم عباده وجه إنفاقهم من أموالهم عفوا، ما يبطل أن يكون مستحقا اسم جهد في حالة. واذا كان ذلك كذلك، فبين فساد قول من زعم أن معنى "العفو" هو ما أخرجه رب المال إلى إمامه فأعطاه، كائنا ما كان من قليل ماله وكثيره، وقول من زعم أنه الصدقة المفروضة. وكذلك أيضا لا وجه لقول من يقول إن معناه: ما لم يتبين في أموالكم ، "لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له أبو لباب : إن من توبتي أن أنخلع إلى الله ورسوله من مالي صدقة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: يكفيك من ذلك الثلث "، وكذلك روي عن كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له نحوا من ذلك. والثلث لا شك أنه بين فقده من مال ذي المال، ولكنه عندي كما قال جل ثناؤه: "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما" [الفرقان: 67]، وكما قال جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم: "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا" [الاسراء: 29]، وذلك هو ما حده صلى الله عليه وسلم فيما دون ذلك على قدر المال واحتماله. ثم اختلف أهل العلم في هذه الآية: هل هي منسوخة أم ثابتة الحكم على العباد؟. فقال بعضهم: هي منسوخة، نسختها الزكاة المفروضة.
ذكر من قال ذلك: حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: "يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: كان هذا قبل أن تفرض الصدقة. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: لم تفرض فيه فريضة معلومة. ثم قال: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" [الأعراف: 199]، ثم نزلت الفرائض بعد ذلك مسماة. حدثني موسى بن هارون قال حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: "يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، هذه نسختها الزكاة. وقال آخرون: بل مثبتة الحكم غير منسوخة. ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصمقال، حدثنا عيسى، عن ابن ابي نجيح، عن قيس بن سعد، أو عيسى، عن قيس، عن مجاهد- شك أبو عاصمقال- قال: العفو الصدقة المفروضة.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن عباس على ما رواه عنه عطية، من أن قوله: "قل العفو"، ليس بإيجاب فرض فرض من الله حقا في ماله، ولكنه إعلام منه ما يرضيه من النفقة مما يسخطه، جوابا منه لمن سأل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عما فيه له رضا. فهوأدب من الله لجميع خلقه على ما أدبهم به في الصدقات غير المفروضات ثابت الحكم، غير ناسخ لحكم كان قبله بخلافه، ولا منسوخ بحكم حدث بعده. فلا ينبغي لذي ورع ودين أن يتجاوز في صدقاته التطوع وهباته وعطايا النفل وصدقته، ما أدبهم به نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: "إذا كان عند أحدكم فضل فليبدأ بنفسه، ثم بأهله، ثم بولده"، ثم يسلك حينئذ في الفضل مسالكه التي ترضي الله ويحبها. وذلك هو القوام بين الإسراف والإقتار، الذي ذكره الله عزوجل في كتابه، إن شاء الله تعالى. ويقال لمن زعم أن ذلك منسوخ: ما الدلالة على نسخه، وقد أجمع الجميع لا خلاف بينهم: على أن للرجل أن ينفق من ماله صدقة وهبة ووصية، الثلث؟ فما الذي دل على أن ذلك منسوخ؟. فإن زعم أنه يعني بقوله: إنه منسوخ ، أن إخراج العفو من المال غير لازم فرضا، وأن فرض ذلك ساقط بوجود الزكاة في المال. قيل له: وما الدليل على أن إخراج العفو كان فرضا فأسقطه فرض الزكاة، ولا دلالة في الآية على أن ذلك كان فرضاً، إذ لم يكن أمر من الله عز ذكره، بل فيها الدلالة على أنها جواب ما سأل عنه القوم على وجه التعرف لما فيه لله الرضا من الصدقات؟. ولا سبيل لمدعي ذلك إلى دلالة توجب صحة ما ادعى. قال أبو جعفر: وأما القرأة فإنهم اختلفوا في قراءة "العفو". فقرأته عامة قرأة الحجاز وقرأة الحرمين ومعظم قرأة الكوفيين: "قل العفو" نصبا. وقرأه بعض قرأة اليصريين: "قل العفو" رفعاً. فمن قرأه نصبا جعل ماذا حرفا واحدا، ونصبه بقوله: "ينفقون"، على ما قد بينت قبل- ثم نصب "العفو" على ذلك. فيكون معنى الكلام حينئذ: ويسألونك أي شيء ينفقون؟.
ومن قرأه رفعا جعل ما من صلة ذا، ورفعوا "العفو". فيكون معنى الكلام حينئذ: ما الذي ينفقون؟ قل: الذي ينفقون، العفو. ولو نصب "العفو"، ثم جعل ماذا حرفين، بمعنى: يسألونك ماذا ينفقون؟ قل: ينفقون العفو، ورفع الذين جعلوا ماذا حرفا واحدا، بمعنى: ما ينفقون؟ قل: الذي ينفقون، خبرا، كان صوابا صحيحا في العربية. وبأي القرائتين قرىء ذلك، فهو عندي صواب، لتقارب معنيهما، مع استفاضة القراءة بكل واحدة منهما. غير أن أعجب القرائتين إلي، وإن كان الأمر كذلك، قراءة من قرأه بالنصب، لأن من قرأ به من القرأة أكثر، وهو أعرف وأشهر. قال أبو جعفر: يعني بقوله عز ذكره: "كذلك يبين الله لكم الآيات"، هكذا يبين، أي: كما بينت لكم أعلامي وحججي- وهي آياته - في هذه السورة، وعرفتكم فيها ما فيه خلاصكم من عقابي، وبينت لكم حدودي وفرائضي، ونبهتكم فيها على الأدلة على وحدانيتي، ثم على حجج رسولي إليكم، فأرشدتكم إلى ظهور الهدى، فكذلك أبين لكم في سائر كتابي الذي أنزلته على نبيي محمد صلى الله عليه وسلم آياتي وحججي وأوضحها لكم، لتتفكروا في وعدي ووعيدي، وثوابي وعقابي، فتختاروا طاعتي التي تنالون بها ثوابي في الدار الآخرة، والفوز بنعيم الأبد، على القليل من اللذات واليسير من الشهوات، بركوب معصيتي في الدنيا الفانية، التي من ركبها كان معاده إلي، ومصيره إلى ما لا قبل له به من عقابي وعذابي. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس: "كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون * في الدنيا والآخرة"، قال: يعني في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "لعلكم تتفكرون * في الدنيا والآخرة"، قال يقول: لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة، فتعرفون فضل الآخرة على الدنيا. حدثنا القاسم، قال حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قوله: "كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون * في الدنيا والآخرة"، قال: أما الدنيا، فتعلمون أنها دار بلاء ثم فناء، والآخرة دار جزاء ثم بقاء، فتتفكرون فتعملون للباقية منهما، قال: وسمعت أبا عاصم يذكر نحو هذا أيضا. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون * في الدنيا والآخرة"، وأنه من تفكر فيهما عرف فضل إحداهما على الأخرى، وعرف أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء، وأن الاخرة دار جزاء ثم دار بقاء، فكونوا ممن يصرم حاجة الدنيا لحاجة الآخرة.
فيه تسع مسائل :
الأول : قوله تعالى : " يسألونك " السائلون هم المؤمنون ، كما تقدم ، والخمر مأخوذة من خمر إذا ستر ، ومنه خمار المرأة ، وكل شيء غطى شيئاً فقد خمرة ، ومنه " خمروا آنيتكم " ، فالخمر تخمر العقل ، أي تغطيه وتستره ، ومن ذلك الشجر الملتف يقال له : الخمر ( بفتح الميم ) لأنه يعطي ما تحته ويستره ، يقال منه أخمرت الأرض كثر خمرها ، قال الشاعر :
ألا يا زيد والضحاك سيرا فقد جاوزتما خمر الطريق
أي سيرا مدلين فقد جاوزتما الوهدة التي يستتر بها الذئب وغيره ، وقال العجاج يصف جيشاً يمشي برايات وجيوش غير مستخف :
في لامع العقبان لا يمشي الخمر يوجه الأرض ويستاق الشجر
ومنه قولهم : دخل في غمار الناس وخمارهم ، أي هو في مكان خاف ، فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطيه سميت بذلك ، وقيل : إنما سميت الخمر خمراً لأنها تركت حتى أدركت ، كما يقال : قد اختمر العجين ، أي بلغ إدركه ، وخمر الرأي ، أي ترك حتى يتبين فيه الوجه ، وقيل : إنما سميت الخمر خمراً لأنها تخالط العقل ، من المخامرة وهي المخالطة ، ومنه قولهم : دخلت في خمار الناس ، أي اختلطت بهم ، فالمعاني الثلاثة متقاربة ، فالخمر تركت وخمرت حتى أدركت ، ثم خالطت العقل ، ثم خمرته ، والأصل الستر .
والخمر : ماء العنب الذي غلى أو طبخ ، وما خامر العقل من غير فهو في حكمه ، لأن إجماع العلماء أن القمار كله حرام ، وإنما ذكر الميسر من بينه فجعل كله قياساً على الميسر ، والميسر إنما كان قماراً في الجزر خاصة ، فكذلك كل ما كان الخمر فهو بمنزلتها .
الثانية : والجمهور من الأمة على أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فمحرم قليله وكثيره ، والحد في ذلك واجب ، وقال أبو حنيفة و الثوري و ابن أبي ليلى و ابن شبرمة وجماعة من فقهاء الكوفة : ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فلا حلال ، وإذا سكر منه أحد دون أن يتعمد الوصول إلى حد السكر فلا حد عليه ، وهذا ضعيف يرده النظر والخبر ، على ما يأتي بيانه في (( المائدة والنحل )) إن شاء الله تعالى .
الثالثة : قال بعض المفسرين : إن الله تعالى لم يدع شيئاً من الكرامة والبر إلا أعطاه هذه الأمة ، ومن كرامته وإحسانه أنه لم يوجب عليهم الشرائع دفعة واحدة ، ولكن أوجب عليهم مرة بعد مرة ، فكذلك تحريم الخمر ، وهذه الآية أول ما نزل في أمر الخمر ، ثم بعده " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " [ النساء : 43 ] ، ثم قوله : " إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون " [ المائدة : 91 ] ثم قوله : " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه " [ المائدة : 90 ] على ما يأتي بيانه في (( المائدة )) .
الرابعة : قوله تعالى : " والميسر " الميسر : قمار العرب بالأزلام ، قال ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله وأهله ، فنزلت الآية ، وقال مجاهد و محمد بن سيرين و الحسن و ابن المسيب و عطاء و قتادة و معاوية بن صالح و طاوس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس أيضاً : كل شيء فيه قمار من نرد وشطرنج فهو الميسر ، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب إلا ما أبيح من الرهان في الخيل والقرعة في إفراز الحقوق ، على ما يأتي ، وقال مالك : الميسر ميسران : ميسر اللهو ، وميسر القمار ، فمن ميسر اللهو النرد والشطرنج والملاهي كلها ، وميسر القمار : ما يخاطر الناس عليه ، قال علي بن أبي طالب : الشطرنج ميسر العجم ، وكل ما قومر به فهو ميسر عند مالك وغيره من العلماء ، وسيأتي في (( يونس )) زيادة بيان لهذا الباب إن شاء الله تعالى :
والميسر مأخوذ من اليسر ، وهو وجوب الشيء لصاحبه ، يقال : يسر لي كذا إذا وجب فهو ييسر يسراً وميسراً والياسر : اللاعب بالقداح ، وقد يسر ييسر ، قال الشاعر :
‌ فأعنهم وايسر بما يسروا به وإذا هم نزلوا بضنك فأنزل ‌
وقال الأزهري : الميسر : الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه ، سمي ميسراً لأنه يجزأ أجزاء ، فكأنه موضع التجزئه ، وكل شيء جزأته فقد يسرته ، والياسر : الجازر ، لأنه يجزئ لحم الجزور قال : وهذا الأصل في الياسر ، ثم يقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور : ياسرون ، لأنهم جازرون إذ كانوا سبباً لذلك ، وفي الصحاح : ويسر القوم الجزور أي اجتزروها واقتسموا أعضاءها قال سحيم بن وثيل اليربوعي :
‌ أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم ‌
كان قد وقع عليه سباء فضرب عليه بالسهام ويقال : يسر القوم إذا قامروا ، ورجل يسر وياسر يمعنى ، والجمع ايسار ، قال النابغة :
‌ أني أتمم أيساري وأمنحهم مثنى الأيادي وأكسو الجفنة الأدما ‌
وقال طرفة :
‌ وهم أيسار لقمان إذا أغلت الشتوة أبداء الجزر ‌
وكان من تطوع بنحرها ممدوحاً عندهم ، قال الشاعر :
وناجية نحرت لقوم صدق وما ناديت أيسار الجزر
الخامسة : روى مالك في الموطأ عن داود بن حصين أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : كان من الميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين ، وهذا محمول عند مالك وجمهور أصحابه في الجنس الواحد ، حيوانه بلحمه ، وهو عنده من باب المزابنة والغرر والقمار ، لأنه لا يدري هل في الحيوان مثل اللحم الذي أعطى أو أقل أو أكثر ، وبيع اللحم باللحم لا يجوز متفاضلاً ، فكان بيع الحيوان باللحم كبيع اللحم المغيب في جلده إذا كانا من جنس واحد ، والجنس الواحد عنده الإبل والبقر والغنم والظباء والوعول وسائر الوحوش ، وذوات الأربع المأكولات كلها عنده جنس واحد ، لا يجوز بيع شيء من حيوان هذا الصنف والجنس كله بشيء واحد من لحمه بوجه من الوجوه ، لأنه عنده من باب المزابنة ، كبيع الزبيب بالعنب والزيتون بالزيت والشيرج بالسمسم ، ونحو ذلك ، والطير عنده كله جنس واحد ، وكذلك الحيتان من سمك وغيره ، وروي عنه أن الجراد وحده صنف وقال الشافعي وأصحابه و الليث بن سعيد : لا يجوز بيع اللحم بالحيوان على حال من الأحوال من جنس واحد كان أم من جنسين مختلفين ، على عموم الحديث ، وروي عن ابن عباس أن جزوراً نحرت على عهد أبي بكر الصديق فقسمت على عشرة أجزاء ، فقال رجل : أعطوني جزءاً منها بشاة ، فقال أبو بكر : لا يصلح هذا قال الشافعي : ولست أعلم لأبي بكر في ذلك مخالفاً من الصحابة ، قال أبو عمر : قد روي عن ابن عباس أنه أجاز بيع الشاة باللحم ، وليس بالقوي ، وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كره أن يباع حي بميت ، يعني الشاة المذبوحة بالقائمة ، قال سفيان ، ونحن لا نرى به بأساً ، قال المزني : إن لم يصح الحديث في بيع الحيوان باللحم فالقياس أنه جائز ، وإن صح بطل القياس واتبع الأثر ، قال أبو عمر : وللكوفيين في أنه جائز بيع اللحم بالحيوان حجج كثيرة من جهة القياس والإعتبار ، إلا أنه إذا صح الأثر بطل القياس والنظر ، وروى مالك عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان باللحم " ، قال أبو عمر ، ولا أعلمه يتصل عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه ثابت ، وأحسن أسانيده مرسل سعيد بن المسيب على ما ذكره مالك في موطئه ، وإليه ذهب الشافعي ، وأصله أنه لا يقبل المراسيل إلا أنه زعم أنه افتقد مراسيل سعيد فوجدها أو أكثرها صحاحاً ، فكره بيع أنواع الحيوان بأنواع اللحوم على ظاهر الحديث وعمومه ، لأنه لم يأت أثر يخصه ولا إجماع ، ولا يجوز عنده أن يخص النص بالقياس ، والحيوان عنده اسم لكل ما يعيش في البر والماء وإن اختلفت أجناسه ، كالطعام الذي هو اسم لكل مأكول أو مشروب ، فأعلم .
السادسة : قوله تعالى : " قل فيهما " يعني الخمر والميسر " إثم كبير " إثم الخمر ما يصدر عن الشارب من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش والزور ، وزوال العقل الذي يعرف به ما يجب لخالقه ، وتعطيل الصلوات والتعرق عن ذكر الله ، إلى غير ذلك ، روى النسائي عن عثمان رضي الله عنه قال : اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث ، إنه كان رجل ممن كان قبلكم تعبد فعلقته امرأة غوية ، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له : إنا ندعوك للشهادة ، فأنطلق مع جاريتها فطفقت كلما دخل باباً أغلقته دونه ، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر ، فقالت : إني والله ما دعوتك للشهادة ، ولكن دعوتك لتقع علي ، أو تشرب من هذه الخمر كأساً أو تقتل هذا الغلام ، قال : فأسقيني من هذه الخمر كأساً ، فسقته كأساً ، قال : زيدوني ، فلم يرم حتى وقع عليها ، وقتل النفس ، فاجتنبوا الخمر ، فإنها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر ، إلا ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه ، وذكر أبو عمر في الإستيعاب ، وروي أن الأعشى لما توجه غلى المدينة ليسلم فلقيه بعض المشركين في الطريق فقالوا له : أين تذهب ؟ فأخبرهم بأنه يريد محمداً صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : لا تصل إليه ، فإنه يأمرك بالصلاة ، فقال : إن خدمة الرب واجبة ، فقالوا : إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء ، فقال : اصطناع المعروف واجب ، فقيل له : إنه ينهى عن الزني فقال : هو فحش وقبيح في العقل ، وقد صرت شيخاً فلا أحتاج إليه ، فقيل له : إنه ينهى عن شرب الخمر ، فقال : أما هذا فإني لا أصبر عليه ! فرجع ، وقال : أشرب الخمر سنة ثم أرجع إليه ، فلم يصل إلى منزله حتى سقط عن البعير فأنكسرت عنقه فمات ، وكان قيس بن عاصم المنقري شراباً لها في الجاهلية ثم حرمها على نفسه ، وكان سبب ذلك إنه غمز عكنة ابنته وهو سكران ، وسب أبويه ، ورأى القمر فتكلم بشيء ، وأعطى الخمار كثيراً من ماله ، فما أفاق أخبر بذلك فحرمها على نفسه ، وفيها يقول :
رأيت الخمر صالحة وفيها خصال تفسد الرجل الحليما
فلا والله أشربها صحيحاً ولا أشفى بها أبداً سقيما
ولا أعطي بها ثمناً حياتي ولا أدعو لها أبداً نديماً
فإن الخمر تفضح شاربيها وتجنيهم بها الأمر العظيما
قال أبو عمر : وروى ابن الأعرابي عن المفضل الضبي أن هذه الأبيات لأبي محجن الثقفي قالها في تركه الخمر ، وهو القائل رضي الله عنه :
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
وجلده عمر الحد عليها مراراً ، ونفاه إلى جزيرة في البحر ، فلحق بسعد فكتب إليه عمر أن يحبسه فحبسه ، وكان أحد الشجعان البهم ، فلما كان من أمره في حرب القادسية ما هو معروف حل قيوده وقال : لا نجلدك على الخمر أبداً ، قال أبو محجن : وأنا والله لا أشربها أبداً ، فلم يشربها بعد ذلك ، في رواية : قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد وأطهر منها ، وأما إذ بهرجتني فوالله لا أشربها أبداً ، وذكر الهيثم بن عدي أنه أخبره من رأى قبر أبي محجن بأذربيجان ، أو قال : في نواحي جرجان ، وقد نبتت عليه ثلاث أصول كرم وقد طالت وأثمرت ، وهي معروشة على قبره ، ومكتوب على القبر (( هذا قبر أبي محجن )) قال : فجعلت أتعجب وأذكر قوله :
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة
ثم إن الشارب يصير ضحكة للعقلاء ، فيلعب ببوله وعذرته ، ربما يمسح وجهه ، حتى رؤي بعضهم يمسح وجهه ببوله ويقول : اللهم أجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ، ورؤي بعضهم والكلب يلحس وجهه وهو يقول له : أكرمك الله .
وأما القمار فيورث العداوة والبغضاء ، لأنه كل أكل مال الغير بالباطل .
السابعة : قوله تعالى : " ومنافع للناس " أما في الخمر فربح التجارة ، فإنهم كانوا يجلبونها من الشام برخص فيبيعونها في الحجاز بربح ، وكانوا لا يرون المماسكة فيها ، فيشتري طالب الخمر بالثمن الغالي ، هذا أصح ما قيل في منفعتها ، وقد قيل في منافعها : إنها تهضم الطعام ، وتقوي الضعف ، وتعين على الباه ، وتسخي البخيل ، وتشجع الجبان ، وتصفي اللون ،إلى غير ذلك من اللذة بها ، وقد قال حسان بن ثابت رضي الله عنه :
ونشربها فتتركنا ملوكاً وأسداً ما ينهنهنا اللقاء
إلى غير ذلك من أفراحها ، وقال آخر :
فإذا شربت فإنني رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير
ومنفعة الميسر مصير الشيء إلى الإنسان في القمار بغير كد ولا تعب ، فكانوا يشترون الجزور ، ويضربون بسهامهم ، فمن خرج سهمه أخذ نصيبه من اللحم ولا يكون عليه من الثمن شيء ، ومن بقي سهمه آخراً عليه ثمن الجزور كله ولا يكون له من اللحم شيء ، وقيل : منفعته التوسعة على المحاويج ، فإن من قمر منهم كان لا يأكل من الجزور وكان يفرقه في المحتاجين .
وسهام الميسر أحد عشر سهماً ، منها سبعة لها حظوظ وفيها فروض على عدد الحظوظ ، وهي : (( الفذ )) ، وفيه علامة واحدة وله نصيب وعليه نصيب إن خاب ، الثاني (( التوأم )) وفيه علامتان وله وعليه نصيبان ، الثالث (( الرقيب )) وفيه ثلاث علامات على ما ذكرنا ، والرابع (( الحلس )) ، وله أربع ، الخامس (( النافز )) والنافس أيضاً وله خمس ، السادس (( المسبل )) وله ست ، السابع ، ( المعلى )) وله سبع ، فذلك ثمانية وعشرون فرضاً وأنصباء الجزور كذلك في قول الأصمعي ، وبقي من السهام أربعة ، وهي الإغفال لا فروض لها ولا أنصباء ، وهي : (( المصدر )) و(( المضعف )) و (( المنيح )) و(( السفيح )) وقيل : الباقية الأغفال الثلاثة : (( السفيح )) و (( المنيح )) و (( الرغدة )) تزاد هذه الثلاثة لتكثر السهام على الذي يجيلها فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلاً ، ويسمى المجيل المفيض والضارب والضريب والجمع الضرباء ، وقيل : يجعل خلفه رقيب لئلا يحابي أحداً ، ثم يجثو الضريب على ركبتيه ، ويلتحف بثوب ويخرج رأسه ويدخل بده في الربابة فيخرج وكانت عادة العرب ان تضرب الجزور بهذه السهام في الشتوة وضيق الوقت وكلب البرد على الفقراء ، يشتري الجزور ويضمن الأيسار ثمنها ويرضى صاحبها من حقه ، وكانوا يفتخرون بذلك ويذمون من لم يفعل ذلك منهم ، ويسمونه (( البرم )) قال متمم بن نويرة :
ولا برماً تهدي النساء لعرسه إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا
ثم تنحر وتقسم على عشرة أقسام قال ابن عطية : وأخطأ الأصمعي في قسمة الجزور ، فذكر أنها على قدر حظوظ السهام ثمانية وعشرون قسماً ، وليس كذلك ، ثم يضرب على العشرة فمن فاز سهمه بأن يخرج من الربابة متقدماً أخذ أنصباءه وأعطاها الفقراء ، والربابة ( بكسر الراء ) : شبيهة بالكنانة تجمع فيها سهام الميسر ، وربما سموا جميع السهام ربابة ، قال أبو ذؤيب يصف الحمار وأتته :
وكأنهن ربابة وكأنه يسر يفيض على القداح ويصدع
والربابة أيضاً : العهد والميثاق ، قال الشاعر :
وكنت أمراً أفضت إليك ربابتي وقبلك ربتني فضعت ربوت
وفي أحيان ربما تقدموا لأنفسهم ثم يغرم الثمن من لم يفز سهمه ، كما تقدم ،
ويعيش بهذه السيرة فقراء الحي ، ومنه قول الأعشى :
المطعموا الضيف إذا ما شتوا والجاعلو القوت على الياسر
ومنه قول الآخر :
بأيديهم مقرومة ومغالق يعود بأرزاق العفاة منيحها
و(( المنيح )) في هذا البيت المستمنح ، لأنهم يستعيرون السهم الذي قد املس وكثر فوزه ، فذلك المنيح الممدوح ، وأما المنيح الذي هو أحد الأغفال فذلك إنما يوصف بالكر ، وإياه أراد الأخطل بقوله :
ولقد عطفن على فزارة عطفة كر المنيح وجلن ثم مجالا
وفي الصحاح : (( والمنيح سهم من سهام الميسر مما لا نصيب له إلا أن يمنح صاحبه شيئاً )) ومن الميسر قول لبيد :
إذا يسروا لم يورث اليسر بينهم فواحش ينعى ذكرها بالمصايف
فهذا كله نفع الميسر ، إلا أنه أكل المال بالباطل .
الثامنة : قوله تعالى : " وإثمهما أكبر من نفعهما " أعلم الله جل وعز أن الإثم أكبر من النفع ، وأعود بالضرر في الآخرة ، فالإثم الكبير بعد التحريم والمنافع قل التحريم وقرأ حمزة و الكسائي (( كثير )) بالثاء المثلثة ، وحجتهما : " أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الخمر ولعن معها عشرة : بائعها ومبتاعها والمشتراة له وعاصرها والمعصورة له وساقيها وشاربها وحاملها والمحمولة له وآكل ثمنها " ، وأيضاً فجمع المنافع يحسن معه جمع الآثام و (( كثير )) بالثاء المثلثة يعطي ذلك ، وقرأ باقي القراء وجمهور الناس (( كبير )) بالباء الموحدة ، وحجتهم أن الذنب في القمار وشرب الخمر من الكبائر ، فوصفه بالكبير أليق ، وأيضاً فاتفاقهم على (( أكبر )) حجة لـ(( ـكبير )) بالباء بواحدة ، وأجمعوا على رفض (( أكثر )) بالثاء المثلثة ، إلا في مصحف عبد الله بن مسعود فإن فيه (( قل فيهما إثم كثير )) و(( إثمهما أكثر )) بالثاء مثلثة في الحرفين .
التاسعة : قال قوم من أهل النظر : حرمت الخمر بهذه الآية ، لأن الله تعالى قد قال : " قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم " [ الأعراف : 33 ] فأخبر في هذه الآية أن فيها إثماً فهو حرام ، قال ابن عطية : ليس هذا النظر بجيد ، لأن الإثم الذي فيها هو الحرام ، لا هي بعينها على ما يقتضيه هذا النظر .
قلت : وقال بعضهم : في هذه الآية ما دل على تحريم الخمر لأنه سماه إثماً ، وقد حرم الإثم في آية أخرى ، وهو قوله عز وجل : " قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن " [ الأعراف : 33 ] وقال بعضهم : الإثم أراد به الخمر ، بدليل قول الشاعر :
شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم يذهب بالعقول
قلت : وهذا أيضاً ليس بجيد ، لأن الله تعالى لم يسم الخمر إثماً في هذه الآية ، وإنما قال : " قل فيهما إثم كبير " ولم يقل : قل هما إثم كبير ، وأما آية (( الأعراف )) وبيت الشعر فيأتي الكلام فيهما هناك مبيناً ، إن شاء الله تعالى ، وقد قال قتادة : إنما في هذه الآية ذم الخمر ، فأما التحريم فيعلم بآية أخرى وهي آية (( المائدة )) وعلى هذا أكثر المفسرين .
قوله تعالى : " ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون * في الدنيا والآخرة " فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : " قل العفو " قراءة الجمهور بالنصب ، وقرأ أبو عمرو وحده بالرفع ، وأختلف فيه عن ابن كثير ، وبالرفع قراءة الحسن و قتادة و ابن أبي إسحاق قال النحاس وغيره ، إن جعلت (( ذا )) بمعنى الذي كان الإختيار الرفع ، على معنى : الذي ينفقون هو العفو ، وجاز النصب ، وإن جعلت (( ما )) و (( ذا )) شيئاً واحداً كان الإختيار النصب على معنى : قل ينفقون العفو ، وجاز الرفع ، وحكى النحويون : ماذا تعلمت ، أنحواً أم شعراً ؟ بالنصب والرفع ، على أنهما جيدان حسنان ، إلا أن التفسير في الآية على النصب .
الثانية : قال العلماء : لما كان السؤال في الآية المتقدمة في قوله تعالى " ويسألونك ماذا ينفقون " سؤالاً عن النفقة إلى من تصرف ، كما بيناه ودل عليه الجواب ، والجواب خرج على وفق السؤال ، كان السؤال الثاني في هذه الآية عن قدر الإنفاق ، وهو في شأن عمرو بن الجموح - كما تقدم - فإنه لما نزل " قل ما أنفقتم من خير فللوالدين " [ البقرة ك 215 ] قال : كم أنفق ؟ فنزل " قل العفو " والعفو : ما سهل وتيسر وفضل ، ولم يشق على القلب إخراجه ، ومنه قول الشاعر :
خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
فالمعنى : أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ، ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة ، هذا أولى ما قيل في تأويل الآية ، وهو معنى قول الحسن و قتادة و عطاء و السدي و القرظي محمد بن كعب و ابن أبي ليلى وغيرهم ، قالوا : العفو ما فضل عن العيال ، ونحوه عن ابن عباس ، وقال مجاهد : صدقة عن ظهر غنى ، وكذا قال عليه السلام : " خير الصدقة ما أنفقت عن غنى " وفي حديث آخر : " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى " وقال قيس بن سعد : هذه الزكاة المفروضة ، وقال جمهور العلماء : بل هي نفقات التطوع ، وقيل : هي منسوخة ، وقال الكلبي : كان الرجل بعد نزول هذه الآية إذا كان له مال من ذهب أو فضة أو زرع أو ضرع نظر إلى ما يكفيه عياله لنفقة سنة أمسكه وتصدق بسائره ، وإن كان ممن يعمل بيده أمسك ما يكفيه وعياله يوماً وتصدق بالباقي ، حتى نزلت آية الزكاة المفروضة فنسخت هذه الآية وكل صدقة أمروا بها ، وقال قوم : هي محكمة ، وفي المال حتى سوى الزكاة والظاهر يدل على القول الأول .
الثالثة : قوله تعالى : " كذلك يبين الله لكم الآيات " قال المفضل بن سلمة : أي في أمر النفقة : " لعلكم تتفكرون " .
قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد, حدثنا إسرائيل عن أبي ميسرة, عن عمر أنه قال: لما أنزل تحريم الخمر, قال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً, فنزلت هذه الاية التي في البقرة "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير" فدعي عمر, فقرئت عليه فقال. اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً, فنزلت الاية التي في النساء "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى: أن لا يقربن الصلاة سكران, فدعي عمر, فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً, فنزلت الاية التي في المائدة, فدعي عمر, فقرئت عليه فلما بلغ " هل أنتم منتهون " قال عمر: انتهينا انتهينا. هكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن إسرائيل عن أبي إسحاق, وكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق الثوري عن أبي إسحاق, عن أبي ميسرة واسمه عمرو بن شرحبيل الهمداني الكوفي, عن عمر وليس له عنه سواه, لكن قد قال أبو زرعة: لم يسمع منه, والله أعلم. وقال علي بن المديني: هذا إسناد صالح صحيح, وصححه الترمذي, وزاد ابن أبي حاتم بعد قوله انتهينا, إنها تذهب المال وتذهب العقل, وسيأتي هذا الحديث أيضاً مع ما رواه أحمد من طريق أبي هريرة أيضاً عند قوله في سورة المائدة "إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون" الايات, فقوله "يسألونك عن الخمر والميسر" أما الخمر, فكما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه كل ما خامر العقل, كما سيأتي بيانه في سورة المائدة, وكذا الميسر وهو القمار.
وقوله "قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس" أما إثمهما فهو في الدين, وأما المنافع فدنيوية من حيث إن فيها نفع البدن وتهضيم الطعام وإخراج الفضلات وتشحيذ بعض الأذهان ولذة الشدة المطربة التي فيها, كما قال حسان بن ثابت في جاهليته:
ونشربها فتتركنا ملوكاً وأسداً لا ينهنهنا اللقاء
وكذا بيعها والانتفاع بثمنها, وما كان يقمشه بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله, ولكن هذه المصالح لا توازي مضرته ومفسدته الراجحة, لتعلقها بالعقل والدين, ولهذا قال الله تعالى: "وإثمهما أكبر من نفعهما", ولهذا كانت هذه الاية ممهدة لتحريم الخمر على البتات, ولم تكن مصرحة بل معرضة, ولهذا قال عمر رضي الله عنه لما قرئت عليه: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً, حتى نزل التصريح بتحريمها في سورة المائدة " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون " ويأتي الكلام على ذلك في سورة المائدة إن شاء الله تعالى وبه الثقة, قال ابن عمر والشعبي ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إن هذه أول آية نزلت في الخمر "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير", ثم نزلت الاية التي في سورة النساء, ثم نزلت الاية التي في المائدة فحرمت الخمر.
قوله "ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو" قرئ بالنصب وبالرفع وكلاهما حسن متجه قريب. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا أبان, حدثنا يحيى, أنه بلغه أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالا: يا رسول الله, إن لنا أرقاء وأهلين من أموالنا فأنزل الله "يسألونك ماذا ينفقون" وقال الحكم عن مقسم عن ابن عباس " ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو " قال: ما يفضل عن أهلك, كذا روي عن ابن عمر ومجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والحسن وقتادة والقاسم وسالم وعطاء الخراساني والربيع بن أنس وغير واحد, أنهم قالوا في قوله "قل العفو" يعني الفضل, وعن طاوس: اليسير من كل شيء. وعن الربيع أيضاً: أفضل مالك وأطيبه والكل يرجع إلى الفضل. وقال عبد بن حميد في تفسيره: حدثنا هوذة بن خليفة, عن عوف, عن الحسن, في الاية "يسألونك ماذا ينفقون قل العفو" قال, ذلك ألا يجهد مالك ثم تقعد تسأل الناس, ويدل على ذلك ما رواه ابن جرير: حدثنا علي بن مسلم, حدثنا أبو عاصم عن ابن عجلان, عن المقبري, عن أبي هريرة, قال: قال رجل: يا رسول الله, عندي دينار, قال "أنفقه على نفسك" قال: عندي آخر, قال:"أنفقه على أهلك" قال: عندي آخر: قال "أنفقه على ولدك" قال: عندي آخر, قال "فأنت أبصر"، وقد رواه مسلم في صحيحه وأخرجه مسلم أيضاً عن جابر, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل "ابدأ بنفسك فتصدق عليها, فإن فضل شيء فلأهلك, فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك, فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا". وعنده عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى, واليد العليا خير من اليد السفلى, وابدأ بمن تعول" وفي الحديث أيضاً "ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك, وإن تمسكه شر لك, ولا تلام على كفاف" ثم قد قيل إنها منسوخة بآية الزكاة, كما رواه علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس, وقاله عطاء الخراساني والسدي, وقيل مبينة بآية الزكاة, قاله مجاهد وغيره, وهو أوجه.
وقوله " كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون * في الدنيا والآخرة " أي كما فصل لكم هذه الأحكام وبينها وأوضحها كذلك يبين لكم سائر الايات في أحكامه ووعده ووعيده, لعلكم تتفكرون في الدنيا والاخرة. قال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: يعني في زوال الدنيا وفنائها, وإقبال الاخرة وبقائها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا أبو أسامة عن الصعق العيشي, قال: شهدت الحسن وقرأ هذه الاية من البقرة " لعلكم تتفكرون * في الدنيا والآخرة " قال: هي والله لمن تفكر فيها ليعلم أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء, وليعلم أن الاخرة دار جزاء ثم دار بقاء, وهكذا قال قتادة وابن جريج وغيرهما, وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: لتعلموا فضل الاخرة على الدنيا. وفي رواية عن قتادة: فآثروا الاخرة على الأولى.
وقوله "ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم" الاية, قال ابن جرير: حدثنا سفيان بن وكيع, حدثنا جرير عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: لما نزلت " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن " و "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً" انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه, فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد, فاشتد ذلك عليهم, فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: "ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم" فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم. وهكذا رواه أبو داود والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في مستدركه من طرق عن عطاء بن السائب به. وكذا رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس, وكذا رواه السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح, عن ابن عباس, وعن مرة عن ابن مسعود بمثله, وهكذا ذكر غير واحد في سبب نزول هذه الاية كمجاهد وعطاء والشعبي وابن أبي ليلى وقتادة وغير واحد من السلف والخلف, قال وكيع بن الجراح: حدثنا هشام صاحب الدستوائي, عن حماد, عن إبراهيم, قال: قالت عائشة رضي الله عنها: إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي على حدة, حتى أخلط طعامه بطعامي, وشرابه بشرابي, فقوله "قل إصلاح لهم خير" أي على حدة, "وإن تخالطوهم فإخوانكم" أي وإن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم فلا بأس عليكم, لأنهم إخوانكم في الدين, ولهذا قال "والله يعلم المفسد من المصلح" أي يعلم من قصده ونيته الإفساد أو الإصلاح, وقوله "ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم" أي ولو شاء الله لضيق عليكم وأحرجكم, ولكنه وسع عليكم, وخفف عنكم, وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن, قال تعالى: "ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن" بل جوز الأكل منه للفقير بالمعروف, إما بشرط ضمان البدل لمن أيسر, أو مجاناً كما سيأتي بيانه في سورة النساء, إن شاء الله وبه الثقة.
السائلون في قوله: 219- "يسألونك عن الخمر" هم المؤمنون كما سيأتي بيانه عند ذكر سبب نزول الآية، والخمر مأخوذة من خمر إذا ستر، ومنه خمار المرأة، وكل شيء غطى شيئاً فقد خمرة، ومنه خمروا آنيتكم وسمي خمراً لأنه يخمر العقل: أي يغطيه ويستره، ومن ذلك الشجر الملتف يقال له: الخمر بفتح الميم، لأنه يغطي ما تحته ويستره، يقال منه أخمرت الأرض: كثر خمرها. قال الشاعر:
ألا يا زيد والضحاك سيرا فقد جاوزتما خمر الطريق
أي جاوزتما الوهد، وقيل: إنما سميت الخمر خمراً لأنها تركت حتى أدركت، كما يقال قد اختمر العجين: أي بلغ إدراكه، وخمر الرأي: أي ترك حتى تبين فيه الوجه، وقيل: إنما سميت الخمر خمراً لأنها تخالط العقل من المخامرة وهي المخالطة. وهذه المعاني الثلاثة متقاربة موجودة في الخمر لأنها تركت حتى أدركت ثم خالطت العقل فخمرته: أي سترته، والخمر: ماء العنب الذي غلا واشتد وقذف بالزبد، وما خامر العقل من غيره فهو في حكمه كما ذهب إليه الجمهور. وقال أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وابن عكرمة وجماعة من فقهاء الكوفة: ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فهو حلال: أي ما دون المسكر فيه. وذهب أبو حنيفة إلى حل ما ذهب ثلثاه بالطبخ، والخلاف في ذلك مشهور. وقد أطلت الكلام على الخمر في شرحي للمنتقى فليرجع إليه. والميسر مأخوذ من اليسر، وهو وجوب الشيء لصاحبه، يقال يسر لي كذا: إذا وجب فهو ييسر يسراً وميسراً، والياسر اللاعب بالقداح. وقد يسر ييسر. قال الشاعر:
فأعنهم وأيسر كما يسروا به وإذا هم نزلوا بضنك فانزل
وقال الأزهري: الميسر: الجزور التي كانوا يتقامرون عليه، سمي ميسراً، لأنه يجزأ أجزاء، فكأنه موضع التجزئة، وكل شيء جزأته فقد يسرته، والياسر: الجازر. قال: وهذا الأصل في الياسر، ثم يقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور: ياسرون، لأنهم جازرون، إذ كانوا سبباً لذلك. وقال في الصحاح: ويسر القوم الجزور: إذا اجتزروها واقتسموا أعضاءها، ثم قال: ويقال يسر القوم: إذا قامروا، ورجل ميسر وياسر بمعنى، والجمع أيسار. قال النابغة:
إني أتمم أيساري وأمنحهم مشي الأيادي وأكسوا الحفنة الأدما
والمراد بالميسر في الآية قمار العرب بالأزلام. قال جماعة من السلف من الصحابة والتابعين ومن بعضهم كل شيء فيه قمار من نرد أو شطرنج أو غيرهما فهو الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب إلا ما أبيح من الرهان في الخيل والقرعة في إفراز الحقوق. وقال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللهو: النرد والشطرنج والملاهي كلها، وميسر القمار: ما يتخاطر الناس عليه، وكل ما قومر به فهو ميسر، وسيأتي البحث مطولاً في هذا في سورة المائدة عند قوله: "إنما الخمر والميسر". قوله: "قل فيهما إثم كبير" يعني الخمر والميسر، فإثم الخمر: أي إثم تعاطيها، ينشأ من فساد عقل مستعملها فيصدر عنه ما يصدر عن فاسد العقل من المخاصمة والمشاتمة، وقول الفحش والزور، وتعطيل الصلوات، وسائر ما يجب عليه. وأما إثم الميسر: أي إثم تعاطيه، فما ينشأ عن ذلك من فقر وذهاب المال في غير طائل، والعداوة وإيجاش الصدور. وأما منافع الخمر فربح التجارة فيها، وقيل: ما يصدر عنها من الطرب والنشاط وقوة القلب وثبات الجنان وإصلاح المعدة وقوة الباءة وقد أشار شعراء العرب إلى شيء من ذلك قال:
وإذا شــربت فإنني رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني رب الشـويهـة والبعير
وقال آخر:
ونشربها فتتركنا ملوكاً وأسداً ما ينهنهنا اللقاء
وقال من أشار إلى ما فيها من المفاسد والمصالح:
رأيت الخمر صالحة وفيها خصال تفسد الرجل الحليما
فلا والله أشربها صحيحاً ولا أشـفي بهـا أبداً ســقيما
ولا أعطي بها ثمناً حيـاتي ولا أدعــو لهـا أبــداً نــديمـا
ومنافع الميسر: مصير الشيء إلى الإنسان بغير تعب ولا كد، وما يحصل من السرور والأربحية عند أن يصير له منها سهم صالح. وسهام الميسر أحد عشر، منها سبعة لها فروض على عدد ما فيها من الحظوظ. الأول الفذ بفتح الفاء بعدها معجمة، وفيه علامة واحدة وله نصيب وعليه نصيب. الثاني التوأم بفتح المثناة الفوقية وسكون الواو وفتح الهمزة، وفيه علامتان، وله وعليه نصيبان. الثالث الرقيب، وفيه ثلاث علامات، وله وعليه ثلاثة أنصباء. الرابع الحلس بمهملتين، الأولى مكسورة واللام ساكنة، وفيه أربع علامات، وله وعليه أربعة أنصباء. الخامس النافر بالنون والفاء والمهملة، ويقال: النافس بالسين المهملة مكان الراء، وفيه خمس علامات، وله وعليه خمسة أنصباء. السادس المسبل بضم الميم وسكون المهملة وفتح الباء الموحدة وفيه ست علامات، وله وعليه ستة أنصباء. السابع المعلى بضم الميم وفتح المهملة وتشديد اللام المفتوحة وفيه سبع علامات، وله وعليه سبعة أنصباء وهو أكثر السهام حظاً، وأعلاها قدراً، فجملة ذلك ثمانية وعشرون فرداً. والجزور تجعل ثمانية وعشرين جزءاً، هكذا قال الأصمعي، وبقي من السهام أربعة أغفالاً لا فروض لها، وهي: المنيح بفتح الميم وكسر النون وسكون الياء التحتية وبعدها مهملة، والسفيح بفتح المهملة وكسر الفاء وسكون الياء التحتية بعدها مهملة، والوفد بفتح الواو وسكون المعجمة بعدها مهملة والضعف بالمعجمة بعدها مهملة ثم فاء، وإنما أدخلوا هذه الأربعة التي لا فروض لها بين ذوات الفروض لتكثر السهام على الذي يجيلها ويضرب بها فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلاً. وقد كان المجيل للسهام يلتحف بثوب ويحثو على ركبتيه ويخرج رأسه من الثوب، ثم يدخل يده في الربابة بكسر المهملة وبعدها باء موحدة وبعد الألف باء موحدة أيضاً، وهي الخريطة التي يجعل فيها السهام، فيخرج منها باسم كل رجل سهماً، فمن خرج له سهم له فرض أخذ فرضه، ومن خرج له سهم لا فرض له لم يأخذ شيئاً وغرم قيمة الجزور، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء. وقد قال ابن عطية: إن الأصمعي أخطأ في قوله: إن الجزور تقسم على ثمانية وعشرين جزءاً، وقال: إنما تقسم على عشرة أجزاء. قوله تعالى: "وإثمهما أكبر من نفعهما" أخبر سبحانه بأن الخمر والميسر وإن كان فيهما نفع فالإثم الذي يلحق متعاطيهما أكثر من هذا النفع، لأنه لا خير يساوي فساد العقل الحاصل بالخمر، فإنه ينشأ عنه من الشرور ما لا يأتي عليه الحصر، وكذلك لا خير في الميسر يساوي ما فيها من المخاطرة بالمال والتعرض للفقر، واستجلاب العداوات المفضية إلى سفك الدماء وهتك الحرم. وقرأ حمزة والكسائي كثير بالمثلثة. وقرأ الباقون بالباء الموحدة. وقرأ أبي: وإثمهما أقرب من نفعهما. قوله: "قل العفو" قرأه الجمهور بالنصب. وقرأ أبو عمرو وحده بالرفع. واختلف فيه عن ابن كثير، وبالرفع قرأه الحسن وقتادة. قال النحاس: إن جعلت ذا بمعنى الذي كان الاختيار الرفع على معنى الذي ينفقون هو العفو، وإن جعلت ما وذا شيئاً واحداً كان الاختيار النصب على معنى: قل ينفقون العفو، والعفو: ما سهل وتيسر ولم يشق على القلب، والمعنى: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تجهدوا أنفسكم، وقيل: هو ما فضل عن نفقة العيال. وقال جمهور العلماء: هو نفقات التطوع، وقيل: إن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة المفروضة، وقيل: هي محكمة، وفي المال حق سوى الزكاة. قوله: "كذلك يبين الله لكم الآيات" أي في أمر النفقة.
219. قوله تعالى: " يسألونك عن الخمر والميسر " الآية، نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل مسلبة للمال؟ فأنزل الله هذه الآية.
وجملة القول في تحريم الخمر على ما قال المفسرون أن الله تعالى أنزل في الخمر أربع آيات نزلت بمكة وهي: " ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً " (67-النحل) فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال يومئذ، ثم نزلت في مسألة عمر ومعاذ بن جبل " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير" فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله قد تقدم في تحريم الخمر " فتركها قوم لقوله "إثم كبير" وشربها قوم لقوله"ومنافع للناس " إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف كعاماً فدعا ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا، وحضرت صلاة المغرب فقدموا بعضهم ليصلي بهم فقرأ " قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون " هكذا إلى آخر السورة بحذف (( لا )) فأنزل الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون " (43-النساء) فحرم السكر في أوقات الصلاة وشربوها في غير حين الصلاة، حتى كان الرجل يشرب بعد صلاة العشاء فيصبح وقد زال عنه السكر، ويشرب بعد صلاة الصبح فيصحو إذا جاء وقت الظهر، واتخذ عتبان بن مالك صنيعاً ودعا رجالاً من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعير، فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى أخذت منهم، ثم إنهم افتخروا عند ذلك (وانتسبوا) وتناشدوا الأشعار، فانشد سعد قصيدة فيها هجاء للأنصار وفخر لقومه فأخذ رجل من الأنصار لحي البعير فضرب به رأس سعد فشجه شجة موضحه فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الأنصاري فقال عمر: اللهم بين لنا رأيك في الخمر بياناً شافياً، فأنزل الله تعالى تحريم الخمر في سورة المائدة. إلى قوله " فهل أنتم منتهون ".
وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام فقال عمر رضي الله عنه انتهينا يارب، قال أنس حرمت الخمر ولم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها وما حرم عليهم شيئاً أشد من الخمر.
[ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما نزلت الآية في سورة المائدة حرمت الخمر فخرجنا بالحباب إلى الطريق فصببنا ما فيها فمنا كسر صبه ومنا غسله بالماء والطين، ولقد غودرت أزقة المدينة بعد ذلك حيناً فلما مطرت استبان فيها لون الخمر وفاحت منها ريحها ].
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا يعقوب بن إبراهيم أخبرنا ابن علية أخبرنا عبد العزيز بن صهيب قال: قال لي أنس بن مالك ما كان لنا خمر غير فضيحتكم وإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً وفلاناً إذ جاء رجل فقال: حرمت الخمر. فقالوا أهرق هذه القلال يا أنس قال فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل.
عن أنس: سميت خمراً لأنهم كانوا يدعونها في الدنان حتى تختمر وتتغير، وعن ابن المسيب : لأنها تركت حتى صفا صفوها، ورسب كدرها، واختلف الفقهاء في ماهية الخمر، فقال قوم: هي عصير العنب أو الرطب الذي اشتد وغلا من غير عمل النار فيه، واتفقت الأئمة على أن هذا الخمر نجس يحد شاربه ويفسق ويكفر مستحلها، وذهب سفيان الثوري و أبو حنيفة وجماعة إلى أن التحريم لا يتعدى هذا ولا يحرم ما يتخذ من غيرهما كالمتخذ من الحنطة والشعير والذرة والعسل والفانيد إلا أن يسكر منه فيحرم، وقالوا إذا طبخ عصير العنب والرطب حتى ذهب نصفه فهو حلال ولكنه يكره، وإن طبخ حتى ذهب ثلثاه قالوا هو حلال مباح شربه إلا أن السكر منه حرام، ويحتجون بما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى بعض عماله أن أرزق المسلمين من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه.
ورأى أبو عبيدة ومعاذ شرب الطلاء على الثلث.
وقال قوم: إذا طبخ العصير أدنى طبخ صار حلالاً، وهو قول اسماعيل بن علية.
وذهب أكثر أهل العلم إلى أن كل شراب أسكر كثيره فهو خمر فقليله حرام يحد شاربه.
واحتجوا بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو اسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع فقال: " كل شراب أسكر فهو حرام ".
أخبرنا أبو عبد الله بن محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني أنا عبد الله بن عمر الجوهري أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي ابن حجر أنا إسماعيل بن جعفر عن داود ابن بكر بن أبي الفرات عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما أسكر كثيره فقليله حرام ".
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني أنا عبد الغفار بن محمد الفارسي أنا محمد بن عيسى الجلودي أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أنا مسلم بن الحجاج أنا أبو الربيع العتكي أخبرنا حماد بن زيد حدثنا أيوب بن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو مدمنها ولم يتب لم يشربها في الآخرة ".أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد ابن إسماعيل أنا أحمد بن أبي رجاء أنا يحيى، عن أبي حيان التيمي عن الشعبي عن ابن عمر قال: خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنه قد نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: من العنب والتمر، والحنطة والشعير والعسل، والخمر ما خامر العقل )).
وروى الشعبي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من العنب خمراً، وإن من التمر خمراً، وإن من العسل خمراً، وإن من البر خمراً وإن من الشعير خمراً " فثبت أن الخمر لا يختص بما يتخذ من العنب أو الرطب.
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو اسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد أنه أخبره أن عمر بن الخطاب خرج عليهم فقال اني وجدت من فلان ريح شراب، وزعم أنه شرب الطلاء، وأنا سائل عما شرب فإن كان يسكر جلدته، فجلده عمر الحد تاماً، وما روى عن عمر وأبي عبيدة ومعاذ في الطلاء فهو طبخ حتى خرج عن أن يكون مسكراً. وسئل ابن عباس عن الباذق فقال: سبق محمد فما أسكر فهو حرام.
قوله تعالى: " والميسر " يعني القمار، قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله فأنزل الله تعالى هذه الآية، والميسر: مفعل من قولهم يسر لي الشيء إذا وجب بيسر يسراً وميسراً، ثم قيل للقمار ميسر وللمقامر ياسر ويسر، وكان أصل الميسر في الجزور وذلك أن أهل الثروة من العرب كانوا يشترون جزوراً فينحرونها ويجزؤونها عشرة أجزاء ثم يسهمون عليها بعشرة قداح يقال لها الأزلام والأقلام، لسبعة منها أنصباء وهي: الفذ وله نصيب واحد، والتوأم وله نصيبان، والرقيب وله ثلاثة أسهم، والحلس وله أربعة، والنافس وله خمسة، والمسبل وله ستة، والمعلى وله سبعة، وثلاثة منها: لا أنصباء لها وهي المنيح والسفيح والوغد، ثم يجعلون القداح في خريطة تسمى الربابة ويضعونها على يدي رجل عدل عندهم يسمى المجيل والنفيض، ثم يجيلها ويخرج قدحاً منها باسم رجل منهم، فأيهم خرج سهمه أخذ نصيبه على قدر ما يخرج، فإن خرج له واحد من الثلاثة التي لا أنصباء لها كان يأخذ شيئاً ويغرم ثمن الجزور كله.
وقال بعضهم كان لا يأخذ شيئاً ولا يغرم ويكون ذلك القدح لغواً ثم يدفعون ذلك الجزور إلى الفقراء ولا يأكلون منه شيئاً، وكانوا يفتخرون بذلك ويذمون من لم يفعل ذلك ويسمونه البرم وهو أصل القمار الذي كانت تفعله العرب. والمراد من الآية أنواع القمار كلها، قال طاووس و عطاء و مجاهد : كل شيء فيه قمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب، وروي عن علي رضي الله عنه في النرد والشطرنج أنهما من الميسر.
قوله تعالى: " قل فيهما إثم كبير " وزر عظيم من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش، قرأ حمزة و الكسائي إثم كثير بالثاء المثلثة وقرأ الباقون بالباء فالإثم في الخمر والميسر ما ذكره الله في سورة المائدة. " إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون " (91-المائدة) " ومنافع للناس " فمنفعة الخمر اللذة عند شربها والفرح واستمراء الطعام وما يصيبون من الربح بالتجارة فيها، ومنفعة الميسر إصابة المال من غير كد ولا تعب وارتفاق الفقراء به. والإثم فيه أنه إذا ذهب ماله من غير عوض ساءه ذلك فعادى صاحبه فقصده بالسوء.
" وإثمهما أكبر من نفعهما " قال الضحاك وغيره: إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم، وقيل: إثمهما أكبر من نفعهما قبل التحريم وهو ما يحصل من العداوة والبغضاء.
قوله تعالى: " ويسألونك ماذا ينفقون " وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حثهم على الصدقة فقالوا ماذا ننفق؟ فقال " قل العفو " قرأ أبو عمرو العفو بالرفع، معناه: الذي ينفقون هو العفو. وقرأ الآخرون بالنصب، على معنى قل: أنفقوا العفو.
واختلفوا في معنى العفو، فقال قتادة و عطاء و السدي : هو ما فضل عن الحاجة، وكانت الصحابة يكتسبون المال ويمسكون قدر النفقة ويتصدقون بالفضل بحكم هذه الآية، ثم نسخ بآية الزكاة. وقال مجاهد : معناه: التصدق عن ظهر غنى حتى لا يبقى كلاً على الناس.
أخذ الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي أنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر أنا إبراهيم بن عبد الله بن عمر الكوفي أنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول " وقال عمرو بن دينار : الوسط من غير إسراف ولا إقتار قال الله تعالى " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا " (67-الفرقان) وقال طاووس : ما يسر، والعفو: اليسر من كل شيء (ومنه قوله تعالى) " خذ العفو " (199-الأعراف) أي الميسور من أخلاق الناس.
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع بن سليمان أخبرنا الشافعي أنا سفيان عن محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة قال: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله عندي دينار قال صلى الله عليه وسلم: أنفقه على نفسك قال: عندي آخر قال: أنفقه على ولدك قال: عندي آخر قال: أنفقه على أهلك قال: عندي آخر قال: أنفقه على خادمك قال: عندي آخر قال:أنت أعلم ".
قوله تعالى: " كذلك يبين الله لكم الآيات " قال الزجاج : إنما قال كذلك على الواحد وهو يخاطب جماعة، لأن الجماعة معناها القبيل كأنه قال: كذلك أيها القبيل، وقيل: هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لأن خطابه يشتمل على خطاب الأمة كقوله تعالى: " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء " (1-الطلاق).
قوله تعالى: " لعلكم تتفكرون "

219-" يسألونك عن الخمر والميسر " روي ، أنه نزل بمكة قوله تعالى : " ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا " فأخذ المسلمون يشربونها ، ثم إن عمر ومعاذاً ونفراً من الصحابة قالوا : أفتنا يا رسول الله في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال ، فنزلت هذه الآية فشربها قوم وتركها آخرون . ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناساً منهم فشربوا وسكروا ، فأم أحدهم فقرأ : " قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون " فنزلت " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " فقل من يشربها ، ثم دعا عتبان بن مالك سعد بن أبي وقاص في نفر فلما سكروا افتخروا وتناشدوا ، فأنشد فيه هجاء الأنصار ،فضربه أنصاري بلحى بعير فشجه ، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه : اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت " إنما الخمر والميسر " إلى قوله : " فهل أنتم منتهون " فقال عمر رضي الله عنه : انتهينا يا رب . والخمر في الأصل مصدر خمره إذا ستره ، سمي بها عصير العنب والتمر إذا اشتد وغلا كأنه يخمر العقل ، كما سمي سكراً لأنه يسكره أي يحجزه ، وهي حرام مطلقاً وكذا كل ما أسكر عند أكثر العلماء . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : نقيع الزبيب والتمر إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم اشتد حل شربه ما دون السكر . " والميسر " أيضاً مصدر كالموعد ، سمي به القمار لأنه أخذ مال الغير بيسر أو سلب يساره ، والمعنى يسألونك عن تعاطيهما لقوله تعالى : " قل فيهما " أي في تعاطيهما . " إثم كبير " من حيث إنه يؤدي إلى الانتكاب عن المأمور ، وارتكاب المحظور . وقرأ حمزة و الكسائي كثير بالثاء . " ومنافع للناس " من كسب المال والطرب والالتذاذ ومصادقة الفتيان ، وفي الخمر خصوصاً تشجيع الجبان وتوفير المروءة وتقوية الطبيعة . " وإثمهما أكبر من نفعهما " أي المفاسد التي تنشأ منهما أعظم من المنافع المتوقعة منهما . ولهذا قيل إنها المحرمة للخمر لأن المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل ، والأظهر أنه ليس كذلك لما مر من إبطال مذهب المعتزلة . " ويسألونك ماذا ينفقون " قيل سائلة أيضاً عمرو بن الجموح سأل أولاً عن المنفق والمصرف ،ثم سأل عن كيفية الإنفاق . " قل العفو " العفو نقيض الجهد ومنه يقال للأرض السهلة ، وهو أن ينفق ما تيسر له بذله ولا يبلغ منه الجهد . قال :
خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين اغضب
وروي أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بيضة من ذهب أصابها في بعض المغانم فقال : خذها مني صدقة ، فأعرض عليه الصلاة والسلام عنه حتى كرر مراراً فقال : هاتها مغضباً فأخذها فحذفها حذفاً لو أصابه لشجه ثم قال : " يأتي أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف الناس ،إنما الصدقة عن ظهر عنى " . وقرأ أبو عمرو برفع " العفو " . ز" كذلك يبين الله لكم الآيات " أي مثل ما بين أن العفو أصلح من الجهد ، أو ما ذكر من الأحكام ، والكاف في موضع النصب صفة لمصدر محذوف أي تبييناً مثل هذا التبيين ، وإنما وحد العلامة والمخاطب به جمع على تأويل القبيل والجمع ، " لعلكم تتفكرون " في الدلائل والأحكام .
219. They question thee about strong drink and games of chance. Say: In both is great sin, and (some) utility for men; but the sin of them is greater than their usefulness. And they ask thee what they ought to spend. Say: That which is superfluous. Thus Allah maketh plain to you (His) revelations, that haply ye may reflect
219 - They ask thee concerning wine and gambling. Say in them is great sin, and some profit for men; but the sin is greater than the profit they ask thee how much they are to spend, say: what is beyond your needs. thus doth God make clear to you his signs: in order that ye may consider