[البقرة : 211] سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
(سل) يا محمد (بني إسرائيل) تبكيتاً (كم آتيناهم) كم استفهامية معلقة سل عن المفعول الثاني وهي ثاني مفعول آتينا ومميزها (من آية بينة) ظاهرة كفلق البحر وإنزال المن والسلوى فبدلوها كفرا (ومن يبدل نعمة الله) أي ما أنعم به عليه من الآيات لأنها سبب الهداية (من بعد ما جاءته) كفراً (فإن الله شديد العقاب) له
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: سل يا محمد بني إسرائيل، الذين لا ينتظرون- بالإنابة إلى طاعتي، والتوبة الي بالإقرار بنبوتك وتصديقك، فيما جئتهم به من عندي- إلا أن آتيهم في ظلل من الغمام وملائكتي، فأفصل القضاء بينك وبين من آمن بك وصدقك بما أنزلت إليك من كتبي، وفرضت عليك وعليهم من شرائع ديني، وبينهم، كم جئتهم به من قبلك من آية وعلامة على ما فرضت عليهم من فرائضي، فأمرتهم به من طاعتي، وتابعت عليهم من حججي على أيدي أنبيائي ورسلي من قبلك، مؤيدة لهم على صدقهم، بينة أنها من عندي، واضحة أنها من أدلتي على صدق نذري ورسلي فيما افترضت عليهم من تصديقهم وتصديقك، فكفروا حججي، وكذبوا رسلي، وغيروا نعمي قبلهم، وبدلوا عهدي ووصيتي إليهم. وأما الآية، فقد بينت تأويلها فيما مضى من كتابنا بما فيه الكفاية، وهي ههنا ما:-حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن ابي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: "سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة"، ما ذكر الله في القرآن وما لم يذكر، وهم اليهود. حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن ابي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: "سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة"، يقول: آتاهم الله آيات بينات، عصا موسى، ويده، وأقطعهم البحر، وأغرق عدوهم وهم ينظرون، وظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، وذلك من آيات الله التي آتاها بني إسرائيل في آيات كثيرة غيرها، خالفوا معها أمر الله، فقتلوا أنبياء الله ورسله، وبدلوا عهده ووصيته إليهم، قال الله: "ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب". قال أبو جعفر: وإنما أنبأ الله نبيه بهذه الايات، فأمره بالصبر على من كذبه واستكبر على ربه، وأخبره أن ذلك فعل من قبله من أسلاف الأمم قبلهم بأنبيائهم، مع مظاهرته عليهم الحجج، وأن من هو بين أظهرهم من اليهود إنما هم من بقايا من جرت عاداتهم [بذلك] ممن قص عليه قصصهم من بني إسرائيل. قال أبو جعفر: يعنى بالنعم جل ثناؤه: الإسلام، وما فرض من شرائع دينه.
ويعني بقوله: "ومن يبدل نعمة الله"، ومن يغير ما عاهد الله في نعمته التي هي الإسلام، من العمل والدخول فيه فيكفر به، فإنه معاقبه بما أوعد على الكفر به من العقوبة، والله شديد عقابه، أليم عذابه. فتأويل الآية إذا: يا أيها الذين آمنوا بالتوراة فصدقوا بها، ادخلوا في الإسلام جميعا، ودعوا الكفر وما دعاكم إليه الشيطان من ضلالته، وقد جاءتكم البينات من عندي بمحمد وما أظهرت على يديه لكم من الحجج والعبر، فلا تبدلوا عهدي إليكم فيه وفيما جاءكم به من عندي في كتابكم بأنه نبيي ورسولي، فإنه من يبدل ذلك منكم فيغيره، فإني له معاقب بالأليم من العقوبة.
وبمثل الذي قلنا في قوله: "ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته" ، قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصمقال، حدثنا عيسى، عن ابن ابي نجيح، عن مجاهد في قوله: "ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته"، قال: يكفر بها.حدثنا القاسمقال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله. حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "ومن يبدل نعمة الله"، قال، يقول: من يبدلها كفرا.حدثت عن عمار، عن ابن ابي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته"، يقول: ومن يكفرنعمته من بعد ما جاءته.
قوله تعالى : " سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة " " سل " من السؤال : بتخفيف الهمزة ، فلما تحركت السين لم يحتج إلى ألف الوصل ، وقيل : إن للعرب في سقوط ألف الوصل في " سل " وثبوتها في وأسأل ، وجهين : أحدهما - حذفها في إحداهما وثبوتها في الأخرى ، وجاء القرآن بهما ، فاتبع خط المصحف في إثباته للهمزة وإسقاطها ، والوجه الثاني - أنه يختلف إثباتها وإسقاطها بإختلاف الكلام المستعمل فيه ، فتحذف الهمزة في الكلام المبتدأ ، مثل قوله : " سل بني إسرائيل " ، وقوله : " سلهم أيهم بذلك زعيم " [ ن : 40 ] وثبت في العطف ، مثل " واسأل القرية " [ يوسف : 82 ] ، " واسألوا الله من فضله " [ النساء : 32 ] قاله علي بن عيسى ، وقرأ أبو عمرو في رواية ابن عباس عنه اسأل ، على الأصل ، وقرأ قوم أسل ، على نقل الحركة إلى السين وإبقاء ألف الوصل ، على لغة من قال : الأحمر و " كم " في موضع نصب لأنها مفعول ثان لآتيانهم ، وقيل : يفعل مضمر ، تقديره كم آتينا آتيناهم ، ولا يجوز أن يتقدمها الفعل لأن لها صدر الكلام ، من آية في موضع نصب على التمييز على التقدير الأول ، وعلى الثاني مفعول ثان لآتيناهم ، ويجوز أن تكون في موضع رفع بالإبتداء والخبر في آتيناهم ، ويصير فيه عائد على كم ، تقديره : كم آتيناهموه ، ولم يعرب وهي اسم لأنها بمنزلة الحروف لما وقع فيه معنى الاستفهام ، وإذا فرقت بين كم وبين الاسم كان الاختيار أن تأتي بمن كما في هذه الآية ، فإن حذفتها نصبت في الإستفهام والخبر ، ويجوز الخفض في الخبر كما قال الشاعر :
كم بجود مقرف نال العلا وكريم بخله قد وضعه
والمراد بالآية كم جاءهم في أمر محمد عليه السلام من آية معرفة به دالة عليه قال مجاهد و الحسن وغيرهما : يعني الآيات التي جاء بها موسى عليه السلام من فلق البحر والظلل من الغمام والعصا واليد وغير ذلك ، وأمر الله تعالى نبيه بسؤالهم على جهة التقريع لهم والتوبيخ .
قوله تعالى : " من يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته " لفظ عام لجميع العامة ، وإن كان المشار إليه بني إسرائيل ، لكونهم بدلوا ما في كتبهم وجحدوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، فاللفظ منسحب على كل مبدل نعمة الله تعالى ، وقال الطبري : النعمة هنا الإسلام ، وهذا قريب من الأول ، ويدخل في اللفظ أيضاً كفار قريش ، فإن بعث محمد صلى الله عليه وسلم فيهم نعمة عليهم ، فبدلوا قبولها والشكر عليها كفراً .
قوله تعالى : " فإن الله شديد العقاب " خبر يتضمن الوعيد ، والعقاب مأخوذ من العقب ، كأن المعاقب يمشي بالمجازاة له في آثار عقبة ، ومنه عقبة الراكب ونبه القدر ، فالعقاب والعقوبة يكونان بعقب الذنب ، وقد عاقبه بذنبه .
يقول تعالى مخبراً عن بني إسرائيل: كم شاهدوا مع موسى من آية بينة أي حجة قاطعة بصدقه فيما جاءهم به, كيده وعصاه وفلقه البحر وضرب الحجر, وما كان من تظليل الغمام عليهم في شدة الحر , ومن إنزال المن والسلوى, وغير ذلك من الايات الدالات على وجود الفاعل المختار, وصدق من جرت هذه الخوارق على يديه, ومع هذا أعرض كثير منهم عنها وبدلوا نعمة الله كفراً, أي استبدلوا بالإيمان بها الكفر بها والإعراض عنها "ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب" كما قال تعالى إخباراً عن كفار قريش "ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار" ثم أخبر تعالى عن تزيينه الحياة الدنيا للكافرين الذين رضوا بها, واطمأنوا إليها وجمعوا الأموال ومنعوها عن مصارفها التي أمروا بها, مما يرضي الله عنهم وسخروا من الذين آمنوا, الذين أعرضوا عنها, وأنفقوا ما حصل لهم منها في طاعة ربهم, وبذلوه ابتغاء وجه الله, فلهذا فازوا بالمقام الأسعد والحظ الأوفر يوم معادهم, فكانوا فوق أولئك في محشرهم ومنشرهم ومسيرهم ومأواهم, فاستقروا في الدرجات في أعلى عليين, وخلد أولئك في الدركات في أسفل سافلين, ولهذا قال تعالى: "والله يرزق من يشاء بغير حساب" أي يزرق من يشاء من خلقه ويعطيه عطاء كثيراً جزيلاً بلا حصر ولا تعداد في الدنيا والاخرة, كما جاء في الحديث "ابن آدم أنفق أنفق عليك" وقال النبي صلى الله عليه وسلم "أنفق بلالاً ولا تخش من ذي العرش إقلالاً" وقال تعالى: "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه" وفي الصحيح "أن ملكين ينزلان من السماء صبيحة كل يوم فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً, ويقول الاخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً" وفي الصحيح "يقول ابن آدم: مالي مالي. وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت, وما لبست فأبليت, وما تصدقت فأمضيت, وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس" وفي مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "الدنيا دار من لا دار له, ومال من لا مال له, ولها يجمع من لا عقل له".
المأمور بالسؤال لبني إسرائيل هو النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يكون هو كل فرد من السائلين، وهو سؤال تقريع وتوبيخ. 211- و"كم" في محل نصب بالفعل المذكور بعدها على أنها مفعول بآتى، ويجوز أن ينتصب بفعل مقدر دل عليه المذكور: أي كم آتينا آتيناهم، وقدر متأخراً لأن لها صدر الكلام، وهي إما استفهامية للقرير أو خبرية للتكثير. "من آية" في موضع نصب على التمييز، وهي البراهين التي جاء بها أنبياؤهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم- وقيل: المراد بذلك الآيات التي جاء بها موسى، وهي التسع. والمراد بالنعمة هنا ما جاءهم من الآيات. وقال ابن جرير الطبري: النعمة هنا الإسلام، والظاهر دخول كل نعمة أنعم الله بها على عبد من عباده كائناً من كان، فوقع منه التبديل لها، وعدم القيام بشكرها- ولا ينافي ذلك كون السياق في بني إسرائيل، أو كونهم السبب في النزول لما تقرر من أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وفي قوله: "فإن الله شديد العقاب" من الترهيب والتخويف ما لا يقادر قدره.
211. قوله تعالى: " سل بني إسرائيل " أي سل يا محمد يهود المدينة " كم آتيناهم " أعطينا آباءهم وأسلافهم " من آية بينة " دلالة واضحة على نبوة موسى عليه السلام، مثل العصا واليد البيضاء، وفلق البحر وغيرها. وقيل: معناها الدلالات التي آتاهم في التوراة والإنجيل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
" ومن يبدل " يغير " نعمة الله " كتاب الله، وقيل: عهد الله وقيل: من ينكر الدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم " من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب "
211-" سل بني إسرائيل " أمر للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو لكل أحد والمراد بهذا السؤال تقريعهم ز " كم آتيناهم من آية بينة " معجزة ظاهرة ، أو آية في الكتب شاهدة على الحق والصواب على أيدي الأنبياء ، و " كم " خبرية أو استفهامية مقررة ومحلها النصب على المفعولية أو الرفع بالابتداء على حذف العائد من الخير إلى المبتدأ . وآية مميزها . ومن للفصل . " ومن يبدل نعمة الله " أي آيات الله فإنها سبب الهدى الذي هو أجل النعم ، يجعلها سبب الضلالة وازدياد الرجس ، أو بالتحريف والتأمل الزائغ . " من بعد ما جاءته " من بعد ما وصلت إليه وتمكن من معرفتها ، وفيه تعريض بأنهم بدلوها بعد ما عقلوها ولذلك قيل تقديره فبدلوها " ومن يبدل " . " فإن الله شديد العقاب " فيعاقبه أشد عقوبة لأنه ارتكب أشد جريمة .
211. Ask of the Children of Israel how many a clear revelation We gave them! He who altereth the grace of Allah after it hath come unto him (for him), lo! Allah is severe in punishment.
211 - Ask the children of Israel how many clear (signs) we have sent them. but if any one, after God's favour has come to him, substitutes (something else), God is strict in punishment.