[البقرة : 200] فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ
(فإذا قضيتم) أديتم (مناسككم) عبادات حجكم بأن رميتم جمرة العقبة وطفتم واستقررتم بمنى (فاذكروا الله) بالتكبير والثناء (كذكركم آباءكم) كما كنتم تذكرونهم عند فراغ حجكم بالمفاخرة (أو أشدَ ذكراً) من ذكركم إياهم ، ونصب أشدَ على الحال من ذكر المنصوب باذكروا إذ لو تأخر عنه لكان صفة له (فمن الناس من يقول ربنا آتنا) نصيباً (في الدنيا) فيؤتاه فيها (وما له في الآخرة من خلاق) نصيب
قوله تعالى فإذا قضيتم الآية أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم يقول الرجل منهم كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ويحمل الديات ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم فأنزل الله فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله الآية
وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال كانوا اذا قضوا مناسكهم وقفوا عند الجمرة وذكروا أباءهم في الجاهلية وفعال آبائهم فنزلت هذه الآية
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون اللهم اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاء وحسن لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا فأنزل الله فيهم فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ويجيء بعدهم آخرون من المؤمنين فيقولون ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب بما كسبوا والله سريع الحساب
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "فإذا قضيتم مناسككم"، فإذا فرغتم من حجكم فذبحتم نسائككم، فاذكروا الله.
يقال منه: نسك الرجل ينسك نسكا ونسكا ونسيكة ومنسكاً، إذا ذبح نسكه. والمنسك اسم مثل المشرق والمغرب ، فأما النسك في الدين، فإنه يقال منه: ما كان الرجل ناسكا، ولقد نسك ونسك نسكا ونسكا ونساكة، وذلك إذا تقرأ. وبمثل الذي قلنا في معنى المناسك في هذا الموضع قال مجاهد:حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فإذا قضيتم مناسككم"، قال: إهراقة الدماء. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله وأما قوله: "فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا"، فإن أهل التأويل اختلفوا في صفة ذكر القوم آباءهم ، الذين أمرهم الله أن يجعلوا ذكرهم إياه كذكرهم اباءهم أو أشد ذكرا. فقال بعضهم: كان القوم في جاهليتهم، بعد فراغهم من حجهم ومناسكهم، يجتمعون فيتفاخرون بمآثر ابائهم، فأمرهم الله في الإسلام أن يكون ذكرهم بالثناء والشكر والتعظيم لربهم دون غيره، وأن يلزموا أنفسهم من الاكثار من ذكره، نظيرما كانوا ألزموا أنفسهم في جاهليتهم من ذكر آبائهم. ذكر من قال ذلك:حدثنا تميم بن المنتصر قال، حدثنا إسحاق بن يوسف، عن القاسم بن عثمان، عن أنس في هذه الآية قال: كانوا يذكرون آباءهم في الحج، فيقول بعضهم: كان أبي يطعم الطعام! ويقول بعضهم: كان أبي يضرب بالسيف! لريقول بعضهم: كان أبي جز نواصي بني فلان!. حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عبد العزيز، عن مجاهد قال: كانوا يقولون: كان اباؤنا ينحرون الجزر، ويفعلون كذا! فنزلت هذه الآية: "اذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ". حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي وائل: "فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا"، قال: كان أهل الجاهلية يذكرون فعال آبائهم. حدثنا أبو كريب قال، سمعت أبا بكر بن عياش قال: كان أهل الجاهلية إذا فرغوا من الحج قاموا عند البيت، فيذكرون آباءهم وأيامهم: كان أبي يطعم الطعام! وكان أبي يفعل! فذلك قوله: "فاذكروا الله كذكركم آباءكم"، قال أبو كريب: قلت ليحيى بن آدم: عمن هو؟ قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي وائل.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرني حجاج، عمن حدثه، عن مجاهد في قوله: "اذكروا الله كذكركم آباءكم"، قال: كانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا عند الجمرة فذكروا آباءهم، وذكروا أيامهم في الجاهلية وفعال آبائهم، فنزلت هذه الآية. حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد في قوله: "فاذكروا الله كذكركم آباءكم"، قال: كانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا عند الجمرة، وذكروا أيامهم في الجاهلية، وفعال آبائهم. قال: فنزلت هذه الآية.حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم"، قال: تفاخرت العرب بينها بفعل آبائها يوم النحر حين فرغوا، فأمروا بذكر الله مكان ذلك. حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد نحوه.حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم"، قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا قضوا مناسكهم بمنى، قعدوا حلقا فذكروا صنيع آبائهم في الجاهلية وفعالهم، به يخطب خطيبهم ويحدث محدثهم، فأمر الله عز وجل المسلمين أن يذكروا الله كذكر أهل الجاهلية آباءهم أو أشد ذكرا. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة فى قوله: "فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا"، قال: كانوا إذا قضوا مناسكهم اجتمعوا فافتخروا، وذكروا آباءهم وأيامها، فأمروا أن يجعلوا مكان ذلك ذكر الله، يذكرونه كذكرهم آباءهم أو أشد ذكرا. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن سعيد بن جبير وعكرمة
قالا: كانوا يذكرون فعل آبائهم في الجاهلية إذا وقفوا بعرفة، فنزلت هذه الآية. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدا يقول: ذلك يوم النحر، حين ينحرون. قال، قال: "فاذكروا الله كذكركم آباءكم"، قال: كانت العرب يوم النحر حين يفرغون يتفاخرون بفعال آبائها، فأمروا بذكر الله عز وجل مكان ذلك. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فاذكروا الله كذكر الأبناء والصبيان الآباء. ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عثمان بن أبي رواد، عن عطاء: أنه قال في هذه الآية: "كذكركم آباءكم". قال: هو قول الصبي: يا أباه!.حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا زهير، عن جويبر، عن الضحاك: "فاذكروا الله كذكركم آباءكم"، يعني بالذكر، ذكر الأبناء الآباء. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال لي عطاء: "كذكركم آباءكم"، أبه! أمه!. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا صالح بن عمر، عن عبد الملك، عن عطاء قال: كالصبي يلهج بأبيه وأمه. حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: "فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا"، يقوم: كذكر الأبناء الأباء أو أشد ذكرا. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا"، يقول: كما يذكر الأبناء الآباء.
حدثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "كذكركم آباءكم"، يعني: ذكر الأبناء الآباء. وقال اخرون: بل قيل لهم: "اذكروا الله كذكركم آباءكم"، لأنهم كانوا إذا قضوا مناسكهم فدعوا ربهم، لم يذكروا غير ابائهم، فأمروا من ذكر الله بنظير ذكر آبائهم ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا"، قال: كانت العرب إذا قضت مناسكها، وأقاموا بمنى، يقوم الرجل فيسأل الله ويقول: اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة، عظيم القبة، كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيت أبي!! ، ليس يذكر الله، إنما يذكرآباءه، ويسأل أن يعطى في الدنيا. قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في تأويل ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر عباده المؤمنين بذكره بالطاعة له، في الخضوع لأمره، والعبادة له، بعد قضاء مناسكهم. وذلك الذكر جائز أن يكون هو التكبير الذي أمر به جل ثناؤه بقوله: "واذكروا الله في أيام معدودات" [البقرة: 203] الذي أوجبه على من قضى نسكه بعد قضائه نسكه، فألزمه حينئذ من ذكره ما لم يكن له لازما قبل ذلك، وحث على المحافظة عليه محافظة الأبناء على ذكر الاباء في الإكثار منه، بالاستكانة له، والتضرع إليه، بالرغبة منهم إليه في حوائجهم، كتضرع الولد لوالده، والصبي لأمه وأبيه، أو أشد من ذلك، إذ كان ما كان بهم وبآبائهم من نعمة فمنه، وهو وليه.وإنما قلنا: الذكر الذي أمر الله جل ثناؤه به الحاج بعد قضاء مناسكه بقوله: "فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا": جائز أن يكون هو التكبير الذي وصفنا، من أجل أنه لا ذكر لله أمر العباد به بعد قضاء مناسكهم لم يكن عليهم من فرضه قبل قضائهم مناسكهم، سوى التكبير الذي خص الله به أيام منى. فإذ كان ذلك كذلك، وكان معلوما أنه جل ثناؤه قد أوجب على خلقه بعد قضائهم مناسكهم من ذكره ما لم يكن واجبا عليهم قبل ذلك، وكان لا شيء من ذكره خص به ذلك الوقت سوى التكبير الذي ذكرناه، كانت بئنة صحة ما قلنا من تأويل ذلك على ما وصفنا.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإذا قضيتم مناسككم أيها المؤمنون، فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا، وارغبوا إليه فيما لديه من خير الدنيا والآخرة بابتهال وتمسكن، واجعلوا أعمالكم لوجهه خالصا ولطلب مرضاته، وقولوا: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"، ولا تكونوا كمن اشترى الحياة الدنيا بالآخرة، فكانت أعمالهم للدنيا وزينتها، فلا يسألون ربهم إلا متاعها، ولا حظ لهم في ثواب الله، ولا نصيب لهم في جناته وكريم ما أعد لأوليائه، كما قال في ذلك أهل التأويل. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي وائل: "فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا"، هب لنا غنما! هب لنا إبلا! "وما له في الآخرة من خلاق". حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي وائل قال: كانوا في الجاهلية يقولون: هب لنا إبلا ، ثم ذكر مثله.
حدثنا أبو كريب قال، سمعت أبا بكر بن عياش في قوله: "فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق "، قال: كانوا، يعني أهل الجاهلية، يقفون- يعني بعد قضاء مناسكهم- فيقولون: اللهم ارزقنا إبلا! اللهم ارزقنا غنما! ، فأنزل الله هذه الآية: "فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق"- قال أبو كريب: قلت ليحيى بن آدم: عمن هو؟ قال ة حدثنا أبو بكربن عياش، عن عاصم، عن أبي وائل. حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا إسحاق، عن القاسم بن عثمان، عن أنس: "فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق"، قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة فيدعون فيقولون: اللهم أسقنا المطر، وأعطنا على عدونا الظفر، وردنا صالحين إلى صالحين! .حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى: "فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا" نصرا ورزقا، ولا يسألون لآخرتهم شيئا. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قول الله: "فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق"، فهذا عبد نوى الدنيا، لها عمل، ولها نصب. حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: "فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق"، قال: كانت العرب إذا قضت مناسكها وأقامت بمنى، لا يذكر الله الرجل منهم، إنما يذكر أباه؟ وشمال أن يعطى في الدنيا. حدثني يونس قال، حدثنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا"، قال: كانوا أصنافا ثلاثة في تلك المواطن يومئذ: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل الكفر، وأهل النفاق. فمن الناس من يقول: "ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق" إنما حجوا للدنيا والمسألة، لا يريدون الآخرة، ولا يؤمنون بها، ومنهم من يقول: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة"، الآية، قال: والصنف الثالث: "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا" الآية. وأما معنى الخلاق فقد بيناه في غير هذا الموضع، وذكرنا اختلاف المختلفين في تأويله، والصحيح لدينا من معناه بالشواهد من الأدلة، وأنه النصيب، بما فيه كفاية عن إعادته في هذا الموضع.
فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : "فإذا قضيتم مناسككم" قال مجاهد : المناسك الذبائح وهراقة الدماء . وقيل : هي شعائر الحج ، لقوله عليه السلام : "خذوا عني مناسككم" . المعنى : فإذا فعلتم منسكاً من مناسك الحج فاذكروا الله واثنوا عليه بآلائه عندكم . وأبو عمرو يدغم الكاف في الكاف ، وكذلك "مناسككم" ، لأنهما مثلان . و "قضيتم" هنا بمعنى أديتم وفرغتم ، قال الله تعالى : "فإذا قضيت الصلاة" أي أديتم الجمعة . وقد يعبر بالقضاء عما فعل من العبادات خارج وقتها المحدود لها .
الثانية : قوله تعالى : "فاذكروا الله كذكركم آباءكم" كانت عادة العرب إذا قضت حجها تقف عند الجمرة ، فتفاخر بالآباء ، وتذكر أيام أسلافها من بسالة وكرم ، وغير ذلك ، حتى أن الواحد منهم ليقول : اللهم إن ابي كان عظيم القبة ، عظيم الجفنة ، كثير المال ، فأعطني ما أعطيته ، فلا يذكر غير أبيه ، فنزلت الآية ليلزموا أنفسهم ذكر الله أكثر من التزامهم ذكر آبائهم أيام الجاهلية . هذا قول جمهور المفسرين . وقال ابن عباس و عطاء والضحاك و الربيع : معنى الآية واذكروا الله كذكر الأطفال آبائهم وأمهاتهم : أبه أمه ، أي فاستغيثوا به والجئوا إليه كما كنتم تفعلون في حال صغركم بآبائكم . وقالت طائفة : معنى الآية اذكروا الله وعظموه وذبوا عن حرمه ، وادفعوا من أراد الشرك في دينه ومشاعره ، كما تذكرون آباءكم بالخير إذا غض أحد منهم ، وتحمون جوانبهم وتذبون عنهم . وقال أبو الجوزاء لابن عباس : إن الرجل اليوم لا يذكر أباه ، فما معنى الآية ؟ قال : ليس كذلك ، ولكن أن تغضب لله تعالى إذا عصي أشد من غضبك لوالديك إذا شتما . والكاف من قوله : "كذكركم" في موضع نصب ، أي ذكراً كذكركم . "أو أشد" قال الزجاج : أو أشد في موضع خفض عطفاً على ذكركم ، المعنى : أو كأشد ذكراً ، ولم ينصرف لأنه أفعل صفة ، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى أو اذكروه أشد . و ذكراً نصب على البيان .
قوله تعالى : "فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا" من في موضع رفع بالابتداء ، وإن شئت بالصفة . "يقول ربنا آتنا في الدنيا" صلة من ، والمراد المشركون . قال أبو وائل و السدي وابن زيد : كانت العرب في الجاهلية تدعو في مصالح الدنيا فقط ، فكانوا يسألون الإبل والغنم والظفر بالعدو ، ولا يطلبون الآخرة ، إذ كانوا لا يعرفونها ولا يؤمنون بها ، فنهوا عن ذلك الدعاء المخصوص بأمر الدنيا ، وجاء النهي في صيغة الخبر عنهم . ويجوز أن يتناول هذا الوعيد المؤمن أيضاً إذا قصر دعواته في الدنيا ، وعلى هذا "وما له في الآخرة من خلاق" أي كخلاق الذي يسأل الآخرة . والخلاق النصيب . و من زائدة وقد تقدم .
يأمر تعالى بذكره والإكثار منه بعد قضاء المناسك وفراغها, وقوله "كذكركم آباءكم" اختلفوا في معناه, فقال ابن جريج عن عطاء: هو كقول الصبي أبه أمه, يعني كما يلهج الصبي بذكر أبيه وأمه, فكذلك أنتم فالهجوا بذكر الله بعد قضاء النسك, وكذا قال الضحاك والربيع بن أنس, وروى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس نحوه, وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات, ويحمل الديات, ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم, فأنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم "فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً", قال ابن أبي حاتم : وروى السدي, عن أنس بن مالك وأبي وائل وعطاء بن أبي رباح في أحد قوليه وسعيد بن جبير وعكرمة في أحد رواياته, ومجاهد والسدي وعطاء الخراساني والربيع بن أنس والحسن وقتادة ومحمد بن كعب ومقاتل بن حيان نحو ذلك, وهكذا حكاه ابن جرير عن جماعة والله أعلم, والمقصود منه الحث على كثرة الذكر لله عز وجل, ولهذا كان انتصاب قوله, أو أشد ذكراً على التمييز, تقديره كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً, وأو ـ ههنا ـ لتحقيق المماثلة في الخبر كقوله "فهي كالحجارة أو أشد قسوة" وقوله "يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية" " وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون " "فكان قاب قوسين أو أدنى" فليست ههنا للشك قطعاً, وإنما هي لتحقيق المخبر عنه كذلك أو أزيد منه, ثم إنه تعالى أرشد إلى دعائه بعد كثرة ذكره فإنه مظنة الإجابة, وذم من لا يسأله إلا في أمر دنياه وهو معرض عن أخراه, فقال " فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق " أي من نصيب ولا حظ , وتضمن هذا الذم والتنفير عن التشبه بمن هو كذلك, قال سعيد بن جبير , عن ابن عباس: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون: اللهم اجعله عام غيث, وعام خصب, وعام ولاد حسن, لا يذكرون من أمر الاخرة شيئاً, فأنزل الله فيهم " فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق " وكان يجيء بعدهم آخرون من المؤمنين فيقولون " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " فأنزل الله "أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب" ولهذا مدح من يسأله الدنيا والأخرى, فقال: " ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " فجمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا وصرفت كل شر , فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية, ودار رحبة, وزوجة حسنة, ورزق واسع, وعلم نافع, وعمل صالح, ومركب هني, وثناء جميل إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين, ولا منافاة بينها, فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا, وأما الحسنة في الاخرة, فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات, وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الاخرة الصالحة, وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والاثام وترك الشبهات والحرام, وقال القاسم بن عبد الرحمن: من أعطي قلباً شاكراً, ولساناً ذاكراً, وجسداً صابراً, فقد أوتي في الدنيا حسنة, وفي الاخرة حسنة, ووقي عذاب النار, ولهذا وردت السنة بالترغيب في هذا الدعاء, فقال البخاري: حدثنا أبو معمر , حدثنا عبد الوارث عن عبد العزيز, عن أنس بن مالك, قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة, وفي الاخرة حسنة, وقنا عذاب النار" وقال أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم, حدثنا عبد العزيز بن صهيب, قال: سأل قتادة أنساً: أي دعوة كان أكثر ما يدعوها النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: يقول "اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة, وفي الاخرة حسنة, وقنا عذاب النار" وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها, وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها ورواه مسلم, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو نعيم, حدثنا عبد السلام بن شداد يعني أبا طالوت, قال: كنت عند أنس بن مالك, فقال له ثابت: إن إخوانك يحبون أن تدعو لهم, فقال: "اللهم آتنا في الدينا حسنة, وفي الاخرة حسنة, وقنا عذاب النار" وتحدثوا ساعة, حتى إذا أرادوا القيام قال: يا أبا حمزة, إن إخوانك يريدون القيام, فادع الله لهم, فقال: أتريدون أن أشقق لكم الأمور إذا آتاكم الله في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة, ووقاكم عذاب النار, فقد آتاكم الخير كله, وقال أحمد أيضاً: حدثنا محمد بن أبي عدي عن حميد عن ثابت, عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد صار مثل الفرخ, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه ؟ قال: نعم, كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الاخرة فعجله لي في الدنيا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سبحان الله لا تطيقه أو لا تستطيعه, فهلا قلت " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " قال: فدعاه فشفاه", انفرد بإخراجه مسلم, فرواه من حديث ابن أبي عدي به وقال الإمام الشافعي: أخبرنا سعيد بن سالم القداح عن ابن جريج, عن يحيى بن عبيد مولى السائب, عن أبيه, عن عبد الله بن السائب: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين الركن اليماني والركن الأسود: " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " ورواه الثوري عن ابن جريج كذلك. وروى ابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك, وفي سنده ضعف, والله أعلم. وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي, أخبرنا أحمد بن القاسم بن مساور, حدثنا سعيد بن سليمان عن إبراهيم بن سليمان عن عبد الله بن هرمز, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما مررت على الركن إلا رأيت عليه ملكاً يقول آمين, فإذا مررتم عليه فقولوا " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار "" وقال الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو زكريا العنبري, حدثنا محمد بن عبد السلام, حدثنا إسحاق بن إبراهيم, أخبرنا جرير عن الأعمش, عن مسلم البطين, عن سعيد بن جبير, قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال. إني أجرت نفسي من قوم على أن يحملوني, ووضعت لهم من أجرتي على أن يدعوني أحج معهم, أفيجزي ذلك ؟ فقال: أنت من الذين قال الله: "أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب" ثم قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه.
والمراد بالمناسك أعمال الحج، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم" أي فإذا فرغتم من أعمال الحج فاذكروا الله، وقيل: المراد بالمناسك الذبائح، وإنما قال سبحانه 200- "كذكركم آباءكم" لأن العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم يقفون عند الجمرة فيذكرون مفاخر آبائهم ومناقب أسلافهم، فأمرهم الله بذكره مكان ذلك الذكر، ويجعلونه ذكراً مثل ذكرهم لآبائهم أو أشد من ذكرهم لآبائهم. قال الزجاج: إن قوله: "أو أشد" في موضع خفض عطفاً على ذكركم، والمعنى: أو كأشد ذكراً، ويجوز أن يكون في موضع نصب: أي اذكروه أشد ذكراً. وقال في الكشاف: إنه عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله: "كذكركم" كما تقول كذكر قريش آباءهم أو قوم أشد منهم ذكراً. قوله: "فمن الناس من يقول" الآية، لما أرشد سبحانه عباده إلى ذكره، وكان الدعاء نوعاً من أنواع الذكر جعل من يدعوه منقسماً إلى قسمين: أحدهما يطلب حظ الدنيا ولا يلتفت إلى حظ الآخرة، والقسم الآخر يطلب الأمرين جميعاً، ومفعول الفعل، أعني قوله: "آتنا" محذوف: أي ما نريد أو ما نطلب، والواو في قوله: "وما له" واو الحال، والجملة بعدها حالية. والخلاق: النصيب: أي وما لهذا الداعي في الآخرة من نصيب، لأن همه مقصور على الدنيا لا يريد غيرها ولا يطلب سواها. وفي هذا الخبر معنى النهي عن الاقتصار على طلب الدنيا والذم لمن جعلها غاية رغبته ومعظم مقصوده.
200. قوله تعالى: " فإذا قضيتم مناسككم " أي فرغتم من حجكم وذبحتم نسائككم، أي ذبائحكم، يقال: نسك الرجل ينسك نسكا إذا ذبح نسيكته، وذلك بعد رمي جمرة العقبة والاستقرار بمنى. " فاذكروا الله " بالتكبير والتحميد والثناء عليه " كذكركم آباءكم " وذلك أن العرب كانت إذا فرغت من الحج وقفت عند البيت فذكرت مفاخر آبائها، فأمرهم الله تعالى بذكره وقال: فاذكروني فأنا الذي فعلت ذلك بكم وبآبائكم وأحسنت إليكم وإليهم.
قال ابن عباس و عطاء : معناه فاذكروا الله كذكر الصبيان الصغار الآباء، وذلك أن الصبي أول ما يتكلم يلهج بذكر أبيه ل بذكر غيره فيقول الله فاذكروا الله لا غير كذكر الصبي أباه أو اشد، وسئل ابن عباس عن قوله " فاذكروا الله كذكركم آباءكم " فقيل قد يأتي على الرجل اليوم ولا يذكر فيه أباه، قال ابن عباس: ليس كذلك ولكن أن تغضب لله إذا عصي أشد من غضبك لوالديك إذا شتما، وقوله تعالى " أو أشد ذكراً " يعني: وأشد ذكراً، وبل أشد، أي وأكثر ذكراً " فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا " أراد به المشركين كانوا لا يسألون الله تعالى في الحج إلا الدنيا يقولون اللهم أعطنا غنماً وإبلاً وبقراً وعبيداً، وكان الرجل يقوم فيقول يارب: لإن أبي كان عظيم القبة كبير الجفنة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته، قال قتادة هذا عبد نيته الدنيا لها أنفق ولها عمل ونصب " وما له في الآخرة من خلاق " من حظ ونصيب
200-" فإذا قضيتم مناسككم " فإذا قضيتم العبادات الحجية وفرغتم منها . " فاذكروا الله كذكركم آباءكم " فاكثروا ذكره وبالغوا فيه كما تفعلون بذكر آبائكم في المفاخرة . وكانت العرب إذا قضوا مناسكهم وقفوا بمنى بين المسجد والجبل فيذكرون مفاخر آبائهم ومحاسن أيامهم . " أو أشد ذكراً " إما مجرور معطوف على الذكر يجعل الذكر ذاكراً على المجاز والمعنى : فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو كذكر أشد منه وأبلغ . أو على ما أضيف إليه على ضعف بمعنى أو كذكر قوم أشد منكم ذكراً . وإما منصوب بالعطف على آباءكم وذكراً من فعل المذكور بمعنى أو كذكركم أشد مذكورية من آباءكم . أم بمضمر دل عليه المعنى تقديره : أو كونوا أشد ذكراً لله منكم آبائكم . " فمن الناس من يقول " تفصيل للذاكرين إلى مقل لا يطلب بذكر الله تعالى إلا الدنيا ومكثر يطلب به خير الدارين ، والمراد الحث على الإكثار والإرشاد إليه . " ربنا آتنا في الدنيا " اجعل إيتاءنا ومنحتنا في الدنيا " وما له في الآخرة من خلاق " أي نصيب وحظ لأن همه مقصور بالدنيا ، أو من طلب خلاق .
200. And when ye have completed your devotions, then remember Allah as ye remember your fathers or with a more lively remembrance. But of mankind is he who saith: "our Lord! Give unto us in the world," and he hath no portion in the Hereafter.
200 - So when ye have accomplished your holy rites, celebrate the praises of God, as ye used to celebrate the praises of your fathers, yea, with far more heart and soul. there are men who say: our Lord! give us (thy bounties) in this world! but they w ill have no portion in the hereafter.