[البقرة : 19] أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ
مثلهم (كصيِّب) أي كأصحاب مطر ، وأصله صيوب من صاب يصوب أي ينزل (من السماء) السحاب (فيه) أي السحاب (ظلمات) متكاثفة (ورعد) هو الملك الموكل به وقيل صوته (وبرق) لمعان صوته الذي يزجره به (يجعلون) أي أصحاب الصيب (أصابعهم) أي أناملها (في آذانهم من) أجل (الصواعق) شدة صوت الرعد لئلا يسمعوها (حذر) خوف (الموت) من سماعها ، كذلك هؤلاء إذا نزل القرآن وفيه ذكر الكفر المشبه بالظلمات والوعيد عليه المشبه بالرعد والحجج والبينة المشبهة بالبرق ، يسدون آذانهم لئلا يسمعوه فيميلوا إلى الإيمان وترك دينهم وهو عندهم موت (والله محيط بالكافرين) علما وقدرة فلا يفوتونه
قوله تعالى أو كصيب الآية ك أخرج ابن جرير من طريق السدي الكبير عن أبي مالك وأبى صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وناس من الصحابة قالوا كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله إلى المشركين فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله فيه رعد شديد وصواعق وبرق فجعلا كلما أصابهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما وإذا لمع البرق مشيا إلى ضوئه وإذا لم يلمع لم يبصرا فأتيا مكانهما يمشيان فجعلا يقولان ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمدا فنضع أيدينا في يده فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يده وحسن إسلامهما فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء أو يذكروا بشيء فيقتلوا كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما وإذا أضاء لهم مشوا فيه فإذا كثرت أموالهم وولدهم وأصابوا غنيمة أو فتحا مشوا فيه وقالوا إن دين محمد حينئذ صدق واستقاموا عليه كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء لهما البرق وإذا أظلم عليهم قاموا وكانوا إذا هلكت أموإلهم وولدهم وأصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمد وارتدوا كفارا كما قال ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما
قال أبو جعفر: والصيب الفيعل من قولك: صاب المطر يصوب صوبًا، إذا انحدر ونزل، كما قال الشاعر:
فلست لإنسي ولكن لملأك تنزل من جو السماء يصوب
وكما قال علقمة بن عبدة:
كأنهم صابت عليهم سحابة صواعقها لطيرهن دبيب
فلا تعدلي بيني وبين مغمر، سقيت روايا المزن حين تصوب
يعني: حين تنحدر. وهو في الأصل صيوب، ولكن الواو لما سبقتها ياء ساكنة، صيرتا جميعًا ياء مشددة، كما قيل: سيد، من ساد يسود، وجيد، من جاد يجود. وكذلك تفعل العرب بالواو إذا كانت متحركة وقبلها ياء ساكنة، تصيرهما جميعًا ياء مشددة.
وبما قلنا من القول في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن إسمعيل الأحمسي، قال: حدثنا محمد بن عبيد، قال: حدثنا هرون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله "أو كصيب من السماء"، قال: القطر.
حدثني عباس بن محمد، قال: حدثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: قال لي عطاء: الصيب، المطر.
حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قال: الصيب، المطر.
حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:الصيب، المطر.
حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي سعد، قال: حدثني عمي الحسين، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس، مثله.
حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: أو كصيب، يقول: المطر.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن قتادة، مثله.
حدثني محمد بن عمرو الباهلي، وعمرو بن علي، قالا: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: الصيب، الربيع.
حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: الصيب، المطر.
حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحق، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: الصيب، المطر.
حدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الصيب، المطر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد: "أو كصيب من السماء" قال: أو كغيث من السماء.
حدثنا سوار بن عبدالله العنبري، قال: قال سفيان: الصيب، الذي فيه المطر.
حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا ابن جريج، عن عطاء، في قوله: "أو كصيب من السماء"، قال: المطر.
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: مثل استضاءة المنافقين بضوء إقرارهم بالإسلام، مع استسرارهم الكفر، مثل إضاءة موقد نار بضوء ناره، على ما وصف جل ثناؤه من صفته، أو كمثل مطر مظلم ودقه تحدر من السماء، تحمله مزنة ظلماء في ليلة مظلمة. وذلك هو الظلمات التي أخبر الله جل ثناؤه أنها فيه.
فإن قال لنا قائل: أخبرنا عن هذين المثلين: أهما مثلان للمنافقين، أو أحدهما؟ فإن يكونا مثلين للمنافقين، فكيف قيل:أو كصيب، و أو تأتي بمعنى الشك في الكلام، ولم يقل وكصيب بالواو التي تلحق المثل الثاني بالمثل الأول أو يكون مثل القوم أحدهما، فما وجه ذكر الآخر بـ أو وقد علمت أن أو إذا كانت في الكلام فإنما تدخل فيه على وجه الشك من المخبر فيما أخبر عنه، كقول القائل: لقيني أخوك أو أبوك وإنما لقيه أحدهما، ولكنه جهل عين الذي لقيه منهما، مع علمه أن أحدهما قد لقيه. وغير جائز في الله جل ثناؤه أن يضاف إليه الشك في شيء، أو عزوب علم شيء عنه، فيما أخبر أو ترك الخبر عنه.
قيل له: إن الأمر في ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه. و أو وإن كانت في بعض الكلام تأتي بمعنى الشك فإنها قد تأتي دالة على مثل ما تدل عليه الواو، إما بسابق من الكلام قبلها، وإما بما يأتى بعدها، كقول توبة بن الحمير:
وقد زعمت ليلى بأني فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورها
ومعلوم أن ذلك من توبة على غير وجه الشك فيما قال، ولكن لما كانت أو في هذا الموضع دالة على مثل الذي كانت تدل عليه الواو لو كانت مكانها، وضعها موضعها، وكذلك قول جرير:
نال الخلافة أو كانت له قدرًا كما أتى ربه موسى على قدر
وكما قال الآخر:
فلو كان البكاء يرد شيئًا بكيت على بجير أو عفاق
على المرأين إذ مضيا جميعًا لشأنهما، بحزن واشتياق
فقد دل بقوله على المرأين إذ مضيا جميعًا أن بكاءه الذي أراد أن يبكيه لم يرد أن يقصد به أحدهما دون الآخر، بل أراد أن يبكيهما جميعًا. فكذلك ذلك في قول الله جل ثناؤه "أو كصيب من السماء". لما كان معلومًا أن أو دالة في ذلك على مثل الذي كانت تدل عليه الواو لو كانت مكانها كان سواء نطق فيه بـ أو أو بـ الواو. وكذلك وجه حذف المثل من قوله "أو كصيب". لما كان قوله:"كمثل الذي استوقد نارًا" دالاً على أن معناه: كمثل صيب، حذف المثل، واكتفى بدلالة ما مضى من الكلام في قوله: "كمثل الذي استوقد نارًا" على أن معناه: أو كمثل صيب من إعادة ذكر المثل، طلب الإيجاز والاختصار.
قال أبو جعفر: فأما الظلمات، فجمع، واحدها ظلمة.
أما الرعد، فإن أهل العلم اختلفوا فيه:
فقال بعضهم: هو ملك يزجر السحاب. ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، قال الرعد، ملك يزجر السحاب بصوته.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: حدثنا فضيل بن عياض، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أنبأنا إسمعيل بن سالم، عن أبي صالح، قال: الرعد، ملك من الملائكة يسبح.
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي، قال: حدثنا محمد بن يعلى، عن أبي الخطاب البصري، عن شهر بن حوشب، قال: الرعد، ملك موكل بالسحاب يسوقه، كما يسوق الحادي الإبل، يسبح. كلما خالفت سحابة سحابة صاح بها، فإذا اشتد غضبه طارت النار من فيه، فهي الصواعق التي رأيتم.
حدثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الرعد، ملك من الملائكة اسمه الرعد، وهو الذي تسمعون صوته.
حدثنا أحمد بن إسحق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا عبد الملك بن حسين، عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس، قال: الرعد، ملك يزجر السحاب بالتسبيح والتكبير.
وحدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا علي بن عاصم، عن ابن جريج، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: الرعد اسم ملك، وصوته هذا تسبيحه، فإذا اشتد زجره السحاب، اضطرب السحاب واحتك. فتخرج الصواعق من بينه.
حدثنا الحسن، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا أبو عوانة، عن موسى البزار، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس، قال: الرعد ملك يسوق السحاب بالتسبيح، كما يسوق الحادي الإبل بحدائه.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا يحيى بن عباد، وشبابة، قالا: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، قال: الرعد ملك يزجر السحاب.
حدثنا أحمد بن إسحق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عتاب بن زياد، عن عكرمة، قال: الرعد ملك في السحاب، يجمع السحاب كما يجمع الراعي الإبل.
وحدثنا بشر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: الرعد خلق من خلق الله جل وعز، سامع مطيع لله جل وعز.
حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قال: إن الرعد ملك يؤمر بإزجاء السحاب فيؤلف بينه، فذلك الصوت تسبيحه.
وحدثنا القاسم، قال حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: الرعد ملك.
وحدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن المغيرة بن سالم، عن أبيه، أو غيره، أن علي بن أبي طالب قال: الرعد ملك.
حدثنا المثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، قال: أخبرنا موسى بن سالم أبو جهضم، مولى ابن عباس، قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجلد يسأله عن الرعد، فقال: الرعد ملك.
حدثنا المثنى، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا عمر بن الوليد الشني، عن عكرمة، قال: الرعد ملك يسوق السحاب كما يسوق الراعي الإبل.
حدثني سعد بن عبدالله بن عبد الحكم، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، قال: كان ابن عباس إذا سمع الرعد قال: سبحان الذي سبحت له. قال: وكان يقول: إن الرعد ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه.
وقال آخرون: إن الرعد ريح تختنق تحت السحاب فتصاعد، فيكون منه ذلك الصوت.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن إسحق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا بشر بن إسمعيل، عن أبي كثير، قال: كنت عند أبي الجلد، إذ جاءه رسول ابن عباس بكتاب إليه، فكتب إليه: كتبت تسألني عن الرعد، فالرعد الريح .
حدثني إبراهيم بن عبدالله، قال: حدثنا عمران بن ميسرة، قال: حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن الفرات، عن أبيه، قال: كتب ابن عباس إلى ابن أبي الجلد يسأله عن الرعد، فقال: الرعد ريح.
قال أبو جعفر: فإن كان الرعد ما ذكره ابن عباس ومجاهد، فمعنى الآية:أوكصيب من السماء فيه ظلمات وصوت رعد. لأن الرعد إن كان ملكًا يسوق السحاب، فغير كائن في الصيب، لأن الصيب إنما هو ما تحدر من صوب السحاب، والرعد إنما هو في جو السماء يسوق السحاب. على أنه لو كان فيه ثم لم يكن له صوت مسموع، لم يكن هنالك رعب يرعب به أحد. لأنه قد قيل: إن مع كل قطرة من قطر المطر ملكًا، فلا يعدو الملك الذي اسمه الرعد، لو كان مع الصيب، إذا لم يكن مسموعًا صوته، أن يكون كبعض تلك الملائكة التي تنزل مع القطر إلى الأرض، في أن لا رعب على أحد بكونه فيه. فقد علم إذ كان الأمر على ما وصفنا من قول ابن عباس أن معنى الآية: أو كمثل غيث تحدر من السماء فيه ظلمات وصوت رعد، إن كان الرعد هو ما قاله ابن عباس، وأنه استغنى بدلالة ذكر الرعد باسمه على المراد في الكلام من ذكر صوته. وإن كان الرعد ما قاله أبو الجلد، فلا شيء في قوله "فيه ظلمات ورعد" متروك. لأن معنى الكلام حينئذ: فيه ظلمات ورعد الذي هو ما وصفنا صفته.
وأما البرق، فإن أهل العلم اختلفوا فيه: فقال بعضهم بما:
حدثنا مطر بن محمد الضبي، قال: حدثنا أبو عاصم، وحدثني محمد بن بشار، قال: حدثنى عبد الرحمن بن مهدي وحدثنا أحمد بن إسحق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قالوا جميعًا: حدثنا سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن أشوع، عن ربيعة بن الأبيض، عن علي، قال: البرق مخاريق الملائكة.
حدثنا أحمد بن إسحق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عبد الملك بن الحسين، عن أبي مالك، عن السدي، عن ابن عباس: البرق مخاريق بأيدي الملائكة، يزجرون بها السحاب.
وحدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد، عن المغيرة بن سالم، عن أبيه، أو غيره، أن علي بن أبي طالب قال: الرعد الملك، والبرق ضربه السحاب بمخراق من حديد.
وقال آخرون: هو سوط من نور يزجي به الملك السحاب.
ذكر من قال ذلك:
حدثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، بذلك.
وقال آخرون: هو ماء.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن إسحق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا بشر بن إسمعيل، عن أبي كثير، قال: كنت عند أبي الجلد إذ جاء رسول ابن عباس بكتاب إليه، فكتب إليه: كتبت إلي تسألني عن البرق، فالبرق الماء.
حدثنا إبراهيم بن عبدالله، قال: حدثنا عمران بن ميسرة، قال: حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن الفرات، عن أبيه، قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجلد يسأله عن البرق، فقال: البرق ماء.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن رجل، من أهل البصرة من قرائهم، قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجلد رجل من أهل هجر يسأله عن البرق، فكتب إليه: أكتبت إلي تسألني عن البرق، وإنه من الماء.
وقال آخرون: هو مصع ملك.
حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد، قال: البرق، مصع ملك.
حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحق، قال: حدثنا هشام، عن محمد بن مسلم الطائفي، قال: بلغني أن البرق ملك له أربعة أوجه، وجه إنسان، ووجه ثور، ووجه نسر، ووجه أسد، فإذا مصع بأجنحته فذلك البرق.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن وهب بن سليمان، عن شعيب الجبائي قال: في كتاب الله: الملائكة حملة العرش، لكل ملك منهم وجه إنسان وثور وأسد، فإذا حركوا أجنحتهم فهو البرق.
وقال أمية بن أبي الصلت:
رجل وثور تحت رجل يمينه والنسر للأخرى، وليث مرصد
حدثنا الحسين بن محمد، قال: حدثنا علي بن عاصم، عن ابن جريج، عن مجاهد، عن ابن عباس: البرق ملك.
وقد حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: الصواعق ملك يضرب السحاب بالمخاريق، يصيب منه من يشاء.
قال أبو جعفر: وقد يحتمل أن يكون ما قاله علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد بمعنى واحد. وذلك أن تكون المخاريق التي ذكر علي رضي الله عنه أنها هي البرق، هي السياط التي هي من نور، التي يزجي بها الملك السحاب، كما قال ابن عباس. ويكون إزجاء الملك بها السحاب، مصعه إياه. وذلك أن المصاع عند العرب، أصله: المجالدة بالسيوف، ثم تستعمله في كل شيء جولد به في حرب وغير حرب، كما قال أعشى بني ثعلبة، وهو يصف جواري يلعبن بحليهن ويجالدن به:
إذا هن نازلن أقرانهن وكان المصاع بما في الجون
يقال منه: ماصعه مصاعًا. وكأن مجاهدًا إنما قال:مصع ملك، إذ كان السحاب لا يماصع الملك، وإنما الرعد هو المماصع له، فجعله مصدرًا من مصعه يمصعه مصعًا.
وقد ذكرنا ما في معنى الصاعقة ما قال شهر بن حوشب فيما مضى.
وأما تأويل الآية، فإن أهل التأويل مختلفون فيه:
فروي عن ابن عباس في ذلك أقوال: أحدها: ما
حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت ": أي هم من ظلمات ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل على الذي هم عليه من الخلاف والتخوف منكم على مثل ما وصف، من الذي هو في ظلمة الصيب، فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق حذر الموت، يكاد البرق يخطف أبصارهم أي لشدة ضوء الحق كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا، أي يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم من قولهم به على استقامة، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا متحيرين.
والآخر: ما
حدثني به موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، "أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق " إلى "إن الله على كل شيء قدير"، أما الصيب فالمطر. كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله، فيه رعد شديد وصواعق وبرق، فجعلا كلما أضاء لهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما، من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما. وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه، وإذا لم يلمع لم يبصرا وقاما مكانهما لا يمشيان، فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمدًا فنضع أيدينا في يده. فأصبحا، فأتياه فأسلما، ووضعا أيديهما في يده، وحسن إسلامهما. فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلاً للمنافقين الذين بالمدينة. وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم، فرقًا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أن ينزل فيهم شيء أو يذكروا بشيء فيقتلوا، كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما، وإذا أضاء لهم مشوا فيه. فإذا كثرت أموالهم، وولد لهم الغلمان، وأصابوا غنيمة أو فتحًا، مشوا فيه، وقالوا: إن دين محمد صلى الله عليه وسلم دين صدق. فاستقاموا عليه، كما كان ذانك المنافقان يمشيان، إذا أضاء لهم البرق مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا. فكانوا إذا هلكت أموالهم، وولد لهم الجواري، وأصابهم البلاء، قالوا: هذا من أجل دين محمد. فارتدوا كفارًا، كما قام ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما.
والثالث: ما
حدثني به محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس: "أو كصيب من السماء"، كمطر، "فيه ظلمات ورعد وبرق" إلى آخر الآية، هو مثل المنافق في ضوء ما تكلم بما معه من كتاب الله وعمل، مراءاة للناس، فإذا خلا وحده عمل بغيره. فهو في ظلمة ما أقام على ذلك. وأما الظلمات فالضلالة، وأما البرق فالإيمان، وهم أهل الكتاب. وإذا أظلم عليهم، فهو رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه.
والرابع: ما
حدثني به المثنى، قال: حدثنا عبدالله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "أو كصيب من السماء"، وهو المطر، ضرب مثله في القرآن يقول: "فيه ظلمات"، يقول: ابتلاء، "ورعد" يقول: فيه تخويف، "وبرق"، "يكاد البرق يخطف أبصارهم"، يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين، "كلما أضاء لهم مشوا فيه". يقول: كلما أصاب المنافقون من الإسلام عزًا اطمأنوا، وإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر، يقول: "وإذا أظلم عليهم قاموا"، كقوله: "ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين" (الحج: 11).
ثم اختلف سائر أهل التأويل بعد في ذلك، نظير ما روي عن ابن عباس من الاختلاف:فحدثني محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: إضاءة البرق وإظلامه، على نحو ذلك المثل.
حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا عمروبن علي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
وحدثنا بشر بن معاذ، قال حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، في قول الله:"فيه ظلمات ورعد وبرق " إلى قوله،" وإذا أظلم عليهم قاموا"، فالمنافق إذا رأى في الإسلام رخاء أو طمأنينة أو سلوة من عيش قال: أنا معكم وأنا منكم، وإذا أصابته شديدة حقحق والله عندها، فانقطع به، فلم يصبر على بلائها، ولم يحتسب أجرها، ولم يرج عاقبتها.
وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:"فيه ظلمات ورعد وبرق "، يقول: أجبن قوم، لا يسمعون شيئًا إلا إذا ظنوا أنهم هالكون فيه حذرًا من الموت، والله محيط بالكافرين. ثم ضرب لهم مثلاً آخر فقال: " يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه "، يقول: هذا المنافق، إذا كثر ماله، وكثرت ماشيته، وأصابته عافية قال: لم يصبني منذ دخلت في ديني هذا إلا خير. "وإذا أظلم عليهم قاموا"، يقول: إذا ذهبت أموالهم، وهلكت مواشيهم، وأصابهم البلاء، قاموا متحيرين.
حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحق بن الحجاج، عن عبدالله بن أبي جعفر، عن أبيه،عن الربيع بن أنس: "فيه ظلمات ورعد وبرق "، قال: مثلهم كمثل قوم ساروا في ليلة مظلمة، ولها مطر ورعد وبرق على جادة، فلما أبرقت أبصروا الجادة فمضوا فيها، وإذا ذهب البرق تحيروا. وكذلك المنافق، كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له، فإذا شك تحير ووقع في الظلمة، فكذلك قوله: "كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا"، ثم قال: في أسماعهم وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس، "ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ".
قال أبو جعفر:حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان الباهلي، عن الضحاك بن مزاحم، "فيه ظلمات "، قال: أما الظلمات فالضلالة، والبرق الإيمان.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال حدثني عبد الرحمن بن زيد، في قوله:"فيه ظلمات ورعد وبرق "، فقرأ حتى بلغ: "إن الله على كل شيء قدير"، قال: هذا أيضًا مثل ضربه الله للمنافقين، كانوا قد استناروا بالإسلام، كما استنار هذا بنور هذا البرق.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج:ليس في الأرض شيء سمعه المنافق إلا ظن أنه يراد به، وأنه الموت، كراهية له والمنافق أكره خلق الله للموت كما إذا كانوا بالبراز في المطر، فروا من الصواعق.
حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا ابن جريج، عن عطاء، في قوله: " أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق "، قال: مثل ضرب للكافر.
وهذه الأقوال التي ذكرنا عمن رويناها عنه، فإنها وإن اختلفت فيها ألفاظ قائليها متقاربات المعاني، لأنها جميعا تنبىء عن أن الله ضرب الصيب لظاهر إيمان المنافق مثلاً، ومثل ما فيه من ظلمات لضلالته، وما فيه من ضياء برق لنور إيمانه، واتقاءه من الصواعق بتصيير أصابعه في أذنيه، لضعف جنانه ونخب فؤاده من حلول عقوبة الله بساحته، ومشيه في ضوء البرق لاستقامته على نور إيمانه؟ وقيامه في الظلام لحيرته في ضلالته وارتكاسه في عمهه.
فتأويل الآية إذا إذ كان الأمر على ما وصفنا: أو مثل ما استضاء به المنافقون من قيلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم: آمنا بالله وباليوم الاخر وبمحمد وما جاء به، حتى صار لهم بذلك في الدنيا أحكام المؤمنين، وهم مع إظهارهم بألسنتهم ما يظهرون بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر، مكذبون، ولخلاف ما يظهرون بالألسن في قلوبهم معتقدون، على عمى منهم، وجهالة بما هم عليه من الضلال، لا يدرون أي الأمرين اللذين قد شرعا لهم فيه، الهداية: أفي الكفر الذي كانوا عليه قبل إرسال الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بما أرسله به إليهم، أم في الذي أتاهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربهم؟ فهم من وعيد الله إياهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وجلون، وهم مع وجلهم من ذلك في حقيقته شاكون، في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً. كمثل غيث سرى ليلاً في مزنة ظلماء وليلة مظلمة، يحدوها رعد، ويستطير في حافاتها برق شديد لمعانه، كثير خطرانه، يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ويختطفها من شدة ضيائه ونور شعاعه، وينهبط منها تارات صواعق، تكاد تدع النفوس من شدة أهوالها زواهق.
فالصيب مثل لظاهر ما أظهر المنافقون بألسنتهم من الإقرار والتصديق، والظلمات التي هى فيه لظلمات ما هم مستبطنون من الشك والتكذيب ومرض القلوب. وأما الرعد والصواعق، فلما هم عليه من الوجل من وعيد الله إياهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في أي كتابه، إما في العاجل وإما في الآجل، أن يحل بهم، مع شكهم في ذلك: هل هو كائن أم غير كائن؟ وهل له حقيقة أم ذلك كذب وباطل؟ مثل. فهم من وجلهم، أن يكون ذلك حقاً، يتقونه بالإقرار بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بألسنتهم، مخافة على أنفسهم من الهلاك ونزول النقمات. وذلك تأويل قوله جل ثناؤه "يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت "، يعني بذلك: يتقون وعيد الله الذي أنزله في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، بما يبدونه بألسنتهم من ظاهر الإقرار، كما يتقي الخائف أصوات الصواعق بتغطية أذنيه وتصيير أصابعه فيها، حذرًا على نفسه منها.
وقد ذكرنا الخبر الذي روي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما كانا يقولان: إن المنافقين كانوا إذا حضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخلوا أصابعهم في آذانهم فرقاً من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء، أو يذكروا بشيء فيقتلوا. فإن كان ذلك صحيحًا ولست أعلمه صحيحًا، إذ كنت بإسناده مرتاباً فإن القول الذي روي عنهما هو القول. وإن يكن غير صحيح، فأولى بتأويل الأية ما قلنا، لأن الله إنما قص علينا من خبرهم في أول مبتدأ قصتهم: أنهم يخادعون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، مع شك قلوبهم ومرض أفئدتهم في حقيقة ما زعموا أنهم به مؤمنون، مما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربهم. وبذلك وصفهم في جميع آي القرآن التي ذكر فيها صفتهم. فكذلك ذلك في هذه الاية.
وإنما جعل الله إدخالهم أصابعهم في آذانهم مثلاً لاتقائهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما ذكرنا أنهم يتقونهم به، كما يتقي سامع صوت الصاعقة بإدخال أصابعه في أذنيه. وذلك من المثل نظير تمثيل الله جل ثناؤه ما أنزل فيهم من الوعيد في آي كتابه بأصوات الصواعق. وكذلك قوله "حذر الموت "، جعله جل ثناؤه مثلاً لخوفهم وإشفاقهم من حلول عاجل العقاب المهلكهم الذي توعدوه بساحتهم، كما يجعل سامع أصوات الصواعق أصابعه في أذنيه، حذر العطب والموت على نفسه، أن تزهق من شدتها.
وإنما نصب قوله "حذر الموت " على نحو ما تنصب به التكرمة في قولك: زرتك تكرمة لك ، تريد بذلك: من أجل تكرمتك، وكما قال جل ثناؤه: "ويدعوننا رغبًا ورهبًا" ( الأنبياء: 90) على التفسير للفعل.
وقد روي عن قتادة أنه كان يتأول قوله: "حذر الموت "، حذرًا من الموت.
حدثنا بذلك الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عنه.
وذلك مذهب من التأويل ضعيف، لأن القوم لم يجعلوا أصابعهم في آذانهم حذرًا من الموت، فيكون معناه ما قال إنه يراد به: حذرًا من الموت، وإنما جعلوها من حذار الموت في آذانهم.
وكان قتادة وابن جريج يتأولان قوله: "يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت "، أن ذلك من الله جل ثناؤه صفة للمنافقين بالهلع وضعف القلوب وكراهة الموت، ويتأولان في ذلك قوله: "يحسبون كل صيحة عليهم" ( المنافقون: 4).
وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالا. وذلك أنه قد كان فيهم من لا تنكر شجاعته ولا تدفع بسالته، كقزمان، الذي لم يقم مقامه أحد من المؤمنين بأحد، أو دونه. وإنما كانت كراهتهم شهود المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركهم معاونته على أعدائه، لأنهم لم يكونوا في أديانهم مستبصرين، ولا برسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقين، فكانوا للحضور معه مشاهده كارهين، إلا بالتخذيل عنه. ولكن ذلك وصف من الله جل ثناؤه لهم بالإشفاق من حلول عقوبة الله بهم على نفاقهم، إما عاجلاً وإما آجلاً. ثم أخبر جل ثناؤه أن المنافقين الذين نعتهم الله النعت الذي ذكر، وضرب لهم الأمثال التي وصف، وإن اتقوا عقابه، وأشفقوا عذابه إشفاق الجاعل في أذنيه أصابعه حذار حلول الوعيد الذي توعدهم به في أي كتابه غير منجيهم ذلك من نزوله بعقوتهم، وحلوله بساحتهم، إما عاجلاً في الدنيا، وإما آجلاً في الآخرة، للذي في قلوبهم من مرضها، والشك في اعتقادها، فقال: "والله محيط بالكافرين"، بمعنى جامعهم، فمحل بهم عقوبته.
وكان مجاهد يتأول ذلك كما:حدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن عبدالله بن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: "والله محيط بالكافرين "، قال: جامعهم في جهنم.
وأما ابن عباس فروي عنه في ذلك ما:حدثني به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن محمد بن أبي محمدمولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "والله محيط بالكافرين "، يقول: الله منزل ذلك بهم من النقمة.
حدثنا القاسم، قال حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، في قوله: "والله محيط بالكافرين "، قال: جامعهم.
ثم عاد جل ذكره إلى نعت إقرار المنافقين بألسنتهم، والخبر عنه وعنهم وعن نفاقهم، وإتمام المثل الذي ابتدأ ضربه لهم ولشكهم ومرض قلوبهم، فقال: "يكاد البرق "، يعني بالبرق، الإقرار الذي أظهروه بألسنتهم بالله وبرسوله وما جاء به من عند ربهم. فجعل البرق له مثلاً، على ما قدمنا صفته.
"يخطف أبصارهم "، يعني: يذهب بها ويستلبها ويلتمعها من شدة ضيائه ونور شعاعه.
كما حدثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله: "يكاد البرق يخطف أبصارهم "، قال: يلتمع أبصارهم ولما يفعل.
قال أبو جعفر: والخطف السلب، ومنه الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخطفة، يعني بها النهبة. ومنه قيل للخطاف الذي يخرج به الدلو من البئر خطاف، لاختطافه واستلابه ما علق به، ومنه قول نابغة بني ذبيان:
خطاطيف حجن في حبال متينة تمد بها أيد إليك نوازع
فجعل ضوء البرق وشدة شعاع نوره، كضوء إقرارهم بألسنتهم بالله وبرسوله ست وبما جاء به من عند الله واليوم الآخر وشعاع نوره، مثلا.
ثم قال تعالى ذكره: "كلما أضاء لهم "، يعني أن البرق كلما أضاء لهم، وجعل البرق لإيمانهم مثلاً. وإنما أراد بذلك: أنهم كلما أضاء لهم الإيمان، وإضاءته لهم: أن يروا فيه ما يعجبهم في عاجل دنياهم، من النصرة على الأعداء، وإصابة الغنائم في المغازي، وكثرة الفتوح ومنافعها، والثراء في الأموال، والسلامة في الأبدان والأهل والأولاد فذلك إضاءته لهم، لأنهم إنما يظهرون بألسنتهم ما يظهرونه من الإقرار، ابتغاء ذلك، ومدافعة عن أنفسهم وأموالهم وأهليهم وذراريهم، وهم كما وصفهم الله جل ثناؤه بقوله: "ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه" ( الحج: 11).
ويعني بقوله "مشوا فيه"، مشوا في ضوء البرق. وإنما ذلك مثل لإقرارهم على ما وصفنا. فمعناه: كلما رأوا في الإيمان ما يعجبهم في عاجل دنياهم على ما وصفنا، ثبتوا عليه وأقاموا فيه، كما يمشي السائر في ظلمة الليل وظلمة الصيب الذي وصفه جل ثناؤه، إذا برقت فيها بارقة أبصر طريقه فيها.
"وإذا أظلم "، يعني: ذهب ضوء البرق عنهم.
ويعني بقوله "عليهم "، على السائرين في الصيب الذي وصف جل ذكره. وذلك للمنافقين مثل. ومعنى إظلام ذلك: أن المنافقين كلما لم يروا في الإسلام ما يعجبهم في دنياهم عند ابتلاء الله مؤمني عباده بالضراء، وتمحيصه إياهم بالشدائد والبلاء، من إخفاقهم في مغزاهم، وإدالة عدوهم منهم، أو إدبار من دنياهم عنهم أقاموا على نفاقهم، وثبتوا على ضلالتهم، كما قام السائر في الصيب الذي وصف جل ذكره، إذا أظلم وخفت ضوء البرق، فحار في طريقه، فلم يعرف منهجه.
القول في تأويل قوله: "ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم".
قال أبو جعفر: وإنما خص جل ذكره السمع والأبصار بأنه لو شاء أذهبها من المنافقين دون سائر أعضاء أجسامهم للذي جرى من ذكرها في الآيتين، أعني قوله: " يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق" وقوله: " يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه "، فجرى ذكرها في الآيتين على وجه المثل. ثم عقب جل ثناؤه ذكر ذلك، بأنه لو شاء أذهبه من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم وكفرهم، وعيدًا من الله لهم، كما توعدهم في الآية التي قبلها بقوله: "والله محيط بالكافرين" واصفا بذلك جل ذكره نفسه، أنه المقتدر عليهم وعلى جمعهم، لإحلال سخطه بهم، وإنزال نقمته عليهم، ومحذرهم بذلك سطوته ومخوفهم به عقوبته، ليتقوا بأسه، وبسارعوا إليه بالتوبة.
كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم "، لما تركوا من الحق بعد معرفته.
وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: ثم قال يعني قال الله في أسماعهم، يعني أسماع المنافقين، وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس: "ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ".
قال أبو جعفر: وإنما معنى قوله: "لذهب بسمعهم وأبصارهم "، لأذهب سمعهم وأبصارهم، ولكن العرب إذا أدخلوا الباء فى مثل ذلك قالوا: ذهبت ببصره، وإذا حذفوا الباء قالوا: أذهبت بصره،كما قال جل ثناؤه " آتنا غداءنا "(الكهف62) ولو أدخلت الباء في الغداء لقيل: ائتنا بغدائنا.
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل: "لذهب بسمعهم " فوحد، وقال: " وأبصارهم " فجمع؟ وقد علمت أن الخبر في السمع خبر عن سمع جماعة، كما الخبر عن الأبصار خبر عن أبصار جماعة؟
قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك، فقال بعض نحوي الكوفة: وحد السمع لأنه عنى به المصدر وقصد به الخرق، وجمع الأبصار لأنه عنى به الأعين. وكان بعض نحوي البصرة يزعم: أن السمع وإن كان في لفظ واحد، فإنه بمعنى جماعة، ويحتج في ذلك بقول الله: "لا يرتد إليهم طرفهم"(إبراهيم: 43) يريد: لا ترتد إليهم أطرافهم، وبقوله: "ويولون الدبر" ( القمر: 45،) يراد به أدبارهم. وإنما جاز ذلك عندي، لأن في الكلام ما يدل على أنه مراد به الجمع، فكان في دلالته على المراد منه، وأداء معنى الواحد من السمع عن معنى جماعة، مغنيًا عن جماعه. ولو فعل بالبصر نظير الذي فعل بالسمع، أو فعل بالسمع نظير الذي فعل بالأبصار من الجمع والتوحيد كان فصيحًا صحيحًا، لما ذكرنا من العلة، كما قال الشاعر:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زماننا زمن خميص
فوحد البطن، والمراد منه البطون، لما وصفنا من العلة.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: " إن الله على كل شيء قدير".
قال أبو جعفر: وإنما وصف الله نفسه جل ذكره بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع، لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه بهم محيط، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير. ثم قال: فاتقوني أيها المنافقون، واحذروا خداعي وخداع رسولي وأهل الإيمان بي، لا أحل بكم نقمتي، فإني على ذلك وعلى غيره من الأشياء قدير. ومعنى "قدير" قادر، كما معنى عليم عالم، على ما وصفت فيما تقدم من نظائره، من زيادة معنى فعيل على فاعل في المدح والذم.
قوله تعالى : "أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين" .
قوله تعالى : "أو كصيب من السماء" قال الطبري : أو بمعنى الواو ، وقاله الفراء . وأنشد :
وقد زعمت ليلى بأني فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورها
وقال آخر :
نال الخلافة أو كانت له قدراً كما أتى ربه موسى على قدر
أي وكانت . وقيل : او للتخيير أي مثلوهم بهذا أو بهذا ، لا على الاقتصار على أحد الأمرين ، والمعنى أو كأصحاب صيب . والصيب : المطر . واشتقاقه من صاب يصوب إذا نزل ، قال علقمة :
فلا تعدلي بيني وبين مغمر سقتك روايا المزن حيث تصوب
وأصله : صيوب ، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وادغمت ، كما فعلوا في ميت وسيد وهين ولين . وقال بعض الكوفيين : أصله صويب على مثال فعيل . قال النحاس : لو كان كما قالوا لما جاز إدغامه ، كما لا يجوز إدغام طويل . وجمع صيب صيايب . والتقدير في العربية : مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً أو كمثل صيب .
قوله تعالى : "من السماء" السماء تذكر وتؤنث ، وتجمع على أسمية وسموات وسمي على فعول ، قال العجاج :
تلفه الرياح والسمي
والسماء : كل ما علاك فأظلك ، ومنه قيل لسقف البيت : سماء . والسماء : المطر ، سمي به لنزوله من السماء . قال حسان بن ثابت :
ديار من بني الحسحاس قفر تعفيها الروامس والسماء
وقال آخر :
إذا سقط السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
ويسمى الطين والكلا أيضاً سماء ، يقال : ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم . يريدون الكلأ والطين . ويقال لظهر الفرس أيضاً سماء لعلوه ، قال :
وأحمر كالديباج أما سماؤه فريا وأما أرضه فمحول
والسماء : ما علا . والأرض : ما سفل ، على ما تقدم .
قوله تعالى : "فيه ظلمات" ابتداء وخبر . "ورعد وبرق" معطوف عليه . وقال : ظلمات بالجمع إشارة الى ظلمة الليل وظلمة الدجن ، وهو الغيم ، ومن حيث تتراكب وتتزايد جمعت . وقد مضى ما فيه من اللغات فلا معنى للإعادة ، وكذا كل ما تقدم إن شاء الله تعالى .
واختلف العلماء في الرعد ، ففي الترمذي " عن ابن عباس قال : سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو ؟ قال : ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله . فقالوا : فما هذا الصوت الذي نسمع ؟ قال : زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر الله . قالوا : صدقت" . الحديث بطوله . وعلى هذا التفسير أكثر العلماء . فالرعد : اسم الصوت المسموع ، وقاله علي رضي الله عنه ، وهو المعلوم في لغة العرب ، وقد قال لبيد في جاهليته :
فجعني الرعد والصواعق بالـ فارس يوم الكريهة النجد
وروي عن ابن عباس أنه قال : الرعد ريح تختنق بين السحاب فتصوت ذلك الصوت . واختلفوا في البرق ، فروي عن علي وابن مسعود وابن عباس رضوان الله عليهم : البرق مخراق حديد بيد الملك يسوق به السحاب .
قلت : وهو الظاهر من حديث الترمذي . وعن ابن عباس أيضاً :هو سوط من نور بيد الملك يزجر به السحاب . وعنه أيضاً : البرق ملك يتراءى .
وقالت الفلاسفة : الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب . والبرق ما ينقدح من اصطكاكها . وهذا مردود لا يصح به نقل ، والله أعلم . ويقال : أصل الرعد من الحركة ، ومنه الرعديد للجبان . وارتعد :اضطرب، ومنه الحديث :
" فجيء بهما ترعد فرائصهما " الحديث . اخرجه ابو داود . والبرق أصله من البريق والضوء ، ومنه البراق :
دابة ركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وركبها الأنبياء عليهم السلام قبله . ورعدت السماء من الرعد ، وبرقت من البرق . ورعدت المرأة وبرقت : تحسنت وتزينت . ورعد الرجل وبرق : تهدد وأوعد ، قال ابن أحمر :
يا جل ما بعدت عليك بلادنا وطلابنا فابرق بأرضك وارعد
وأرعد القوم وأبرقوا : أصابهم رعد وبرق . وحكى أبو عبيدة و أبو عمرو : أرعدت السماء وأبرقت ، وأرعد الرجل وأبرق إذا تهدد وأوعد ، وأنكره الأصمعي . واحتج عليه بقول الكميت :
أبرق وأرعد يا يزيـ د فما وعيدك لي بضائر
فقال : ليس الكميت بحجة .
فائدة : روى ابن عباس قال : كنا مع عمر بن الخطاب في سفرة بين المدينة والشام ومعنا كعب الأحبار ، قال فأصابتنا ريح واصابنا رعد ومطر شديد وبرد ، وفرق الناس . قال فقال لي كعب : إنه من قال حين يسمع الرعد : سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ، عوفي مما يكون في ذلك السحاب والبرد والصواعق . قال : فقلتها أنا وكعب ، فلما أصبحنا واجتمع الناس قلت لعمر : يا أمير المؤمنين ، كأنا كنا في غير ما كان فيه الناس . قال : وما ذاك ؟ قال : فحدثته حديث كعب . قال : سبحان الله ! أفلا قلتم لنا فنقول كما قلتم ! في رواية فإذا بردة قد أصابت أنف عمر فأثرت به . وستأتي هذه الرواية في سورة الرعد إن شاء الله . ذكر الروايتين أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في روايات الصحابة عن التابعين رحمة الله عليهم أجميعن . "وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع الرعد والصواعق قال :اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك" .
قوله تعالى : "يجعلون أصابعهم في آذانهم" جعلهم أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن فيؤمنوا به وبمحمد عليه السلام ، وذلك عندهم كفر والكفر موت . وفي واحد الأصابع خمس لغات : إصبع بكسر الهمزة وفتح الباء ، وأصبع بفتح الهمزة وكسر الباء ، ويقال بفتحهما جميعاً ، وضمهما جميعاً ، وبكسرهما جميعاً ، وهي مؤنثة . وكذلك الأذن وتخفف وتثقل وتصغر ، فيقال : أذينة . ولو سميت بها رجلاً ثم صغرته قلت : أذين ، فلم تؤنث لزوال التأنيث عنه بالنقل الى المذكر . فأما قولهم : أذينة في الاسم العلم فإنما سمي به مصغراً ، والجمع آذان . وتقول : أذنته إذا ضربت أذنه . ورجل أذن : إذا كان يسمع كلام كل احد ، يستوي فيه الواحد والجمع . وأذاني : عظيم الأذنين . ونعجة أذناء ، وكبش آذن . وأذنت النعل وغيرهما تأذينا : إذا جعلت لها أذناً . وأذنت الصبي : عركت أذنه .
قوله تعالى : "من الصواعق" أي من أجل الصواعق . والصواعق جمع صاعقة . قال ابن عباس و مجاهد وغيرهما : إذا اشتد غضب الرعد الذي هو الملك طار النار من فيه وهي الصواعق . وكذا قال الخليل ، قال : هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد ، يكون معها أحياناً قطعة نار تحرق ما أتت عليه . وقال أبو زيد : الصاعقة نار تسقط من السماء في رعد شديد . وحكى الخليل عن قوم : الساعقة ( بالسين ) . وقال ابو بكر النقاش : يقال صاعقة وصعقة وصاعقة بمعنى واحد . وقرأ الحسن : من الصواقع ( بتقديم القاف ) ، ومنه قول ابي النجم :
يحكون بالمصقولة القواطع تشقق البرق عن الصواقع
قال النحاس : وهي لغة تميم وبعض بني ربيعة . ويقال : صعقتهم السماء إذا ألقت عليهم الصاعقة . والصاعقة أيضاً صيحة العذاب ، قال الله عز وجل : "فأخذتهم صاعقة العذاب الهون" . ويقال : صعق الرجل صعقةً وتصعاقاً ،اي غشي عليه ، ومنه قوله تعالى : "وخر موسى صعقا" فأصعقه غيره . قال ابن مقبل :
ترى النعرات الزرق تحت لبانه أحاد ومثنى أصعقتها صواهله
وقوله تعالى : "فصعق من في السماوات ومن في الأرض" أي مات . وشبه الله تعالى في هذه الآية أحوال المنافقين بما في الصيب من الظلمات والرعد والبرق والصواعق . فالظلمات مثل لما يعتقدونه من الكفر ، والرعد والبرق مثل لما يخوفون به . وقيل : مثل الله تعالى القرآن بالصيب لما فيه من الإشكال عليهم ، والعمى هو الظلمات ، وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد ، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أحياناً أن تبهرهم هو البرق . والصواعق مثل لما في القرآن من الدعاء الى القتال في العاجل والوعيد في الآجل . وقيل : الصواعق تكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة وغيرهما .
قوله : "حذر الموت" حذر وحذار بمعنى ، وقرىء بهما . قال سيبويه : هو منصوب ، لأنه موقوع له أي مفعول من أجله ، وحقيقته أنه مصدر ، وأنشد سيبويه :
واغفر عوراء الكريم ادخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
وقال القراء : هو منصوب على التمييز . والموت : ضد الحياة . وقد مات يموت ، ويمات أيضاً ، قال الراجز :
بنيتي سيدة البنات عيشي ولا يؤمن ان تماتي
فهو ميت وميت ، وقوم موتى وأموات وميتون وميتون . والموات ( بالضم ) الموت . والموات ( بالفتح ) : ما لا روح فيه . والموات أيضاً : الأرض التي لا مالك لها من الآدميين ولا ينتفع بها أحد . والموتان ( بالتحريك ) : خلاف الحيوان ، يقال : اشتر الموتان ، ولا تشتر الحيوان ، أي اشتر الأرضين والدور ، ولا تشتر الرقيق والدواب . والموتان ( بالضم ) : موت يقع في الماشية ، يقال : وقع في المال موتان . وأماته الله وموته ، شدد للمبالغة . وقال :
فعروة مات موتا مستريحا فهأنذا أموت كل يوم
وأماتت الناقة إذا مات ولدها ، فهي مميت ومميتة . قال أبو عبيد : وكذلك المرأة ، وجمعها مماويت . قال ابن السكيت : أمات فلان إذا مات له ابن أو بنون . والمتماوت من صفة الناسك المرائي . وموت مائت ، كقولك : ليل لائل ، يؤخذ من لفظه ما يؤكد به . والمستميت للأمر : المسترسل له ، قال رؤبة :
وزيد البحر له كتيت والليل فوق الماء مستميت
المستميت أيضاً : المستقبل الذي لا يبالي في الحرب من الموت ، وفي الحديث :
"أرى القوم مستميتين" وهم الذين يقاتلون على الموت . والموتة ( بالضم ) : جنس من الجنون والصرع يعتري الإنسان ، فإذا أفاق عاد اليه كمال عقله كالنائم والسكران . ومؤتة (بضم الميم وهمز الواو ) : اسم ارض قتل بها جعفر بن ابي طالب عليه السلام .
قوله تعالى :"والله محيط بالكافرين" ابتداء وخبر ، أي لا يفوتونه . يقال :أحاط السلطان بفلان إذا أخذه أخذا حاصراً من كل جهة ، قال الشاعر :
أحطنا بهم حتى إذا ما تيقنوا بما قدر رأوا مالوا جميعاً الى السلم
ومنه قوله تعالى :"وأحيط بثمره" . وأصله محيط ، نقلت حركة الياء الى الحاء فسكنت . فالله سبحانه محيط بجميع المخلوقات ، أي هي في قبضته وتحت فهره ، كما قال : "والأرض جميعا قبضته يوم القيامة" . وقيل : "محيط بالكافرين" أي عالم بهم . دليله : "وأن الله قد أحاط بكل شيء علما" . وقيل : مهلكهم وجامعهم . دليه قوله تعالى : "إلا أن يحاط بكم" أي إلا أن تهلكوا جميعاً . وخص الكافرين بالذكر لتقدم ذكرهم في الآية . والله أعلم .
هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين وهم يظهر لهم الحق تارة ويشكون تارة أخرى فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم "كصيب"، والصيب المطر، قال ابن مسعود وابن عباس وناس من الصحابة وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وقتادة وعطية العوفي وعطاء الخراساني والسدي والربيع بن أنس، وقال الضحاك: هو السحاب، والأشهر هو المطر نزل من السماء في حال ظلمات، وهي الشكوك والكفر والنفاق ورعد وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع كما قال تعالى: "يحسبون كل صيحة عليهم" وقال: " ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون * لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون " " البرق " هو ما يلمح في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان ولهذا قال "يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين" أي ولا يجدي عنهم حذرهم شيئاً لأن الله محيط بقدرته وهم تحت مشيئته وإرادته كما قال : " هل أتاك حديث الجنود * فرعون وثمود * بل الذين كفروا في تكذيب * والله من ورائهم محيط " بهم ثم قال: "يكاد البرق يخطف أبصارهم" أي لشدته وقوته في نفسه، وضعف بصائرهم وعدم ثباتها للإيمان، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "يكاد البرق يخطف أبصارهم" يقول يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين وقال ابن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "يكاد البرق يخطف أبصارهم" أي لشدة ضوء الحق كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا أي كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه وتارة تعرض لهم الشكوك أظلمت قلوبهم فوقفوا حائرين. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كلما أضاء لهم مشوا فيه يقول كلما أصاب المنافقين من عز الإسلام اطمأنوا إليه وإذا أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر كقوله تعالى "ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به" وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا" أي يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا أي متحيرين، وهكذا قال أبو العالية والحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس والسدي بسنده عن الصحابة وهو أصح وأظهر والله أعلم، وهكذا يكونون يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم، فمنهم من يعطى من النور ما يضيء له مسيرة فراسخ وأكثر من ذلك وأقل من ذلك، ومنهم من يطفأ نوره تارة ويضيء أخرى، فيمشي على الصراط تارة ويقف أخرى، ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم الخلص من المنافقين الذين قال تعالى فيهم "يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً" وقال في حق المؤمنين "يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار" الاية، وقال تعالى: "يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير".
ذكر الحديث الوارد في ذلك
قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى: "يوم ترى المؤمنين والمؤمنات" الاية، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أو بين صنعاء ودون ذلك حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه، رواه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم من حديث عمران بن داور القطان عن قتادة بنحوه، وهذا كما قال المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود قال: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم وأدناهم نوراً على إبهامه يطفأ مرة ويتقد مرة، وهكذا رواه ابن جرير عن ابن مثنى عن ابن إدريس عن أبيه عن المنهال وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن علي بن محمد الطنافسي حدثنا ابن إدريس سمعت أبي يذكر عن المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود "نورهم يسعى بين أيديهم" قال على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل ومنهم من نوره مثل النخلة وأدناهم نوراً من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ أخرى، وقال ابن أبي حاتم أيضاً حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا أبو يحيى الحماني حدثنا عتبة بن اليقظان عن عكرمة عن ابن عباس قال: ليس أحد من أهل التوحيد إلا يعطى نوراً يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين، فهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا، وقال الضحاك بن مزاحم يعطى كل من كان يظهر الإيمان في الدنيا يوم القيامة نوراً فإذا انتهى إلى الصراط طفئ نور المنافقين فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا فقالوا ربنا أتمم لنا نورنا.
فإذا تقرر هذا صار الناس أقساماً، مؤمنون خلص وهم الموصوفون بالايات الأربع في أول البقرة وكفار خلص وهم الموصوفون بالايتين بعدها ومنافقون وهم قسمان: خلص وهم المضروب لهم المثل الناري، ومنافقون يترددون تارة يظهر لهم لمع الإيمان وتارة يخبو وهم أصحاب المثل المائي وهم أخف حالاً من الذين قبلهم، وهذا المقام يشبه من بعض الوجوه ما ذكر في سورة النور من ضرب مثل المؤمن وما جعل الله في قلبه من الهدى والنور بالمصباح في الزجاجة التي كأنها كوكب دري وهي قلب المؤمن المفطور على الإيمان واستمداده من الشريعة الخالصة الصافية الواصلة إليه من غير كدر ولا تخليط كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله، ثم ضرب مثل العباد من الكفار الذين يعتقدون أنهم على شيء وليسوا على شيء، وهم أصحاب الجهل المركب في قوله تعالى "والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً" الاية، ثم ضرب مثل الكفار الجهال الجهل البسيط وهم الذين قال تعالى فيهم "أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور" فقسم الكفار ههنا إلى قسمين : داعية ومقلد، كما ذكرهما في أول سورة الحج "ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد" وقال "ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير" وقد قسم الله المؤمنين في أول الواقعة وفي آخرها، وفي سورة الإنسان إلى قسمين: سابقون وهم المقربون وأصحاب يمين وهم الأبرار.
فتلخص من مجموع هذه الايات الكريمات أن المؤمنين صنفان: مقربون وأبرار، وأن الكافرين صنفان : دعاة ومقلدون ، وأن المنافقين أيضاً صنفان: منافق خالص، ومنافق فيه شعبة من نفاق، كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم "ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان" استدلوا به على أن الإنسان قد تكون فيه شعبة من إيمان وشعبة من نفاق. إما عملي لهذا الحديث أو اعتقادي كما دلت عليه الاية كما ذهب عليه طائفة من السلف وبعض العلماء كما تقدم وكما سيأتي إن شاء الله. قال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا أبو معاوية يعني شيبان عن ليث عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر ، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن فسراجه فيه نوره وأما القلب الأغلف فقلب الكافر وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص عرف ثم أنكر وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه" وهذا إسناد جيد حسن.
وقوله تعالى: "ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير" قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: "ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم" قال لما تركوا من الحق بعد معرفته "إن الله على كل شيء قدير" قال ابن عباس أي إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير وقال ابن جرير: إنما وصف الله تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط ، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير. ومعنى قدير قادر كما معنى عليم عالم، وذهب ابن جرير ومن تبعه من كثير من المفسرين إلى أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين وتكون أو ، في قوله تعالى: "أو كصيب من السماء" بمعنى الواو كقوله تعالى "ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً" أو تكون للتخيير أي اضرب لهم مثلاً بهذا وإن شئت بهذا، قال القرطبي: أو للتساوي مثل جالس الحسن أو ابن سيرين على ما وجهه الزمخشري أن كلاً منهما مساو للاخر في إباحة الجلوس إليه ويكن معناه على قوله سواء ضربت لهم مثلاً بهذا أو بهذا فهو مطابق لحالهم (قلت) وهذا يكون باعتبار جنس المنافقين فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات كما ذكرها الله تعالى في سورة براءة ـ ومنهم ـ ومنهم ـ ومنهم ـ يذكر أحوالهم وصفاتهم وما يعتمدونه من الأفعال والأقوال، فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لأحوالهم وصفاتهم، والله أعلم، كما ضرب المثلين في سورة النور لصنفي الكفار الدعاة والمقلدين في قوله تعالى "والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة" إلى أن قال "أو كظلمات في بحر لجي" الاية: فالأول للدعاة الذين هم في جهل مركب، والثاني لذوي الجهل البسيط من الأتباع المقلدين، والله أعلم بالصواب.
عطف هذا المثل على المثل الأول بحرف الشك لقصد التخيير بين المثلين: أي مثلوهم بهذا أو هذا، وهي وإن كانت في الأصل للشك فقد توسع فيها حتى صارت لمجرد التساوي من غير شك -وقيل: إنها بمعنى الواو، قاله القراء وغيره، وأنشد:
وقد زعمت ليلى بأني فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورها
وقال آخر:
نال الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر
والمراد بالصيب: المطر، واشتقاقه من صاب يصوب: إذا نزل. قال علقمة:
فلا تعدلي بيني وبين معمر سقتك روايا الموت حيث تصوب
وأصله صيوب، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت، كما فعلوا في ميت وسيد. والسماء في الأصل: كل ما علاك فأطلك. ومنه قيل لسقف البيت سماء. والسماء أيضاً: المطر سمي بها لنزوله منها، وفائدة ذكر نزوله من السماء مع كونه لا يكون إلا منها أنه لا يختص نزوله بجانب منها دون جانب، وإطلاق السماء على المطر واقع كثيراً في كلام العرب، فمنه قول حسان:
ديار من بني الحسحاس قفر تعفيها الدوامس والسماء
وقال آخر:
إذا نزل السماء بأرض قوم
والظلمات قد تقدم تفسيرها، وإنما جمعها إشارة إلى أنه انضم إلى ظلمة الليل ظلمة الغيم. والرعد: اسم لصوت الملك الذي يزجر السحاب. وقد أخرج الترمذي من حديث ابن عباس قال: "سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو؟ قال: ملك من الملائكة بيده مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله، قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر. قالت: صدقت" الحديث بطوله، وفي إسناده مقال. قال القرطبي: وعلى هذا التفسير أكثر العلماء -وقيل: هو اضطراب أجرام السحاب عند نزول المطر منها، وإلى هذا ذهب جمع من المفسرين تبعاً للفلاسفة وجهلة المتكلمين وقيل غير ذلك، والبرق: مخراق حديد بيد الملك الذي يسوق السحاب، وإليه ذهب كثير من الصحابة وجمهور علماء الشريعة للحديث السابق. وقال بعض المفسرين تبعاً للفلاسفة: إن البرق ما ينقدح من اصطكاك أجرام السحاب المتراكمة من الأبخرة المتصعدة المشتملة على جزء ناري يتلهب عند الاصطكاك. وقوله: 19- "يجعلون أصابعهم في آذانهم" جملة مستأنفة لا محل لها كأن قائلاً قال: فكيف حالهم عند ذلك الرعد؟ فقيل: يجعلون أصابعهم في آذانهم. وإطلاق الأصبع على بعضها مجاز مشهور، والعلاقة الجزئية والكلية لأن ذلك يجعل في الأذن إنما هو رأس الأصبع كلها. والصواعق ويقال الصواقع: هي قطعة نار تنفصل من مخراق الملك الذي يزجرالسحاب عند غضبه وشدة ضربه لها، ويدل على ذلك ما في حديث ابن عباس الذي ذكرنا بعضه قريباً وبه قال كثير من علماء الشريعة. ومنهم من قال: إنها نار تخرج من فم الملك. وقال الخليل: هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد، يكون معها أحياناً قطعة نار تحرق ما أتت عليه. وقال أبو زيد الصاعقة: نار تسقط من السماء في رعد شديد. وقال بعض المفسرين تبعاً للفلاسفة ومن قال بقولهم: إنها نار لطيفة تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامها. وسيأتي في سورة الرعد إن شاء الله في تفسير الرعد والبرق والصواعق ما له مزيد فائدة وإيضاح. ونصب "حذر الموت" على أنه مفعول لأجله. وقال الفراء: منصوب على التمييز. والموت: ضد الحياة. والإحاطة، الأخذ من جميع الجهات حتى لا تفوت المحاط به بوجه من الوجوه.
19. " أو كصيب " أي كأصحاب صيب وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى للمنافقين بمعنىآخر إن شئت مثلهم بالمستوقد وإن شئت بأهل الصيب وقيل / أو بمعنى الواو يريد وكصيب كقوله تعالى: " أو يزيدون " بمعنى ويزيدون والصيب المطر وكل ما نزل من الأعلى إلى الأسفل فهو صيب فيعل من صاب يصوب أي نزل من السماء أي من السحاب قيل هي السماء بعينها والسماء كل ما علاك فأظلك وهي من أسماء الأجناس يكون واحداً وجمعاً " فيه " أي في الصيب وقيل في السماء أي من السحاب ولذلك ذكره وقيل السماء يذكر ويؤنث قال الله تعالى: " السماء منفطر به " (18-المزمل) وقال " إذا السماء انفطرت " (1-الانفطار) " ظلمات " جمع ظلمة " ورعد " هو الصوت الذي يسمع من السحاب " وبرق " وهو النار التي تخرج منه.
قال علي وابن عباس وأكثر المفسرين رضي الله عنهم: الرعد اسم ملك يسوق السحاب والبرق لمعان سوط من نور يزجر به الملك السحاب. وقيل الصوت زجر السحاب وقيل تسبيح الملك. وقيل الرعد نطق الملك والبرق ضحكه. وقال مجاهد الرعد اسم الملك ويقال لصوته أيضاً رعد والبرق مصع ملك يسوق السحاب وقال شهر بن حوشب : الرعد ملك يزجي السحاب فإذا تبددت ضمها فإذا اشتد غضبه طارت من فيه النار فهي الصواعق، وقيل الرعد صوت انحراف الريح بين السحاب والأول أصح.
" يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق " جمع صاعقة وهي الصيحة التي يموت من يسمعها أو يغشى عليه. ويقال لكل عذاب مهلك: صاعقة، وقيل الصاعقة قطعة عذاب ينزلها الله تعالى على من يشاء.
روي عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال: " اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك ".قوله " حذر الموت " أي مخافة الهلاك " والله محيط بالكافرين " أي عالم بهم وقيل جامعهم. وقال مجاهد : يجمعهم فيعذبهم. وقيل: مهلكهم، دليله قوله تعالى: " إلا أن يحاط بكم " (66-يوسف) أي تهلكوا جميعاً. ويميل أبو عمرو و الكسائي الكافرين في محل النصب والخفض ولا يميلان: " أول كافر به " (41-البقرة).

19-" أو كصيب من السماء " عطف على الذي استوقد أي : كمثل ذوي صيب لقوله : " يجعلون أصابعهم في آذانهم " و " أو" في الأصل للتساوي في الشك ، ثم اتسع فيها فأطلقت للتساوي من غير شك مثل : جالس الحسن أو ابن سيرين ، وقوله تعالى : " ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً " . فإنها تفيد التساوي في حسن المجالسة ووجوب العصيان ومن ذلك قوله : " أو كصيب " ومعناه أن قصة المنافقين مشبهة بهاتين القصتين ، وأنهما سواء في صحة التشبيه بهما ، وأنت مخير في التمثيل بهما أو بأيهما شئت . والصيب : فيعل من الصوب ، وهو النزول ، يقال للمطر وللسحاب ، قال الشماخ :
وأسحم دان صادق الرعد صيب
وفي الآية يحتملهما ، وتنكيره لأنه أريد به نوع من المطر شديد . وتعريف السماء للدلالة على أن الغمام مطبق آخذ بآفاق السماء كلها فإن كل منها يسمى سماء كما أن كل طبقة منها سماء ، وقال :
ومن بعد أرض بيننا وسماء
أمد به في الصيب من المبالغة من جهة الأصل والبناء والتنكير ، وقيل المراد بالسماء السحاب فاللام لتعريف الماهية .
" فيه ظلمات ورعد وبرق " إن أريد بالصيب المطر ، فظلماته ظلمة تكاثفه بتتابع القطر ، وظلمة غمامة مع ظلمة الليل وجعله مكاناً للرعد والبرق لأنهما في أعلاه ومنحدره ملتبسين به . وأن أريد به السحاب فظلماته سحمته وتطبيقه مع ظلمة الليل . وارتفاعها بالظرف وفاقاً لأنه معتمد على موصوف . والرعد : صوت يسمع من السحاب . والمشهور أن سببه اضطراب أجرام السحاب واصطكاكها إذا حدتها الريح من الارتعاد . والبرق ما يلمع من السحاب ، من برق الشئ بريقاً وكلاهما مصدر في الأصل ولذلك لم يجمعا .
" يجعلون أصابعهم في آذانهم " الضمير لأصحاب الصيب وهو وإن حذف لفظه وأقيم الصيب مقامه لكن معناه باق ، فيجوز أن يعول عليه كما عول حسان في قوله :
يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل
حيث ذكر الضمير لأن المعنى ماء بردى ، والجملة استئناف فكأنه لما ذكر ما يؤذن بالشدة والهول قيل : فكيف حالهم مع مثل ذلك ؟ فأجيب بها ، وإنما أطلق الأصابع موضع الأنامل للمبالغة .
" من الصواعق " متعلق بيجعلون أي من أجلها يجعلون ، كقولهم سقاه من العيمة . والصاعقة قصفة رعد هائل معها نار لا تمر بشئ إلا أتت عليه ، من الصعق وهو شدة الصوت ، وقد تطلق على كل هائل مسموع أو مشاهد ، يقال صعقته الصاعقة إذا أهلكته بالإحراق أو شدة الصوت ، وقرئ من الصواقع وهو ليس بقلب من الصواعق لاستواء كلا البناءين في التصريف يقال صقع الديك ، وخطيب مصقع ، وصقعته الصاقعة ، وهي في الأصل إما صفة لقصفة الرعد ، أو للرعد . والتاء للمبالغة كما في الرواية أو مصدر كالعافية والكاذبة . " حذر الموت " نصب على العلة كقوله :
وأغفر عوراء الكريم ادخاره وأصفح عن شتم اللئيم تكرما
والموت : زوال الحياة ، وقيل عرض يضادها لقوله : " خلق الموت والحياة " ، ورد بأن الخلق بمعنى التقدير ، والاعدام مقدرة .
" والله محيط بالكافرين " لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط ، لا يخلصهم الخداع والحيل ، والجملة اعتراضية لا محل لها .
19. Or like a rainstorm from the sky, wherein is darkness, thunder and the flash of lightning. They thrust their fingers in their ears by reason of the thunder-claps, for fear of dead Allah encompasseth the disbelievers (in His guidance).
19 - Or (another similitude) Is that of a rain laden cloud From the sky: in it are zones Of darkness, and thunder and lightning: They press their fingers in their ears To Keep out the stunning thunder clap, The while They are in terror of death. But God is ever round The rejecters of Faith!