[البقرة : 184] أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(أياماً) نصب بالصيام أو يصوموا مقدرا (معدودات) أي قلائل أو مؤقتات بعدد معلوم وهي رمضان كما سيأتي ، وقلّله تسهيلا على المكلفين (فمن كان منكم) حين شهوده (مريضاً أو على سفر) أي مسافر سفر القصر وأجهده الصوم في الحالين فأفطر (فعدة) فعليه عدة ما أفطر (من أيام أخر) يصومها بدله يصومها بدله (وعلى الذين) لا (يطيقونه) لكبر أو مرض لا يرجى بُرْؤه (فدية) هي (طعام مسكين) أي قدر ما يأكله في يومه وهو مُدٌّ من غالب قوت البلد لكل يوم ، وفي قراءة بإضافة فدية وهي للبيان وقيل لا غير مقدرة وكانوا مخيرين في صدر الإسلام بين الصوم والفدية ثم نسخ بتعيين الصوم بقوله من شهد منكم الشهر فليصمه ، قال ابن عباس: إلا الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفا على الولد فإنها باقية بلا نسخ في حقهما (فمن تطوع خيرا) بالزيادة على القدر المذكور في الفدية (فهو) أي التطوع (خير له ، وأن تصوموا) مبتدأ خبره (خير لكم) من الإفطار والفدية (إن كنتم تعلمون) أنه خير لكم فافعلوه
قوله تعالى وعلى الذين يطيقونه الآية أخرج ابن سعد في طبقاته عن مجاهد قال هذه الآية نزلت في مولاي قيس بن السائب وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فأفطر وأطعم لكل يوم مسكينا
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره، كتب عليكم أيها الذين آمنوا- الصيام أياما معدودات. ونصب "أياما" بمضمر من الفعل، كأنه قيل: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم، أن تصوموا أياما معدودات، كما يقال: أعجبني الضرب، زيدا.
وقوله: "كما كتب على الذين من قبلكم" من الصيام، كأنه قيل: كتب عليكم الذي هو مثل الذي كتب على الذين من قبلكم: أن تصوموا أياما معدودات ثم اختلف أهل التأويل فيما عنى الله جل وعز بقوله: "أياما معدودات". فقال بعضهم: الأيام المعدودات صوم ثلاثة أيام من كل شهر. قال: وكان ذلك الذي فرض على الناس من الصيام قبل أن يفرض عليهم شهر رمضان.ذكر من قال ذلك:حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء قال: كان عليهم الصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ولم يسم الشهر أياما معدودات. قال: وكان هذا صيام الناس قبل، ثم فرض الله عز وجل على الناس شهررمضان. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه،عن ابن عباس قوله: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون"، وكان ثلاثة أيام من كل شهر، ثم نسخ ذلك بالذي أنزل من صيام رمضان. فهذا الصوم الأول، من العتمة. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة،عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصام يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، ثم أنزل الله جل وعز فرض شهر رمضان، فأنزل الله: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" حتى بلغ "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين". حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: قد كتب الله تعالى ذكره على الناس، قبل أن ينزل رمضان، صوم ثلاثة أيام من كل شهر. وقال آخرون: بل الأيام الثلاثة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومها قبل أن يفرض رمضان، كان تطوعا
صومهن. وإنما عنى الله جل وعز بقوله: "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" "أياما معدودات"، أيام شهر رمضان، لا الأيام التي كان يصومهن قبل وجوب فرض صوم شهر رمضان.
ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، قال، حدثنا أصحابنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليهم أمرهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعا لا فريضة. قال: ثم نزل صيام رمضان- قال أبو موسى: قوله: قال عمرو بن مرة: حدثنا أصحابنا يريد ابن أبي ليلى، كأن ابن أبي ليلى القائل: حدثنا أصحابنا. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة قال، سمعت عمرو بن مره قال،
سمعت ابن أبي ليلى، فذكر نحوه.قال أبو جعفر: وقد ذكرنا قول من قال: عنى بقوله: "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم"، شهر رمضان.وأولى ذلك بالصواب عندي قول من قال: عنى الله جل ثناؤه بقوله: "أياما معدودات"، أيام شهر رمضان. وذلك أنه لم يأت خبر تقوم به حجة، بأن صوما فرض على أهل الإسلام غير صوم شهر رمضان، ثم نسخ بصوم شهر رمضان، وأن الله تعالى قد بين في سياق الآية، أن الصيام الذي أوجبه جل ثناؤه علينا هو صيام شهر رمضان دون غيره من الأوقات، بإبانته عن الأيام التي أخبر أنه كتب علينا صومها بقوله: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن". فمن ادعى أن صوما كان قد لزم المسلمين فرضه غير صوم شهر رمضان الذي هم مجمعون على وجوب فرض صومه- ثم نسخ ذلك- سئل البرهان على ذلك من خبر تقوم به حجة، إذ كان لا يعلم ذلك إلا بخبريقطع العذر.وإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا للذي بينا، فتأويل الاية: كتب عليكم أيها المؤمنون الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون، أياما معدودات هي شهر رمضان. وجائز أيضا أن يكون معناه: "كتب عليكم الصيام"، كتب عليكم شهر رمضان. وأما المعدودات ، فهي التي تعد مبالغها وساعات أوقاتها. ويعني بقوله: "معدودات"، محصيات.قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "فمن كان منكم مريضا"، من كان منكم مريضا، ممن كلف صومه، أو كان صحيحا غير مريض وكان على سفر، "فعدة من أيام أخر"، يقول: فعليه صوم عدة الأيام التي أفطرها في مرضه أو في سفره، "من أيام أخر"، يعني: من أيام أخر غير أيام مرضه أو سفره. والرفع في قوله: "فعدة من أيام أخر"، نظير الرفع في قوله: "فاتباع بالمعروف" [البقرة: 178].وقد مضى بيان ذلك هنالك بما أغنى عن إعادته.
وأما قوله: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، فإن قراءة كافة المسلمين: "وعلى الذين يطيقونه"، وعلى ذلك خطوط مصاحفهم. وهي القراءة التي لا يجوز لأحد من أهل الإسلام خلافها، لنقل جميعهم تصويب ذلك قرنا عن قرن. وكان ابن عباس يقرؤها فيما روي عنه: وعلى الذين يطوقونه .ثم اختلف قراء ذلك: "وعلى الذين يطيقونه" في معناه.فقال بعضهم: كان ذلك في أول ما فرض الصوم، وكان من أطاقه من المقيمين صامه إن شاء، وإن شاء أفطره وافتدى، فأطعم لكل يوم أفطره مسكينا، حتى نسخ ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة،عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصام يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر. ثم إن الله جل وعز فرض شهر رمضان، فأنزل الله تعالى ذكره: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام" حتى بلغ "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا. ثم إن الله عز وجل أوجب الصيام على الصحيح المقيم، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصوم، فأنزل الله عز وجل: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر" إلى آخر الآية. حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، قال حدثنا أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليهم أمرهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعا غير مريضة. قال: ثم نزل صيام رمضان. قال: وكانوا قوما لم يتعودوا الصيام. قال: وكان يشتد عليهم الصوم. قال: فكان من لم يصم أطعم مسكينا، ثم نزلت هذه الآية: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر"، فكانت الرخصة للمريض والمسافر، وأمرنا بالصيام. قال محمد بن المثنى قوله: قال عمرو: حدثنا أصحابنا، يريد ابن أبي ليلى. كأن ابن أبي ليلى القائل: حدثنا أصحابنا. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة قال، سمعت عمرو بن مرة قال، سمعت ابن أبي ليلى فذكر نحوه.حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة في قوله: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، قال: كان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم نصف صاع مسكينا، فنسخها: "شهر رمضان" إلى قوله: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه".حدثنا. ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، بنحوه- وزاد فيه، قال: فنسختها هذه الاية، وصارت الآية الأولى للشيخ الذي لا يستطيع الصوم، يتصدق مكان كل يوم على مسكين نصف صاع. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح أبو تميلة قال، حدثنا الحسين، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قوله: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين "، فكان من شاء منهم أن يصوم صام، ومن شاء منهم أن يفتدي بطعام مسكين افتدى وتم له صومه. ثم قال: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، ثم استثنى من ذلك فقال: "ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر" حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن إدريس قال، سألت الأعمش عن قوله: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، فحدثنا عن إبراهيم، عن علقمة، قال: نسختها: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه". حدثنا عمر بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: نسخت هذه الآية- يعني: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"- التي بعدها: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر".حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة في قوله: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" ، قال: نسختها: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه". حدثنا الوليد بن شجاع أبو همام قال، حدثنا علي بن مسهر، عن عاصم، عن الشعبيقال: نزلت هذه الآية: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، كان الرجل يفطر فيتصدق عن كل يوم على مسكين طعاما، ثم نزلت هذه الاية: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر"، فلم تنزل الرخصة إلا للمريض والمسافر.
حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا علي بن مسهر، عن عاصم، عن الشعبي قال: نزلت هذه الآية للناس عامة: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، وكان الرجل يفطر ويتصدق بطعامه على مسكين، ثم نزلت هذه الآية: "ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر"، قال: فلم تنزل الرخصة إلا للمريض والمسافر.حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى قال: دخلت على عطاء وهو يأكل في شهر رمضان، فقال: إني شيخ كبير، إن الصوم نزل، فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا، حتى نزلت هذه الآية: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر"، فوجب الصوم على كل أحد، إلا مريض أو مسافر أو شيخ كبير مثلي، يفتدي. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: قال الله: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم"، قال ابن شهاب: كتب الله الصيام علينا، فكان من شاء افتدى ممن يطيق الصيام من صحيح أو مريض أو مسافر، ولم يكن عليه غيرذلك. فلما أوجب الله على من شهد الشهر الصيام، فمن كان صحيحا يطيقه وضع عنه الفدية، وكان من كان على سفر أو كان مريضا فعدة من أيام أخر. قال: وبقيت الفدية التي كانت تقبل قبل ذلك للكبير الذي لا يطيق الصيام، والذي يعرض له العطش أو العلة التي لا يستطيع معها الصيام. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه عن ابن عباس قال: جعل الله في الصوم الأول فدية طعام مسكين، فمن شاء من مسافر أو مقيم أن يطعم مسكينا ويفطر، كان ذلك رخصة له. فأنزل الله في الصوم الاخرة "فعدة من أيام أخر"، ولم يذكر الله في الصوم الاخر فدية طغام مسكين، فنسخت الفدية، وثبت في الصوم الآخر: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر"، وهو الإفطار في السفر، وجعله عدة من أيام اخر. حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، أخبرني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث، قال بكير بن عبد الله، عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع، عن سلمة بن الأكوع أنه قال كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء صام، ومن شاء أفطر وافتدى بطعام مسكين، حتى أنزلت: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه". حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عاصم الأحول، عن الشعبي في قوله: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، قال: كانت للناس كلهم: فلما نزلت "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، أمروا بالصوم والقضاء، فقال: "ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر". حدثنا هناد قال، حدثنا علي بن مسهر، عن الأعمش، عن إبراهيم في قوله: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، قال: نسختها الاية التي بعدها، "وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون".حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن محمد بن سليمان، عن ابن سيرين، عن عبيدة "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، قال: نسختها الاية التي تليها: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه".
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، حدثنا الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان،عن الضحاك قوله: "كتب عليكم الصيام" الاية، فرض الصوم من العتمة إلى مثلها من القابلة، فإذ صلى الرجل العتمة حرم عليه الطعام والجماع إلى مثلها من القابلة. ثم نزل الصوم الآخر بإحلال الطعام والجماع بالليل كله، وهو قوله: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود" إلى قوله: "ثم أتموا الصيام إلى الليل" [البقرة: 187]، وأحل الجماع أيضاً فقال: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" [البقرة: 187]، وكان في الصوم الأول الفدية، فمن شاء من مسافر أو مقيم أن يطعم مسكيناً ويفطر فعل ذلك، ولم يذكر الله تعالى ذكره في الصوم الآخر الفدية، وقال: "فعدة من أيام أخر"، فنسخ هذا الصوم الآخر الفدية.وقال آخرون: بل كان قوله: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، حكما خاصا للشيخ الكبير والعجوز اللذين يطيقان الصوم، كان مرخصا لهما أن يفديا صومهما بإطعام مسكين ويفطرا، ثم نسخ ذلك بقوله: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، فلزمهما من الصوم مثل الذي لزم الشاب إلا أن يعجزا عن الصوم، فيكون ذلك الحكم الذي كان لهما قبل النسخ ثابتا لهما حينئذ بحاله. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة وهما يطيقان الصوم، رخص لهما أن يفطرا إن شاءا ويطعما لكل يوم مسكينا. ثم نسخ ذلك بعد ذلك: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر"، وثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة، إذا كانا لا يطيقان الصوم، وللحبلى والمرضع إذا خافتا. حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سعيد، عن قتادة، عن عروة،عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "وعلى الذين يطيقونه"، قال: الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، ثم ذكر مثل حديث بشر، عن يزيد. حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن عكرمة قال:كان الشيخ والعجوز لهما الرخصة أن يفطرا ويطعما بقوله:"وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" . قال: فكانت لهم الرخصة، ثم نسخت بهذه الاية: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، فنسخت الرخصة عن الشيخ والعجوز إذا كانا يطيقان الصوم، وبقيت الحامل والمرضع أن يفطرا ويطعما.حدثنا المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى قال، سمعت قتادة يقول في قوله: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، قال: كان فيها رخصة للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة وهما يطيقان الصوم أن يطعما مكان كل يوم مسكينا ويفطرا، ثم نسخ ذلك بالاية التي بعدها فقال: "شهر رمضان" إلى قوله: "فعدة من أيام أخر" فنسختها هذه الآية. فكان أهل العلم يرون ويرجون الرخصة تثبت للشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة إذا لم يطيقا الصوم أن يفطرا ويطعما عن كل يوم مسكينا، وللحبلى إذا خشيت على ما في بطنها، وللمرضع إذا ما خشيت على ولدها.حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن قتادة في قوله:"وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، فكان الشخ والعجوز يطيقان صوم رمضان، فأحل الله لهما أن يفطراه إن أرادا ذلك، وعليهما الفدية لكل يوم يفطرانه طعام مسكين، فأنزل الله بعد ذلك: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن"، إلى قوله: "فعدة من أيام أخر".
وقال آخرون ممن قرأ ذلك: "وعلى الذين يطيقونه"، لم ينسخ ذلك ولا شيء منه، وهو حكم مثبث من لدن نزلت هذه الآية إلى قيام الساعة، وقالوا: إنما تأويل ذلك: وعلى الذين يطيقونه- في حال شبابهم وحداثتهم، وفي حال صحتهم وقوتهم- إذا مرضوا وكبروا فعجزوا من الكبر عن الصوم، فدية طعام مسكين، لا أن القوم كان رخص لهم في الإفطار- وهم على الصوم قادرون- إذا افتدوا. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، قال: أما الذين يطيقونه، فالرجل كان يطيقه وقد صام قبل ذلك، ثم يعرض له الوجع أو العطش أو المرض الطويل، أو المرأة المرضع لا تستطيع أن تصوم، فإن أولئك عليهم مكان كل يوم إطعام مسكين، فإن أطعم مسكينا فهو خير له، ومن لكلف الصيام فصامه فهو خيرله.حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إذا خافت الحامل على نفسها، والمرضع على ولدها في رمضان، قال: يفطران ويطعمان مكان كل يوم مسكينا، ولا يقضيان صوما. حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه رأى أم ولد له حاملا أو مرضعا، فقال: أنت بمنزلة الذي لا يطيقه، عليك أن تطعمي مكان كل يوم مسكينا، ولاقضاء عليك.حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن سعيد، عن علي بن ثابت، عن نافع، عن ابن عمر، مثل قول ابن عباس في الحامل والمرضع.
حدثنا بشربن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن ابن عباس قال، لأم ولد له حبلى أو مرضع: أنت بمنزلة الذين لا يطيقونه، عليك الفداء ولا صوم عليك. هذا إذا خافت على نفسها. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه،عن ابن عباس قوله: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، هو الشيخ الكبير كان يطيق صوم شهر رمضان وهو شاب، فكبر وهو لا يستطيع صومه، فليتصدق على مسكين واحد لكل يوم أفطره، حين يفطر وحين يتسحر. حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس نحوه- غير أنه لم يقل: حين يفطروحين يتسحر. حدثنا هناد قال، حدثنا حاتم بني إسمعيل، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيب أنه قال في قول الله تعالى ذكره: "فدية طعام مسكين"، قال: هو الكبير الذي كان يصوم فكبر وعجز عنه، وهي الحامل التي ليس عليها الصيام، فعلى كل واحد منهما طعام مسكين: مد من حنطة لكل يوم حتى يمضي رمضان.وقرأ ذلك آخرون: (وعلى الذين يطوقونه فدية طعام مسكين)، وقالوا: إنه الشيخ الكبير والمرأة العجوز اللذان قد كبرا عن الصوم، فهما يكلفان الصوم ولا يطيقانه، فلهما أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم أفطراه مسكيناً. وقالوا: الاية ثابتة الحكم منذ أنزلت، لم تنسخ، وأنكروا قول من قال: إنها منسوخة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، حدثنا ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: يطوقونه .حدثنا هناد قال، حدثنا علي بن مسهر، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كان يقرأ: (وعلى الذين يطوقونه فدية طعام مسكين) ، قال: فكان يقول: هي للناس اليوم قائمة. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: (وعلى الذين يطوقونه فدية طعام مسكين)، قال: وكان يقول: هي للناس اليوم قائمة.حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: وعلى الذين يطوقونه ، ويقول: هو الشيخ الكبير يفطر ويطعم عنه. حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية: وعلى الذين يطوقونه ،- وكذلك كان يقرؤها-: إنها ليست منسوخة، كلف الشيخ الكبير أن يفطرويطعم مكان كل يوم مسكينا. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبيرأنه قرأ: وعلى الذين يطوقونه .حدثنا هناد تقل، حدثنا وكيع، عن عمران بن حدير، عن عكرمة قال: "الذين يطيقونه" يصومونه، ولكن الذين يطوقونه ، يعجزون عنه.حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، حدثني محمد بن عباد بن جعفر، عن أبي عمرو مولى عائشة، أن عائشة كانت تقرأ: (يطوقونه).حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء أنه كان يقرؤها (يطوقونه). قال ابن جريج: وكان مجاهد يقرؤها كذلك.حدثنا حميد بن مسعدة قال حدثنا بشر بن المفضل قال: حدثنا خالد، عن عكرمة: "وعلى الذين يطيقونه " قال، قال ابن عباس: هو الشيخ الكبير. حدثنا إسمعيل بن موسى السدي قال، أخبرنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وعلى الذين يطوقونه) قال: يتجشمونه، يتكلفونه.حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن مسلم الملائي، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، قال: الشيخ الكبير الذي لا يطيق فيفطر ويطعم كل يوم مسكينا.حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وعطاء، عن ابن عباس في قول الله: "وعلى الذين يطيقونه"، قال: يكلفونه، فدية طعام مسكين واحد. قال: فهذه آية منسوخة لا يرخص فيها إلا للكبير الذي لا يطيق الصيام، أو مريض يعلم أنه لايشفى. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس قال: "الذين يطيقونه"، يتكلفونه، فدية طعام مسكين واحد، ولم يرخص هذا إلا للشيخ الذي لا يطيق الصوم، أو المريض الذي يعلم أنه لا يشفى- هذا عن مجاهد. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه كان يقول: ليست بمنسوخة. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، يقول: من لم يطق الصوم إلا على جهد، فله أن يفطر ويطعم كل يوم مسكينا، والحامل والمرضع والشيخ الكبير والذي به سقم دائم.حدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، قال: هو الشيخ الكبير، والمرء الذي كان يصوم في شبابه فلما كبر عجز عن الصوم قبل أن يموت، فهو يطعم كل يوم مسكينا- قال هناد: قال عبيدة: قيل لمنصور: الذي يطعم كل يوم نصف صاع؟ قال: نعم. حدثنا هناد قال، حدثنا مروان بن معاوية، عن عثمان بن الأسود قال: سألت مجاهدا عن امرأة لي وافق تاسعها شهر رمضان، ووافق حرا شديدا، فأمرني أن تفطر وتطعم. قال: وقال مجاهد: وتلك الرخصة أيضاً في المسافر والمريض، فإن الله يقول: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين". حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الحامل والمرضع والشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم، يفطرون في رمضان، ويطعمون عن كل يوم مسكينا، ثم قرأ: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين". حدثنا علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا حفص، عن حجاج، عن أبي إسحق، عن الحارث، عن علي في قوله: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، قال: الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم، يفطروبطعم مكان كل يوم مسكينا. حدثني المثنى قاق، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن عمرو بن دينار، عن عطاء،عن ابن عباس قال: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، قال: هم الذين يتكلفونه ولا يطيقونه ، الشيخ والشيخة. حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن الحجاج، عن أبي إسحق، عن الحارث، عن علي قال: هو الشيخ والشيخة.
حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن عمران بن حدير، عن عكرمة أنه كان يقرؤها: "وعلى الذين يطيقونه" فأفطروا. حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عاصم، عمن حدثه، عن ابن عباس قال: هي مثبتة للكبير والمرضع والحامل، وعلى الذين يطيقون الصيام.حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، حدثنا ابن المبارك، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما قوله: "وعلى الذين يطيقونه"؟ قال: بلغنا أن الكبير إذا لم يستطع الصوم يفتدي من كل يوم بمسكين. قلت: الكبير الذي لا يستطيع الصوم، أو الذي لا يستطيعه إلا بالجهد؟ قال: بل الكبير الذي لا يستطيعه بجهد ولا بشيء، فأما من استطاع بجهد فليصمه، ولا عذر له في تركه. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرني عبدالله بن أبي يزيد: "وعلى الذين يطيقونه"، الآية، كأنه يعني الشيخ الكبير- قال ابن جريج: وأخبرني ابن طاوس، عن أبيه أنه كان يقول: نزلت في الكبير الذي لا يستطيع صيام رمضان، فيفتدي من كل يوم بطعام مسكين. قلت له: كم طعامه؟ قال: لا أدري، غير أنه قال: طعام يوم. حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الحسن بن يحيى، عن الضحاك في قوله: "فدية طعام مسكين"، قال: الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم، يفطر ويطعم كل يوم مسكينا.قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، منسوخ بقول الله تعالى ذكره: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه".لأن الهاء التي في قوله: "وعلى الذين يطيقونه"، من ذكر الصيام ومعناه: وعلى الذين يطيقون الصيام فدية طعام مسكين. فإذ كان ذلك كذلك، وكان الجميع من أهل الإسلام مجمعين على أن من كان مطيقا من الرجال الأصحاء المقيمين غير المسافرين صوم شهر رمضان، فغير جائز له الإفطار فيه والافتداء منه بطعام مسكين- كان معلوما أن الآية منسوخة.هذا، مع ما يؤيد هذا القول من الأخبار التي ذكرناها آنفا عن معاذ بن جبل، وابن عمر، وسلمة بن الأكوع: من أنهم كانوا- بعد نزول هذه الآية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم- في صوم شهر رمضان بالخيار بين صومه وسقوط الفدية عنهم، وبين الإفطار والافتداء من إفطاره بإطعام مسكين لكل يوم؟ وأنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، فألزموا فرض صومه، وبطل الخيار والفدية. فإن قال قائل: وكيف تدعي إجماعا من أهل الإسلام- على أن من أطاق صومه وهو بالصفة التي وصفت، فغير جائز له إلا صومه- وقد علمت قول من قال: الحامل والمرضع إذا خافتا على أولادهما، لهما الإفطار، وإن أطاقتا الصوم بأبدانهما، مع الخبر الذي روي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي:حدثنا به هناد بن السري قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن أيوب، عن أبي قلابة، "عن أنس قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتغدى، فقال: تعال أحدثك، إن الله وضع عن المسافر والحامل والمرضع الصوم وشطر الصلاة"؟قيل: إنا لم ندع إجماعا في الحامل والمرضع، وإنما ادعينا في الرجال الذين وصفنا صفتهم. فأما الحامل والمرضع، فإنما علمنا أنهن غير معنيات بقوله: "وعلى الذين يطيقونه"، وخلا الرجال أن يكونوا معنيين به، لأنهن لو كن معنيات بذلك دون غيرهن من الرجال، لقيل: وعلى اللواتي يطقنه فدية طعام مسكين، لأن ذلك كلام العرب، إذا أفرد الكلام بالخبر عنهن دون الرجال. فلما قيل: "وعلى الذين يطيقونه"، كان معلوما أن المعني به الرجال دون النساء، أو الرجال والنساء. فلما صح بإجماع الجميع- على أن من أطاق من الرجال المقيمين الأصحاء صوم شهر رمضان، فغير مرخص له في الإفطار والافتداء، فخرج الرجال من أن يكونوا معنيين بالاية، وعلم أن النساء لم يردن بها لما وصفنا: من أن الخبر عن النساء إذا انفرد الكلام بالخبر عنهن: (وعلى اللواتي يطقنه)، والتنزيل بغير ذلك. وأما الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه إنكان صحيحا، فإنما معناه: أنه وضع عن الحامل والمرضع الصوم ما دامتا عاجزتين عنه، حتى تطيقا فتقضيا، كما وضع عن المسافر في سفره، حتى يقيم فيقضيه- لا أنهما امرتا بالفدية والإفطار بغير وجوب قضاء، ولو كان في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن المسافر والمرضع والحامل الصوم"، دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم إنما عنى أن الله تعالى ذكره وضع عنهم بقوله: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، لوجب أن لا يكون على المسافر إذا أفطر في سفره قضاء، وأن لا يلزمه بإفطاره ذلك إلا الفدية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع بين حكمه وبين حكم الحامل والمرضع. وذلك قول، إن قاله قائل، خلاف لظاهر كتاب الله، ولما أجمع عليه جميع أهل الإسلام. وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن معنى قوله: "وعلى الذين يطيقونه"، وعلى الذين يطيقون الطعام. وذلك لتأويل أهل العلم مخالف. وأما قراءة من قرأ ذلك: (وعلى الذين يطوقونه)، فقراءة لمصاحف أهل الإسلام خلاف، وغير جائز لأحد من أهل الإسلام الاعتراض بالرأي على ما نقله المسلمون وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم نقلا ظاهرا قاطعاً للعذر. لأن ما جاءت به الحجة من الدين، هو الحق الذي لا شك فيه أنه منعند الله. ولا يعترض على ما قد ثبت وقامت به حجة أنه من عند الله، بالأراء والظنون والأقوال الشاذة.وأما معنى الفدية فإنه: الحزاء، من قولك: فديت هذا بهذا، أي جزيته به، وأعطيته بدلا منه. ومعنى الكلام: وعلى الذين يطيقون الصيام جزاء طعام مسكين، لكل يوم أفطره من أيام صيامه الذي كتب عليه.وأما قوله: "فدية طعام مسكين"، فإن القرأة مختلفة في قراءته. فبعض يقرأ بإضافة الفدية إلى الطعام، وخفض الطعام - وذلك قراءة عظم قراء أهل المدينة- بمعنى: وعلى الذين يطيقونه أن يفدوه طعام مسكين. فلما جعل مكان أن يفديه الفدية، أضيف إلى الطعام، كما يقال لزمني غرامة درهم لك، بمعنى: لزمني أن أغرم لك درهما. وآخرون يقرأونه بتنوين الفدية، ورفع الطعام ، بمعنى: الإبانة في الطعام عن معنى الفدية الواجبة على من أفطر في صومه الواجب، كما يقال: لزمني غرامة، درهم لك فتبين بالدرهم عن معنى الغرامة ما هي؟ وما حدها؟ وذلك قراءة عظم قراء أهل العراق.قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بين الصواب قراءة من قرأ فدية طعام بإضافة الفدية إلى الطعام، لأن الفدية اسم للفعل، وهي غير الطعام المفدي به الصوم. وذلك أن الفدية مصدر من قول القائل: فديت صوم هذا اليوم بطعام مسكين أفديه فدية، كما
يقال: جلست جلسة، ومشيت مشية. والفدية فعل، و الطعام غيرها. فإذ كان ذلك كذلك، فبين أن أصح القراءتين إضافة الفدية إلى الطعام ، وواضخ خطأ قول من قال: إن ترك إضافة لفدية إلى الطعام، أصح في المعنى، من أجل أن الطعام عنده هو الفدية.فيقال لقائل ذلك: قد علمنا أن الفدية مقتضية مفديا، ومفديا به، وفدية. فإن كان الطعام هو الفدية والصوم هو المفدي به، فأين اسم فعل المفتدى الذي هو فدية إن هذا القول خطأ بين غير مشكل. وأما الطعام فإنه مضاف إلى المسكين . والقرأة في قراءة ذلك مختلفون. فقرأه بعضهم بتوحيد المسكين ، بمعنى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين واحد لكل يوم أفطره، كما: حدثني محمد بن يزيد الرفاعي قال، حدثنا حسين الجعفي، عن أبي عمرو أنه قرأ: فدية- رفع منون- طعام - رفع بغير تنوين- مسكين ، وقال: عن كل يوم مسكين. وعلى ذلك عظم قراء أهل العراق.وقرأه آخرون بجمع المساكين ، فدية طعام مساكين بمعنى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين عن الشهر، إذا أفطر الشهر كله، كما: حدثنا أبو هشام محمد بن يزيد الرفاعي، عن يعقوب، عن بشار، عن عمرو، عن الحسن: طعام مساكين ، عن الشهر كله.قال أبو جعفر: وأعجب القراءتين إلي في ذلك قراءة من قرأ: "طعام مسكين" على الواحد، بمعنى: وعلى الذين يطيقونه عن كل يوم أفطروه فدية طعام مسكين. لأن في إبانة حكم المفطريوما واحداً، وصولا إلى معرفة حكم المفطر جميع الشهر- وليس في إبانة حكم المفطر جميع الشهر، وصول إلى إبانة حكم المفطر يوما واحدا، وأياما هي أقل من أيام جميع الشهر-، وأن كل واحد يترجم عن الجميع، وأن الجميع لا يترجم به عن الواحد. فلذلك اخترنا قراءة تلك بالتوحيد. واختلف أهل العلم في مبلغ الطعام الذي كانوا يطعمون في ذلك إذا أفطروا. فقال بعضهم: كان الواجب من طعام المسكين لإفطار اليوم الواحد نصف صاع من قمح. وقال بعضهم: كان الواجب من طعام المسكين لإفطار اليوم، مدا من قمح ومن سائر أقواتهم. وقال بعضهم: كان ذلك نصف صاع من قمح، أو صاعا من تمر أو زبيب. وقال بعضهم: ما كان المفطر يتقوته يومه الذي أفطره. وقال بعضهم: كان ذلك سحورا وعشاء، يكون للمسكين إفطارا. وقد ذكرنا بعض هذه المقالات فيما مضى قبل، فكرهنا إعادة ذكرها.قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم بما:حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وعطاء، عن ابن عباس: "فمن تطوع خيرا"، فزاد طعام مسكين آخر، "فهو خير له وأن تصوموا خير لكم ". حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس مثله. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد في قوله: "فمن تطوع خيرا"، قال: من أطعم المسكين صاعا. حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه: "فمن تطوع خيرا فهو خير له"، قال: إطعام مساكين عن كل يوم، فهو خير له.حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن حنظلة، عن طاوس:"فمن تطوع خيرا"، قال: طعام مسكين. حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن حنظلة، عن طاوس نحوه.
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن طاوس:"فمن تطوع خيرا"، قال: طعام مسكين. حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن ليث عن طاوس مثله. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عمرو بن هرون قال، حدثنا ابن جريج، عن عطاء أنه قرأ:"فمن تطوع"- بالتاء خفيفة الطاء- "خيرا"، قال: زاد على مسكين.حدثنى موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فمن تطوع خيرا فهو خير له"، فإن أطعم مسكينين فهوخيرله. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني ابن طاوس، عن أبيه: "فمن تطوع خيرا فهو خير له "، قال: من أطعم مسكينا آخر. وقال آخرون: معنى ذلك، فمن تطوع خيرا فصام ييم الفدية.ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب: "فمن تطوع خيرا فهو خير له"، يريد أن من صام مع الفدية فهوخير له.وقال آخرون: معنى ذلك: فمن تطوع خيرا فزاد المسكين على قدر طعامه.ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال مجاهد:
"فمن تطوع خيرا"، فزاد طعاما، "فهو خير له".قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله تعالى ذكره عمم بقوله: "فمن تطوع خيرا"، فلم يخصص بعض معاني الخير دون بعض. فإن جمع الصوم مع الفدية من تطوع الخير، وزيادة مسكين على جزاء الفدية من تطوع الخير. وجائز أن يكون تعالى ذكره عنى بقوله: "فمن تطوع خيرا"، أي هذه المعاني تطوع به المفتدي من صومه، فهو خير له. لأن كل ذلك من تطوع الخير، ونوافل الفضل.قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "وأن تصوموا"، ما كتب عليكم من شهر رمضان، "فهو خير لكم" من أن تفطروه وتفتدوا، كما: حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأن تصوموا خير لكم"، ومن تكلف الصيام فصامه فهو خير له. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يونس، عن ابن شهاب: "وأن تصوموا خير لكم"، أي: إن الصيام خير لكم من الفدية.حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وأن تصوموا خير لكم"...(1).وأما قوله: "إن كنتم تعلمون"، فإنه يعني: إن كنتم تعلمون خير الأمرين لكم أيها الذين آمنوا، من الإفطار والفدية، أو الصوم على ما أمركم الله به.
السادسة : قوله تعالى : "أياما معدودات" اياما مفعول ثان بـ كتب ، قاله الفراء . وقيل : نصب على الظرف لـ كتب ، أي كتب عليكم الصيام في أيام . والأيام المعدودات : شهر رمضان ، وهذا يدل على خلاف ما روي عن معاذ ، والله أعلم .
قوله تعالى :"فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر" فيه ست عشرة مسألة .
الأولى : قوله تعالى : "مريضا" للمريض حالتان : إحداهما ـ ألا يطيق الصوم بحال ، فعليه الفطر واجباً . الثانية : أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة ، فهذا يستحب له الفطر ولا يصوم إلا جاهل . قال ابن سيرين : متى حصل الإنسان في حال يستحق بها اسم المرض فصح افطر ، قياساً على المسافر لعله السفر ، وإن لم تدع إلى الفطر ضرورة . قال طريف بن تمام العطاردي : دخلت على محمد بن سيرين في رمضان وهو يأكل ، فلما فرغ قال : إنه وجعت أصبعي هذ ه .وقال جمهور من العلماء : إذا كان به مرض يؤلمه ويؤذيه أو يخاف تماديه أو يخاف تزيده صح له الفطر . قال ابن عطية : وهذا مذهب حذاق اصحاب مالك وبه يناظرون . وأما لفظ مالك فهو المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به . وقال ابن خويز منداد : واختلفت الرواية عن مالك في المرض المبيح للفطر ، قال مرة : هو خوف التلف من الصيام . وقال مرة : شدة المرض والزيادة فيه والمشقة الفادحة .وهذا صحيح مذهبه وهو مقتضى الظاهر ، لأنه لم يخص مرضاً من مرض فهو مباح في كل مرض ، إلا ما خصه الدليل من الصداع والحمى والمرض اليسير الذي لا كلفه معه في الصيام . وقال الحسن :إذا لم يقدر من المرض على الصلاة قائماً أفطر ، وقال النخعي . وقالت فرقة : لا يفطر بالمرض إلا من دعته ضرورة المرض نفسه إلى الفطر ، ومتى احتمل الضرورة معه لم يفطر . وهذا قول الشافعي رحمه الله تعالى .
قلت : قول ابن سيرين أعدل شيء في هذا الباب إن شاء الله تعالى . قال البخاري : اعتللت بنيسابور علة خفيفة وذلك في شهر رمضان ، فعادني إسحاق بن راهوية في نفر من أصحابه فقال لي : أفطرت يا أبا عبد الله ؟ فقلت نعم : خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة . قلت : حدثنا عبدان عن ابن المبارك عن ابن جريج قال قلت لـ عطاء : من رأى المرض أفطر ؟ قال : من أي مرض كان ، كما قال الله تعالى : "فمن كان منكم مريضا" قال البخاري : وهذا الحديث لم يكن عند إسحاق . وقال أبو حنيفة : إذا خاف الرجل على نفسه وهو صائم إن لم يفطر أن تزداد عينه ودعاً او حماه شدة أفطر .
الثانية : قوله تعالى : "أو على سفر" اختلف العلماء في السفر الذي يجوز فيه الفطر والقصر ، بعد إجماعهم على سفر الطاعة كالحج والجهاد ،ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري . أما سفر التجارات والمباحات فمختلف فيه بالمنع والإجازة ، والقول بالجواز أرجح . وأما سفر العاصي فيختلف فيه بالجواز والمنع ، والقول بالمنع أرجح ، قاله ابن عطية . ومسافة الفطر عند مالك حيث تقصر الصلاة . واختلف العلماء في قدر ذلك ، فقال مالك : يوم وليلة ، ثم رجع فقال : ثمانية وأربعون ميلاً . قال ابن خويز منداد : وهو ظاهر مذهبه ، وقال مرة :اثنان وأربعون ميلاً ، وقال مرة ستة وثلاثون ميلاً ، وقال مرة : مسيرة يوم وليلة ، وروي عنه يومان ، وهو قول الشافعي . وفصل مرة بين البر والبحر ، فقال في البحر مسيرة يوم وليلة ، وفي البر ثمانية وأربعون ميلاً ، وفي المذهب ثلاثون ميلاً ، وفي غير المذهب ثلاثة اميال .. وقال ابن عمرو وابن عباس و الثوري : الفطر في سفر ثلاثة أيام ،حكاه ابن عطية .
الثالثة : اتفق العلماء على أن المسافر في رمضان لا يجوز له أن يبيت الفطر ، لأن المسافر لا يكون مسافراً بالنية بخلاف المقيم ، وإنما يكون مسافراً بالعمل والنهوض ، والمقيم لا يفتقر إلى عمل ، لأنه إذا نوى الإقامة كان مقيماً في الحين ، لأن الإقامة لا تفتقر إلىعمل فافترقا . ولا خلاف بينهم أيضاً في الذي يؤمل السفر أنه لا يجوز له أن يفطر قبل أن يخرج ، فإن أفطر فقال ابن حبيب : إن كان قد تأهب لسفره وأخذ في أسباب الحركة فلا شيء عليه وحكي ذلك عن أصبغ و ابن الماجشون ، فإن عاقه عن السفر عائق كان عليه الكفارة ، وحسبه أن ينجو إن سافر . وروى عيسى عن ابن القاسم أنه ليس عليه إلا قضاء يوم ، لأنه متأول في فطره . وقال أشهب : ليس عليه شيء من الكفارة سافر أو لم يسافر . وقال سحنون : عليه الكفارة سافر أو لم يسافر ، وهو بمنزلة المرأة تقول : غداً تأتيني حيضتي ، فتفطر لذلك . ثم رجع إلى قول عبد الملك وأصبغ وقال : ليس مثل المرأة ، لأن الرجل يحدث السفر إذا شاء والمرأة لا تحدث الحيضة .
قلت : قول ابن القاسم وأشهب في نفي الكفارة حسن ، لأنه ما يجوز له فعله ، والذمة بريئة ،فلا يثبت فيها شيء إلا بيقين ولا يقين مع الاختلاف ، ثم إنه مقتضى قوله تعالى : "أو على سفر" . وقال أبو عمر :هذا أصح أقاويلهم في هذه المسالة ، لأنه غير منتهك لحرمة الصوم بقصد إلى ذلك وإنما هو متأول ، ولو كان الأكل مع نية السفر يوجب عليه الكفارة لأنه كان قبل خروجه ما أسقطها عنه خروجه ، فتأمل ذلك تجده كذلك ، إن شاء الله تعالى . وقد روى الدار قطني : حدثنا أبو بكر النيسابوري حدثنا إسماعيل بن إسحاق بن سهل بمصر قال حدثنا ابن ابي مريم حدثنا محمد بن جعفر أخبرني زيد بن اسلم قال :أخبرني محمد بن المنكدر عن محمد بن كعب أنه قال : أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد السفر وقد رحلت دابته ولبس ثياب السفر وقد تقارب غروب الشمس ، فدعا بطعام فأكل منه ثم ركب . فقلت له : سنة ؟ قال نعم . وروي عن أنس أيضاً قال : قال لي أبو موسى :ألم أنبئنك إذا خرجت خرجت صائماً ، وإذا دخلت دخلت صائماً ، فإذا خرجت فاخرج مفطراً وإذا دخلت فادخل مفطراً . وقال الحسن البصري : يفطر إن شاء في بيته يوم يريد أن يخرج . وقال أحمد : يفطر إذا برز عن البيوت . وقال إسحاق : لا ، بل حين يضع رجله في الرحل . قال ابن المنذر : قول أحمد صحيح ، لأنهم يقولون لمن أصبح صحيحاً ثم اعتل : إنه يفطر بقية يومه ، وكذلك إذا أصبح في الحضر ثم خرج إلى السفر فله كذلك أن يفطر . وقالت طائفة :لا يفطر يومه ذلك وإن نهض في سفره ، كذلك قال الزهري و مكحول و يحيى الأنصاري و مالك و الأوزاعي و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي . واختلفوا إن فعل ، فكلهم قال يقضي ولا يكفر . قال مالك : لأن السفر عذر طارىء ، فكان كالمرض يطرأ عليه . ورو عن بعض أصحاب مالك أنه يقضي ويكفر ، وهو قول ابن كنانة والمخزومي ، وحكاه الباجي عن الشافعي ، واختاره ابن العربي وقال به ، قال : لأن السفر عذر طرأ بعد لزوم العبادة ويخالف المرض والحيض ، لأن المرض يبيح له الفطر ، والحيض يحرم عليها الصوم ،والسفر لا يبيح له ذلك فوجبت عليه الكفارة لهتك حرمته . قال أبو عمر : وليس هذا بشيء ، لأن الله سبحانه قد أباح له الفطر في الكتاب والسنة . وأما قولهم لا يفطر فإنما ذلك استحباب لما عقده فإن أخذ برخصة الله كان عليه القضاء ، وأما الكفارة فلا وجه لها ، ومن أوجبها فقد أوجب ما لم يوجبه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم . وقد روي عن ابن عمر في هذه المسألة : يفطر إن شاء في يومه ذلك إذا خرج مسافراً ، وهو قول الشعبي و أحمد و إسحاق .
قلت : وقد ترجم البخاري رحمه الله على هذه المسألة باب من أفطر في السفر ليراه الناس وساق الحديث " عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصام حتى بلغ عسفان ، ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه الناس فافطر حتى قدم مكة ذلك في رمضان" . وأخرجه مسلم ايضاً عن ابن عباس وقال فيه : ثم دعا بإناء فيه شراب شربه نهاراً ليراه الناس ثم أفطر حتى دخل مكة . وهذا نص في الباب فسقط ما خالفه ،وبالله التوفيق . وفيه أيضاً حجة على من يقول :إن الصوم لا ينعقد في السفر . روي عن عمر وابن عباس وأبي هريرة وابن عمر . قال ابن عمر : من صام في السفر قضى في الحضر . وعن عبد الرحمن بن عوف : الصائم في السفر كالمفطر في الحضر . وقال به قوم من أهل الظاهر ، واحتجوا بقوله تعالى : "فعدة من أيام أخر" على ما يأتي بيانه ، وبما روى كعب بن عاصم قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
"ليس من البر الصيام في السفر" . وفيه أيضاً حجة على من يقول : إن من بيت الصوم في السفر فله أن يفطر وإن لم يكن له عذر ، وإليه ذهب مطرف ، وهو أحد قولي الشافعي وعليه جماعة من أهل الحديث .وكان مالك يوجب عيه القضاء والكفارة لأنه كان مخيراً في الصوم والفطر ، فلما اختار الصوم وبيته لزمه ولم لكن له الفطر ، فإن أفطر عامداً من غير عذر كان عليه القضاء والكفارة . وقد روي عنه أنه لا كفارة عليه ، وهو قول أكثر أصحابه إلا عبد الملك فإنه قال : إن أفطر بجماع كفر ، لأنه لا يقوى بذلك على سفره ولا عذر له ، لأن المسافر إنما أبيح له الفطر ليقوى بذلك على سفره . وقال سائر الفقهاء بالعراق والحجاز : إنه لا كفارة عليه ، منهم الثوري و الأوزاعي و الشافعي و أبو حنيفة و سائر فقهاء الكوفة ، قاله أبو عمر .
الرابعة : واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر ، فقال مالك و الشافعي في بعض ما روي عنهما : الصوم أفضل من قوي عليه . وجل مذهب مالك التخيير وكذلك مذهب الشافعي . قال الشافعي ومن اتبعه :هو مخير ،ولم يفصل ، وكذلك ابن علية ، لحديث أنس قال :
"سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم" خرجه مالك و البخاري و مسلم . وروي عن عثمان بن ابي العاص الثقفي وأنس بن مالك صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهما قالا : الصوم في السفر أفضل لمن قدر عليه ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه . وروي عن ابن عمر وابن عباس : الرخصة أفضل ، وقال به سعيد بن المسيب و الشعبي و عمر بن عبد العزيز و مجاهد و قتادة و الأوزاعي و أحمد و إسحاق . كل هؤلاء يقولون الفطر أفضل ، لقول الله تعالى : "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" .
الخامسة : قوله تعالى : "فعدة من أيام" في الكلام حذف ، أي من يكن منكم مريض أو مسافراً فأفطر فليقض . والجمهور من العلماء على أن أهل البلد إذا صاموا تسعة وعشرين يوماً وفي البلد رجل مريض لم يصح فإنه يقضي تسعة وعشرين يوماً . وقال قوم منهم الحسن بن صالح بن حي : إنه يقضي شهراً من غير مراعاة عدد الأيام . قال الكيا الطبري : وهذا بعيد ، لقوله تعالى : "فعدة من أيام أخر" ولم يقل فشهر من أيام أخر .وقوله : فعدة يقتضي استيفاء عدد ما أفطر فيه ، ولا شك أنه لو أفطر بعض رمضان وجب قضاء ما أفطر بعده بعدده ، وكذلك يجب أن يكون حكم إفطاره جميعه في اعتبار عدده .
السادسة : قوله تعالى : "فعدة" ارتفع عدة على خبر الابتداء ، تقديره فالحكم أو فالواجب عدة ، ويصح فعليه عدة . وقال الكسائي : ويجوز فعدة ، أي فليصم عدة من أيام . وقيل :المعنى صيام عدة ،فحذف المضاف وأقيمت العدة مقامه . والعدة فعلة من العد ،وهي بمعنى المعدود ، كالطحن بمعنى المطحون ، تقول :أسمع جعجعة ولا أرى طحناً . ومنه عدة المرأة . "من أيام أخر" لم ينصرف أخر عند سيبويه ،لأنها معدولة عن الألف واللام ،لأن سبيل فعل من هذا الباب أن يأتي بالألف واللام ، نحو الكبر والفضل . وقال الكسائي : هي معدولة عن آخر ، كما تقول :حمراء وحمر ،فلذلك لم تنصرف . وقيل : منعت من الصرف لأنها على وزن جمع وهي صفة لأيام ، ولم تجىء أخرى لئلا يشكل بأنها صفة للعدة . وقيل :إن "أخر" جمع أخرى كأنه أيام ثم كثرت فقيل : ايام أخر . وقيل : إن نعت الأيام يكون مؤنثاً فلذلك نعتت بأخر .
السابعة : اختلف الناس في وجوب تتابعها على قولين ذكرهما الدار قطني في سننه ، فروى عن عائشة رضي الله عنها قالت :
نزلت فعدة من أيام أخر متتابعات فسقطت متتابعات . قال هذا إسناد صحيح . وروي عن ابي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"من كان عليه صوم من رمضان فليسرده ولا يقطعه" في إسناده عبد الرحمن بن إبراهيم ضعيف الحديث . وأسنده عن ابن عباس في قضاء رمضان صمه كيف شئت . وقال ابن عمر صمه كما أفطرته . واسند عن ابي عبيدة بن الجراح وابن عباس وابي هريرة ومعاذ بن جبل وعمرو بن العاص . و" عن محمد بن المنكدر قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن تقطيع صيام رمضان فقال : ذلك إليك أرأيت لو كان على أحدكم دين فقضى الدرهم والدرهمين ألم يكن قضاه فالله أحق أن يعفو ويغفر" . إسناده حسن إلا أنه مرسل ولا يثبت متصلاً . وفي موطأ مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول : يصوم رمضان متتابعاً من أفطره متتابعاً من مرض أو في سفر .قال الباجي في المنتقى . يحتمل أن يريد الإخبار عن الوجوب ، ويحتمل أن يريد الإخبار عن الاستحباب ، وعلى الاستحباب جمهور الفقهاء . وإن فرقه أجزأه ، وبذلك قال مالك و الشافعي . والدليل على صحة هذا قوله تعالى : "فعدة من أيام أخر" ولم يخص متفرقة من متتابعة ، وإذا أتى بها متفرقة فقد صام عدة من أيام أخر ، فوجب أن يجزيه ابن العربي : إنما وجب التتابع في الشهر لكونه معيناً ، وقد عدم التعيين في القضاء فجاز التفريق .
الثامنة : لما قال تعالى : "فعدة من أيام أخر" دل ذلك وجوب القضاء من غير تعيين لزمان ، لأن اللفظ مسترسل على الأزمان لا يختص ببعضها دون بعض . وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت :
يكون علي الصوم من رمضان فما استطيع أن أقضيه إلا في شعبان ، الشغل من رسول الله ، أو برسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي رواية : وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذا نص وزيادة بيان للآية . وذلك يرد على داود قوله : إنه يجب عليه قضاءه ثاني شوال . ومن لم يصمه ثم مات فهو آثم عنده ، وبنى عليه أنه لو وجب عليه عتق رقبة فوجد رقبة تباع بثمن فليس له أن يتعداها ويشتري غيرها ، لأن الفرض عليه أن يعتق أول رقبة يجدها فلا يجزيه غيرها . ولو كانت عنده رقبة فلا يجوز له أن يشتري غيرها ، ولو مات الذي عنده فلا يبطل العتق ، كما يبطل فيمن نذر أن يعتق رقبة بعينها فماتت يبطل نذره ، وذلك يفسد قوله . وقال بعض الأصوليين :إذا مات بعد مضي اليوم الثامي من شوال لا يعصي على شرط العزم . والصحيح أنه غير آثم ولا مفرط ، وهو قول الجمهور ، غير أنه يستحب له تعجيل القضاء لئلا تدركه المنية فيبقى عليه الفرض .
التاسعة :من كان عليه قضاء أيام من رمضان فمضت عليه عدتها من الأيام بعد الفطر أمكنه فيها صيامه فأخر ذلك ثم جاءه مانع منعه من القضاء إلى رمضان آخر فلا إطعام عليه ، لأنه ليس بمفطر حين فعل ما يجوز له من التأخير .هذا قول البغداديين من المالكيين ،ويرونه قول ابن القاسم في المدونة .
العاشرة : فإن أخر قضاءه عن شعبان الذي هو غاية الزمان الذي يقضي فيه رمضان فهل يلزمه لذلك كفارة أو لا ، فقال مالك و الشافعي و أحمد و إسحاق : نعم . وقال أبو حنيفة و الحسن و النخعي و داود : لا .
قلت : وإلى هذا ذهب البخاري لقوله ، ويذكر عن ابي هريرة مرسلاً وابن عباس أنه يطعم ولم يذكر الله الإطعام ،إنما قال :"فعدة من أيام أخر" .
قلت : قد جاء عن ابي هريرة مسنداً فيمن فرط في قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر قال: يصوم هذا مع الناس ،ويصوم الذي فرط فيه ويطعم لكل يوم مسكيناً . خرجه الدار قطني وقال : إسناد صحيح . وروي عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم :
"في رجل أفطر في شهر رمضان من مرض ثم صح ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر قال : يصوم الذي أدركه ثم يصوم الشهر الذي أفطر فيه ويطعم لكل يوم مسكينا" . في إسناده ابن نافع وابن وجيه ضعيفان .
الحادية عشرة : فإن تمادى به المرض فلم يصح حتى جاء رمضان آخر ، فروى الدار قطني عن ابن عمر أنه يطعم مكان كل يوم مسكيناً مداً من حنطة ، ثم ليس عليه قضاء . وروي أيضاً عن ابي هريرة قال :إذا لم يصح بين الرمضانين صام عن هذا وأطعم عن الثاني ولا قضاء عليه ، وإذا صح فلم يصم حتى إذا أدركه رمضان آخر صام عن هذا وأطعم عن الماضي ، فإذا أفطر قضاه ، إسناد صحيح . قال علماؤنا : وأقوال الصحابة على خلاف القياس قد يحتج بها . وروي عن ابن عباس أن رجلاً جاء إليه فقال :مرضت رمضانين ؟ فقال له ابن عباس : استمر بك مرضك ، أو صححت بينهما ؟فقال : بل صححت ، قال : صم رمضانين وأطعم ستين مسكيناً . وهذا بدل من قوله : إنه لو تمادى به مرضه لا قضاء عليه . وهذا يشبه مذهبهم في الحامل والمرضع أنهما يطعمان ولا قضاء عليهما ، على ما يأتي .
الثانية عشرة :واختلف من أوجب عليه الإطعام في قدر ما يجب أن يطعم ، فكان أبو هريرة والقاسم بن محمد و مالك و الشافعي يقولون : يطعم عن كل يوم مداً وقال الثوري : يطعم نصف صاع عن كل يوم .
الثالثة عشرة :واختلفوا فيمن أفطر أو جامع في قضاء رمضان ماذا يجب عليه ، فقال مالك : من أفطر يوماً من قضاء رمضان ناسياً لم يكن عليه شيء غير قضائه ، ويستحب له أن يتمادى فيه للاختلاف ثم يقضيه ، ولو أفطره عامداً أثم ولم يكن عليه غير قضاء ذلك اليوم ولا يتمادى ،لأنه لا معنى لكفه عما يكف الصائم ها هنا إذ هو غير صائم عند جماعة العلماء لإفطاره عامداً .وأما الكفارة فلا خلاف عند مالكوأصحابه أنها لا تجب في ذلك ، وهو قول جمهور العلماء . قال مالك : ليس على من أفطر يوماً من قضاء رمضان بإصابة أهله أو غير ذلك كفارة ،وإنما عليه قضاء ذلك اليوم . وقال قتادة : على من جامع في قضاء رمضان القضاء والكفارة . وروى ابن القاسم عن مالك أن من أفطر في قضاء رمضان فعليه يومان ، وكان ابن القاسم يفتي به ثم رجع عنه ثم قال: إن أفطر عمداً في قضاء القضاء كان عليه مكانه صايم يومين ،كمن أفسد حجة بإصابة أهله ، وحج قابلاً فافسد حجة أيضاً بإصابة أهله كان عليه حجتان . قال أبو عمر :قد خالفه في الحج ابن وهب وعبد الملك ، وليس يجب القياس على اصل مختلف فيه . والصواب عندي ـ والله أعلم ـ أنه ليس عليه في الوجهين إلا قضاء يوم واحد ، لأنه يوم واحد أفسده مرتين .
قلت : وهو مقتضى قوله تعالى : "فعدة من أيام أخر" فمتى أتى بيوم تام بدلاً عما أفطره في قضاء رمضان فقد أتى بالواجب عليه ، ولا يجب عليه غير ذلك ، والله اعلم .
الرابعة عشرة :والجمهور على أن من أفطر في رمضان لعلة فمات من علته تلك ، أو سافر فمات في سفره ذلك أنه لا شيء عليه . وقال طاوس و قتادة في المريض يموت قبل أن يصح : يطعم عنه .
الخامسة عشرة : واختلفوا فيمن مات وعليه صوم من رمضان لم يقضه ، فقال مالك و الشافعي و الثوري : لا يصوم أحد . وقال أحمد و إسحاق و أبو ثور و الليث و أبو عبيد وأهل الظاهر :يصام عنه إلا أنهم خصصوه بالنذر ،وروي مثله عن الشافعي ، وقال أحمد و إسحاق في قضاء رمضان : يطعم عنه . احتج من قال بالصوم بمارواه مسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"من مات وعليه صيام صام عنه وليه" . إلا أن هذا عام في الصوم ، يخصصه ما رواه مسلم أيضاً عن ابن عباس قال :
"جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن أمي قد ماتت وعليها صوم نذر ـ وفي رواية صوم شهر ـ أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدى ذلك عنها ، قالت : نعم ، قال : فصومي عن أمك" . احتج مالك ومن وافقه بقوله سبحانه : "ولا تزر وازرة وزر أخرى" وقوله : "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى" وقوله : "ولا تكسب كل نفس إلا عليها" وبما خرجه النسائي عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مداً من حنطة" .
قلت : وهذا الحديث عام ، فيحتمل أن يكون المراد بقوله : "لا يصوم أحد عن أحد" صوم رمضان . فأما صوم النذر فيجوز ، بدليل حديث ابن عباس وغيره ، فقد جاء في صحيح مسلم أيضاً من حديث بريدة نحو حديث ابن عباس ، وفي بعض طرقه :
"صوم شهرين أفأصوم عنها ؟ قال :صومي عنها . قالت : إنها لم تحج قط افأحج عنها ؟ قال : حجي عنها" فقولها :شهرين ، يبعد أن يكون رمضان ،والله أعلم . وأقوى ما يحتج به لـ مالك أنه عمل أهل المدينة ، ويعضده القياس الجلي ، وهو أنه عبادة بدنية لا مدخل للمال فيها فلا تفعل عمن وجبت عليه كالصلاة . ولا ينقض هذا بالحج لأن للمال فيه مدخلاً .
السادسة عشرة : استدل بهذه الآية من قال : إن الصوم لا ينعقد في السفر وعليه القضاء أبدا ، فإن الله تعالى يقول : "فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر" أي فعليه عدة ، ولا حذف في الكلام ولا إضمار . وبقوله عليه الصلاة والسلام :
"ليس من البر الصيام في السفر" قال : ما لم يكن من البر فهو من الإثم ، فيدل ذلك على أن صوم رمضان لا يجوز في السفر . والجمهور يقولون : فيه محذوف فأفطر ،كما تقدم . وهو الصحيح ، لحديث أنس قال :
"سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم" ، رواه مالك عن حميد الطويل عن أنس . وأخرجه مسلم عن ابي سعيد الخدري قال :
غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لست عشرة مضت من رمضان فمنا من صام ومنا من أفطر ، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم .
قوله تعالى : "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون" . فيه خمس مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "وعلى الذين يطيقونه" قرأ الجمهور بكسر الطاء وسكون الياء ، وأصله يطوقونه نقلت الكسرة إلى الطاء وانقلبت الواو ياء لإنكسار ما قبلها . وقرأ حميد على الأصل من غير اعتلال ،والقياس الاعتلال . ومشهور قراءة ابن عباس يطوقونه بفتح الطاء مخففة وتشديد الواو بمعنى يكلفونه .وقد روى مجاهد يطيقونه بالياء بعد الطاء على لفظ يكيلونه وهي باطلة ومحال ، لأن الفعل مأخوذ من الطوق ، فالواو لازمة واجبة فيه ولا مدخل للياء في هذا المثال . قال أبو بكر الأنباري : وأنشدنا أحمد بن يحيى النحوي لأبي ذؤيب :
فقيل تحمل فوق طاقك إنها مطبعة من يأتها لا يضيرها
فأظهر الواو في الطوق ، وصح بذلك أن واضع الياء مكانها يفارق الصواب . وروى ابن الأنباري عن ابن عباس يطيقونه بفتح الياء وتشديد الطاء والياء مفتوحتين بمعنى يطيقونه ، يقال :طاق وأطاق وأطيق بمعنى . وعن ابن عباس أيضاً وعائشة و طاوس وعمرو بن دينار يطوقونه بفتح الياء وشد الطاء مفتوحة ، وهي صواب في اللغة ، لأن الأصل يتطوقونه فأسكنت التاء وأدغمت في الطاء فصارت طاء مشددة ، وليست من القرآن ، خلافاً لمن أثبتها قرآناً ، وإنما هي قراءة على التفسير . وقرأ أهل المدينة والشام فدية طعام مضافاً ، مساكين جمعاً . وقرأ ابن عباس طعام مسكين بالإفراد فيما ذكر البخاري و أبو داود و النسائي عن عطاء عنه . وهي قراءة حسنة ، لأنها بينت الحكم في اليوم ، واختارها أبو عبيد ، وهي قراءة ابي عمرو وحمزة و الكسائي . قال أبو عبيد : فبينت أن لكل يوم إطعام واحد ، فالواحد مترجم عن الجميع ، وليس الجميع بمترجم عن واحد . وجمع المساكين لا يدرى كم منهم في اليوم إلا من غير الآية . وتخرج قراءة الجمع في مساكين لما كان الذين يطيقونه جمع وكل واحد منهم يلزمه مسكين فجمع لفظة ، كما قال تعالى : "والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة" أي أجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة ، فليست الثمانون متفرقة في جميعهم ، بل لكل واحد ثمانون ، قال معناه أبو علي . واختار قراءة الجمع النحاس قال : وما اختاره أبو عبيد مردود ، لأن هذا إنما يعرف بالدلالة ، فقد علم أن معنى وعلى الذين يطقيونه فدية طعام مساكين أن لكل يوم مسكيناً ، فاختيار هذه القراءة لترد جمعاً على جمع . قال النحاس : واختار أبو عبيد أن يقرأ فدية طعام قال: لأن الطعام هو الفدية ، ولا يجوز أن يكون الطعام نعتاً لأنه جوهر ولكنه يجوز على البدل ، وابين منه أن يقرأ فدية طعام بالإضافة ، لأن فدية مبهمة تقع للطعام وغيره ، فصار مثل قولك : هذا ثوب خز .
الثانية : واختلف العلماء في المراد بالآية ، فقيل : هي منسوخة . روى البخاري : وقال ابن نمير حدثنا الأعمش حدثنا عمرو بن مرة حدثنا ابن ابي ليلى حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكيناً ترك الصوم ممن يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها "وأن تصوموا خير لكم" . وعلى هذا قراءة الجمهور يطيقونه أي يقدرون عليه ، لأن فرض الصيام هكذا : من أراد صام ومن أراد أطعم مسكيناً . وقال ابن عباس : نزلت هذه الاية رخصة للشيوخ والعجزة خاصة إذا أفطروا وهم يطيقونه الصوم ،ثم نسخت بقوله "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" فزالت الرخصة إلا لمن عجز منهم . قال الفراء : الضمير في يطيقونه يجوز أن يعود على الصيام ، أي وعلى الذين يطيقونه الصيام أن يطعموا إذا أفطروا ، ثم نسخ بقوله : "وأن تصوموا" . ويجوز أن يعود على الفداء ، أي وعلى الذين يطيقون الفداء فدية . وأما قراءة يطوقونه على معنى يكلفونه مع المشقة اللاحقة لهم ،كالمريض والحامل فإنهما يقدران عليه لكن بمشقة تلحقهم في أنفسهم ، فإن صاموا أجزأهم وإن افتدوا فلهم ذلك . ففسر ابن عباس ـ إن كان الإسناد عنه صحيحاً ـ يطيقونه بـ يطوقونه ويتكلفونه فأدخله بعض النقلة في القرآن . روى أبو داود عن ابن عباس وعلى الذين يطيقونه قال : أثبتت للحبلى والمرضع . وروى عنه "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" قال : كانت رخصة للشيخ الكبيرة وهما يطيقان الصوم أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكيناً ، والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا .وخرج الدار قطني عنه أيضاً قال : رخص للشيه الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً ولا قضاء عليه ، هذا إسناد صحيح . وروي عنه أيضاً أنه قال : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام ليست بمنسوخة ، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما ، فيطعما مكان كل يوم مسكنياً ، وهذا صحيح . وروي عنه أيضاً أنه قال لأم الولد له حبلى أو مرضع : أنت من الذين لا يطيقون الصيام ، عليك الجزاء ولا عليك القضاء ، وهذا إسناد صحيح . وفي رواية : كانت له أم ولد ترضع ـ من غير شك ـ فأجهدت فأمرها أن تفطر ولا تقضي ، هذا صحيح .
قلت : فقد ثبت بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس أن الآية ليست بمنسوخة وأنها محكمة في حق من ذكر . والقول الأول صحيح أيضاً ، إلا أنه يحتمل أن يكون النسخ هناك بمعنى التخصيص ، فكثيراً ما يطلق المتقدمون النسخ بمعناه ، والله أعلم . وقال الحسن البصري و عطاء بن أبي رباح والضحاك و النخعي و الزهري و ربيعة و الأوزاعي وأصحاب الرأي : الحامل والمرضع يفطران ولا إطعام عليهما ، بمنزلة المريض يفطر ويقضي ، وبه قال أبو عبيد و أبو ثور . وحكى ذلك أبو عبيد عن أبي ثور ، واختاره ابن المنذر ، وهو قول مالك في الحبلى إن أفطرت ، فأما المرضع إن أفطرت فعليها القضاء والإطعام . وقال الشافعي و أحمد : يفطران ويطعمان ويقضيان ، وأجمعوا على أن المشايخ والعجائز الذين لا يطقيون الصيام أو يطيقونه على مشقة شديدة أن يفطروا . واختلفوا فيما عليهم ، فقال ربيعة و مالك : لا شيء عليهم ، غير أن مالكا قال : لو أطعموا عن كل يوم مسكيناً كان أحب إلي . وقال أنس وابن عباس وقيس بن السائب وأبو هريرة : عليهم الفدية . وهو قول الشافعي واصحاب الرأي و أحمد و إسحاق ، اتباعاً لقول الصحابة رضي الله عن جميعهم ، وقوله تعالى : "فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر" ثم قال : "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" وهؤلاء ليسوا بمرضى ولا مسافرين ، فوجبت عليهم الفدية . والدليل لقول مالك : أن هذا مفطر لعذر موجود فيه وهو الشيخوخة والكبر فلم يلزمه إطعام كالمسافر والمريض . وروي هذا عن الثوري و مكحول واختاره ابن المنذر .
الثالثة : واختلف من أوجب الفدية على من ذكر في مقدارها ، فقال مالك : مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم عن كل يوم أفطره ، وبه قال الشافعي . وقال أب حنيفة : كفارة كل يوم صاع تمر أو نصف صاع بر . وروي عن ابن عباس نصف صاع من حنطة ، ذكره الدار قطني . وروي عن ابي هريرة قال : من أدركه الكبر فلم يستطع أن يصوم فعليه لكل يوم مد من قمح . وروي عن أنس بن مالك أنه ضعف عن الصوم عاماً فصنع جفنة من طعام ثم دعا بثلاثين مسكيناً فأشبعهم .
الرابعة : قوله تعالى : "فمن تطوع خيرا فهو خير له" قال ابن شهاب :من أراد الإطعام مع الصوم . وقال مجاهد : من زاد في الإطعام على المد . ابن عباس : فمن تطوع خيرا قال : مسكيناً آخر فهو خير له . ذكره الدار قطني وقال : إسناد صحيح ثابت . و خير الثاني صفة تفضيل ، وكذلك الثالث و خير الأول . وقرأ عيسى بن عمر ويحيى بن وثاب وحمزة و الكسائي يطوع خيرا مشدداً وجزم العين على معنى يتطوع الباقون تطوع بالتاء وتخفيف الطاء وفتح العين على الماضي .
الخاسمة :قوله تعالى : "وأن تصوموا خير لكم" أي والصيام خير لكم . وكذا قرأ أبي ،أي من الإفطار مع الفدية وكان هذا قبل النسخ . وقيل : : وأن تصوموا في السفر والمرض غير الشاق ، والله أعلم . وعلى الجملة فإنه يقتضي الحض على الصوم ، أي فاعلموا ذلك وصوموا .
يقول تعالى مخاطباً للمؤمنين من هذه الاية, وآمراً لهم بالصيام وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع, بنية خالصة لله عز وجل لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الردئية والأخلاق الرذيلة, وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم فلهم فيه أسوة, وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك, كما قال تعالى: " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات " الاية, ولهذا قال ههنا "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان, ولهذا ثبت في الصحيحين "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" ثم بين مقدار الصوم وأنه ليس في كل يوم, لئلا يشق على النفوس فتضعف عن حمله وأدائه بل في أيام معدودات. وقد كان هذا في ابتداء الإسلام, يصومون من كل شهر ثلاثة أيام, ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان كما سيأتي بيانه. وقد روي أن الصيام كان أولاً كما كان عليه الأمم قبلنا من كل شهر ثلاثة أيام عن معاذ وابن مسعود وابن عباس وعطاء وقتادة والضحاك بن مزاحم وزاد: لم يزل هذا مشروعاً من زمان نوح إلى أن نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان. وقال عباد بن منصور عن الحسن البصري "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون * أياماً معدودات" فقال: نعم, والله لقد كتب الصيام على كل أمة قد خلت, كما كتبه علينا شهراً كاملاً وأياماً معدودات عدداً معلوماً, وروي عن السدي نحوه. وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي عبد الرحمن المقري, حدثني سعيد بن أبي أيوب, حدثني عبد الله بن الوليد عن أبي الربيع رجل من أهل المدينة, عن عبد الله بن عمر , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم" في حديث طويل اختصر منه ذلك. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عمن حدثه عن ابن عمر قال: أنزلت "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" كتب عليهم إذا صلى أحدهم العتمة ونام, حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها, قال ابن أبي العالية وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهد وسعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس وعطاء والخراساني نحو ذلك, وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس "كما كتب على الذين من قبلكم" يعني بذلك أهل الكتاب, وروي عن الشعبي والسدي وعطاء الخراساني مثله, ثم بين حكم الصيام على ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام فقال "فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر" أي المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر , لما في ذلك من المشقة عليهما بل يفطران ويقضيان بعد ذلك من أيام أخر , وأما الصحيح المقيم الذي يطيق الصيام فقد كان مخيراً بين الصيام وبين الإطعام, إن شاء صام وإن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً, فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم فهو خير, وإن صام فهو أفضل من الإطعام, قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطاوس ومقاتل بن حيان وغيرهم من السلف, ولهذا قال تعالى: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيراً فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون".
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر , حدثنا المسعودي حدثنا عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه, قال: أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال, وأحيل الصيام ثلاثة أحوال, فأما أحوال الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم, قدم المدينة وهو يصلي سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس, ثم إن الله عز وجل أنزل عليه: "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها" الاية, فوجهه الله إلى مكة هذا حول, قال: وكانوا يجتمعون للصلاة ويؤذن بها بعضهم بعضاً, حتى نقسوا أو كادوا ينقسون, ثم إن رجلاً من الأنصار يقال له عبد الله بن زيد بن عبد ربه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, إني رأيت فيما يرى النائم, ولو قلت إني لم أكن نائماً لصدقت, إني بينا أنا بين النائم واليقظان إذا رأيت شخصاً عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة, فقال: الله أكبر الله أكبر, أشهد أن لا إله إلا الله ـ مثنى ـ حتى فرغ من الأذان, ثم أمهل ساعة ثم قال مثل الذي قال غير أنه يزيد في ذلك قد قامت الصلاة مرتين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علمها بلالاً فليؤذن بها" فكان بلال أول من أذن بها, قال: وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله, قد طاف بي مثل الذي طاف به, غير أنه سبقني فهذان حالان, قال: وكانوا يأتون الصلاة سبقهم النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها, فكان الرجل يشير إلى الرجل إذن كم صلى ؟ فيقول: واحدة أو اثنتين فيصليهما, ثم يدخل مع القوم في صلاتهم, قال: فجاء معاذ فقال: لا أجده على حال أبداً إلا كنت عليها, ثم قضيت ما سبقني, قال: فجاء وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها, قال: فثبت معه فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقضى, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنه قد سن لكم معاذ فهكذا فاصنعوه" فهذه ثلاثة أحوال, وأما أحوال الصيام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وصام عاشوراء, ثم إن الله فرض عليه الصيام, وأنزل الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" إلى قوله "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكيناً, فأجزأ ذلك عنه, ثم إن الله عز وجل أنزل الاية الاخرى "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن" إلى قوله "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح, ورخص فيه للمريض والمسافر, وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام, فهذان حالان, قال: وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا, فإذا ناموا امتنعوا, ثم إن رجلاً من الأنصار يقال له صرمة, كان يعمل صائماً حتى أمسى فجاء إلى أهله فصلى العشاء ثم نام, فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح صائماً, فرآه رسول الله وقد جهد جهداً شديداً, فقال "ما لي أراك قد جهدت جهداً شديداً ؟" قال: يا رسول الله, إني عملت أمس فجئت حين جئت, فألقيت نفسي فنمت, فأصبحت صائماً, قال: وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك, فأنزل الله عز وجل: " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل " وأخرجه أبو داود في سننه, والحاكم في مستدركه من حديث المسعودي به, وقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت: كان عاشوراء يصام, فما نزل فرض رمضان, كان من شاء صام ومن شاء أفطر , وروى البخاري عن ابن عمر وابن مسعود مثله.
وقوله تعالى: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" كما قال معاذ رضي الله عنه: كان في ابتداء الأمر من شاء صام, ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً, وهكذا روى البخاري عن سلمة بن الأكوع أنه قال لما نزلت "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين": كان من أراد أن يفطر يفادي حتى نزلت الاية التي بعدها فنسختها, وروي أيضاً من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: هي منسوخة, وقال السدي عن مرة عن عبد الله, قال لما نزلت هذه الاية "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" قال: يقول "وعلى الذين يطيقونه" أي يتجشمونه, قال عبد الله: فكان من شاء صام, ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً "فمن تطوع" يقول: أطعم مسكيناً آخر "فهو خير له وأن تصوموا خير لكم" فكانوا كذلك حتى نسختها "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" وقال البخاري أيضاً: أخبرنا إسحاق, حدثنا روح, حدثنا زكريا بن إسحاق, حدثنا عمرو بن دينار عن عطاء: سمع ابن عباس: يقرأ "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" قال ابن عباس: ليست منسوخة, هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً, وهكذا روى غير واحد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه, وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن أشعث بن سوار , عن عكرمة عن ابن عباس, قال: نزلت هذه الاية "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم, ثم ضعف فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكيناً, وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد, حدثنا الحسين بن بهرام المخزومي, حدثنا وهب بن بقية, حدثنا خالد بن عبد الله عن ابن أبي ليلى, قال: دخلت على عطاء في رمضان وهو يأكل, فقال: قال ابن عباس: نزلت هذه الاية "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً ثم نسخت الأولى إلى الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكيناً وأفطر ـ فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه بقوله "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام, فله أن يفطر ولاقضاء عليه, لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء, ولكن هل يجب عليه إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكيناً إذا كان ذا جدة ؟ فيه قولان للعلماء: أحدهما لا يجب عليه إطعام لأنه ضعيف عنه لسنه, فلم يجب عليه فدية كالصبي, لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها وهو أحد قولي الشافعي: والثاني, وهو الصحيح وعليه أكثر العلماء, أنه يجب عليه فدية عن كل يوم, كما فسره ابن عباس وغيره من السلف على قراءة من قرأ "وعلى الذين يطيقونه" أي يتجشمونه, كما قاله ابن مسعود وغيره, هو اختيار البخاري فإنه قال: وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام, فقد أطعم أنس بعد ما كبر عاماً أو عامين عن كل يوم مسكيناً, خبزاً ولحماً وأفطر , وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده فقال: حدثنا عبد الله بن معاذ , حدثنا أبي, حدثنا عمران عن أيوب بن أبي تميمة, قال: ضعف أنس عن الصوم, فصنع جفنة من ثريد, فدعا ثلاثين مسكيناً فأطعمهم, ورواه عبد بن حميد عن روح بن عبادة, عن عمران وهو ابن حدير , عن أيوب به. ورواه عبد أيضاً من حديث ستة من أصحاب أنس عن أنس بمعناه, ومما يلتحق بهذا المعنى الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما, ففيهما خلاف كثير بين العلماء , فمنهم من قال: يفطران ويفديان ويقضيان, وقيل: يفديان فقط ولا قضاء, وقيل يجب القضاء بلا فدية, وقيل: يفطران ولا فدية ولا قضاء, وقد بسطنا هذه المسألة مستقصاة في كتاب الصيام الذي أفردناه, و لله الحمد والمنة.
وقوله: 184- "أياماً" منتصب على أنه مفعول ثان لقوله: "كتب" قاله الفراء: وقيل: إنه منتصب على أنه ظرف: أي كتب عليكم الصيام في أيام. وقوله: "معدودات" أي معينات بعدد معلوم، ويحتمل أن يكون في هذا الجمع لكونه من جموع القلة إشارة إلى تقليل الأيام. وقوله: "فمن كان منكم مريضاً" قيل للمريض حالتان: إن كان لا يطيق الصوم كان الإفطار عزيمة، وإن كان يطيقه مع تضرر ومشقة كان رخصة، وبهذا قال الجمهور وقوله: "على سفر" اختلف أهل العلم في السفر المبيح للإفطار، فقيل: مسافة قصر الصلاة، والخلاف في قدرها معروف، وبه قال الجمهور، وقال غيرهم: بمقادير لا دليل عليها. والحق أن ما صدق عليه مسمى السفر فهو الذي يباح عنده الفطر، وهكذا ما صدق عليه مسمى المرض فهو الذي يباح عنده الفطر. وقد وقع الإجماع على الفطر في سفر الطاعة. واختلفوا في الأسفار المباحة، والحق أن الرخصة ثابتة فيه، وكذا اختلفوا في سفر المعصية. وقوله: "فعدة" أي فعليه عدة، أو فالحكم عدة، أو فالواجب عدة، والعدة فعله من العدد، وهو بمعنى المعدود. وقوله: "من أيام أخر" قال سيبويه: ولم ينصرف لأنه معدول به عن الآخر، لأن سبيل هذا الباب أن يأتي بالألف واللام. وقال الكسائي: هو معدول به عن آخر، وقيل: إنه جمع أخرى، وليس في الآية ما يدل على وجوب التتابع في القضاء. قوله: "وعلى الذين يطيقونه" قراءة الجمهور بكسر الطاء وسكون الياء، وأصله يطوقونه نقلت الكسرة إلى الطاء، وانقلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها. وقرأ حميد على الأصل من غير إعلال. وقرأ ابن عباس بفتح الطاء مخففة وتشديد الواو: أي يكلفونه. وروى ابن الأنباري عن ابن عباس يطيقونه بفتح الياء وتشديد الطاء والياء مفتوحتين بمعنى يطيقونه. وروى عن عائشة وابن عباس وعمرو بن دينار وطاوس أنهم قرأوا يطيقونه بفتح الياء وتشديد الطاء مفتوحة. وقرأ أهل المدينة والشام "فدية طعام" مضافاً. وقرأوا أيضاً "مساكين" وقرأ ابن عباس "طعام مسكين" وهي قراءة أبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي. وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية، هل هي محكمة أو منسوخة، فقيل: إنها منسوخة، وإنما كانت رخصة عند ابتداء فرض الصيام لأنه شق عليهم، فكان من أطعم كل يوم مسكيناً ترك الصوم وهو يطيقه، ثم نسخ ذلك، وهذا قول الجمهور. وروي عن بعض أهل العلم أنها لم تنسخ، وأنها رخصة للشيوخ والعجائز خاصة إذا كانوا لا يطيقون الصيام إلا بمشقة، وهذا يناسب قراءة التشديد: أي يكلفونه كما مر. والناسخ لهذه الآية عند الجمهور قوله تعالى: " فمن شهد منكم الشهر فليصمه ". وقد اختلفوا في مقدار الفدية، فقيل: كل يوم صاع من غير البر، ونصف صاع منه، وقيل: مد فقط. وقوله: "فمن تطوع خيراً فهو خير له". قال ابن شهاب: معناه أراد الإطعام مع الصوم. وقال مجاهد معناه. من زاد في الإطعام على المد، وقيل: من أطعم مع المسكين مسكاً آخر. وقرأ عيسى بن عمرو ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي يطوع مشدداً مع جزم الفعل على معنى يتطوع، وقرأ الباقون بتخفيف الطاء على أنه فعل ماض. وقوله: "وأن تصوموا خير لكم" معناه: أن الصيام خير لهم من الإفطار مع الفدية، وكان هذا قبل النسخ، وقيل معناه: وأن تصوموا في السفر والمرض غير الشاق.
وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن معاذ بن جبل قال: أحليت الصلاة ثلاثة أحوال، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال، فذكر أحوال الصلاة ثم قال: وأما أحوال الصيام، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وصام عاشوراء، ثم إن الله سبحانه فرض عليه الصيام وأنزل عليه "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام" إلى قوله: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" فكان من شاء صام، ومن شاء أطعم مسكيناً فأجزأ ذلك عنه، ثم إن الله أنزل الآية الأخرى "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" فأثبت الله صيامه على الصحيح المقيم، ورخص فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام، ثم ذكر تمام الحديث. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "كما كتب على الذين من قبلكم" قال: يعني بذلك أهل الكتاب. وأخرج البخاري في تاريخه والطبراني عن دغفل بن حنظلة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان على النصارى صوم شهر رمضان، فمرض ملكهم فقالوا: لئن شفاه الله لنزيدن عشراً، ثم كان آخر فأكل لحماً فأوجع فوه قال: لئن شفاه الله ليزيدن سبعة، ثم كان عليهم ملك آخر فقال: ما ندع من هذه الثلاثة الأيام شيئاً أن نتمها ونجعل صومنا في الربيع، ففعل فصارت خمسين يوماً". وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: "لعلكم تتقون" قال: تتقون من الطعام والشراب والنساء مثل ما اتقوا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحو ما سبق عن معاذ. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم". وأخرج البخاري ومسلم عن عائشة قالت: كان عاشوراء صياماً، فلما أنزل رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر. وأخرج عبد بن حميد أن ابن عباس قال: إن قوله تعالى: "وعلى الذين يطيقونه" قد نسخت. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه نحو ذلك، وزاد أن الناسخ لها قوله تعالى: "فمن شهد منكم الشهر" الآية. وأخرج نحو ذلك عنه أبو داود في ناسخه. وأخرج نحوه عنه أيضاً سعيد بن منصور وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وغيرهم. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث سلمة بن الأكوع قال: لما نزلت هذه الآية "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" كان من شاء صام، ومن شاء أن يفطر ويفتدي فعل، حتى نزلت هذه الآية بعدها فنسختها "فمن شهد منكم الشهر". وأخرج البخاري عن ابن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد، فذكر نحوه. وأخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب في قوله: "وعلى الذين يطيقونه" قال: الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم فيفطر ويطعم مكان كل يوم مسكيناً. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والدارقطني والبيهقي، أن أنس بن مالك ضعف عن الصوم عاماً قبل موته، فصنع جفنة من ثريد ودعا ثلاثين مسكيناً فأطعمهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والدارقطني وصححه عن ابن عباس أنه قال لأم ولد له حامل أو مرضعة: أنت بمنزلة الذين لا يطيقون الصيام، عليك الطعام لا قضاء عليك. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والدارقطني عن ابن عمر أن إحدى بناته أرسلت تسأله عن صوم رمضان وهي حامل، قال: تفطر وتطعم كل يوم مسكيناً، وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة في قوله: "فمن تطوع خيراً" قال: أطعم مسكينين. وأخرج عبد بن حميد عن طاوس في قوله: "فمن تطوع خيراً" قال: إطعام مساكين. وأخرج ابن جرير عن ابن شهاب في قوله: "وأن تصوموا خير لكم" أي أن الصوم خير لكم من الدية. وقد ورد في فضل الصوم أحاديث كثيرة جداً.
184. وقيل المراد من قوله " أياماً معدودات " شهر رمضان وهي غير منسوخة ونصب أياماً على الظرف، أي في أيام معدودات، وقيل: على التفسير، وقيل: على هو خبر ما لم يسم فاعله " فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة " أي فأفطر فعدة " من أيام أخر " أي فعليه عدة، والعدد والعدة واحد " من أيام أخر " أي غير أيام مرضه وسفره، وأخر في موضع خفض لكنها لا تنصرف فلذلك نصبت.
قوله تعالى: " وعلى الذين يطيقونه " اختلف العلماء في تأويل هذه الآية وحكمها فذهب أكثرهم إلى أن الآية منسوخة، وهو قول ابن عمر وسلمة بن الأكوع وغيرهما، وذلك أنهم كانوا في ابتداء الإسلام نخيرين بين أن يصوموا وبين أن يفطروا ويفدوا، خيرهم الله تعالى لئلا يشق عليهم لأنهم كانوا لم يتعودوا الصوم، ثم نسخ التخيير ونزلت العزيمة بقوله تعالى: " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " وقال قتادة : هي خاصة في حق الشيخ الكبير الذي يطيق الصوم، ولكن يشق عليه رخص له في أن يفطر ويفدي ثم نسخ. وقال الحسن : هذا في المريض الذي به ما يقع عليه اسم المرض وهو مستطيع للصوم خير بين أن يصوم وبين أن يفطر ويفدي، ثم نسخ بقوله تعالى: " فمن شهد منكم الشهر فليصمه ".
وثبتت الرخصة للذين لا يطيقون، وذهب جماعة إلى أن الآية محكمة غير منسوخة، ومعناه: وعلى الذين كانوا يطيقونه في حال الشباب فعجزوا عنه بعد الكبر فعليهم الفدية بدل الصوم، وقرأ ابن عباس: " وعلى الذين يطيقونه " بضم الياء وفتح الطاء وتخفيفها وفتح الواو وتشديدها، أي يكلفون الصوم وتأويله على الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان الصوم، والمريض الذي لا يرجى زوال مرضه فهم يكلفون الصوم ولا يطيقونه، فلهم أن يفطروا ويطعموا مكان كل يوم مسكيناً وهو قول سعيد بن جبير ، وجعل الآية محكمة.
قوله تعالى: " فدية طعام مسكين " قرأ أهل المدينة والشام مضافاً، وكذلك في المائدة: " كفارة طعام " أضاف الفدية إلى الطعام، وإن كان واحداً لاختلاف اللفظين، كقوله تعالى " وحب الحصيد " (9-ق) وقولهم مسجد الجامع وربيع الأول، وقرأ الآخرون: فدية وكفارة منونة، طعام رفع وقرأ مساكين بالجمع هنا أهل المدينة والشام، والآخرون على التوحيد، فمن جمع نصب النون ومن حد خفض النون ونونها، والفدية: الجزاء، ويجب أن يطعم مكان كل يوم مسكيناً مداً من الطعام بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو رطل وثلث من غالب قوت البلد، هذا قول فقهاء الحجاز، وقال بعض فقهاء أهل العراق: عليه لكل مسكين نصف صاع لكل يوم يفطر، وقال بعضهم: نصف صاع من القمح أو صاع من غيره، وقال بعض الفقهاء ما كان المفطر يتقوته يومه الذي أفطره، وقال ابن عباس: يعطي كل مسكين عشاءه وسحوره.
" فمن تطوع خيراً فهو خير له " أي زاد على مسكين واحد فأطعم مكان كل يوم مسكينين فأكثر، قاله مجاهد و عطاء و طاووس ، وقيل: من زاد على القدر الواجب عليه فأعطى صاعاً وعليه مد فهو خير له.
" وأن تصوموا خير لكم " فمن ذهب إلى النسخ قال معناه الصوم خير له من الفدية، وقيل: هذا في الشيخ الكبير لو تكلف الصوم وإن شق عليه خبر له من أن يفطر ويفدي " إن كنتم تعلمون " واعلم أنه لا رخصة لمؤمن مكلف في إفطار رمضان إلا لثلاثة: أحدهم يجب عليه القضاء والكفارة، والثاني عليه القضاء دون الكفارة، والثالث عليه الكفارة دون القضاء أما الذي عليه القضاء والكفارة فالحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما فإنهما تفطران وتقضيان وعليهما مع القضاء الفدية، وهذا قول ابن عمر وابن عباس، وبه قال مجاهد وإليه ذهب الشافعي رحمه الله، وقال قوم لا فدية عليهما، وبه قال الحسن و عطاء و إبراهيم النخعي و الزهري وإليه ذهب الأوزاعي و الثوري وأصحاب الرأي، وأما الذي عليه القضاء دون الكفارة فالمريض والمسافر والحائض والنفساء.
وأما الذي عليه الكفارة دون القضاء فالشيخ الكبير والمريض الذي لا يرجى زوال مرضه ثم بين الله تعالى أيام الصيام
184-" أياماً معدودات " مؤقتات بعدد معلوم ، أو قلائل . فإن القليل من المال يعد عدا والكثير يهال هيلاً ، ونصبها ليس بالصيام لوقوع الفصل بينهما بل بإضمار صوموا لدلالة الصيام عليه ، والمراد به رمضان أو ما وجب صومه قبل وجوبه ونسخ به ، وهو عاشوراء أو ثلاثة أيام من كل شهر ، أو بكما كتب على الظرفية ، أو على أنه مفعول ثان لـ " كتب عليكم " على السعة . وقيل معناه صومكم كصومهم في عدد الأيام ، لما روي : أن رمضان كتب على النصارى ، فوقع في برد أو حر شديد فحولوه إلى الربيع وزادوا عليه عشرين كفارة لتحويله . وقيل زادوا ذلك لموتان أصابهم . " فمن كان منكم مريضاً " مرضاً يضره الصوم أو يعسره معه . " أو على سفر " أو راكب سفر ، وفيه إيماء إلى أن من سافر أثناء اليوم لم يفطر . " فعدة من أيام أخر " أي فعليه صوم عدد أيام المرض ، أو السفر من أيام أخر إن أفطر ، فحذف الشرط والمضاف و المضاف إليه للعلم بها . وقرئ بالنصب أي فليصم عدة ، وهذا على سبيل الرخصة . وقيل على الوجوب وإليه ذهب الظاهرية وبه قال أبو هريرة رضي الله عنه " وعلى الذين يطيقونه " وعلى المطيقين للصيام إن أفطروا . " فدية طعام مسكين " نصف صاع من بر أو صاع من غيره عند فقهاء العراق ، ومد عند فقهاء الحجاز . رخص لهم في ذلك أول الأمر لما أمروا بالصوم فاشتد عليهم لأنهم لم يتعودوه ، ثم نسخ . وقرأ نافع و ابن عامر برواية ابن ذكوان بإضافة الفدية إلى الطعام وجمع المساكين . وقرأ ابن عامر برواية هشام مساكين بغير إضافة الفدية إلى الطعام ، والباقون بغير إضافة وتوحيد مسكين ، وقرئ يطوقونه أي يكلفونه ويقلدونه في الطرق بمعنى الطاقة أو القلادة ويتطوقونه أي بتكلفونه ، أو يتقلدونه ويطوقونه بالإدغام ،و يطيقونه و يطيقونه على أن أصلهما يطيقونه من فيعل وتفعيل بمعنى يطوقونه ويتطوقونه ، وعلى هذه القراءات يحتمل معنى ثانياً وهو الرخصة لمن يتعبه الصوم ويجهده ـ وهم الشيوخ والعجائز ـ في الإفطار والفدية ، فيكون ثابتاً وقد أول به القراءة المشهورة ، أي يصومونه جهدهم وطاقتهم . " فمن تطوع خيراً " فزاد في الفدية . " فهو " فالتطوع أو الخير . " خير له وأن تصوموا " أيها المطيقون ، أو المطوقون وجهدتم طاقتكم . أو المرخصون في الإفطار ليندرج تحته المريض والمسافر . " خير لكم " من الفدية أو تطوع الخير أو منهما ومن التأخير للقضاء . " إن كنتم تعلمون " ما في الصوم من الفضيلة وبراءة الذمة ، وجوابه محذوف دل عليه ما قبله أي اخترتموه . وقيل معناه إن كنتم من أهل العلم والتدبر علمتم أن الصوم خير لكم من ذلك .
184. (Fast) a certain number of days; and (for) him who is sick among you, or on a journey, (the same) number of other days; and for those who can afford it there is a ransom: the feeding of a man in need. But whoso doeth good of his own accord, it is better for him: and that ye fast is better for you if ye did but know
184 - (fasting) for a fixed number of days; but if any of you is ill, or on a journey, the prescribed number (should be made up) from days later. for those who can do it (with hardship), is a ransom, the feeding of one that is indigent. but he that will give more, of his own free will, it is better for him. and it is better for you that ye fast, if ye only knew.