[البقرة : 183] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
(يا أيها الذين آمنوا كُتب) فرض (عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) من الأمم (لعلكم تتقون) المعاصي فإنه يكسر الشهوة التي هي مبدؤها
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "يا أيها الذين آمنوا"، يا أيها الذين امنوا بالله ورسوله وصدقوا بهما وأقروا.
ويعني بقوله: "كتب عليكم الصيام"، فرض عليكم الصيام.و "الصيام" مصدر، من قول القائل: صمت عن كذا وكذا - يعني: كففت عنه- أصوم عنه صوما وصياما. ومعنى الصيام ، الكف عما أمر الله بالكف عنه. ومن ذلك قيل: صامت الخيل ، إذا كفت عن السير، ومنه قول نابغة بني ذبيان:
‌خيل صيام، وخيل غير صائمة تحت العجاج-، وأخرى تعلك اللجما
ومنه قول الله تعالى ذكره: "إني نذرت للرحمن صوما" [مريم:26] يعني: صمتا عن الكلام. وقوله: "كما كتب على الذين من قبلكم"، يعني فرض عليكم مثل الذي فرض على الذين من
قبلكم. قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله: "كما كتب على الذين من قبلكم"، وفي المعنى الذي وقع فيه التشبيه بين فرض صومنا وصوم الذين من قبلنا.فقال بعضهم: الذين أخبرنا الله عن الصوم الذي فرضه علينا، أنه كمثل الذي كان عليهم، هم النصارى. وقالوا: التشبيه الذي شبه من أجله أحدهما بصاحبه، هو اتفاقهما في الوقت والمقدار الذي هو لازم لنا اليوم فرضه. ذكر من قال ذلك: حدثت عن يحيى بن زياد، عن محمد بن أبان القرشي، عن أبي أمية الطنافسي، عن الشعبي أنه قال: لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه فيقال: من شعبان، ويقال: من رمضان. وذلك أن النصارى فرض عليهم شهر رمضان كما فرض علينا فحولوه إلى الفصل. وذلك أنهم كانوا ربما صاموه في القيظ يعدون ثلاثين يوما. ثم جاء بعدهم قرن فأخذوا بالثقة من أنفسهم، فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما. ثم لم يزل الآخر يستن سنة القرن الذي قبله حتى صارت إلى خمسين. فذلك قوله: "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم".وقال آخرون: بل التشبيه إنما هو من أجل أن صومهم كان من العشاء الآخرة إلى العشاء الآخرة. وذلك كان فرض الله جل ثناؤه على المؤمنين في أول ما افترض عليهم الصوم. ووافق قائلو هذا القول القائلي القول الأول: أن الذين عنى الله جل ثناؤه بقوله: "كما كتب على الذين من قبلكم"، النصارى. ذكر من قال ذلك:-حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم"، أما الذين من قبلنا: فالنصارى، كتب عليهم رمضان، وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم، ولا ينكحوا النساء شهررمضان. فاشتد على النصارى صيام رمضان، وجعل يقفب عليهم في الشتاء والصيف. فلما رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صياما في الفصل بين الشتاء والصيف، وقالوا: نزيد عشرين يوما نكفر بها ما صنعنا! فجعلوا صيامهم خمسين. فلم يزل المسلمون على ذلك يصنعون كما تصنع النصارى، حتى كان من أمر أبي قيس بن صرمة وعمر بن الخطاب، ما كان، فأحل الله لهم الأكل والشرب والجماع إلى طلوع الفجر. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة:" كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" ، قال: كتب عليهم الصوم من العتمة إلى العتمة. وقال آخرون: الذين عنى الله جل ثناؤه بقوله: "كما كتب على الذين من قبلكم"، أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا أبوحذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم"، أهل الكتاب. وقال بعضهم: بل ذلك كان على الناس كلهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم"، قال: كتب شهر رمضان على الناس، كما كتب على الذين من قبلهم. قال: وقد كتب الله على الناس قبل أن ينزل رمضان صوم ثلاثة أيام من كل شهر. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم"، رمضان، كتبه الله على من كان قبلهم.قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى الآية: يا أيها الذين آمنوا فرض عليكم الصيام كما فرض على الذين من قبلكم من أهل الكتاب، "أياما معدودات"، وهي شهررمضان كله. لأن من بعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان مأمورا باتباع إبراهيم، وذلك أن الله جل ثناؤه كان جعله للناس إماما، وقد أخبرنا الله عز وجل أن دينه كان الحنيفية المسلمة، قأمر نبينا صلى الله عليه وسلم بمثل الذي أمر به من قبله من الأنبياء.وأما التشبيه، فإنما وقع على الوقت. وذلك أن من كان قبلنا إنما كان فرض عليهم شهر رمضان،مثل الذي فرض علينا سواء. وأما تأويل قوله: "لعلكم تتقون"، فإنه يعني به: لتتقوا أكل الطعام وشرب الشراب وجماع النساء فيه. يقول: فرضت عليكم الصوم والكف عما تكونون بترك الكف عنه مفطرين، لتتقوا ما يفطركم في وقت صومكم. وبمثل الذى قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل: ذكر من قال ذلك:حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله: "لعلكم تتقون"، يقول: فتتقون من الطعام والشراب والنساء مثل ما اتقوا- يعني: مثل الذي اتقى النصارى قبلكم.
فيه ست مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام" لما ذكر ما كتب على المكلفين من القصاص والوصية ذكر أيضاً أنه كتب عليهم الصيام وألزمهم إياه وأوجبه عليهم ، ولا خلاف فيه ، قال صلى الله عليه وسلم :
"بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج" رواه ابن عمر. ومعناه في اللغة : الإمساك ، وترك التنقل من حال إلى حال . ويقال للصمت صوم ، لأنه إمساك عن الكلام ، قال الله تعالى مخبراً عن مريم : "إني نذرت للرحمن صوما" أي سكوتاً عن الكلام . والصوم : ركود الريح ، وهو إمساكها عن الهبوب . وصامت الدابة على آريها : قامت وثبتت فلم تعتلف . وصام النهار : اعتدل . ومصام الشمس حيث تستوي في منتصف النهار ،ومنه قول النابغة :
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وخيل تعلك اللجما
أي خيل ثابتة ممسة عن الجري والحركة ، كما قال :
كأن الثريا علقت في مصامها
أي هي ثابتى في مواضعها فلا تنتقل ، وقوله :
والبكرات شرهن الصائمة
يعني التي لا تدور .
وقال امرؤ القيس :
فدعها وسل الهم عنك بجسرة ذمول إذا صام النهار وهجرا
أي أبطأت الشمس عن الانتقال والسير فصارت بالإبطاء كالممسكة .
وقال آخر :
حتى إذا صام النهار واعتدل وسال للشمس لعاب فنزل
وقال آخر :
نعاما بوجرة صفر الخدو د ما تطعم النوم إلا صياما
أي قائمة . والشعر في هذا المعنى كثير .
والصوم في الشرع : الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، وتمامه وكماله باجتنابه المحظورات وعدم الوقوع في المحرمات ، لقوله عليه السلام :
"من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" .
الثانية : فضل الصوم عظيم ، وثوابه جسيم ، جاءت بذلك أخبار كثيرة صحاح وحسان ذكرها الأئمة في مسانيدهم ، وسيأتي بعضها ، ويكفيك الآن منها في فضل الصوم أن خصه الله بالإضافة إليه ، كمت ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مخبراً عن ربه :
"يقول الله تبارك وتعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" الحديث . وإنما خص الصوم بأنه له وإن كانت العبادات كلها له الأمرين باين الصوم بهما سائر العبادات .
أحدهما : أن الصوم يمنع من ملاذ النفس وشهواتها ما لا يمنع منه سائر العبادات .
الثاني : أن الصوم سر بين العبد وبين ربه لا يظهر إلا له ، فلذلك صار مختصاً به . وما سواه من العبادات ظاهر ، ربما فعله تصنعاً ورياء ، فلهذا صار أخص بالصوم من غيره . وقيل غير هذا .
الثالثة : :قوله تعالى : "كما كتب" الكافي موضع نصب على النعت ، التقدير كتاباً كما ، أو صوماً كما . أو على الحال من الصيام ، أي كتب عليكم الصيام مشبهاً كما كتب على الذين من قبلكم . وقال بعض النحاة : الكاف في موضع رفع نعتاً للصيام ، إذ ليس تعريفه بمحض ، لمكان الإجمال الذي فيه بما فسرته الشريعة ، فلذلك جاز نعته بـ كما إذ لا ينعت بها إلا النكرات ، فهو بمنزلة كتب عليكم صيام ، وقد ضعف هذا القول . و ما في موضع خفض ، وصلتها : "كتب على الذين من قبلكم" . والضمير في كتب يعود على ما . واختلف أهل التأويل في موضع التشبيه وهي :
الرابعة : فقال الشعبي و قتادة وغيرهما : التشبيه يرجع إلى وقت الصوم وقدر الصوم ، فإن الله تعالى كتب على قوم موسى وعيسى صوم رمضان فغيروا ، وزاد أحبارهم عليهم عشرة أيام ثم مرض بعض احبارهم فنذر إن شفاه الله أن يزيد في صومهم عشرة أيام ففعل ، فصار النصارى خمسين يوما ، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الربيع . واختار هذا القول النحاس وقال : وهو الأشبه بما في الآية . وفيه حديث يدل على صحته أسنده عن دغفل بن حنظلة " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كان على النصارى صوم شهر فمرض رجل منهم فقالوا لئن شفاه الله لنزيدن عشرة ثم كان آخر فأكل لحماً فأوجع فاه فقالوا لئن شفاه الله لنزيدن سبعة ثم كان ملك آخر فقالو لنتمن هذه السبعة الأيام ونجعل صومنا في الربيع قال فصار خسمين " . وقال مجاهد : كتب الله عز وجل صوم شهر رمضان على كل أمة . وقيل : أخذوا بالوثيقة فصاموا قبل الثلاثين يوماً وبعدها يوماً ، قرناً بعد قرن ، حتى بلغ صومهم خمسين يوماً ، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الفصل الشمسي . قال النقاش : وفي ذلك حديث عن دغفل بن حنظلة والحسن البصري و السدي .
قلت ولهذا ـ والله أعلم ـ كره الآن صوم يوم الشك والستة من شوال بإثر يوم الفطر متصلاً به . قال الشعبي :لو صمت السنة كلها لأفطرت يوم الشك ، وذلك أن النصارى فرض عليهم صوم شهر رمضان كما فرض علينا ، فحولوه إلى الفصل الشمسي ، لأنه قد كان يوافق القيظ فعدوا ثلاثين يوماً ، ثم جاء بعدهم قرن فأخذوا بالوثيقة لأنفسهم فصاموا قبل الثلاثين يوماً وبعدها يوماً ، ثم لم يزل الآخر يستن بسنة من كان قبله حتى صاروا إلى خمسين يوماً فذلك قوله تعالى : "كما كتب على الذين من قبلكم" . وقيل :التشبيه راجع إلى أصل وجوبه على من تقدم ، لا في الوقت والكيفية . وقيل : التشبيه واقع على صفة الصوم الذي كان عليهم من منعهم من الأكل والشرب والنكاح ، فإذا حان الأفطار فلا يفعل هذه الأشياء من نام . وكذلك كان في النصارى أولاً وكان في أول الإسلام ، ثم نسخه الله تعالى بقوله : "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" على ما يأتي بيانه ، قاله السدي وأبو العالية و الربيع . وقال معاذ بن جبل و عطاء : التشبيه واقع على الصوم لا على الصفة ولا على العدة وإن اختلف الصيامان بالزيادة والنقصان . المعنى : "كتب عليكم الصيام" أي في أول الإسلام ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء ، "كما كتب على الذين من قبلكم" وهم اليهود ـ في قول ابن عباس ـ ثلاثة أيام وعاشوراء . ثم نسخ هذا في هذه الأمة بشهر رمضان . وقال معاذ بن جبل :نسخ ذلك بـ "أياما معدودات" ثم نسخت الأيام برمضان .
الخامسة : "لعلكم تتقون" لعل ترج في حقهم ، كما تقدم . و تتقون قيل : معناه هنا تضعفون ، فإنه لما قل الأكل ضعفت الشهوة ، وكلما ضعفت الشهوة قلت المعاصي . وهذا وجه مجازي حسن . وقيل : لتتقوا المعاصي . وقيل :هو على العموم ،لأن الصيام كما قال عليه السلام :
"الصيام جنة ووجاء" وسبب تقوى ، لأنه يميت الشهوات .
يقول تعالى مخاطباً للمؤمنين من هذه الاية, وآمراً لهم بالصيام وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع, بنية خالصة لله عز وجل لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الردئية والأخلاق الرذيلة, وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم فلهم فيه أسوة, وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك, كما قال تعالى: " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات " الاية, ولهذا قال ههنا "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان, ولهذا ثبت في الصحيحين "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" ثم بين مقدار الصوم وأنه ليس في كل يوم, لئلا يشق على النفوس فتضعف عن حمله وأدائه بل في أيام معدودات. وقد كان هذا في ابتداء الإسلام, يصومون من كل شهر ثلاثة أيام, ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان كما سيأتي بيانه. وقد روي أن الصيام كان أولاً كما كان عليه الأمم قبلنا من كل شهر ثلاثة أيام عن معاذ وابن مسعود وابن عباس وعطاء وقتادة والضحاك بن مزاحم وزاد: لم يزل هذا مشروعاً من زمان نوح إلى أن نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان. وقال عباد بن منصور عن الحسن البصري "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون * أياماً معدودات" فقال: نعم, والله لقد كتب الصيام على كل أمة قد خلت, كما كتبه علينا شهراً كاملاً وأياماً معدودات عدداً معلوماً, وروي عن السدي نحوه. وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي عبد الرحمن المقري, حدثني سعيد بن أبي أيوب, حدثني عبد الله بن الوليد عن أبي الربيع رجل من أهل المدينة, عن عبد الله بن عمر , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم" في حديث طويل اختصر منه ذلك. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عمن حدثه عن ابن عمر قال: أنزلت "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" كتب عليهم إذا صلى أحدهم العتمة ونام, حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها, قال ابن أبي العالية وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهد وسعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس وعطاء والخراساني نحو ذلك, وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس "كما كتب على الذين من قبلكم" يعني بذلك أهل الكتاب, وروي عن الشعبي والسدي وعطاء الخراساني مثله, ثم بين حكم الصيام على ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام فقال "فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر" أي المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر , لما في ذلك من المشقة عليهما بل يفطران ويقضيان بعد ذلك من أيام أخر , وأما الصحيح المقيم الذي يطيق الصيام فقد كان مخيراً بين الصيام وبين الإطعام, إن شاء صام وإن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً, فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم فهو خير, وإن صام فهو أفضل من الإطعام, قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطاوس ومقاتل بن حيان وغيرهم من السلف, ولهذا قال تعالى: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيراً فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون".
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر , حدثنا المسعودي حدثنا عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه, قال: أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال, وأحيل الصيام ثلاثة أحوال, فأما أحوال الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم, قدم المدينة وهو يصلي سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس, ثم إن الله عز وجل أنزل عليه: "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها" الاية, فوجهه الله إلى مكة هذا حول, قال: وكانوا يجتمعون للصلاة ويؤذن بها بعضهم بعضاً, حتى نقسوا أو كادوا ينقسون, ثم إن رجلاً من الأنصار يقال له عبد الله بن زيد بن عبد ربه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, إني رأيت فيما يرى النائم, ولو قلت إني لم أكن نائماً لصدقت, إني بينا أنا بين النائم واليقظان إذا رأيت شخصاً عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة, فقال: الله أكبر الله أكبر, أشهد أن لا إله إلا الله ـ مثنى ـ حتى فرغ من الأذان, ثم أمهل ساعة ثم قال مثل الذي قال غير أنه يزيد في ذلك قد قامت الصلاة مرتين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علمها بلالاً فليؤذن بها" فكان بلال أول من أذن بها, قال: وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله, قد طاف بي مثل الذي طاف به, غير أنه سبقني فهذان حالان, قال: وكانوا يأتون الصلاة سبقهم النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها, فكان الرجل يشير إلى الرجل إذن كم صلى ؟ فيقول: واحدة أو اثنتين فيصليهما, ثم يدخل مع القوم في صلاتهم, قال: فجاء معاذ فقال: لا أجده على حال أبداً إلا كنت عليها, ثم قضيت ما سبقني, قال: فجاء وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها, قال: فثبت معه فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقضى, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنه قد سن لكم معاذ فهكذا فاصنعوه" فهذه ثلاثة أحوال, وأما أحوال الصيام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وصام عاشوراء, ثم إن الله فرض عليه الصيام, وأنزل الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" إلى قوله "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكيناً, فأجزأ ذلك عنه, ثم إن الله عز وجل أنزل الاية الاخرى "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن" إلى قوله "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح, ورخص فيه للمريض والمسافر, وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام, فهذان حالان, قال: وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا, فإذا ناموا امتنعوا, ثم إن رجلاً من الأنصار يقال له صرمة, كان يعمل صائماً حتى أمسى فجاء إلى أهله فصلى العشاء ثم نام, فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح صائماً, فرآه رسول الله وقد جهد جهداً شديداً, فقال "ما لي أراك قد جهدت جهداً شديداً ؟" قال: يا رسول الله, إني عملت أمس فجئت حين جئت, فألقيت نفسي فنمت, فأصبحت صائماً, قال: وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك, فأنزل الله عز وجل: " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل " وأخرجه أبو داود في سننه, والحاكم في مستدركه من حديث المسعودي به, وقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت: كان عاشوراء يصام, فما نزل فرض رمضان, كان من شاء صام ومن شاء أفطر , وروى البخاري عن ابن عمر وابن مسعود مثله.
وقوله تعالى: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" كما قال معاذ رضي الله عنه: كان في ابتداء الأمر من شاء صام, ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً, وهكذا روى البخاري عن سلمة بن الأكوع أنه قال لما نزلت "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين": كان من أراد أن يفطر يفادي حتى نزلت الاية التي بعدها فنسختها, وروي أيضاً من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: هي منسوخة, وقال السدي عن مرة عن عبد الله, قال لما نزلت هذه الاية "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" قال: يقول "وعلى الذين يطيقونه" أي يتجشمونه, قال عبد الله: فكان من شاء صام, ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً "فمن تطوع" يقول: أطعم مسكيناً آخر "فهو خير له وأن تصوموا خير لكم" فكانوا كذلك حتى نسختها "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" وقال البخاري أيضاً: أخبرنا إسحاق, حدثنا روح, حدثنا زكريا بن إسحاق, حدثنا عمرو بن دينار عن عطاء: سمع ابن عباس: يقرأ "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" قال ابن عباس: ليست منسوخة, هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً, وهكذا روى غير واحد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه, وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن أشعث بن سوار , عن عكرمة عن ابن عباس, قال: نزلت هذه الاية "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم, ثم ضعف فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكيناً, وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد, حدثنا الحسين بن بهرام المخزومي, حدثنا وهب بن بقية, حدثنا خالد بن عبد الله عن ابن أبي ليلى, قال: دخلت على عطاء في رمضان وهو يأكل, فقال: قال ابن عباس: نزلت هذه الاية "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً ثم نسخت الأولى إلى الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكيناً وأفطر ـ فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه بقوله "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام, فله أن يفطر ولاقضاء عليه, لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء, ولكن هل يجب عليه إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكيناً إذا كان ذا جدة ؟ فيه قولان للعلماء: أحدهما لا يجب عليه إطعام لأنه ضعيف عنه لسنه, فلم يجب عليه فدية كالصبي, لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها وهو أحد قولي الشافعي: والثاني, وهو الصحيح وعليه أكثر العلماء, أنه يجب عليه فدية عن كل يوم, كما فسره ابن عباس وغيره من السلف على قراءة من قرأ "وعلى الذين يطيقونه" أي يتجشمونه, كما قاله ابن مسعود وغيره, هو اختيار البخاري فإنه قال: وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام, فقد أطعم أنس بعد ما كبر عاماً أو عامين عن كل يوم مسكيناً, خبزاً ولحماً وأفطر , وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده فقال: حدثنا عبد الله بن معاذ , حدثنا أبي, حدثنا عمران عن أيوب بن أبي تميمة, قال: ضعف أنس عن الصوم, فصنع جفنة من ثريد, فدعا ثلاثين مسكيناً فأطعمهم, ورواه عبد بن حميد عن روح بن عبادة, عن عمران وهو ابن حدير , عن أيوب به. ورواه عبد أيضاً من حديث ستة من أصحاب أنس عن أنس بمعناه, ومما يلتحق بهذا المعنى الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما, ففيهما خلاف كثير بين العلماء , فمنهم من قال: يفطران ويفديان ويقضيان, وقيل: يفديان فقط ولا قضاء, وقيل يجب القضاء بلا فدية, وقيل: يفطران ولا فدية ولا قضاء, وقد بسطنا هذه المسألة مستقصاة في كتاب الصيام الذي أفردناه, و لله الحمد والمنة.
قد تقدم معنى 183- "كتب" ولا خلاف بين المسلمين أجمعين أن صوم رمضان فريضة افترضها الله سبحانه على هذه الأمة. والصيام أصله في اللغة: الإمساك وترك التنقل من حال إلى حال، ويقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام، ومنه "إني نذرت للرحمن صوماً" أي إمساكاً عن الكلام، ومنه قول النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وخيل تعلك اللجما
أي خيل ممسكة عن الجري والحركة. وهو في الشرع: الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وقوله: "كما كتب" أي صوماً كما كتب على أن الكاف في موضع نصب على النعت، أو كتب عليكم الصيام مشبهاً ما كتب على أنه في محل نصب على الحال. وقال بعض النحاة: إن الكاف في موضع رفع نعتاً للصيام، وهو ضعيف لأن الصيام معرف باللام، والضمير المستتر في قوله: "كما كتب" راجع إلى ما. واختلف المفسرون في وجه التشبيه ما هو، فقيل: هو قدر الصوم ووقته، فإن الله كتب على اليهود والنصارى صوم رمضان فغيروا، وقيل: هو الوجوب، فإن الله أوجب على الأمم الصيام، وقيل: هو الصفة: أي ترك الأكل والشرب ونحوهما في وقت، فعلى الأول معناه: أن الله كتب على هذه الأمة صوم رمضان كما كتبه على الذين من قبلهم، وعلى الثاني: أن الله أوجب على هذه الأمة الصيام كما أوجبه على الذين من قبلهم، وعلى الثالث: أن الله سبحانه أوجب على هذه الأمة الإمساك عن المفطرات كما أوجبه على الذين من قبلهم. وقوله تعالى: "لعلكم تتقون" بالمحافظة عليها، وقيل: تتقون المعاصي بسبب هذه العبادة، لأنها تكسر الشهوة وتضعف دواعي المعاصي، كما ورد في الحديث أنه جنة وأنه جاء.
183. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام " أي فرض وأوجب، والصوم والصيام في اللغة الإمساك يقال: صام النهار إذا اعتدل وقام قائم الظهيرة، لأن الشمس إذا بلغت كبد السماء وقفت وأمسكت عن السير سويعة ومنه قال تعالى: " فقولي إني نذرت للرحمن صوماً " (26-مريم) أي صمتاً لأنه إمساك عن الكلام، وفي الشريعة الصوم هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع مع النية في وقت مخصوص " كما كتب على الذين من قبلكم " من الأنبياء والأمم، واختلفوا في هذا التشبيه فقال سعيد ابن جبير : كان صوم من قبلنا من العتمة إلى الليلة القابلة كما كان في ابتداء الإسلام.
وقال جماعة من أهل العلم: أراد أن صيام رمضان كان واجباً على النصارى كما فرض علينا، فربما كان يقع في الحر الشديد والبرد الشديد، وكان يشق عليهم في أسفارهم ويضرهم في معايشهم، فاجتمع رأي علماؤهم ورؤسائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السنة بين الشتاء والصيف،فجعلوه في الربيع وزادوا فيه عشرة أيام كفارة لما صنعوا فصار أربعين، ثم إن ملكهم اشتكى فمه فجعل لله عليه إن هو برئ من وجعه أن يزيد في صومهم. أسبوعاً فبرئ فزاد فيه أسبوعاً ثم مات ذلك الملك ووليهم ملك آخر فقال: أتموه خمسين يوماً، وقال مجاهد ك أصابهم موتان، فقالوا زيدوا فيصيامكم فزادوا عشراً قبل وعشراً بعد، قال الشعبي : لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه، فيقال من شعبان ويقال من رمضان، وذلك أن النصارى فرض عليهم شهر رمضان فصاموا قبل الثلاثين يوماً وبعدها يوماً، ثم لم يزل القرن الآخر يستن بسنة القرن الذي قبله حتى صاروا إلى خمسين يوماً، فذلك قوله تعالى: " كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون " يعني بالصوم لأن الصوم وصلة إلى التقوى لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات، وقيل: لعلكم تحذرون عن الشهوات من الأكل والشرب والجماع " أياماً معدودات " قيل: كان في ابتداء الإسلام صوم ثلاثة أيام من كل شهر واجباً، وصوم يوم عاشوراء فصاموا كذلك من الربيع إلى شهر رمضان سبعة عشر شهراً، ثم نسخ بصوم رمضان قال ابن عباس: أول ما نسخ بعد الهجرة أمر القبلة والصوم، ويقال: نزل صوم شهر رمضان قبل بدر بشهر وأيام، قال محمد بن إسحاق كانت غزوة بدر يوم الجمعة لسبع عشر ليلة خلت من شهر رمضان على رأس ثمانية عشر شهراً من الهجرة.
حدثنا أبو الحسن الشيرازي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: (( كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صامه وأمر الناس بصيامه، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة وترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه )).

183-" يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم " يعني الأنبياء والأمم من لدن آدم عليه السلام ، وفيه توكيد للحكم وترغيب في الفعل وتطيب على النفس . والصوم في اللغة : الإمساك عما تنازع إليه النفس ،وفي الشرع : الإمساك عن المفطرات بياض النهار ،فإنها معظم ما تشتهيه النفس . " لعلكم تتقون " المعاصي فإن الصوم يكسر الشهوة التي هي مبدؤها كما قال عليه الصلاة والسلام " فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء " أو الإخلال بأدائه لأصالته وقدمه .
183. O ye who believe! Fasting is prescribed for you, even as it was prescribed for those before you, that ye may ward off evil);
183 - O ye who believe! fasting is prescribed to you as it was prescribed to those before you, that ye may (learn) self restraint,