[البقرة : 173] إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
(إنما حَرَّم عليكم الميتة) أي أكلها إذ الكلام فيه وكذا ما بعدها وهي ما لم يذك شرعا ، وألحق بها بالسنة ما أبين من حي وخص منها السمك والجراد (والدم) أي المسفوح كما في الأنعام (ولحم الخنزير) خص اللحم لأنه معظم المقصود وغيره تبع له (وما أهل به لغير الله) أي ذبح على اسم غيره والإهلال رفع الصوت وكانوا يرفعونه عند الذبح لآلهتهم (فمن اضطر) أي ألجأته الضرورة إلى أكل شيء مما ذكر فأكله (غير باغ) خارج على المسلمين (ولا عاد) متعد عليهم بقطع الطريق (فلا إثم عليه) في أكله (إن الله غفور) لأوليائه (رحيم) بأهل طاعته حيث وسع لهم في ذلك ، وخرج الباغي والعادي ويلحق بهما كل عاص بسفره كالآبق والمكَّاس فلا يحل لهم أكل شيء من ذلك ما لم يتوبوا وعليه الشافعي
القول في تأويل قوله تعالى: "إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله" قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: لا تحرموا على أنفسكم ما لم أحرمه عليكم أيها المؤمنون بالله وبرسوله من البحائر والسوائب ونحو ذلك، بل كلوا ذلك، فإني لم أحرم عليكم غير الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهل به لغيري.
ومعنى قوله: "إنما حرم عليكم الميتة"، ما حرم عليكم إلا الميتة.
و إنما حرف واحد، ولذلك نصبت "الميتة والدم"، وغير جائز في "الميتة" إذا جعلت إنما حرفاً واحداً، إلا النصب. ولو كانت إنما حرفين، وكانت منفصلة من إن ، لكانت "الميتة" مرفوعة وما بعدها. وكان تأويل الكلام حينئذ: إن الذي حرم الله عليكم من المطاعم الميتة والدم ولحم الخنزير، لا غير ذلك.وقد ذكر عن بعض القراء أنه قرأ ذلك كذلك، على هذا التأويل. ولست للقراءة به مستجيزاً- وإن كان له في التأويل والعربية وجه مفهوم- لاتفاق الحجة من القراء على خلافه. فغير جائز لأحد الاعتراض عليهم فيما نقلوه مجمعين عليه.ولو قرىء في حرم بضم الحاء من حرم لكان في "الميتة" وجهان من الرفع. أحدهما: من أن الفاعل غير مسمى، وإنما حرف واحد.والآخر: إن و ما في معنى حرفين، و حرم من صلة ما، و لميتة خبر الذي مرفوع على الخبر. ولست، وإن كان لذلك أيضاً وجه، مستجيزاً للقراءة به، لما ذكرت. وأما الميتة، فإن القرأة مختلفة في قراءتها. فقرأها بعضهم بالتخفيف، ومعناه فيها التشديد، ولكنه يخففها كما يخفف القائلون في: هو هين لين الهين اللين ، كما قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
فجمع بين اللغتين في بيت واحد، في معنى واحد.وقرأها بعضهم بالتشديد، وحملوها على الأصل، وقالوا: إنما هو ميوت فيعل من الموت. ولكن الياء الساكنة و الواو المتحركة لما اجتمعتا، والياء مع سكونها متقدمة، قلبت، الواو ياء وشددت، فصارتا ياء مشددة، كما فعلوا ذلك في سيد وجيد قالوا: ومن خففها، فإنما طلب الخفة. والقراءة بها على أصلها الذي هو أصلها أولى.قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن التخفيف والتشديد في ياء الميتة لغتان معروفتان في القراءة وفي كلام العرب، فبأيهما قرأ ذلك القارىء فمصيب. لأنه لا اختلاف في معنييهما. وأما قوله: "وما أهل به لغير الله"، فإنه يعني به: وما ذبح للآلهة والأوثان يسمى عليه بغير اسمه، أو قصد به غيره من الأصنام. وإنما قيل: "وما أهل به" لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قربوه لآلهتهم، سموا اسم آلهتهم التي قربوا ذلك لها، وجهروا بذلك أصواتهم، فجرى ذلك من أمرهم على ذلك، حتى قيل لكل ذابح، سمى أو لم يسم، جهر بالتسمية أو لم يجهر-: مهل فرفعهم أصواتهم بذلك هو الإهلال الذي ذكره الله تعالى فقال: "وما أهل به لغير الله". ومن ذلك قيل للملبي في حجة أو عمرة مهل ، لرفعه صوته بالتلبية. ومنه استهلال الصبي، إذا صاح عند سقوطه من بطن أمه، استهلال المطر، وهو صوت وقوعه على الأرض، كما قال عمروبن قميئة:
ظلم البطاح له انهلال حريصة فصفا النطاف له بعيد المقلع
واختلف أهل التأويل في ذلك. فقال بعضهم: يعني بقوله: "وما أهل به لغير الله"، ما ذبح لغير الله.ذكر من قال ذلك: حدثنا بشربن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "وما أهل به لغير الله"، قال: ما ذبح لغير الله. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "وما أهل به لغير الله"، قال: ما ذبح لغير الله مما لم يسم عليه.حدثني المثنى قال، حدثنا أبوحذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وما أهل به لغير الله"، ما ذبح لغير الله.حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس في قوله: "وما أهل به لغير الله"، قال: ما أهل به للطواغيت.حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك قال: "وما أهل به لغير الله"، قال: ما أهل به للطواغيت.حدثني المثنى قال، حدثنا عبدالله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: "وما أهل به لغير الله"، يعني: ما أهل للطواغيت كلها. يعني: ما ذبح لغير الله من أهل الكفر، غير اليهودي والنصارى.حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء في قول الله: "وما أهل به لغير الله"، قال: هو ما ذبح لغير الله. وقال آخرون: معنى ذلك: ما ذكر عليه غير اسم الله. ذكر من قال ذلك:حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثناابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: "وما أهل به لغير الله"، يقول: ما ذكر عليه غير اسم الله. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد- وسألته عن قول الله: "وما أهل به لغير الله"- قال: ما يذبح لالهتهم، الأنصاب التي يعبدونها ويسمون أسماءها عليها. قال: يقولون: باسم فلان ، كما تقول أنت: باسم الله ، قال: فذلك قوله: "وما أهل به لغير الله". حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا حيوة، عن عقبة بن مسلم التجيبي وقيس بن رافع الأشجعي أنهما قالا: أحل لنا ما ذبح لعيد الكنائس، وما أهدي لها من خبز أو لحم، فإنما هو طعام أهل الكتاب.قال حيوة، قلت: أرأيت قول الله: "وما أهل به لغير الله"؟ قال: إنما ذلك المجوس وأهل الأوثان والمشركون. القول في تأويل قوله تعالى:"فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه" قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "فمن اضطر"، فمن حلت به ضرورة مجاعة إلى ما حرمت عليكم من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله- وهو بالصفة التي وصفنا- فلا إثم عليه في أكله إن أكله. وقوله: "فمن اضطر" فتعل من الضرورة. و "غير باغ" نصب على الحال من من ، فكأنه قيل: فمن اضطر لا باغياً ولا عادياً فأكله،
فهو له حلال وقد قيل إن معنى قوله: "فمن اضطر"، فمن أكره على أكله فأكله، فلا إثم عليه. ذكر من قال ذلك: حدثنا أحمد بن إسحق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا إسرائيل، عن سالم الأفطس، عن مجاهد قوله: "فمن اضطر غير باغ ولا عاد"، قال: الرجل يأخذه العدو فيدعونه إلى معصية الله. وأما قوله: "غير باغ ولا عاد"، فإن أهل التأويل في تأويله مختلفون.
فقال بعضهم: يعني بقوله: "غير باغ "، غير خارج على الأئمة بسيفه باغياً عليهم بغير جور، ولا عادياً عليهم بحرب وعدوان، فمفسد عليهم السبيل. ذكر من قال ذلك:حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثا، عن مجاهد: "فمن اضطر غير باغ ولا عاد"، قال: غير قاطع سبيل، ولا مفارق جماعة، ولا خارج في معصية الله، فله الرخصة.حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فمن اضطر غير باغ ولا عاد"، يقول: لا قاطعاً للسبيل، ولا مفارقاً للأئمة، ولا خارجاً في معصية الله، فله الرخصة. ومن خرج باغياً أو عادياً في معصية الله، فلا رخصة له وإن اضطر إليه. حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد: "غير باغ ولا عاد"، قال: هو الذي يقطع الطريق، فليس له رخصة إذا جاع أن يأكل الميتة، وإذا عطش أن يشرب الخمر. حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن المبارك، عن شريك،عن سالم- يعني الأفطس- عن سعيد في قوله: "فمن اضطر غير باغ ولا عاد"، قال: الباغي العادي الذي يقطع الطريق، فلا رخصة له ولا كرامة.حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد في قوله "فمن اضطر غير باغ ولا عاد"، قال: إذا خرج في سبيل من سبل الله فاضطر إلى شرب الخمر شرب وإن اضطر إلى الميتة أكل. وإذا خرج يقطع الطريق، فلا رخصة له.حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حفص بن غياث، عن الحجاج،عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد قال: "غير باغ"، على الأئمة، "ولا عاد"، قال: قاطع السبيل. حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد "فمن اضطر غير باغ ولا عاد"، قال: غير قاطع السبيل، ولا مفارق الأئمة، ولا خارج في معصية الله فله الرخصة.حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن الحكم، عن مجاهد: "فمن اضطر غير باغ ولا عاد"، قال: غير باغ على الأئمة، ولا عاد على ابن السبيل. وقال آخرون في تأويل قوله: "غير باغ ولا عاد": غير باغ الحرام في أكله، ولا معتد الذي أبيح له منه ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: "فمن اضطر غير باغ ولا عاد"، قال: غير باغ في أكله، ولا عاد: أن يتعدى حلالاً إلى حرام، وهو يجد عنه مندوحة حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله "فمن اضطر غير باغ ولا عاد"، قال: غير باغ فيها ولا معتد فيها بأكلها، وهو غني عنها.حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عمن سمع الحسن يقول ذلك. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال حدثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن جابر،عن مجاهد وعكرمة قوله: "فمن اضطر غير باغ ولا عاد"، "غير باغ"، يبتغيه، "ولا عاد": يتعدى مايمسك نفسه. حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "فمن اضطر غير باغ ولا عاد"، يقول: من غير أن يبتغي حراماً ويتعداه، ألا ترى أنه يقول: "فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون" [المؤمنون: 7- المعارج: 31]. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "فمن اضطر غير باغ ولا عاد"، قال: أن يأكل ذلك بغياً وتعدياً عن الحلال إلى الحرام، وبترك الحلال وهو عنده، ويتعدى بأكل هذا الحرام. هذا التعدي. ينكر أد يكونا مختلفين، ويقول: هذا وهذا واحد!
وقال آخرون تأويل ذلك: فمن اضطر غير باغ في أكله شهوة، ولا عاد فوق ما لا بد له منه. ذكر من قال ذلك:حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فمن اضطر غير باغ ولا عاد"، أما "باغ"، فيبغي فيه شهوته. وأما العادي فيتعدى في أكله، يأكل حتى يشبع، ولكن يأكل منه قدر ما يمسك به نفسه حتى يبلغ به حاجته.قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: فمن اضطر غير باغ بأكله ما حرم عليه من أكله، ولا عاد في أكله، وله عن ترك أكله- بوجود غيره مما أحله الله له- مندوحة وغنى. وذلك أن الله تعالى ذكره لم يرخص لأحد في قتل نفسه بحال. وإذ كان ذلك كذلك، فلا شك أن الخارج على الإمام والقاطع الطريق، وإن كانا قد أتيا ما حرم الله عليهما-: من خروج هذا على من خص، عليه، وسعي هذا بالإفساد في الأرض،- فغير مبيح لهما فعلهما ما فعلا مما حرم الله عليهما- ما كان حرم الله عليهما قبل إتيانهما ما أتيا من ذلك- من قتل أنفسهما، [وردهما إلى محارم الله عليهما بعد فعلهما ما فعلا، وان كان قد حرم عليهما ما كان مرخصا لهما قبل ذلك من فعلهما، وإن لم نر ردهما إلى محارم الله عليهما تحريماً، فغير مرخص لهما ما كان عليهما قبل ذلك حراماً]،. فإذا كان ذلك كذلك، فالواحب على قطاع الطريق والبغاة على الأئمة العادلة، الأوبة إلى طاعة الله، والرجوع إلى ما ألزمهما الله الرجوع إليه، والتوبة من معاصي الله- لا قتل أنفسهما بالمجاعة، فيزدادان إلى إثمهما إثماً، وإلى أمر الله خلافاً.وأما الذي وجه تأويل ذلك إلى أنه غير باغ في أكله شهوة، فأكل ذلك شهوة، لا لدفع الضرورة المخوف منها الهلاك- مما قد دخل فيما حرمه الله عليه- فهو بمعنى ما قلنا في تأويله، وإن كان للفظه خلافاً. فأما توجيه تأويل قوله: "ولا عاد"، ولا آكل منه شبعة، ولكن ما يمسك به نفسه، فإن ذلك بعض معاني الاعتداء في أكله. ولم يخصص الله من معاني الاعتداء في أكله معنى، فيقال عنى به بعض معانيه. فإذ كان ذلك كذلك، فالصواب من القول ما قلنا: من أنه الاعتداء في كل معانيه المحرمة. وأما تأويل قوله: "فلا إثم عليه" ، يقول: من أكل ذلك على الصفة التي وصفنا، فلا تبعة عليه في أكله ذلك كذلك ولا حرج. القول في تأويل قوله تعالى: "إن الله غفور رحيم" قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: "إن الله غفور رحيم"، "إن الله غفور"، إن أطعتم الله في إسلامكم، فاجتنبتم أكل ما حرم عليكم، وتركتم اتباع الشيطان فيما كنتم تحرمونه في جاهليتكم- طاعةً منكم للشيطان واقتفاء منكم خطواته- مما لم أحرمه عليكم، لما سلف منكم، في كفركم وقبل إسلامكم، في ذلك من خطأ وذنب ومعصية،فصافح عنكم،وتارك عقوبتكم عليه،"رحيم"بكم إن أطعتموه.
قوله تعالى : "إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم" .
فيه أربع وثلاثون مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "إنما حرم عليكم الميتة" إنما كلمة موضوعة للحصر ، تتضمن النفي والإثبات ، فتثبت ما تناوله الخطاب وتنفي ما عداه ، وقد حصرت ها هنا التحريم ، لا سيما وقد جاءت عقيب التحليل في قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم " فأفادت الإباحة على الإطلاق ، ثم عقبها بذكر المحرم بكلمة إنما الحاصرة ، فاقتضى ذلك الإيعاب للقسمين ، فلا محرم يخرج عن هذه الآية ، وهي مدنية ، وأكدها بالآية الأخرى التي روي أنها نزلت بعرفة : " قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه " إلى أخرها ، فاستوفى البيان أولاً وآخراً ، قاله ابن العربي . وسيأتي الكلام في تلك في الأنعام إن شاء الله تعالى .
الثانية : "الميتة" نصب بـ حرم ، و ما كافة . ويجوز أن تجعلها بمعنى الذي ، منفصلة في الخط ، وترفع " الميتة والدم ولحم الخنزير " على خبر إن وهي قراءة ابن ابي عبلة . وفي حرم ضمير يعود على الذي ، ونظيره قوله تعالى : "إنما صنعوا كيد ساحر" . وقرأبو جعفر حرم بضم الحاء وكسر الراء ورفع الأسماء بعدها ، إما على ما لم يسم فاعله ، وإما على خبر إن . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع أيضاً الميتة بالتشديد . الطبري : وقال جماعة من اللغويين : التشديد والتخفيف في ميت وميت لغتان . وقال أبو حاتم وغيره : ما قد مات فيقالان فيه ، وما لم يمت بعد فلا يقال فيه ميت بالتخفيف ، دليله قوله تعالى : "إنك ميت وإنهم ميتون" . وقال الشاعر :
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
ولم يقرأ أحد يتخفيف ما لم يمت ، إلا ما روى البزي عن ابن كثير "وما هو بميت" والمشهور عنه التثقيل ، وأما قول الشاعر :
إذا ما مات ميت من تميم فسرك أن يعيش فجىء بزاد
فلا أبلغ في الهجاء من أنه أراد الميت حقيقة ، وقد ذهب بعض الناس إلى أنه أراد من شارف الموت ، والأول أشهر .
الثالثة : الميتة : ما فارقته الروح من غير ذكاة مما يذبح ، وما ليس بمأكول فذكاته كموته ، كالسباع وغيرها ن على ما يأتي بيانه هنا وفي الأنعام إن شاء الله تعالى .
الرابعة : هذه الآية عامة دخلها التخصيص بقوله عليه السلام :
"أحلت لنا ميتتان الحوت والجراد ودمان الكبد والطحال" . اخرجه الدار قطني ، و كذلك حديث جابر في العنبر يخصص عموم القرآن بصحة سنده . خرجه البخاري و مسلم ، مع قوله تعالى : "أحل لكم صيد البحر" ، على ما يأتي بيانه هناك ، إن شاء الله تعالى .
وأكثر أهل العلم على جواز أكل جميع دواب البحر حيها وميتها ، وهو مذهب مالك . وتوقف أن يجيب في خنزير الماء وقال : أنتم تقولون خنزيراً ! . قال ابن القاسم : وأنا أتقيه ولا أراه حراماً .
الخامسة : وقد اختلف الناس في تخصيص كتاب الله تعالى بالسنة ، ومع اختلافهم في ذلك اتفقوا على أنه لا يجوز تخصيصه بحديث ضعيف ، قاله ابن العربي . وقد يستدل على تخصيص هذه الآية أيضاً بما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال :
غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات كما نأكل الجراد معه . وظاهره أكله كيف ما مات بعلاج أو حتف أنفه ، وبهذا قال ابن نافع وابن عبد الحكم وأكثر العلماء ، وهو مذهب الشافعي و أبي حنيفة وغيرهما . ومنع مالك وجمهور أصحابه من أكله إن مات حتف أنفه ، لأنه من صيد البر ، ألا ترى أن المحرم يجزئه إذا قتله ، فأشبه الغزال . وقال أشهب :إن مات من قطع رجل أو جناح لم يؤكل ، لأنها حالة قد يعيش بها وينسل . وسيأتي لحكم الجراد مزيد بيان في الأعراف عند ذكره ، إن شاء الله تعالى .
السادسة : واختلف العلماء هل يجوز أن ينتفع بالميتة أو بشيء من النجاسات ، واحتلف عن مالك في ذلك ايضاً ، فقال مرة : يجوز الانتفاع بها ، لـ"أن النبي صلى الله عليه وسلم : مر على شاة ميمونة فقال : هلا أخذتم إهابها" الحديث . وقا لمرة : جملتها محرم ، فلا يجوز الانتفاع بشيء منها ، ولا بشيء من النجاسات على وجه من وجوه الانتفاع ، حتى يجوز أن يسقى الزرع ولا الحيوان الماء النجس ، ولا تعلف البهائم النجاسات ، ولا تطعم الميتى الكلاب والسباع ، وإن أكلتها لم تمنع ووجه هذا القول ظاهر قوله تعالى : "حرمت عليكم الميتة والدم" ولم يخص وجهاً من وجه ، ولا يجوز أن يقال : هذا الخطاب مجمل ، لأن المجمل ما لايفهم المراد من ظاهره ، وقد فهمت العرب المراد من قوله تعالى : "حرمت عليكم الميتة" ، وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"لا تنتفعوا من الميتة بشيء" . وفي حديث عبد الله بن عكيم .
"لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" . وهذا آخر ما ورد به كتابه قبل موته بشهر ، وسيأتي بيان هذه الأخبار والكلام عليها في النحل إن شاء الله تعالى .
السابعة : فأما الناقة إذا نحرت ، أو البقرة أو الشاة إذا ذبحت ، وكان في بطنها جنين ميت فجائز أكله من غير تذكية له في نفسه ، إلا أن يخرج حياً فيذكى ، ويكون له حكم نفسه ، وذلك أن الجنين إذا خرج منها بعد الذبح ميتاً جرى مجرى العضو من أعضائها . ومما يبين ذلك أنه لو باع الشاة واستثنى ما في بطنها لم يجز ، كما لو استثنى عضواً منها ، وكان ما في بطنها تابعاً لها كسائر أعضائها . وكذلك لو أعتقها من غير أن يوقع على ما في بطنها عتقاً مبتدأ ، ولو كان منفصلاً عنها لم يتبعها في بيع ولا عتق . وقد روى جابر رضي الله عنه .
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن البقرة والشاة تذبح ، والناقة تنحر فيكون في بطنها جنين ميت ، فقال : إن شئتم فكلوه لأن ذكاته ذكاة أمه " . خرجه أبو داود بمعناه من حديث أبي سعيد الخدري وهو نص لا يحتمل . وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة المائدة إن شاء الله تعالى .
الثامنة : واختلفت الرواية عن مالك في جلد الميتة هل يطهر بالدباغ و لا ، فروي عنه أنه لا يطهر ، وهو ظاهر مذهب . وروي عنه أنه يطهر ، لقوله عليه السلام :
"أيما إهاب دبغ فقد طهر" . ووجه قوله لا يطهر ، بأنه جزء من الميتة لو أخذ منها في حال الحياة كان نجساً ، فوجب ألا يطهره الدباغ قياساً على اللحم . وتحمل الأخبار بالطهارة على أن الدباغ يزيل الأوساخ عن الجلد حتى ينتفع به في الأشياء اليابسة وفي الجلوس عليه ، ويجوز أيضاً أن ينتفع به في الماء بأن يجعل سقاه ، لأن الماء على أصل الطهارة ما لم يتغير له وصف على ما يأتي من حكمه في سورة الفرقان : و الطهارة في اللغة متوجهة نحو إزالة الأوساخ كما تتوجه إلى الطهارة الشرعية ، والله تعالى أعلم .
التاسعة : وأما شعر الميتة وصوفها فطاهر ، لما روي عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ وصوفها وشعرها إذا غسل" . ولأنه كان طاهراً له أخذ منها في حال الحياة فوجب أن يكون كذلك بعد الموت ، إلا أن اللحم لما كان نجساً في حال الحياة كان كذلك بعد الموت فيجب أن يكون الصوف خلافه في حال الموت كما كان خلافه في حال الحياة استدلالاً بالعكس . ولا يلزم على هذا اللبن والبيضة من الدجاجة الميتة ، لأن اللبن عندنا طاهر بعد الموت ، وكذلك البيضة ، ولكنهما حصلا في وعاء نجس فتنجسا بمجاورة الوعاء لا أنهما نجسا بالموت . وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة والتي قبلها وما للعلماء فيهما من الخلاف في سورة النحل إن شاء الله تعالى .
العاشرة : وأما ما وقعت فيه الفأرة فله حالتان : حالة تكون إن أخرجت الفأرة حية فهو طاهر . وإن ماتت فيه فله حالتان : حالة يكون مائعاً فإنه ينجس جميعه . وحالة يكون جامداً إنه ينجس ما جاورها ، فتطرح وما حولها ، وينتفع بما بقي وهو على طهارته ، لما روي :
"أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الفأرة تقع في السمن فتموت ، فقال عليه السلام إن كان جامداً فاطرحوها وما حولها وإن كان مائعاً فأريقوه" . واختلف العلماء فيه إذا غسل ، فقيل : لا يطهر بالغسل ، لأنه مائع نجس فأشبه الدم والخمر والبول وسائر النجاسات . وقال ابن القاسم : يطهر بالغسل ، لأنه جسم تنجس بمجاورة النجاسة فأشبه الثوب ، ولا يلزم على هذا الدم ، لأنه نجس بعينه ، ولا الخمر والبول لأن الغسل يستهلكهما ولا يتأتى فيه .
الحادية عشرة : فإذا حكمنا بطهارته بالغسل رجع إلى حالته الأولى في الطهارة وسائر وجوه الانتفاع ، لكن لا يبيعه حتى يبين ، لأن ذلك عيب عند الناس تأباه نفوسهم . ومنهم من يعتقد تحريمه ونحاسته ، فلا يجوز بيعه حتى يبين العيب كسائر الأشياء المعيبة . وأما قبل الغسل فلا يجوز بيعه بحال ، لأن النجاسات عنده لا يجوز بيعها ، ولأنه مائع نجس فأشبه الخمر . و لـ"أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ثمن الخمر فقال : لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها" . وأن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه . وهذا المائع محرم لنجاسته فوجب أن يحرم ثمنه بحكم الظاهر .
الثانية عشرة :واختلف إذا وقع في القدر حيوان ، طائر أو غيره فمات فروى ابن وهب عن مالك أنه قال : لا يؤكل ما في القدر ، وقد تنجس بمخالطة الميتة إياه . وروى ابن القاسم عنه أنه قال : يغسل اللحم ويراق المرق . وقد سئل ابن عباس عن هذه المسألة فقال : يغسل اللحم ويؤكل . ولا مخالف له في المرق من أصحابه ، ذكره ابن خويز منداد .
الثالثة عشرة : فأما أنفحة الميتة ولبن الميتة فقال الشافعي : ذلك نجس لعموم قوله تعالى "حرمت عليكم الميتة" . وقال ابو حنيفة بطهارتهما ، ولم يجعل لموضع الخلقة أثراً في تنجس ما جاوره مما حدث فيه خلقة ، قال : ولذلك يؤكل اللحم بم فيه من العروق ، مع القطع بمجاورة الدم لدواخلها من غير تطهير ولا غسل إجماعاً . وقال مالك نحو قول أبي حنيفة إن ذلك لا ينجس بالموت ، ولكن ينجس بمجاورة الوعاء النجس وهو مما لا يتأتى فيه الغسل . وكذلك الدجاجة تخرج منها البيضة بعد موتها ، لأن البيضة لينة في حكم المائع قبل خروجها ، وإنما تجمد وتصلب بالهواء .
قال ابن خويز منداد فإن قيل :فقولكم يؤدي إلى خلاف الإجماع ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بعده كانوا يأكلون الجبن وكان مجلوباً إليهم من أرض العجم ، ومعلوم أن ذبائح العجم وهم مجوس ميتة ، ولم يعتدوا بأن يكون مجمداً بأنفحة ميتة أو ذكي . قيل له : قدر ما يقع من الأنفحة في اللبن المجبن يسير ، واليسير من النجاسة معفو عنه إذا خالط الكثير من المائع . هذا جواب على إحدى الروايتين . وعلى الرواية الأخرى إنما كان ذلك في أول الإسلام ، ولا يمكن أحد أن ينقل أن الصحابة أكلت الجبن المحمول من أرض العجم ، بل الحبن ليس من طعام العرب ، فلما انتشر المسلمون في أرض العجم بالفتوح صارت الذبائح لهم ، فمن أين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أكلت جبناً فضلاً عن أن يكون محمولاً من أرض ومعمولاً من أنفحة ذبائحهم ‍‍‍‍‍‍‍.
وقال ابو عمر : ولا بأس بأكل طعام عبدة الأوثان والمجوس وسائر من لا كتاب له من الكفار ما لم يكن من ذبائحهم ولم يحتج إلى ذكاة إلا الجبن لم فيه من أنفحة الميتة . وفي سنن ابن ماجة الجبن والسمن حدثنا إسماعيل بن موسى السدي حدثنا سيف بن هارون عن سليمان التيمي عن ابي عثمان النهدي " عن سلمان الفارسي قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء . فقال : الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" .
الرابعة عشرة : قوله تعالى : "والدم" اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به . قال ابن خويز منداد : وأما الدم فمحرم ما لم تعم به البلوى ، ومعفو عما تعم به البلوى . والذي تعم به البلوى هو الدم في اللحم وعروقه ، ويسيره في البدن والثوب يصلى فيه . وإنما قلنا ذلك لأن الله تعالى قال : "حرمت عليكم الميتة والدم" ، وقال في موضع آخر : " قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا " فحرم المسفوح من الدم . وقد " روت عائشة رضي الله عنها قالت : كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا ننكره " ، لأن التحفظ من هذا إصر وفيه مشقة ، والإصر والمشقة في الدين موضوع . وهذا أصل في الشرع ، أن كلما حرجت الأمة في أداء العبادة فيه وثقل عليها سقطت العبادة عنها في ، ألا ترى أن المضطر يأكل الميتة ، وأن المريض يفطر ويتيمم في نحو ذلك .
قلت : ذكر الله سبحامه وتعالى الدم ها هنا مطلقاً ، وقيده في الأنعام بقوله مسفوحاً وحمل العلماء ها هنا المطلق على المقيد إجماعاً . فالدم هنا يراد به المفسوح ، لأن ما خالط اللحم فغير محرم بإجماع ، وكذلك الكبد والطحال مجمع عليه . وفي دم الحوت المزايل له اختلاف ، وروي عن القابسي أنه طاهر ، ويلزم على طهارته أنه غير محرم . وهو اختيار ابن العربي ، قال :لأنه لو كان دم السمك نجساً لشرعت ذكاته .
قلت : وهو مذهب أبي حنيفة في دم الحوت ، سمعت بعض الحنفية يقول : الدليل على أنه طاهر أنه إذا يبس أبيض بخلاف سائر الدماء فإنه يسود . وهذه النكتة لهم في الاحتجاج على الشافعية .
الخامسة عشرة : قوله تعالى : "ولحم الخنزير" خص الله تعالى ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذك ، وليعم الشحم وما هنالك من الغضاريف وغيرها .
السادسة عشرة : أجمعت الأمة على تحريم شحم الخنزير . وقد استدل مالك وأصحابه على أن من حلف ألا يأكل شحماً فأكل لحماً لم يحنث بأكل اللحم . فإن حلف ألا يأكل لحماً فأكل شحماً حنث ، لأن اللحم مع الشحم يقع عليه اسم اللحم ، فقد دخل الشحم في اسم اللحم ولا يدخل اللحم في اسم الشحم . وقد حرم الله تعالى لحم الخنزير فناب ذكر لحمه عن شحمه ، لأنه دخل تحت اسم اللحم . وحرم الله تعالى على بني إسرائيل الشحوم بقوله : "حرمنا عليهم شحومهما" فلم يقع بهذا عليهم تحريم اللحم ولم يدخل في اسم الشحم ، فلهذا فرق مالك بين الحالف في الشحم والحالف في اللحم ، إلا أن يكون للحالف نية في اللحم دون الشحم فلا يحنث ، والله تعالى أعلم . ولا يحنث في قول الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي إذا حلف ألا يأكل لحماً فأكل شحماً . وقال أحمد : إذا حلف ألا يأكل لحماً فأكل الشحم لا بأس به إلا أن يكون أراد اجتناب الدسم .
السابعة عشرة : لا خلاف أن جملة الخنزير محرمة إلا الشعر فإنه يجوز الخرازة به ، وقد روي :
"أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخرازة بشعر الخنزير ، فقال : لا بأس بذلك" ذكره ابن خويز منداد ، قال : ولأن الخرازة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ، وبعده موجودة ظاهرة ، لا نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكرها ولا أحد من الأئمة بعده . وما أجازه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كابتداع الشرع منه .
الثامنة عشرة : لا خلاف في تحريم خنزير البر كما ذكرنا ، وفي خنزير الماء خلاف . وأبى مالك أن يجيب فيه بشيء ، وقال : أنتم تقولون خنزيراً ! وقد تقدم ، وسيأتي بيانه في المائدة إن شاء الله تعالى .
التاسعة عشرة : ذهب أكثر اللغويين إلى أن لفظة الخنزير رباعية . وحكى ابن سيده عن بعضهم أنه مشتق من خزر العين ، لأنه كذلك ينظر ، واللفظة على هذا ثلاثية . وفي الصحاح : وتخازر الرجل إذا ضيق جفنه ليحدد النظر . والخزر : ضيق العين وصغرها . رجل أخرز بين الخزر . ويقال : هوأن يكون الإنسان كأنه ينظر بمؤخرها . وجمع الخنزير خنازير .والخنازير أيضاً علة معروفة ، وهي قروح صلبة تحدث في الرقبة .
الموفية عشرين : قوله تعالى : "وما أهل به لغير الله" أي ذكر عليه غير اسم الله تعالى ، وهي ذبيحة المجوسي والوثني والمعطل . فالوثني يذبح للوثن ، والمجوسي للنار ، والمعطل لا يعتقد شيئاً فيذبح لنفسه . ولا خلاف بين العلماء أن ما ذبحه المجوسي لناره والوثني لوثنه لا يؤكل ، ولا تؤكل ذبيحتهما عند مالك والشافعي وغيرهما وإن لم يذبحا لناره ووثنه ، وأجازهما ابن المسيب و أبو ثور إذا ذبح لمسلم بأمره . وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى في سورة المائدة . والإهلال : رفع الصوت ، يقال : أهل بكذا ، أي رفع صوته . قال ابن أحمر يصف فلاة :
يهل بالفرقد ركبانها كما يهل الراكب المعتمر
وقال النابغة :
أو درة صدفية غواصها بهج متى يرها يهل ويسجد
ومنه إهلال الصبي واستهلاله ، وهو صياحه عند ولادته . وقال ابن عباس وغيره :المراد ما ذبح للأنصاب والأوثان ، لا ما ذكر عليه اسم المسيح ، على ما يأتي بيانه في سورة المائدة إن شاء الله تعالى . وجرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة ، وغلب ذلك في استعمالهم حتى عبر به عن النية التي هي على التحريم ، ألا ترى أن علي بن ابي طالب رضي الله عنه راعى النية في الإبل التي نحرها غالب أبو الفرزدق فقال : إنها مما أهل لغير الله به ، فتركها الناس . قال ابن عطية : ورأيت في أخبار الحسن بن أبي الحسن أنه سئل عن امرأة مترفه صنعت للعبها عرساً فنحرت جزوراً ، فقال الحسن : لا يحل أكلها فإنها إنما نحرت لصنم .
قلت : :ومن هذا المعنى ما رويناه عن يحيى بن يحيى التميمي شيخ مسلم قال : أخبرنا جرير عن قابوس قال :
أرسل ابي امرأة إلى عائشة رضي الله عنها وأمرها أن تقرأ عليها السلام منه ، وتسألها أية صلاة كانت أعجب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدوم عليها . قالت : كان يصلي قبل الظهر أربع ركعات يطيل فيهن القيام ويحسن الركوع والسجود ، فأما ما لم يدع قط ، صحيحاً ولا مريضاً ولا شاهداً ، ركعتين قبل صلاة الغداة . قالت امرأة عند ذلك من الناس : يا أمير المؤمنين ، إن لنا أظآرا من العجم لا يزال يكون لهم عيد فيهدون لنا منه ، أفنأكل منه شيئاً ؟ قالت : أما ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا ولكن كلوا من أشجارهم .
الحادية والعشرون : قوله تعالى : "فمن اضطر" قرىء بضم النون للاتباع وبالكسر وهو الأصل لالتقاء الساكنين ، وفيه إضمار ، أي فمن اضطر إلى شيء من هذه المحرمات أي أحوج إليها ، فهو افتعل من الضرورة . وقرأ ابن محيصن فمن اطر بإدغام الضاد في الطاء . وأبو السمال "فمن اضطر" بكسر الطاء . وأصله اضطرر فلما أدغمت نقلت حركة الراء إلى الطاء .
الثانية والعشرون : الاضطرار لا يخلو أن يكون بإكراه من ظالم أو بجوع في مخمصة . والذي عليه الجمهور من الفقهاء والعلماء في معنى الآية هو من صيره العدم والغرث وهو الجوع إلى ذلك ، وهو الصحيح . وقيل : ومعناه أكره وغلب على أكل هذه المحرمات . قال مجاهد : يعني أكره عليه كالرجل يأخذه العدو فيكرهونه على أكل لحم الخنزير وغيره من معصية الله تعالى ، إلا أن الإكراه يبيح ذلك إلى آخر الإكراه .
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى, وأن يشكروه تعالى على ذلك إن كانوا عبيده, والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة, كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة. كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر, حدثنا الفضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت, عن أبي حازم, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيها الناس إن الله طيب لا يقبل, إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين, فقال " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ", وقال "يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم" ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب, ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام, وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك ؟" ورواه مسلم في صحيحه والترمذي من ذلك حديث فضيل بن مرزوق. ولما امتن تعالى عليهم برزقه وأرشدهم إلى الأكل من طيبه, ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك إلا الميتة, وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية وسواء كانت منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو قد عدا عليها السبع, وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى: "أحل لكم صيد البحر وطعامه" على ما سيأتي إن شاء الله, وحديث العنبر في الصحيح وفي المسند والموطأ والسنن قوله عليه السلام في البحر "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وروى الشافعي وأحمد وابن ماجه والدارقطني حديث ابن عمر مرفوعاً "أحل لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال" وسيأتي تقرير ذلك إن شاء الله في سورة المائدة.
(مسألة) ولبن الميتة وبيضها المتصل بها نجس عند الشافعي وغيره. لأنه جزء منها. وقال مالك في رواية: هو طاهر إلا أنه ينجس بالمجاورة, وكذلك أنفحة الميتة فيها الخلاف والمشهور عندهم أنها نجسة, وقد أوردوا على أنفسهم أكل الصحابة من جبن المجوس, فقال القرطبي في التفسير ههنا يخالط اللبن منها يسير, ويعف عن قليل النجاسة إذا خالط الكثير من المائع وقد روى ابن ماجه من حديث سيف بن هارون عن سليمان التميمي, عن أبي عثمان النهدي, عن سلمان رضي الله عنه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء, فقال "الحلال ما أحل الله في كتابه, والحرام ما حرم الله في كتابه, وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" وكذلك حرم عليهم لحم الحنزير سواء ذكي أم مات حتف أنفه, ويدخل شحمه في حكم لحمه إما تغليباً أو أن اللحم يشمل ذلك أو بطريق القياس على رأي وكذلك حرم عليهم ما أهل به لغير الله, وهو ما ذبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد والأزلام ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له. وذكر القرطبي عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري: أنه سئل عن امرأة عملت عرساً للعبها فنحرت فيه جزوراً, فقال: لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم, وأورد القرطبي عن عائشة رضي الله عنها: أنها سئلت عما يذبحه العجم لأعيادهم فيهدون منه للمسلمين فقالت: ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه, وكلوا من أشجارهم ثم أباح تعالى تناول ذلك عند الضرورة والاحتياج إليها عند فقد غيرها من الأطعمة, فقال "فمن اضطر غير باغ ولا عاد" أي في غير بغي ولا عدوان وهو مجاوزة الحد "فلا إثم عليه" أي في أكل ذلك "إن الله غفور رحيم", وقال مجاهد: فمن اضطر غير باغ ولا عاد, قاطعاً للسبيل أو مفارقاً للأئمة, أو خارجاً في معصية الله, فله الرخصة, ومن خرج باغياً أو عادياً أو في معصية الله, فلا رخصة له وإن اضطر إليه, وكذا روي عن سعيد بن جبير. وقال سعيد في رواية عنه ومقاتل بن حيان: غير باغ يعني غير مستحله, وقال السدي: غير باغ, يبتغي فيه شهوته, وقال آدم بن أبي إياس: حدثنا ضمرة عن عثمان بن عطاء وهو الخراساني, عن أبيه, في قوله "غير باغ" قال: لا يشوي من الميتة ليشتهيه, ولا يطبخه, ولا يأكل إلا العلقة, ويحمل معه ما يبلغه الحلال, فإذا بلغه ألقاه, وهو قوله "ولا عاد" ويقول لا يعدو به الحلال, وعن ابن عباس: لا يشبع منها, وفسره السدي بالعدوان, وعن ابن عباس "غير باغ ولا عاد" قال "غير باغ" في الميتة ولا عاد في أكله, وقال قتادة: فمن اضطر غير باغ ولا عاد, قال: غير باغ في الميتة أي في أكله أن يتعدى حلالاً إلى حرام وهو يجد عنه مندوحة, وحكى القرطبي عن مجاهد في قوله: فمن اضطر, أي أكره على ذلك بغير اختياره.
(مسألة) إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير بحيث لا قطع فيه ولا أذى, فإنه لا يحل له أكل الميتة بل يأكل طعام الغير بغير خلاف ـ كذا قال ـ ثم قال: وإذا أكله, والحالة هذه, هل يضمن أم لا ؟ فيه قولان هما روايتان عن مالك, ثم أورد من سنن ابن ماجه من حديث شعبة عن أبي إياس جعفر بن أبي وحشية: سمعت عباد بن شرحبيل الغبري قال: أصابتنا عاماً مخمصة, فأتيت المدينة, فأتيت حائطاً, فأخذت سنبلاً ففركته وأكلته, وجعلت منه في كسائي, فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي, فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته, فقال للرجل "ما أطعمته إذ كان جائعاً ولا ساعياً, ولا علمته إذ كان جاهلاً" فأمره فرد إليه ثوبه, فأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق, إسناد صحيح قوي جيد وله شواهد كثيرة: من ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه, عن جده: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلق, فقال "من أصاب منه من ذي حاجة بفيه غير متخذ خبنة, فلا شيء عليه" الحديث, وقال مقاتل بن حيان في قوله: "فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم": فيما أكل من اضطرار, وبلغنا, والله أعلم. أنه لا يزاد على ثلاث لقم, وقال سعيد بن جبير: غفور لما أكل من الحرام, رحيم إذ أحل له الحرام في الاضطرار, وقال وكيع: أخبرنا الأعمش عن أبي الضحى, عن مسروق, قال: من اضطر فلم يأكل ولم يشرب ثم مات, دخل النار, وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة, قال أبو الحسن الطبري المعروف بالكياالهراسي رفيق الغزالي في الاشتغال, وهذا هو الصحيح عندنا, كالإفطار للمريض ونحو ذلك.
قوله: 173- "إنما حرم عليكم الميتة" قرأ أبو جعفر "حرم" على البناء للمفعول و"إنما" كلمة موضوعة للحصر تثبت ما تناوله الخطاب وتنفي ما عداه. وقد حصرت ها هنا التحريم في الأمور المذكورة بعدها. قوله: "الميتة" قرأ ابن عبلة بالرفع، ووجه ذلك أنه يجعل ما في إنما موصولة منفصلة في الخط، والميتة وما بعدها خبر الموصول، وقراءة الجميع بالنصب. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع الميتة بتشديد الياء، وقد ذكر أهل اللغة أنه يجوز في ميت التخفيف والتشديد. والميتة ما فارقها الروح من غير ذكاة. وقد خصص هذا العموم بمثل حديث "أحل لنا ميتتان ودمان". وأخرجه أحمد وابن ماجه والدارقطني والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر مرفوعاً، ومثل حديث جابر في العنبر الثابت في الصحيحين مع قوله تعالى: "أحل لكم صيد البحر" فالمراد بالميتة هنا ميتة البر لا ميتة البحر. وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى جواز أكل جميع الحيوانات البحر حيها وميتها. وقال بعض أهل العلم: إنه يحرم من حيوانات البحر ما يحرم شبهه في البر، وتوقف ابن حبيب في خنزير الماء. وقال ابن القاسم: وأنا أتقيه ولا أراه حراماً. قوله: "والدم" قد اتفق العلماء على أن الدم حرام، وفي الآية الأخرى: "أو دماً مسفوحاً" فيحمل المطلق على المقيد لأن ما خلط باللحم غير محرم، قال القرطبي: بالإجماع. وقد روت عائشة أنها كانت تطبخ اللحم فتعلو الصفرة على البرمة من الدم، فيأكل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكره. قوله: "ولحم الخنزير" ظاهر هذه الآية والآية الأخرى أعني قوله تعالى: " قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير " أن المحرم إنما هو اللحم فقط. وقد أجمعت الأمة على تحريم شحمه كما حكاه القرطبي في تفسيره. وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن اللحم يدخل تحته الشحم. وحكى القرطبي الإجماع أيضاً على أن جملة الخنزير محرمة إلا الشعر فإنه تجوز الخرازة به. قوله: "وما أهل به لغير الله" الإهلال: رفع الصوت، يقال أهل بكذا: أي رفع صوته. قال الشاعر يصف فلاة:
تهل بالفرقد ركبانها كما يهل الراكب المعتمر
وقال النابغة:
أو درة صدفية غواصها بهج متى يرها يهل ويسجد
ومنه إهلال الصبي، واستهلاله: وهو صياحه عند ولادته. والمراد هنا: ما ذكر عليه اسم غير الله كاللات والعزى إذا كان الذابح وثنياً، والنار إذا كان الذابح مجوسياً. ولا خلاف في تحريم هذا وأمثاله، ومثله ما يقع من المعتقدين للأموات من الذبح على قبورهم، فإنه مما أهل به لغير الله، ولا فرق بينه وبين الذبح للوثن. قوله: "فمن اضطر" قرئ بضم النون للاتباع وبكسرها على الأصل في التقاء الساكنين، وفيه إضمار: أي فمن اضطر إلى شيء من هذه المحرمات. وقرأ ابن محيصن بإدغام الضاد في الطاء. وقرأ أبو السماك بكسر الطاء. والمراد من صيره الجوع والعدم إلى الاضطرار إلى الميتة. قوله: "غير باغ" نصب على الحال. قيل المراد بالباغي: من يأكل فوق حاجته، والعادي: من يأكل هذه المحرمات وهو يجد عنها مندوحة، وقيل: غير باغ على المسلمين وعاد عليهم، فيدخل في الباغي والعادي قطاع الطريق والخارج على السلطان وقاطع الرحم ونحوهم، وقيل: المراد غير باغ على مضطر آخر ولا عاد سد الجوعة.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "كلوا من طيبات ما رزقناكم" قال: من الحلال. وأخرج ابن سعد عن عمر بن العزيز أن المراد بما في الآية: طيب الكسب لا طيب الطعام. وأخرج ابن جرير عن الضحاك: أنها حلال الرزق. وأخرج أحمد ومسلم والترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم" وقال: "يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم" ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "وما أهل" قال: ذبح. وأخرج ابن جرير عنه قال: "ما أهل به" للطواغيت. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: ما ذبح لغير الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية. قال: ما ذكر عليه اسم غير الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "غير باغ ولا عاد" يقول: من أكل شيئاً من هذه وهو مضطر فلا حرج، ومن أكله وهو غير مضطر فقد بغى واعتدى. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "غير باغ" قال: في الميتة "ولا عاد" قال: في الأكل. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "غير باغ ولا عاد" قال: غير باغ على المسلمين ولا معتد عليهم، فمن خرج يقطع الرحم أو يقطع السبيل أو يفسد في الأرض أو مفارقاً للجماعة والأئمة، أو خرج في معصية الله فاضطر إلى الميتة لم تحل له. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: العادي الذي يقطع الطريق. وقوله: "فلا إثم عليه" يعني في أكله "إن الله غفور رحيم" لمن أكل من الحرام رحيم به إذ أحل له الحرام في الاضطرار. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة "فمن اضطر غير باغ ولا عاد" غير باغ في أكله، ولا عاد يتعدى الحلال إلى الحرام وهو يجد عنه بلغة ومندوحة.
173. فقال: " إنما حرم عليكم الميتة " قرأ أبو جعفر الميتة في كل القرآن بالتشديد والباقون يشددون البعض. والميتة كل ما لم تدرك ذكاته مما يذبح " والدم " أراد بالدم الجاري يدل عليه قوله تعالى " أو دماً مسفوحاً " (145-الأنعام) واستثنى الشرع من الميتة السمك والجراد ومن الدم الكبد والطحال فأحلها.
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أحلت لنا ميتتان ودمان، الميتتان الحوت والجراد، والدمان، أحسبه قال: الكبد والطحال " " ولحم الخنزير " أراد به جميع أجزائه فعبر عن ذلك باللحم لأنه معظمه " وما أهل به لغير الله " أي ما ذبح للأصنام والطواغيت، وأصل الإهلال رفع الصوت. وكانوا إذا ذبحوا لآلهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها فجرى ذلك من أمرهم حتى قيل لكل ذابح وإن لم يجهر بالتسمية مهل. وقال الربيع بن أنس وغيره " وما أهل به لغير الله " قال ما ذكر عليه اسم غير الله.
" فمن اضطر " بكسر النون وأخواته قرأ عاصم و حمزة ، ووافق أبو عمرو إلا في اللام والواو مثل " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن" (110-الإسراء) ويعقوب إلا في الوا، ووافق ابن عامر في التنوين، والباقون كلهم بالضمن فمن كسر قال: لأن الجزم يحرك إلى الكسر، ومن ضم فلضمة أول الفعل نقل حركتها إلى ما قبلها، و أبو جعفر بكسر الطاء ومعناه فمن اضطر إلى أكل ميتة أي أحوج وألجئ إليه " غير " نصب على الحال، وقيل على الاستثناء وإذا رأيت (غير) يصلح في موضعها (لا) فهي حال، وإذا صلح في موضعها (إلا) فهي استثناء " باغ ولا عاد " أصل البغي قصد الفساد، يقال بغى الجرح يبغي بغياً إذا ترامى إلى الفساد، وأصل العدوان الظلم ومجاوزة الحد يقال عدا عليه عدواً وعدواناً إذا ظلم واختلفوا في معنى قوله " غير باغ ولا عاد " فقال بعضهم " غير باغ " أي: خارج على السلطان، ولا عاد: متعد عاص بسفره، بأن خرج لقطع الطريق أو لفساد في الأرض. وهو قول ابن عباس و مجاهد و سعيد بن جبير . وقالوا لا يجوز للعاصي بسفره أن يأكل الميتة إذا اضطر إليها ولا أن يترخص المسافر حتى يتوب، وبه قال الشافعي رحمه الله: لأن إباحته له إعانة له على فساده، وذهب جماعة إلى أن البغي والعدوان راجعان إلى الأكل واختلفوا في تفصيله. فقال الحسن و قتادة " غير باغ " لا تأكله من غير اضطرار " ولا عاد " أي لا يعدو لشبعه. وقيل " غير باغ " أي غير طالبها وهويجد غيرها " ولا عاد " أي غير متعد ما حد له فما يأكل حتى يشبع ولكن يأكل منها قوتاً مقدار ما يمسك رمقه. وقال مقاتل بن حيان " غير باغ " أي مستحل لها " ولا عاد " أي متزود منها. وقيل " غير باغ " أي غير مجاوز للقدر الذي أحل له " ولا عاد " أي لا يقصر فيما أبيح له فيدعه قال مسروق : من اضطر إلى الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار.
واختلف العلماء في مقدار ما يحل للمضطر أكله من الميته، فقال بعضهم مقدار ما يسد رمقه. وهو قول أبو حنيفة رضي الله عنه و أحد قولي الشافعي رضي الله عنه. والقول الآخر يجوز أن يأكل حتى يشبع وبه قال مالك رحمه الله تعالى. وقال سهل بن عبد الله " غير باغ " مفارق للجماعة " ولا عاد " مبتدع مخالف للسنة ولم يرخص للمبتدع في تناوله المحرم عند الضرورة " فلا إثم عليه " أي فلا حرج عليه في أكلها " إن الله غفور " لمن أكل في حال الاضطرار " رحيم " حيث رخص للعباد في ذلك.
173-" إنما حرم عليكم الميتة " أكلها ، أو الانتفاع بها . وهي التي ماتت من غير ذكاة . والحديث ألحق بها ما أبين من حي . والسمك والجراد أخرجهما العرف عنها ،أو استثناء الشرع . والحرمة المضافة إلى العين تفيد عرفاً حرمة التصرف فيها مطلقاً إلا ما خصه الدليل ، كالتصرف في المدبوغ . " والدم ولحم الخنزير " إنما خص اللحم بالذكر ، لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان وسائر أجزائه كالتابع له . " وما أهل به لغير الله " أي رفع يه الصوت عند ذبحه للصنم . والإهلال أصله رؤية الهلال ، يقال : أهل الهلال وأهللته . لكن لما جرت العادة أن يرفع الصوت بالتكبير إذا رئي سمي ذلك إهلالاً ، ثم قيل لرفع الصوت وإن كان لغيره . " فمن اضطر غير باغ " بالاستيثار على مضطر آخر . وقرأ عاصم و أبو عمرو و حمزة بكسر النون ز " ولا عاد " سد الرمق ،أو الجوعة . وقيل ، غير باغ على الوالي . ولا عاد بقطع الطريق . فعلى هذا لا يباح للعاصي بالسفر وهو ظاهر مذهب الشافعي وقول أحمد رحمهما الله تعالى . " فلا إثم عليه " في تناوله . " إن الله غفور " لما فعل " رحيم " بالرخصة فيه . فإن قيل : إنما تفيد قصر الحكم على ما ذكر وكم من حرام لم يذكر . قلت : المراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه لا مطلقاً ، أو قصر حرمته على حال الاختيار كأنه قيل إنما حرم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها .
173. He hath forbidden you only carrion, and blood, and swineflesh, and that which hath been immolated to (the name of) any other than Allah. But he who is driven by necessity, neither craving nor transgressing, it is no sin for him. Lo! Allah is Forgiving, Merciful.
173 - He hath only forbidden you dead meat, and blood, and the flesh of swine, and that on which any other name hath been invoked besides that of God. but if one is forced by necessity, without wilful disobedience, nor transgressing due limits, then is he guiltless. for God is oft forgiving most merciful.