[البقرة : 117] بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ
(بديع السماوات والأرض) موجدهم لا على مثال سبق (وإذا قضى) أراد (أمراً) أي إيجاده (فإنما يقول له كن فيكون) أي فهو يكون ، وفي قراءة بالنصب جواباً للأمر
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: مطيعون.
ذكر من قال ذلك:حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "كل له قانتون"، مطيعون.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: "كل له قانتون "، قال: مطيعون. قال: طاعة الكافر في سجود ظله.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بمثله إلا أنه زاد: بسجود ظله وهو كاره.
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "كل له قانتون "، يقول: كل له مطيعون يوم القيامة.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثني يحيى بن سعيد، عمن ذكره، عن عكرمة: "كل له قانتون "، قال: الطاعة.
حدثت عن المنجاب بن الحارث قال، حدثنا بشربن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: "قانتون "، مطيعون.
وقال آخرون: معنى ذلك: كل له مقرون بالعبودية. ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة: "كل له قانتون "، كل مقر له بالعبودية.
وقال آخرون بما:حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: "كل له قانتون "، قال: كل له قائم يوم القيامة.
وبـ القنوت في كلام العرب معالز. أحدها: الطاعة، والآخر: القيام، والثالث: الكف عن الكلام والإمساك عنه.
وأولى معاني القنوت في قوله: "كل له قانتون "، الطاعة والإقرار لله عز وجل بالعبودية، بشهادة أجسامهم، بما فيها من آثار الصنعة والدلالة على وحدانية الله عز وجل، وأن الله تعالى ذكره بارئها وخالقها، وذلك أن الله جل ثناؤه أكذب الذين زعموا أن لله ولدًا بقوله: "بل له ما في السموات والأرض " ملكاً وخلقاً، ثم أخبر عن جميع ما في السموات والأرض أنها مقرة بدلالتها على ربها وخالقها، وأن الله تعالى بارئها وصانعها. وإن جحد ذلك بعضهم، فألسنتهم مذعنة له بالطاعة، بشهادتها له بآثار الصنعة التي فيها بذلك، وأن المسيح أحدهم، فأنى يكون لله ولدًا وهذه صفته؟. وقد زعم بعض من قصرت معرفته عن توجيه الكلام وجهته، أن قوله: "كل له قانتون "،خاصة لأهل الطاعة وليست بعامة. وغير جائز ادعاء خصوص في آية عام ظاهرها، إلا بحجة يجب التسليم لها، لما قد بينا في كتابنا كتاب البيان عن أصول الأحكام .
وهذا خبر من الله جل وعز عن أن المسيح الذي زعمت النصارى أنه ابن الله مكذبهم هو والسموات والأرض وما فيها، إما باللسان، وإما بالدلالة. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن جميعهم، بطاعتهم إياه، وإقرارهم له بالعبودية، عقيب قوله: "وقالوا اتخذ الله ولدا"، فدل ذلك على صحة ماقلنا.
فيه ست مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "بديع السماوات" فعيل للمبالغة ، وارتفع على خبر ابتداء محذوف ، واسم الفاعل مبدع ، كبصير من مبصر . أبدعت الشيء لا عن مثال ، فالله عز وجل بديع السماوات والأرض ، أي منشئها وموجدها ومبدعها ومخترعها على غير حد ولا مثال . وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له مبدع ، ومنه اصحاب البدع . وسميت البدعة بدعة لأن قائلها ابتدعها من غير فعل أو مقال إمام ، وفي البخاري ونعمت البدعة هذه يعني قيام رمضان .
الثانية : كل بدعة صدرت من مخلوق فلا يخلو أن يكون لها أصل في الشرع أو لا ، فإن كان لها أصل كانت واقعة تحت عموم ما ندب الله إليه وحض رسوله عيه ، فهي في حيز المدح . وإن لم يكن مثاله موجوداً كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف ، فهذا فعله من الأفعال المحمودة ، وإن لم يكن الفاعل قد سبق إليه . ويعضد هذا قول عمر رضي الله عنه : نعمت البدعة هذه ، لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح ، وهي وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد صلاها إلا أنه تركها ولم يحافظ عليها ، ولا جمع الناس عليها ، فمحافظة عمر رضي الله عنه عليها ، وجمع الناس لها ، وندبهم إليها ، بدعة لكنها بدعة محمودة ممدوحة . وإن كانت في خلاف ما أمر الله به ورسوله فهي في حيز الذم والإنكار قال معناه الخطابي وغيره .
قلت : وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته :
"وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة" يريد ما لم يوافق كتابا أو سنة ، أو عمل الصحابة رضي الله عنهم ، وقد بين هذا بقوله :
"من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" . وهذا إشارة إلى ما ابتدع من قبيح وحسن ، وهو أصل هذا الباب ، وبالله العصمة والتوفيق ، لا رب غيره .
الثالثة : قوله تعالى : "وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون" أي إذا أراد إحكامه وإتقانه ـ كما سبق في علمه ـ قال له كن . قال ابن عرفة : قضاء الشيء إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه ، ومنه سمي القاضي ، لأنه إذا حكم فقد فرغ مما بين الخصمين . وقال الأزهري : قضى في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه ، قال أبو ذؤيب :
وعليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع
وقال الشماخ في عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
قضيت أموراً ثم غادرت بعدها بوائق في أكمامها لم تفتق
قال علماؤنا : قضى لفظ مشترك ، يكون بمعنى الخلق ،قال الله تعال : "فقضاهن سبع سماوات في يومين" أي خلقهن . ويكون بمعنى الإعلام ،قال الله تعالى : "وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب" أي أعلمنا . ويكون بمعنى الأمر ، كقوله تعالى : " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " . ويكون بمعنى الإلزام وإمضاء الأحكام ، ومنه سمي الحاكم قاضياً . ويكون بمعنى توفية الحق ، قال الله تعالى :"فلما قضى موسى الأجل" . ويكون بمعنى الإرادة ، كقوله تعالى : "فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون" أي إذا أراد خلق شيء . قال ابن عطية : قضى معناه قدر ، وقد يجيء بمعنى أمضى ، ويتجه في هذه الآية المعنيان على مذهب أهل السنة قدر في الأزل وأمضى فيه . وعلى مذهب المعتزلة أمضى عند الخلق والإيجاد .
الرابعة : قوله تعالى : "أمرا" الأمر واحد الأمور ، وليس بمصدر أمر يأمر . قال علماؤنا : والأمر في القرآن يتصرف على أربعة عشر وجهاً .
الأول : الدين ، قال الله تعالى : "حتى جاء الحق وظهر أمر الله" يعني دين الله الإسلام .
الثاني : القول ، ومنه قوله تعالى : "فإذا جاء أمرنا" يعني قولنا ، وقوله : "فتنازعوا أمرهم بينهم" يعني قولهم .
الثالث : العذاب ، ومنه قوله تعالى : "لما قضي الأمر" يعني لما وجب العذاب بأهل النار .
الرابع :عيسى عليه السلام ، قال الله تعالى : "إذا قضى أمرا" يعني عيسى ، وكان في علمه أن يكون من غير أب .
الخامس : القتل ببدر ، قال الله تعالى : "فإذا جاء أمر الله" يعني القتل ببدر ، وقوله تعالى : "ليقضي الله أمرا كان مفعولا" يعني قتل كفار مكة .
السادس : فتح مكة ، قال الله تعالى : "فتربصوا حتى يأتي الله بأمره" يعني فتح مكة .
السابع :قتل قريظة وجلاء بني النضير ، قال الله تعالى : "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره" .
الثامن : القيامة ، قال الله تعالى : "أتى أمر الله" .
التاسع : القضاء ، قال الله تعالى : "يدبر الأمر" . يعني القضاء .
العاشر : الوحي ، قال الله تعالى : "يدبر الأمر من السماء إلى الأرض" .
يقول : ينزل الوحي من السماء إلى الأرض ، وقوله : "يتنزل الأمر بينهن" يعني الوحي .
الحادي عشر : أمر الخلق ، قال الله تعالى : "ألا إلى الله تصير الأمور" يعني أمور الخلائق .
الثاني عشر :النصر ، قال الله تعالى : "يقولون هل لنا من الأمر من شيء" . يعنون النصر ، "قل إن الأمر كله لله" يعني النصر .
الثالث عشر : الذنب ، قال الله تعالى : "فذاقت وبال أمرها" يعني جزاء ذنبها .
الرابع عشر : الشأن والفعل ، قال الله تعالى : "وما أمر فرعون برشيد" أي فعله وشأنه ، وقال : "فليحذر الذين يخالفون عن أمره" أي فعله .
الخامسة : قوله تعالى : "كن" قيل : الكاف من كينونه ، والنون من نوره ، وهي المراد بقوله عليه السلام :
"أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق" . ويروى : "بكلمة الله التامة " على الإفراد . فالجميع لما كانت هذه الكلمة في الأمور كلها ، فإذا قال لكل أمر كن ، ولكل شيء كن ، فهن كلمات . يدل على هذا ما روي عن ابي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكى عن الله تعالى :
"عطائي كلام وعذابي كلام" . خرجه الترمذي في حديث فيه طول . والكلمة على الإفراد بمعنى الكلمات أيضاً ، لكن لما تفرقت الكلمة الواحدة في الأمور في الأوقات صارت كلمات ومرجعهن إلى كلمة واحدة . وإنما قيل تامة لأن أقل الكلام عند أهل اللغة على ثلاثة أحرف : حرف مبتدأ ، وحرف تحشى به الكلمة ، وحرف يسكت عليه . وإذا كان على حرفين فهو عندهم منقوص ، كيد ودم وفم ، وإنما نقص لعلة . فهي من الآدميين من المنقوصات لأنها على حرفين ، ولأنها كلمة ملفوظة بالأدوات . ومن ربنا تبارك وتعالى تامة ، لأنها بغير الأدوات ، تعالى عن شبه المخلوقين .
السادسة : قوله تعالى : "فيكون" قرىء برفع النون على الاستئناف . قال سيبويه : فهو يكون ، أو فإنه يكون . وقال غيره : وهو معطوف على يقول ، فعلى الأول كائناً بعد الأمر ، وإن كان معدوماً فإنه بمنزلة الموجود إذ هو عنده معلوم ، على ما يأتي بيانه . وعلى الثاني كائناً مع الأمر ، واختاره الطبري وقال : أمره للشيء بـ لكن لا يتقدم الوجود ولا يتأخر عنه ، فلا يكون الشيء مأموراً بالوجود إلا وهو موجود بالأمر ، ولا موجوداً إلا وهو مأمور بالوجود ، على ما يأتي بيانه . قال :ونظيره قيام الناس من قبورهم لا يتقدم دعاء الله ولا يتأخر عنه ، كما قال : "ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون" . وضعف ابن عطية هذا القول وقال : هو خطأ من جهة المعنى ، لأنه يقتضي أن القول مع التكوين والوجود .
وتلخيص المعتقد في هذه الآية : أن الله عز وجل لم يزل آمراً للمعدومات بشرط وجودها ، قادراً مع تأخر المقدورات ، عالماً مع تأخر المعلومات . فكل ما في الآية يقتضي الاستقبال فهو بحسب المأمورات ، إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن . وكل ما يسند إلى الله تعالى من قدرة وعلم فهو قديم لم يزل . والمعنى الذي تقتضيه عبارة كن هو قديم قائم بالذات .
وقال أبو الحسن الماوردي فإن قيل : ففي أي حال يقول له كن فيكون ؟ أفي حال عدمه ، أم في حال وجوده ؟ فإن كان في حال عدمه استحال أن يأمر إلا مأموراً ، كما يستحيل أن يكون الأمر إلا من آمر ، وإن كان في حال وجوده فتلك حال لا يجوز أن يأمر فيها بالوجود والحدوث ، لأنه موجود حادث ؟ قيل عن هذا السؤال أجوبة ثلاثة :
أحدها : أنه خبر من الله تعالى عن نفوذ أوامره في خلقه الموجود ، كما أمر في بني إسرائيل أن يكونوا قردة خاسئين ، ولا يكون هذا وارداً في إيجاد المعدومات .
الثاني : أن الله عز وجل عالم بما هو كائن قبل كونه ، فكانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة بعلمه قبل كونها مشابهة للتي هي موجودة ، فجاز أن يقول لها : كوني ، ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود ، لتصور جميعها له ولعلمه لها في حال العدم .
الثالث : أن ذلك خبر من الله تعالى عام عن جميع ما يحدثه ويكونه إذا أراد خلقه وإنشاءه كان ، ووجد من غير أن يكون هناك قول يقوله ، وإنما هو قضاء يريده ، فعبر عنه بالقول وإن لم يكن قولاً ، كقول أبي النجم :
‌قد قالت الأنساع للبطن الحق‌‌‌‌‌‌‌‌
ولا قول هناك ، وإنما أراد أن الظهر قد لحق بالبطن ، وكقول عمرو بن جمعة الدوسي :
‌‌فأصبحت مثل النسر طارت فراخه إذا رام تطيارا يقل له قع
وكما قال الآخر :
‌قالت جناحاه لساقيه ألحقا ونجيا لحمكما أن يمزقا
اشتملت هذه الاية الكريمة والتي تليها على الرد على النصارى عليهم لعائن الله وكذا من أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب ممن جعل الملائكة بنات الله فأكذب الله جميعهم في دعواهم وقولهم إن لله ولداً، فقال تعالى: "سبحانه" أي تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علواً كبيراً "بل له ما في السموات والأرض" أي ليس الأمر كما افتروا وإنما له ملك السموات والأرض ومن فيهن وهو المتصرف فيهم وهو خالقهم ورازقهم ومقدرهم ومسخرهم ومسيرهم ومصرفهم كما يشاء والجميع عبيد له وملك له فكيف يكون له ولد منهم والولد إنما يكون متولداً من شيئين متناسبين وهو تبارك وتعالى ليس له نظير ولا مشارك في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له فكيف يكون له ولد ؟ كما قال تعالى: "بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم" وقال تعالى: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا " وقال تعالى: "قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد". فقرر تعالى في هذه الايات الكريمة أنه السيد العظيم الذي لا نظير له ولا شبيه له وأن جميع الأشياء غيره مخلوقة له مربوبة فكيف يكون له منها ولد ؟ ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الاية من البقرة: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن عبد الله بن أبي الحسين، حدثنا نافع بن جبير هو ابن مطعم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله أن لي ولداً فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً" انفرد به البخاري من هذا الوجه وقال ابن مردويه حدثنا أحمد بن كامل أخبرنا محمد بن إسماعيل الترمذي، أخبرنا محمد بن إسحاق بن محمد الفروي أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويقول الله تعالى كذبني ابن آدم وما ينبغي له أن يكذبني وشتمني وما ينبغي له أن يشتمني، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني. وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته ، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً. وأنا الله الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد" وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم" وقوله: "كل له قانتون" قال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو سعيد الأشج، أخبرنا أسباط عن مطرف عن عطية عن ابن عباس قال: "قانتين" مصلين، وقال عكرمة وأبو مالك: "كل له قانتون" مقرون له بالعبودية، وقال سعيد بن جبير: "كل له قانتون"، يقول الإخلاص، وقال الربيع بن أنس: يقول: "كل له قانتون" أي: قائم يوم القيامة، وقال السدي: "كل له قانتون" أي: مطيعون يوم القيامة، وقال خصيف عن مجاهد: "كل له قانتون" قال: مطيعون، قال كن إنساناً فكان، وقال: كن حماراً فكان، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: كل له قانتون مطيعون، قال: طاعة الكافر في سجود ظله وهو كاره، وهذا القول عن مجاهد وهو اختيار ابن جرير يجمع الأقوال كلها وهو أن القنوت والطاعة والاستكانة إلى الله وهو شرعي وقدري كما قال الله تعالى: " ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال " وقد ورد حديث فيه بيان القنوت في القرآن ما هو المراد به، كما قال ابن أبي حاتم: أخبرنا يوسف ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة"، وكذا رواه الإمام أحمد: عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة عن دراج بإسناده مثله، ولكن في هذا الإسناد ضعف لا يعتمد عليه، ورفع هذا الحديث منكر ، وقد يكن من كلام الصحابي أو من دونه، والله أعلم.
وقوله تعالى: "بديع السموات والأرض" أي: خالقهما على غير مثال سبق، قال مجاهد والسدي: وهو مقتضى اللغة، ومنه يقال للشيء المحدث بدعة، كما جاء في صحيح مسلم: فإن كل محدثة بدعة، والبدعة على قسمين: تارة تكون بدعة شرعية، كقوله: "فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"، وتارة تكون بدعة لغوية، كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم: نعمت البدعة هذه، وقال ابن جرير: "بديع السموات والأرض" مبدعهما، وإنما هو مفعل فصرف إلى فعيل، كما صرف المؤلم إلى الأليم، والمسمع إلى السميع، ومعنى المبدع المنشىء والمحدث، ما لا يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد، قال: ولذلك سمي المبتدع في الدين، مبتدعاً لإحداثه فيه، ما لم يسبق إليه غيره، وكذلك كل محدث قولاً أو فعلاً، لم يتقدم فيه متقدم، فإن العرب تسميه مبتدعاً، ومن ذلك قول أعشى بن ثعلبة في مدح هوذة بن علي الحنفي:
يدعي إلى قول سادات الرجال إذا أبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا
أي يحدث ما شاء، قال ابن جرير: فمعنى الكلام سبحان الله أن يكون له ولد، وهو مالك ما في السموات والأرض تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوحدانية، وتقر له بالطاعة، وهو بارئها وخالقها وموجدها، من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه، وهذا إعلام من الله لعباده، أن ممن يشهد له بذلك المسيح، الذي أضافوا إلى الله بنوته، وإخبار منه لهم، أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل، وعلى غير مثال، هو الذي ابتدع المسيح عيسى، من غير والد بقدرته، وهذا من ابن جرير رحمه الله كلام جيد وعبارة صحيحة. وقوله تعالى: "وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون" يبين بذلك تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه، وأنه إذا قدر أمراً وأراد كونه، فإنما يقول له كن، أي: مرة واحدة فيكون، أي: فيوجد، على وفق ما أراد كما قال تعالى: "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون"، وقال تعالى: "إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون"، وقال تعالى: " وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر " وقال الشاعر:
إذا ما أراد أمراً فإنما يقول له كن قوله فيكون
ونبه بذلك أيضاً، على أن خلق عيسى بكلمة كن فكان كما أمره الله، قال الله تعالى: "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون".
وبديع: فعيل للمبالغة وهو خبر مبتدأ، محذوف: أي هو بديع سمواته وأرضه، أبدع الشيء: أنشأه لا عن مثال، وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له مبدع. وقوله: 117- "وإذا قضى أمراً" أي أحكمه وأتقنه. قال الأزهري: قضى في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه، قيل: هو مشترك بين معان، يقال: قضى بمعنى خلق، ومنه: " فقضاهن سبع سماوات " وبمعنى أعلم، ومنه "وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب" وبمعنى أمر، ومنه " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " وبمعنى ألزم، ومنه: قضى عليه القاضي، وبمعنى أوفاه، ومنه: "فلما قضى موسى الأجل" وبمعنى أراد ومنه: "فإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون". والأمر واحد الأمور. وقد ورد في القرآن على أربعة عشر معنى: الأول الدين: ومنه: "حتى جاء الحق وظهر أمر الله" الثاني بمعنى القول، ومنه: "فإذا جاء أمرنا". الثالث العذاب، ومنه: "لما قضي الأمر" الرابع عيسى، ومنه: "فإذا قضى أمراً". أي أوجد عيسى عليه السلام. الخامس القتل، ومنه: "فإذا جاء أمر الله" السادس فتح مكة، ومنه "فتربصوا حتى يأتي الله بأمره". السابع قتل بني قريظة وإجلاء النضير، ومنه "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره". الثامن القيامة، ومنه "أتى أمر الله". التاسع القضاء، ومنه "يدبر الأمر". العاشر الوحي، ومنه: "يتنزل الأمر بينهن". الحادي عشر أمر الخلائق، ومنه: "ألا إلى الله تصير الأمور". الثاني عشر النصر، ومنه: "هل لنا من الأمر من شيء". الثالث عشر الذنب، ومنه: "فذاقت وبال أمرها" الرابع عشر الشأن، ومنه: "وما أمر فرعون برشيد" هكذا أورد هذه المعاني بأصول من هذا بعض المفسرين وليس تحت ذلك كثير فائدة، وإطلاقه على الأمور المختلفة لصدق اسم الأمر عليها. وقوله: "فإنما يقول له كن فيكون" الظاهر في هذا المعنى الحقيقي، وأنه يقول سبحانه هذا اللفظ، وليس في ذلك مانع ولا جاء ما يوجب تأويله، ومنه قوله تعالى: "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون" وقال تعالى: "إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون" وقال: "وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر" ومنه قول الشاعر:
إذا ما أراد الله أمراً فإنما يقول له كن قوله فيكون
وقد قيل: إن ذلك مجاز، وأنه لا قول، وإنما هو قضاء يقضيه، فعبر عنه بالقول، ومنه قول الشاعر، وهو عمر بن حممة الدوسي:
فأصبحت مثل النسر طار فراخه إذا رام تطيارا يقال له قع
وقال آخر:
قالت جناحاه لساقيه الحقا ونجيا لحكمكما أن يمزقا
117. قوله تعالى: " بديع السموات والأرض " أي مبدعها ومنشئها من غير مثال سبق " وإذا قضى أمراً " أي قدره، وقيل: أحكمه وقدره [وأتقنه، وأصل القضاء: الفراغ، ومنه قيل لمن مات: قضي عليه لفراغه من الدنيا، ومنه قضاء الله وقدره] لأنه فرغ منه تقديراً وتدبيراً.
" فإنما يقول له كن فيكون " قرأ ابن عامر كن فيكون بنصب النون في جميع المواضع إلا في آل عمران " كن فيكون * الحق من ربك " وفي سورة الأنعام " كن فيكون، قوله الحق " وإنما نصبها لأن جواب الأمر بالفاء يكون منصوباً [وافقه الكسائي في النحل ويس]، وقرأ الآخرون بالرفع على معنى فهو يكون، فإن قيل كيف قال (فإنما يقول له كن فيكون) والمعدوم لا يخاطب، قال ابن الأنباري : معناه فإنما يقول له أي لأجل تكوينه، فعلى هذا ذهب معنى الخطاب، وقيل: هو وإن كان معدوماً ولكنه لما قدر وجوده وهو كائن لا محالة كان كالموجود فصح الخطاب.
117-" بديع السموات والأرض " مبدعهما ، ونظيره السميع في قوله :
أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع
أو بديع سمواته وأرضه ، من بدع بديع ، وهو حجة رابعة . وتقريرها أن الوالد عنصر الولد المنفعل بانفصال مادته عنه ، والله سبحانه وتعالى مبدع الأشياء كلها ، فاعل على الإطلاق ،منزه على الانفعال ، فلا يكون والداً . والإبداع : اختراع الشيء لا عن الشيء دفعة ،وهو أليق بهذا الموضوع من الصنع الذي هو : تركيب الصور لا بالعنصر ، والتكوين الذي يكون بتغير وفي زمان غالباً . وقرئ بديع مجروراً على البدل من الضمير في له . وبديع منصوباً على المدح .
" وإذا قضى أمراً " أي أراد شيئاً ، وأصل القضاء إتمام الشيء قوة كقوله تعالى : " وقضى ربك " ، أو فعلاً كقوله تعالى : " فقضاهن سبع سماوات " . وأطلق على تعلق الإرادة الإلهية بوجود الشيء من حيث إنه يوجبه . " فإنما يقول له كن فيكون " من كان التامة بمعنى أحدث فيحدث ،وليس المراد به حقيقة أمر وامتثال ،بل تمثيل حصول ما تعلقت به إرادته بلا مهلة بطاعة المأمور بلا توقف . وفيه لمعنى الإبداع ، وإيماء إلى حجة خامسة وهي : أن اتخاذ الولد مما يكون بأطوار ومهلة ، وفعله تعالى مستغن عن ذلك . وقرأ ابن عامر " فيكون " بفتح النون . واعلم أن السبب في هذه الضلالة ، أن أرباب الشرائع المتقدمة كانوا يطلقون الأب على الله تعالى باعتبار أنه السبب الأول ، حتى قالوا إن الأب هو الرب الأصغر ، والله سبحانه وتعالى هو الرب الأكبر ، ثم ظنت الجهلة منهم أن المراد به معنى الولادة ، فاعتقدوا ذلك تقليداً ، ولذلك كفر قائله ومنع منه مطلقاً حسماً لمادة الفساد .
117. The Originator of the heavens and the earth! When He decreeth a thing, He saith unto it only: Be! and it is.
117 - To him is due the primal origin of the heavens and the earth: when he decreeth a matter, he saith to it: be, and it is.