[الكهف : 10] إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا
- 10 - اذكر (إذ أوى الفتية إلى الكهف) جمع فتى وهو الشاب الكامل خائفين على إيمانهم من قومهم الكفار (فقالوا ربنا آتنا من لدنك) من قبلك (رحمة وهيئ) أصلح (لنا من أمرنا رشدا) هداية
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا" حين أوى الفتية أصحاب الكهف إلى كهف الجبل ، هربا بدينهم إلى الله ، فقالوا إذ أووه : " ربنا آتنا من لدنك رحمة" رغبة منهم إلى ربهم ، في أن يرزقهم من عنده رحمة . وقوله "وهيئ لنا من أمرنا رشدا" يقول : وقالوا : يسر لنا بما نبتغي وما نلتمس من رضاك والهرب من الكفر بك ، ومن عبادة الأوثان التي يدعونا إليها قومنا، رشدا : يقول : سدادا إلى العمل بالذي تحب . وقد اختلف أهل العلم في سبب مصير هؤلاء الفتية إلى الكهف ائذي ذكره الله في كتابه ، فقال بعضهم : كان سبب ذلك ، أنهم كانوا مسلمين على دين عيسى ، وكان لهم ملك عابد وثن ، دعاهم إلى عبادة الأصنام فهربوا بدينهم منه خشية أن يفتنهم عن دينهم ، أو يقتلهم ، فاستخفوا منه في الكهف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : ثنا عمرو في قوله " أصحاب الكهف والرقيم " كانت الفتية على دين عيسى على الإسلام ، وكان ملكهم كافرا، وقد أخرج لهم صنما ، فابوا، وقالوا : " ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا" قال : فاعتزلوا عن قومهم لعبادة الله ، فقال أحدهم : إنه كان لأبي كهف يؤوي فيه غنمه ، فانطلقوا بنا نكن فيه ، فدخلوه وفقدوا في ذلك الزمان فطلبوا، فقيل : دخلوا هذا الكهف ، فقال قومهم : لا نريد لهم عقوبة ولا عذابا أشد من أن نردم عليهم هذا الكهف ، فبنوه عليهم ثم ردموه ، ثم إن الله بعث عليهم ملكا على دين عيسى ورفع ذلك البناء الذي كان ردم عليهم ، فقال بعضهم لبعض " كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم " حتى بلغ " فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة" وكان ورق ذلك الزمان كبارا ، فارسلوا أحدهم ياتيهم بطعام وشراب ، فلما ذهب ليخرج ، رأى على باب الكهف شيئا أنكره ، فاراد أن يرجع ، ثم مض حتى دخل المدينة، فانكر.ما رأى، ثم أخرج درهما، فنظروا إليه فانكروه ، وأنكروا الدرهم ، وقالوا: من أين لك هذا ؟ هذا من ورق غير هذا الزمان . واجتمعوا عليه يسالونه ، فلم يزالوا به حتى انطلقوا به .إلى ملكهم ، وكان لقومهم لوح يكتبون فيه ما يكون ، فنظروا في ذلك اللوح ، وساله الملك ، فاخبره بامره ، ونظروا في الكتاب متى فقد، فاستبشروا به وباصحابه ، وقيل له : انطلق بنا فارنا أصحابك ، فانطلق وانطلقوا معه ، ليريهم ، فدخل قبل القوم ، فضرب على آذانهم ، فقال الذين غلبوا على أمرهم " لنتخذن عليهم مسجدا"
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : مرج أمر أهل الإنجيل وعظمت فيهم الخطايا وطغت فيهم الملوك ، حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت ، وفيهم على ذلك بقايا على أمر عيسى ابن مريم ، متمسكون بعبادة الله وتوحيده ، فكان ممن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يقال له : دقينوس ، كان قد عبد الأصنام ، وذبح للطواغيت ، وقتل من خالفه في ذلك ممن أقام على دين عيسى ابن مريم ، كان ينزل في قرى الروم ، فلا يترك في قرية ينزلها أحدا ممن يدين بدين عيسى ابن مريم إلا قتله ، حتى يعبد الأصنام ، ويذبح للطواغيت ، حتى نزل دقينوس مدينة الفتية أصحاب الكهف ، فلما نزلها دقينوس كبر ذلك على أهل الإيمان ، فاستخفوا منه وهربوا في كل وجه . وكان دقينوس قد أمرحين قدمها أن يتبع أهل الإيمان فيجمعوا له ، واتخذ شرطا من الكفار من أهلها، فجعلوا يتبعون أهل الإيمان في أماكنهم التي يستخفون فيها، فيستخرجونهم إلى دقينوس ، فقدمهم إلى المجامع التي يذبح فيها للطواغيت فيخيرهم نجين القتل ، وبين عبادة الأوثان والذبح للطواغيت ، فمنهم من يرغب في الحياة ويفظع بالقتل فيفتتن ، ومنهم من يابى أن يعبد غير الله فيقتل ، فلما رأى ذلك أهل الصلابة من أهل الإيمان بالله ، جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل ، فيقتلون ويقطعون ، ثم يربط ما قطع من أجسادهم ، فيعلق على سور المدينة من نواحيها كلها، وعلى كل باب من أبوابها، حتى عظمت الفتنة على أهل الإيمان ، فمنهم من كفر فترك ، ومنهم من صلب على دينه فقتل ، فلما رأى ذلك الفتية أصحاب الكهف ، حزنوا حزنا شديدا، حتى تغيرت ألوانهم ، ونحلت أجسامهم ، واستعانوا بالصلاة والصيام والصدقة ، والتحميد ، والتسبيح ، والتهليل والتكبير، والبكاء ، والتضرغ إلى الله ، وكانوا فتية أحداثا أحرارا من أبناء أشراف الروم .
فحدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : لقد حدثت أنه كان على بعضهم من حداثة أسنانه وضح الورق ، قال ابن عباس : فكانوا كذلك في عبادة الله ليلهم ونهارهم ، يبكون إلى الله ، ويسغيثونه ، وكانوا ثمانية نفر: مكسلمينا، وكان أكبرهم ، وهو الذي كلم الملك عنهم ، ومحسيميلنينا ، ويمليخا ، ومرطوس ، وكشوطوش ، وبيرونس ، ودينموس ، ويطونس قالوس ، فلما أجمع دقينوس أن يجمع أهل القرية لعبادة الأصنام ، والذبح للطواغيت ، بكوا إلى الله وتضرعوا إليه ، وجعلوا يقولون : اللهم رب السموات والأرض ، لن ندعوا من دونك إلها " لقد قلنا إذا شططا" اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة وادفع عنهم البلاء وأنعم على عبادك الذين آمنوابك ، ومنعوا عبادتك إلا سرآ، مستخفين بذلك ، حتى يعبدوك علانية! فبينما هم على ذلك ، عرفهم عرفاؤهم من الكفار، ممن كان يجمع أهل المدينة لعبادة الأصنام ، والذبح للطواغيت ، وذكروا أمرهم وكانوا قد خلوا في مصلى لهم يعبدون الله فيه ، ويتضرعون إليه ، ويتوقعون أن يذكروا لدقينوس ، فانطلق أولئك الكفرة حتى دخلوا عليهم مصلاهم ، فوجدوهم سجودا على وجوههم يتضرعون ، ويبكون ، ويرغبون إلى الله أن ينجيهم من دقينوس وفتنته ، فلما رآهم أولئك الكفرة من عرفائهم قالوا لهم : ما خلفكم عن أمر الملك ؟ انطلقوا إليه ثم خرجوا من عندهم ، فرفعوا أمرهم إلى دقينوس ، وقالوا : تجمع الناس للذبح لآلهتك ، وهؤلاء فتية من أهل بيتك ، يسخرون منك ، ويستهزئون بك ، ويعصون أمرك ، ويتركون آلهتك ، يعمدون لى مصلى لهم ولأصحاب عيسى ابن مريم يصلون فيه ، ويتضرعون إلى إلههم وإله عيسى وأصحاب عيسى ، فلم تتركهم يصنعون هذا وهم بين ظهراني سلطانك وملكك ؟ وهم ثمانية نفر: رئيسهم مكسلمينا، وهم أبناء عظماء المدينة . فلما قالوا ذلك لدقينوس ، بعث إليهم ، فاتي بهم من المصلى الذي كانوا فيه تفيض أعينهم من الدموع معفرة وجوهههم في التراب ، فقال لهم : ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا التي تعبد في الأرض ، وأن تجعلوا أنفسكم أسوة لسراة أهل مدينتكم ، ولمن حضر منا من الناس ، اختاروا مني : إما أن تذبحوا لآلهتنا كما ذبح الناس ، وإما أن أقتلكم ، فقال مكسلمينا : إن لنا إلها نعبده ملأ السموات والأرض عظمته ، لن ندعوا من دونه اتها أبدا، ولن نقر بهذا الذي تدعونا إليه أبدا، ولكنا نعبد الله ربنا، له الحمد والتكبير والتسبيح من أنفسنا خالصا أبدا ، إياه نعبد، وإياه نسأل النجاة والخير، فاما الطواغيت وعبادتها، فلن نقر بها أبدا ، ولسنا بكائنين عبادا للشياطين ، ولا جاعلي أنفسنا وأجسادنا عبادا لها، بعد إذ هدانا الله له ، رهبتك أو فرقا من عبودتك ، اصنع بنا ما بدا لك ثم قال أصحاب مكسلمينا لدقينوس مثل ما قال . قال : فلما قالوا ذلك له ، أمر بهم فنزع عنهم لبوس كان عليهم من لبوس عظمائهم ، ثم -قال : أما إذ فعلتم ما فعلتم فإني ساؤخركم أن تكونوا من أهل مملكتي وبطانتي وأهل بلادي وسافرغ لكم ، فانجز لكم ما وعدتكم من العقوبة، وما يمنعني أن أعجل ذلك لكم إلا أني أراكم فتيانا حديثة أسنانكم ، ولا أحسب أن أهلككم حتى أستاني بكم ، وأنا جاعل لكم أجلا تذكرون فيه ، وتراجعون عقولكم . ثم أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة، فنزعت عنهم ، ثم أمر بهم فاخرجوا من عنده ، وانطلق دقينوس مكانه إلى مدينة سوى مدينتهم التي هم بها قريبا منها لبعض ما يريد من أمره . فلما رأى الفتية دقينوس قد خرج من مدينتهم بادروا قدومه ، وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكر بهم ، فاتمروا بينهم أن ياخذ كل واحد منهم نفقة من بيت أبيه ، فيتصدقوا منها، ويتزودوا بما بقي ، ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له : بنجلوس فيمكثوا فيه ، ويعبدوا الله حتى إذا رجع دقينوس أتوه فقاموا بين يديه ، فيصنع بهم ما شاء. فلما قال ذلك بعضهم لبعض ، عمد كل فتى منهم ، فأخذمن بيت أبيه نفقة، فتصدق منها، وانطلقوا بما بقي معهم من نفقتهم ، واتبعهم كلب لهم ، حتى أتوا ذلك الكهف الذي في ذلك الجبل ، فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتكبيروالتحميد، ابتغاء وجه الله تعالى، والحياة التي لا تنقطع ،.وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم يقال له يمليخا، فكان على طعامهم ، يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرا من أهلها، وذلك أنه كان من أجملهم وأجلدهم ، فكان يمليخا يصنع ذلك ، فاذا دخل المدينة يضع ثيابا كانت عليه حسانا، وياخذ ثيابا كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها، ثم ياخذ ورقه ، فينطلق إلى المدينة فيشتري لهم طعاما وشرابا، ويتسمع ويتجسس لهم الخبر، هل ذكر هو وأصحابه بشيء في ملأ المدينة، ثم يرجع إلى أصحابه بطعامهم وشرابهم ، ويخبرهم بما سمع من أخبار الناس ، فلبثوا بذلك ما لبثوا، ثم قدم دقينوس الجبار المدينة التي منها خرج إلى مدينته ، وهي مدينة أفسوس ، فامر عظماء أهلها، فذبحوا للطواغيت ، ففزع من ذلك أهل الإيمان ، فتخبئوا في كل مخبا، وكان يمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم وشرابهم ببعض نفقتهم ، فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل ، فاخبرهم أن الجبار دقينوس قد دخل المدينة، وأنهم قد ذكروا وافتقدوا والتمسوا مع عظماء أهل المدينة ليذبحوا للطواغيت . فلما أخبرهم بذلك ، فزعوا فزعا شديدا، ووقعوا سجودا على وجوههم يدعون الله ، ويتضرعون إليه ، ويتعوذون به من الفتنة، ثم إن يمليخا قال لهم : يا إخوتاه ، ارفعوا رءوسكم ، فاطعموا من هذا الطعام الذي جئتكم به ، وتوكلوا على ربكم فرفعوا رءوسهم ، وأعينهم تفيض من الدمع حذرا وتخوفا على أنفسهم ، فطعموا منه ، وذلك مع غروب الشمس ، ثم جلسوا يتحدثون ويتدارسون ، ويذكر بعضهم بعضا على حزن منهم مشفقين مما أتاهم به صاحبهم من الخبر، فبينا هم على ذلك ، إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف سنين عددا، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف ، فاصابهم ما أصابهم وهم مؤمنون موقنون ، مصدقون بالوعد، ونفقتهم موضوعة عندهم ، فلما كان الغد فقدهم دقينوس فالتمسهم فلم يجدهم ، فقال لعظماء أهل المدينة : لقد ساءني شأن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا، فقد كانوا يظنون أن بي غضبا عليهم فيما صنعوا في أول شأنهم ، لجهلهم ما جهلوا من أمري ، ما كنت لأجهل عليهم في نفسي ، ولا أؤاخذ أحدا منهم بشيء إن هم تابوا وعبدوا آلهتي ، ولو فعلوا لتركتهم ، وما عاقبتهم بشيء سلف منهم . فقال له عظماء أهل المدينة: ما أنت بحقيق أن ترحم قوما فجرة مردة عصاة، مقيمين على ظلمهم ومعصيتهم ، وقد كنت أجلتهم أجلا، وأخرتهم عن العقوبة التي أصبت بها غيرهم ، ولو شاءوا لرجعوا في ذلك الأجل ، ولكنهم لم يتوبوا ولم ينزعوا ولم يندموا على ما فعلوا، وكانوا منذ انطلقت يبذرون أموالهم بالمدينة، فلما علموا بقدومك فروا فلم يروا بعد . فإن أحببت أن تؤتى بهم ، فارسل إلى آبائهم فامتحنهم ، واشدد عليهم يدلوك عليهم ، فإنهم مختبئون منك . فلما قالوا ذلك لدقينوس الجبار، غضب غضبأ شديدا، ثم أرسل إلى آبائهم ، فاتي بهم فسألهم عنهم وقال : أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوا أمري ، وتركوا آلهتي ، ائتوني بهم ، وأنبئوني بمكانهم ، فقال له آباؤهم : أما نحن فلم نعص أمرك ولم نخالفك ، قد عبدنا آلهتك وذبحنا لهم ، فلم تقتلنا في قوم مردة، قد ذهبوا بأموالنا فبذروها وأهلكوها في أسواق المدينة ، ثم انطلقوا، فارتقوا في جبل يدعى بنجلوس ، وبينه وبين المدينة أرض بعيدة هربا منك ؟ فلما قالوا ذلك خلى سبيلهم ، وجعل ياتمر ماذا يصنع بالفتية، فالقى الله عز وجل في نفسه أن يامر بالكهف فيسد عليهم كرامة من الله ، أراد أن يكرمهم ، ويكرم أجساد الفتية، فلا يجول ، ولا يطوف بها شيء ، وأراد أن يحييهم ، ويجعلهم آية لأمة تستخلف من بعدهم ، وأن يبين لهم أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. فامر دقينوس بالكهف أن يسد عليهم ، وقال : دعوا هؤلاء الفتية المردة الذين تركوا آلهتي فليموتوا كما هم في الكهف عطشا وجوعا، وليكن كهفهم الذي اختاروا لأنفسهم تبرا لهم . ففعل بهم ذلك عذو الئه ، وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم ، وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم ، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف ، قد غشاه الله ما غشاهم ، يقلبون ذات اليمين وذات الشمال . ثم إن رجلين مؤمنين كانا في بيت الملك دقينوس يكتمان إيمانهما : اسم أحدهما بيدروس ، واسم الاخر: روناس ، فاتمرا أن يكتبا شان الفتية أصحاب الكهف ، أنسابهم وأسماءهم وأسماء آبائهم ، ، وقصة خبرهم في لوحين من رصاص ، ثم يصنعا له تابوتا من نحاس ، ثم يجعلا اللوحين فيه ، ثم يكتبا عليه في فم الكهف بين ظهراني البنيان ، ويختما على التابوت بخاتمهما، وقالا: لعل الله أن يظهرعلى هؤلاء الفتية قوما مؤمنين قبل يوم القيامة، فيعلم من فتح عليهم حين يقرأ هذا الكتاب خبرهم . ففعلاثم بنيا عليه في البنيان ، فبقي دقينوس وقرنه الذين كانوا منهم ما شاء الله أن يبقوا، ثم هلك دقينوس والقرن الذي كانوا معه ، وقرون بعده كثيرة، وخلفت الخلوف بعد الخلوف .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : كان أصحاب الكهف أبناء عظماء مدينتهم ، وأهل شرفهم ، فخرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد، فقال رجل منهم هو أسنهم : إني لأجد في نفسي شيئا ما أظن أن أحدا يجده ، قالوا : ماذا تجد؟ قال : أجد في نفسي أن ربي رب السموات والأرض ، وقالوا : نحن نجد، فقاموا جميعا، فقالوا " ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا " فاجتمعوا أن يدخلوا الكهف ، وعلى مدينتهم إذ ذاك جبار يقال له دقينوس ، فلبثوا في الكهف ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا رقدا .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن عبد العزيزبن أبي دواد ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، قال : كان أصحاب الكهف فتيانا ملوكا مطومين مسورين ذوي ذوائب ، وكان معهم كلب صيدهم فخرجوا في عيد لهم عظيم في زي وموكب ، وأخرجوا معهم آلهتهم التي يعبدون ، وقذف الله في قلوب الفتية الإيمان فآمنوا، وأخفى كل واحد منهم الإيمان عن صاحبه ، فقالوا في أنفسهم من غير أن يظهر إيمان بعضهم لبعض نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب بجرمهم ، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة، فجلس فيه ، ثم خرج آخر فرآه جالسا وحده ، فرجا أن يكون على مثل أمره من غير أن يظهر منه ، فجاء حتى جلس إليه ، ثم خرج الآخرون ، ، فجاءوا حتى جلسوا إليهما، فاجتمعوا ، فقال بعضهم : ما جمعكم ؟ وقال آخر: بل ما جمعكم ؟ وكل يكتم إيمانه من صاحبه مخافة على نفسه ، ثم قالوا : ليخرج منكم فتيان ، فيخلوا، فيتواثقا أن لا يفشي واحد منهما على صاحبه ، ثم يفشي كل واحد منهما لصاحبه أمره ، فإنا نرجو أن نكون على أمر واحد، فخرج فتيان منهم فتواثقا، ثم تكلما، فذكر كل واحد منهما أمره لصاحبه ، فاقبلا مستبشرين إلى أصحابهما قد اتفقا على أمر واحد، فإذا هم جميعا على الإيمان ، يى إذا كهف في الجبل قريب منهم ، فقال بعضهم لبعض : ائتوا إلى الكهف " ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا" فدخلوا الكهف ومعهم كلب صيدهم فناموا، فجعله الله علي هم رقدة واحدة، فناموا ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا، قال : وفقدهم قومهم فطلبوهم وبعثوا البرد، فعمى الله عليهم آثارهم وكهفهم ، فلما لم يقدروا عليهم كتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح : فلان ابن فلان ، وفلان ابن فلان أبناء ملوكنا، فقدناهم في عيد كذا وكذا في شهركذا وكذا في سنة كذا وكذا، في مملكة فلان ابن فلان ، ورفعوا اللوح في الخزانة، فمات ذلك الملك وغلب عليهم ملك مسلم مع المسلمين ، وجاء قرن بعد قرن ، فلبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا . وقال آخرون : بل كان مصيرهم إلى الكهف هربا من طلب سلطان كان طلبهم بسبب دعوى جناية ادعى على صاحب لهم أنه جناها.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : أخبرني إسماعيل بن شروس ، أنه سمع وهب بن منبه يقول : جاء حواري عيسى ابن مريم إلى مدينة أصحاب الكهف ، فاراد أن يدخلها ، فقيل له : إن على بابها صنما لا يدخلها أحد إلا سجد له ، فكره أن يدخلها، فاتى حماما، فكان فيه قريبا من تلك المدينة، فكان يعمل فيه يؤاجر نفسه من صاحب الحمام ، ورأى صاحب الحمام في حمامه البركة ودر عليه الرزق ، فجعل يعرض عليه الإسلام ، وجعل يسترسل إليه ، وعلقه فتية من أهل المدينة، وجعل يخبرهم خبر السماء والأرض وخبر الاخرة، حتى آمنوا به وصدقوه ، وكانوا على مثل حاله في حسن الهيئة، وكان يشترط على صاحب الحمام أن اللهيل لي لا تحول بيني وبين الصلاة إذا حضرت ، فكان على ذلك حتى جاء ابن الملك بامرأة، فدخل بها الحمام ، فعيره الحواري ، فقال : أنت ابن الملك ، وتدخل معك هذه النكداء؟ فاستحيا، فذهب فرجع مرة أخرى، فقال له مثل ذلك ، فسبه وانتهره ولم يلتفت حتى دخل ودخلت معه المرأة، فماتا في الحمام جميعا، فاتي الملك ، فقيل له : قتل صاحب الحمام ابنك ، فالتمس ، فلم يقدر عليه هربا، قال : من كان يصحبه ؟ فسموا الفتية، فالتسموا، فخرجوا من المدينة، فمروا بصاحب لهم في زرع له ، وهو على مثل أمرهم ، فذكروا أنهم التمسوا، فانطلق معهم الكلب ، حتى أواهم الليل الى الكهف ، فدخلوه ، فقالوا : نبيت ههنا اللهيلة، ثم نصبح إن شد اللهه فترون رأيكم . فضرب على آذانهم ، فخرج الملك في أصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا اللههف ، فكلما أراد رجل أن يدخل أرعب فلم يطق أحد أن يدخله ، فقال قائل أليس لو كنت قدرت عليهم قتلتهم ؟ قال : بلى، قال : فابن عليهم باب الكهف ، ودعهم فيه بموتوا عطشا وجوعا، ففعل .
قوله تعالى : " إذ أوى الفتية إلى الكهف " روي أنهم قوم من أنباء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر ، ويقال فيه دقينوس . وروي أنهم كانوا مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب ، وهم من الروم واتبعو دين عيسى . وقيل : كانوا قبل عيسى ، والله أعلم . وقال ان عباس : إن ملكا من الموك يقال له دقيانوس ظهر على مدينة من مدائن الروم يقال لها أفسوس . وقيل طرسوس وكان بعد زمن عيسى عليه السلام فأمر بعبادة الأصنام فدعا أهلها إلى عبادة الأصنام ، وكان بها سبعة أحداث يعبدون الله سراً ، فرفع خبرهم إلى الملك وخافوه فهربوا ليلاً ، ومروا براع ممع كلب فتبعهم فآووا إلى الكهف فتبعهم الملك إلى فم الغار ، فوجد أثر دخولهم ولم يد أثر خروجهم ، فدخلوا فأعمى الله أبصارهم فلم يروا شيئاً ، فقال الملك : سدوا عليهم باب الغار حتى يموتوا فيه جوعاً وعطشاً . وروى مجاهد عن ابن عباس أيضاً أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام ويذبح لها ويكفر بالله ، وقد تابعه على ذلك أهل المدينة ، فوقع للفتية علم من بعض الحواريين _ حسبما ذكر النقاش أو من مؤؤمني الأمم قبلهم ( فآمنوا بالله ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس ، فأخذوا نفوسهم بالتزام الدين وعبادة الله ، فرفع أمرهم إلى الملك وقيل له : إنهم قد فارقوا دينك واستخفوا آلهتك وكفروا بها ،فاستضرهم الملك إلى مجلسه وأمرهم باتباع دينه والذبح لآلهته ، وتوعدهم على فراق ذلك بالقتل ، فقالوا له فيا روي : " ربنا رب السماوات والأرض " إلى قوله : " وإذ اعتزلتموهم " وروي أنهم قالوا نحو هذا الكلام وليس به ، فقال لهم الملك : إنكم شابان أغمار لا عقول لكم ، وأنا لا أعجل بكم بل أستأني فاذهبوا إلى من ازلكم ودبروا رأيكم وارجعوا إلى أمري ، وضرب لهم في ذلك أجلاً ، ثم إنه سافر خلال الأجل فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم ، فقال لهم أحدهم : إني أعرف كهفاً في جبل كذا ، كان أبي يدخل فيه غنمه لنذهب فلنختف فيه حتى يفتح الله لنا ، فخرجوا فيما روي يلعبون بالصولجان والكرة ، وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم لئلا يشعر الناس بهم . وروي أنهم كانوا مثقفين فحضر عيد خرجوا إليه فركبوا في جملة الناس ، ثم أخذوا باللعب بالجولجان حتى خلصوا بذلك .وروى وهب بن منبه أن أول أمرهم إنما كان حواري لعيسى ابن مريم جاء إلى مدينة أصحاب الكهف . يريد دخولها ، فأجر نفسه من صاحب الحمام وكان يعمل فيه ، فرأى صاحب الحمام في أعماله بركة عظيمة ، فألقى إليه بكل أمره ، وعرف ذلك الرجل فتيان من المدينة فعرفهم الله تعالى فآمنوا به واتبعوه على دينه ، واشتهرت نخلطتهم به ، فأتى يوماً إلى ذلك الحمام ولد الملك بامرأة أراد الخلوة بها ، فناه ذلك الحواري فانتهى ، ثم جاء مرة أخرى فناه فشتمه ، وأمضى عزمه في دخول الحمام مع البغي ، فدخل فماتا فيه جميعاً ، فاتهم ذلك الحواري وأصحابه بقتلهما ، ففروا جميعاً حتى دخلوا الكهف . وقيل في خروجهم غير هذا . وأما الكلب فروي أنه كان كلب صيد لهم ، وروي أنهم وهجدوا في طريقهم راعياً له كلب فاتبعهم الراعي على رأيهم وذهب الكب معهم ، قاله ابن عباس . واسم الكلب حمران وقيل قطمير . وأما أسماء أهل الكهف فأعجمية ، والسند في معرفتها واه . والذي ذكره الطبري هي هذه : مكسلمينا وهو أكبرهم والمتكلم عنهم ، ومحسيميلنينا ويمليخا ، وهو الذي مضى بالورق إلى لمدينة عند بعثهم من رقدتهم ، ومرطوس وكشوطوش ودينموس ويطونس وبيرونس . قال مقاتل : وكان الكلب لمكسلمينا وكان أسنهم وصاحب غنم .
الثانية : هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال خوف الفتينة وما يلقاه الإنسان من المحنة . وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم فاراً بدينه ، وكذلك أصحابه ، وجلس في الغار حسبما تقدم في سورة ( النحل ) وقد نص الله تعالى على ذلك في (براءة ) وقد تقدم . وهجروا أوطانهم وتكروا أرضهم وديارهم وأهليهم وأولادهم وقراباتهم وإخوانهم ، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين . فسكنى الجبال ودخول الغيران ، والعزلة عن الخلق والانفراد بالخلق والانفراد بالخالق ، وجواز الفرار من الظالم هي سنة الأنبياء صلوات الله عليهم والأولياء . ويد فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم العزلة ، وفضلها جماعة العلماء لا سيما عند ظهور الفتن وفساد الناس ، وقد نص الله تعالى عليها في كتابه فقال : " فأووا إلى الكهف " [ الكهف : 15] .
قال العلماء . الاعزال عن الناس يكون مرة في الجبال والشعاب ، مرة في السواحل والرباط ، ومرة في البيوت ، وقد جاء في الخبر : ( إذا كانت الفتنة فأخف مكانك وكف لسانك ) ولم يخص موضعاً من موضع . وقد تجعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزل الشر وأهله بقلبك وعملك ، وإن كنت بين أظهرهم . وقال ابن المبارك في تفسير العزلة : أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم ، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت . وروى البغوي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهن ولا يصبر على أذاهم " وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يعن صوامع المؤمنين بيوتهم " من مراسل الحسن وغيره . وقال عقبة بن عامر لرسول اللله صلى الله عليه وسلم : ما النجاة يا رسول الله فقال : " يا عقبة أمسك عليك لسانك وليسعاك بيتك وابتك على خطيئتك " وقال صلى الله عليه وسلم " يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القصر يفر بدينه من الفتن " خرجه البخاري . وذكره علي بن سعيد عن الحسن بن واقد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا انت سنة ثمانين ومائة فقد حلت لأمتي العزبة والعزلة والترهب في رؤوس الجبال " . وذكر أيضاً علي بن سعد عن عبد بن مبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا تمن فر بدينه من شاهق إلى شاهق أو حجر إلى حجر فإذا كان ذلك لم تنل المعيشة إلا بمعصية الله فإذا كان ذلك حلت العزبة " قالوات : يا رسول الله ، كيف تحل العزبة وأنت تأمرنا بالتزويج ؟قال : " إذا كان ذلك كان فساد الرجل على يدي أبويه فإن لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدي زوجته فإن تكن له زوجة كان هلاكه على يدي ولده فإن لم يكن له ولد كان هلاكه على يدي القرابات والجيران قالوا : وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : يعيرونه بضيق المعيشة ويكلفونه ما لا يطيق فعند ذلك يورد نفسه الموارد التي يهلك فيها "
قلت : أحوال الناس في هذا الباب تختلف ، قرب رجل تكون هل قوة على سكنى الكهوف والغيران في الجبال ، وهي أرفع الأحوال لأنها الحالة التي اختارها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في بداية أمره ، ونص عليها في كتابه مخبراً عن الفتية ، فقال : " وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف " ورب رجل تكون العزلة له في بيته أخف عليه وأسهل ، وقد اعتزل رجال من أهل بدر فلزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم .ورب رجل متوسط بينهما فيكون له من القوة ما يصبر بها على مخالطة الناس وأذاهم ، فهو معهم في الظاهر ومخالف لهم في الباطن . وذكر ابن المبارك حدثنا وهيب بن الورد قال : جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال : إن الناس وقعوا فيما فيه وقعوا وقد حدثت نفسي ألا أخالطهم . فقال : لا تفعل إنه لا بد لك من الناس ، ولا بد لهم منك ، ولك إليهم تحوائج ، ولهم إليك حوائج ، ولكن كن فيهم أصم سميعاً ، أعمى بصيراً ، سكوتاً نطوقاً ، وقد قيل : إن كل موضع بيعد عن الناس فهو داخل في معنى الجبال والشعاب ، مثل الاعتكاف في المساجد ، ولزوم السواحل للرباط والذكر ن ولزوم البيوت فراراً عن شرور الناس . وإنما جاءت الأحاديث بذكر الشعاب والجبال واتباع الغنم _ والله أعلم _ لأن ذلك هو الأغلب في المواضع التي يعتزل فيها ، فكل موضع بيعد عن النسا فهو داخل في معناه ، كما ذكرنا ، والله الموفق وبه العصمة . وروى عقبة بن عامر قال : سمعت رسول اله صلى الله عليه وسلم يقول : " يعجب ربك من راعي غنم في رأس شظية الجبل يؤذن بالصلاة ويصلي فيقول الله عز وجل انظروا إلى عبدي يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة " خرجه النسائي .
الثالثة : قوله تعالى : " وهيئ لنا من أمرنا رشدا " لما فروا ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء ولجأوا إلى الله تعالى فقالوا : " ربنا آتنا من لدنك رحمة " أي مغفرة ورزقاً " وهيئ لنا من أمرنا رشدا " توفيقاً للرشاد . وقال ابن عباس : مخرجاً من الغار في سلامة وقيل صواباً . ومن هذا المعنى أنه عليه السلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة .
هذا إخبار من الله تعالى عن قصة أصحاب الكهف على سبيل الإجمال والاختصار, ثم بسطها بعد ذلك فقال: "أم حسبت" يعني يا محمد "أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً" أي ليس أمرهم عجيباً في قدرتنا وسلطاننا فإن خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من الايات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى, وأنه على ما يشاء قادر ولا يعجزه شيء أعجب من أخبار أصحاب الكهف, كما قال ابن جريج عن مجاهد "أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً" يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك.
وقال العوفي عن ابن عباس "أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً" يقول: الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم, وقال محمد بن إسحاق : ما أظهرت من حججي على العباد أعجب من شأن أصحاب الكهف والرقيم, وأما الكهف فهو الغار في الجبل, وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون, وأما الرقيم فقال العوفي عن ابن عباس : هو واد قريب من أيلة, وكذا قال عطية العوفي وقتادة . وقال الضحاك : أما الكهف فهو غار في الوادي, والرقيم اسم الوادي, وقال مجاهد : الرقيم كان بنيانهم, ويقول بعضهم: هو الوادي الذي فيه كهفهم.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله الرقيم: كان يزعم كعب أنها القرية, وقال ابن جريج عن ابن عباس : الرقيم الجبل الذي فيه الكهف, وقال ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: اسم ذلك الجبل بنجلوس, وقال ابن جريج : أخبرني وهب بن سليمان عن شعيب الجبائي أن اسم جبل الكهف بنجلوس, واسم الكهف حيزم, والكلب حمران. وقال عبد الرزاق : أنبأنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: القرآن أعلمه إلا حناناً والأواه والرقيم. وقال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة يقول: قال ابن عباس : ما أدري ما الرقيم ؟ كتاب أم بنيان. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : الرقيم الكتاب. وقال سعيد بن جبير : الرقيم لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف, ثم وضعوه على باب الكهف.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الرقيم الكتاب, ثم قرأ: كتاب مرقوم. وهذا هو الظاهر من الاية, وهو اختيار ابن جرير , قال: الرقيم فعيل بمعنى مرقوم, كما يقال للمقتول قتيل, وللمجروح جريح, والله أعلم. وقوله: " إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا " يخبر تعالى عن أولئك الفتية الذين فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه فهربوا منهم فلجأوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم, فقالوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم "ربنا آتنا من لدنك رحمة" أي هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا " وهيئ لنا من أمرنا رشدا " أي وقدر لنا من أمرنا هذا رشداً أي اجعل عاقبتنا رشداً, كما جاء في الحديث "وما قضيت لنا من قضاء فاجعل عاقبته رشداً" وفي المسند من حديث بسر بن أرطاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو "اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها, وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الاخرة".
وقوله: "فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً" أي ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف فناموا سنين كثيرة, "ثم بعثناهم" أي من رقدتهم تلك, وخرج أحدهم بدراهم معه ليشتري لهم بها طعاماً يأكلونه كما سيأتي بيانه وتفصيله, ولهذا قال: "ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين" أي المختلفين فيهم "أحصى لما لبثوا أمداً" قيل: عدداً, وقيل: غاية, فإن الأمد الغاية, كقوله:
سبق الجواد إذا استولى على الأمد
و 10- "إذ أوى الفتية" ظرف لحسبت أو لفعل مقدر، وهو اذكر: أي صاروا إليه وجعلوه مأواهم، والفتية هم أصحاب الكهف، والكهف هو الغار الواسع في الجبل. فإن كان صغيراً سمي غاراً، والرقيم قال كعب والسدي: إنه اسم القرية التي خرج منها أصحاب الكهف. وقال سعيد بن جبير ومجاهد: إنه لوح من حجارة أو رصاص رقمت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف. قال الفراء: ويروى أنه إنما سمي رقيماً لأن أسماءهم كانت مرقومة فيه. والرقم الكتابة. وروي مثل ذلك عن ابن عباس. ومنه قول العجاج في أرجوزة له:
ومستقري المصحف الرقيم
وقيل إن الرقيم اسم كلبهم، وقيل هو اسم الوادي الذي كانوا فيه، وقيل اسم الجبل الذي فيه الغار. قال الزجاج: أعلم الله سبحانه أن قصة أصحاب الكهف ليست بعجيبة من آيات الله، لأن خلق السموات والأرض وما بينهما أعجب من قصة أصحاب الكهف "فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة" أي من عندك، ومن ابتدائية متعلقة بآتنا، أو لمحذوف وقع حالاً، والتنوين في رحمة إما للتعظيم أو للتنويع، وتقديم من لدنك للاختصاص: أي رحمة مختصة بأنها من خزائن رحمتك، وهي المغفرة في الآخرة والأمن من الأعداء، والرزق في الدنيا "وهيئ لنا من أمرنا رشداً" أي أصلح لنا، من قولك هيأت الأمر فتهيأ، والمراد بأمرهم الأمر الذي هم عليه وهو مفارقتهم للكفار، والرشد نقيض الضلال، ومن للابتداء، ويجوز أن تكون للتجريد كما في قولك رأيت منك رشداً: وتقديم المجرورين للاهتمام بهما.
10 - " إذ أوى الفتية إلى الكهف " ، أي صاروا إليه ، واختلفوا في سبب مصيرهم إلى الكهف :
فقال محمد بن إسحاق بن يسار : مرج أهل الإنجيل ، وعظمت فيهم الخطايا ، وطغت فيه الملوك حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت ، وفيهم بقايا على دين المسيح متمسكين بعبادة الله وتوحيده ، فكان ممن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يقال له ( دقيانوس ) عبد الأصنام وذبح للطواغيت ، وقتل من خالفه ، وكان ينزل قرى الروم ، ولا يترك في قرية نزلها أحداً إلا فتنة حتى يعبد الأصنام ويذبح للطواغيت أو قتله ، حتى نزل مدينة أصحاب الكهف ، وهي ( أفسوس ) فلما نزلها كبر على أهل الإيمان ، فاستخفوا منه ، وهربوا في كل وجه ، وكان ( دقيانوس ) حين قدمها أمر أن يتبع أهل الإيمان فيجمعوا له ، واتخذ شرطاً من الكفار من أهلها ، يتبعون أهل الإيمان في أماكنهم فيخرجونهم إلى ( دقيانوس ) فيخيرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان والذبح للطواغيت ، فمنهم من يرغب في الحياة ، ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فيقتل ، فلما رأى ذلك أهل الشدة في الإيمان بالله جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل ، فيقتلون ويقطعون ثم يربط ما قطع من أجسامهم على سور المدينة من نواحيها وعلى كل باب من أبوابها حتى عظمت الفتنة ، فلما رأى ذلك الفتية حزنوا حزناً شديداً ، فقاموا واشتغلوا بالصلاة والصيام والصدقة والتسبيح والدعاء ، وكانوا من أشراف الروم ، وكانوا ثمانية نفر، بكوا وتضرعوا إلى الله وجعلوا يقولون : ربنا رب السموات والأرض ، لن ندعو من دونه إلهاً ، لقد قلنا إذاً شططاً إن عبدنا غيره ، اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة ، وارفع عنهم هذا البلاء حتى يعلنوا عبادتك ، فبينما هم على مثل ذلك ، وقد دخلوا في مصلى لهم أدركهم الشرط فوجدوهم وهم سجود على وجوههم ، يبكون ويتضرعون إلى الله ، فقالوا لهم : ما خلفكم عن أمر الملك ؟ انطلقوا إليه ، ثم خرجوا فرفعوا أمرهم إلى ( دقيانوس ) فقالوا : تجمع الناس للذبح لآلهتك وهؤلاء الفتية من أهل بيتك يستهزؤون بك ويعصون أمرك ! فلما سمع بذلك بعث إليهم ، فأتى بهم تفيض أعينهم من الدمع معفرة وجوههم بالتراب ، فقال لهم : ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا التي تعبد في الأرض وتجعلوا أنفسكم أسوة لسادات من أهل مدينتكم ؟ اختاروا : إما أ تذبحوا لآلهتنا ، وإما أن أقتلكم . فقال مكسلمينا ، وهو أكبرهم : إن لنا إلهاً ملأ السموات والأرض عظمة ، لن ندعو من دونه إلهاً أبداً ، له الحمد والتكبير والتسبيح من أنفسنا خالصاً أبداً ، إياه نعبد وإياه نسأل النجاة والخير ، فأما الطواغيت فلن نعبدها أبداً ، فاصنع بنا ما بدا لك ، وقال أصحاب مكسلمينا لدقيانوس مثل ما قال مكسلمينا ، فلما قالوا ذلك أمر فنزع عنهم لبوساً كان عليهم من لبوس عظمائهم ثم قال : سأفرغ لكم فأنجز لكم ما أوعدتكم من العقوبة ، وما يمنعني أن أعجل ذلك لكم إلا أني أراكم شباناً حديثة أسنانكم ، فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلاً تذكرون فيه وتراجعون عقولكم ، ثم أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة فنزعت عنهم ، ثم أمر بهم فأخرجوا من عنده .
وانطلق دقيانوس إلى مدينة سوى مدينتهم قريباً منهم لبعض أموره ، فلما رأى الفتية خروجه بادروا قدومه ، وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكرهم [ وأن يعذبهم ] فأتمروا بينهم أن يأخذ كل رجل منهم نفقة من بيت أبيه فيتصدقوا منها ،ويتزودوا بما بقي ، ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له بخلوس ، فيمكثون فيه ويعبدون الله حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فقاموا بين يديه فيصنع بهم ما شاء ، فلما قال ذلك بعضهم لبعض عمد كل فتى منهم إلى بيت أبيه فأخذ نفقة فتصدق منها ، ثم انطلقوا بما بقي معهم واتبعهم كلب كان لهم حتى أتوا ذلك الكهف ، فلبثوا فيه .
قال كعب الأحبار : مروا بكلب فتبعهم فطردوه ففعل ذلك مراراً فقال لهم الكلب : يا قوم ما تريدون مني ؟ لا تخشون جانبي، أنا أحب أحباب الله ، فناموا حتى أحرسكم .
وقال ابن عباس : هربوا ليلاً من دقيانوس ، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم ، وتبعه كلبه ، فخرجوا من البلد إلى الكهف وهو قريب من البلد .
قال ابن إسحاق : فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتكبير والتحميد ابتغاء وجه الله ، وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم يقال له : يمليخا فكان يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سراً ، وكان من أحملهم وأجلدهم ، وكان إذا دخل المدينة يضع ثياباً كانت عليه حساناً ويأخذ ثياباً كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها ، ثم يأخذ ورقة فينطلق إلى المدينة فيشتري لهم طعاماً وشراباً ، ويتجسس لهم الخبر هل ذكر هو وأصحابه بشيء ، ثم يرجع إلى أصحابه فلبثوا بذلك ما لبثوا ، ثم قدم دقيانوس المدينة فأمر عظماء أهلها فذبحوا للطواغيت ، ففزع من ذلك أهل الإيمان ، وكان يمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل ، وأخبرهم أن الجبار قد دخل المدينة ، وأنهم قد ذكروا والتمسوا مع عظماء المدينة ، ففزعوا ووقعوا سجوداً يدعون الله ويتضرعون إليه ويتعوذون من الفتنة ، ثم إن يمليخا قال لهم : يا أخوتاه ارفعوا رؤوسكم واطعموا وتوكلوا على ربكم ، فرفعوا رؤوسهم وأعينهم تفيض من الدمع ، فطعموا ، وذلك غروب الشمس ، ثم جلسوا يتحدثون ويتدارسون ويذكر بعضهم بعضاً ، فبينما هم على ذلك ضرب الله على آذانهم النوم في الكهف ، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف ، فأصابه ما أصابهم ، وهم مؤمنون موقنون ونفقتهم عند رؤوسهم .
فلما كان من الغد فقدهم دقيانوس فالتمسهم فلم يجدهم ، فقال لبعضهم : لقد ساءني شأن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا ، لقد كانوا ظنوا أن بي غضباً عليهم لجهلهم ما جهلوا من أمري ،ما كنت لأحمل عليهم إن هم تابوا وعبدوا آلهتي ، فقال عظما ء المدينة : ما أنت بحقيق أن ترحم قوماً فجرة مردة عصاة قد كنت أجلت لهم أجلاً ولو شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل ،ولكنهم لم يتوبوا ،فلما قالوا ذلك غضب غضباً شديداً ، ثم أرسل إلى آبائهم فأتى بهم فسألهم عنهم ،فقال : أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني ، [ ووعدهم بالقتل ] ، فقالوا له : أما نحن فلم نعصك ، فلم تقتلنا بقوم مردة قد ذهبوا بأموالنا ، فأهلكوها في أسواق المدينة ، ثم انطلقوا وارتقوا إلى جبل يدعى بخلوس ؟ فلما قالوا له ذلك خلى سبيلهم ، وجعل لا يدري ما يصنع بالفتية ، فألقى الله في نفسه أن يأمر بالكهف فيسد عليهم وأراد الله أن يكرمهم ويجعلهم آية لأمة تستخلف من بعدهم ، وأن يبين لهم أن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ،فأمر دقيانوس بالكهف أن يسد عليهم ، وقال : دعوهم كماهم في الكهف يموتون جوعاً وعطشاً ويكون كهفهم الذي اختاروا قبراً لهم ، وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم ، وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم ، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف قد غشيهم ما غشيهم ، يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال .
ثم إن رجلين مؤمنين في بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما اسم أحدهما ( يندروس ) واسم آخر ( روناس ) ، ائتمرا أن يكتبا شأن الفتية وأنسابهم وأسماءهم وخبرهم في لوح من رصاص ويجعلاهما في تابوت من نحاس ، ويجعلا التابوت في البنيان ، وقالا : لعل الله أن يظهر على هؤلاء الفتية قوماً مؤمنين قبل يوم القيامة ، فيعلم من فتح عنهم حين يقرأ هذا الكتاب [ خبرهم ] ، ففعلا وبنيا عليه فبقي ( دقيانوس ) ما بقي ، ثم مات هو وقومه وقرون بعده كثيرة وخلفت الملوك بعد الملوك .
وقال عبيد بن عمير : كان أصحاب الكهف فتياناً مطوقين مسورين ذوي ذوائب ، وكان معهم كلب صيدهم فخرجوا في عيد لهم عظيم في زي عظيم وموكب وأخرجوا معهم آلهتهم التي يعبدونها ، وقذف الله في قلوب الفتية الإيمان ، وكان أحدهم وزير الملك ، فآمنوا وأخفى كل واحد منهم إيمانه فقالوا في أنفسهم : نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم ، لا يصيبنا عقاب بجرمهم ، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة ، فجلس فيه ،ثم خرج آخر فرآه جالساً وحده فرجا أن يكون على مثل أمره من غير أن يظهر ذلك ، ثم خرج الآخر فاجتمعوا إلى مكان ، فقال بعضهم لبعض : ما جمعكم ؟ وكل واحد يكتم صاحبه إيمانه مخافةً على نفسه . ثم قالوا : ليخرج كل فتى فيخلو بصاحبه ثم يفشي كل واحد سره إلى صاحبه ، ففعلوا فإذا هم جميعاً على الإيمان ، وإذا كهف في الجبل قريب منهم فقال بعضهم لبعض : فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ، فدخلوا الكهف ومعهم كلب صيدهم فناموا ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً ، وفقدهم قومهم فطلبوهم فعمى الله عليهم آثارهم وكهفهم ، فكتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح : فلان وفلان وفلان أبناء ملوكنا فقدناهم في شهر كذا في سنة كذا في مملكة فلان بن فلان ووضعوا اللوح في خزانة الملك ، وقالوا : ليكونن لهذا شأن ومات ذلك الملك ، وجاء قرن بعد قرن .
وقال وهب بن منبه : جاء حواري عيسى عليه السلام إلى مدينة أصحاب الكهف فأراد أن يدخلها فقيل له : إن على بابها صنماً لا يدخلها أحد إلا سجد له فكره أن يدخلها ،فأتى حماما ً قريباً من المدينة فكان يؤاجر نفسه من الحمامي ، ويعمل فيه ورأى صاحب الحمامة في حمامه البركة وعلقه فتية من أهل المدينة فجعل يخبرهم خبر السماء والأرض وخبر الآخرة حتى آمنوا وصدقوه ، وكان شرط على صاحب الحمام أن الليل لي لا يحول بيني وبينه ولا بين الصلاة أحد ، وكان على ذلك حتى أتى ابن الملك بامرأة فدخل بها الحمام فعيره الحواري ، وقال : أنت ابن الملك وتدخل مع هذه ؟ فاستحيا وذهب فرجع مرة أخرى ، فقال له مثل ذلك فسبه وانتهره ولم يلتفت إلى ذلك حتى دخلا فماتا في الحمام ، وأتى الملك فقيل له : قتل صاحب الحمام ابنك فالتمس فلم يقدر عليه وهرب ، فقال : من كان يصاحبه ؟ فسموا الفتية فالتمسوا فخرجوا من المدينة فمروا بصاحب لهم على مثل إيمانهم فانطلق معهم ومعه كلب حتى آواهم الليل إلى الكهف فدخلوه ، وقالوا : [ نلبث هاهنا إلى الليل ] ثم نصبح إن شاء الله تعالى ، فترون رأيكم فضرب الله على آذانهم ، فخرج الملك في أصحابه يبتغونهم حتى وجدوهم ، فدخلوا الكهف ،فلما أراد رجل منهم دخوله أرعب فلم يطق أحد أن يدخله ، فقال قائل منهم : أليس لو قدرت عليهم قتلتهم ؟ قال : بلى ، قال : فابن عليهم باب الكهف [ واتركهم فيه يموتون جوعاً وعطشاً . ففعل .
قال وهب : فعبر زمان بعد زمان ] بعدما سد عليهم باب الكهف ، ثم إن راعياً أدركه المطر عند الكهف فقال لو فتحت هذا الكهف وأدخلت غنمي فيه من المطر لكان حسنا ً ، فلم يزل يعالجه حتى فتح ورد الله عليهم أرواحهم من الغد حين أصبحوا .
وقال محمد بن إسحاق : ثم ملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له : ( بيدروس ) ، فلما ملك بقي في ملكه ثمانياً وستين سنة فتحزب الناس في ملكه فكانوا أحزاباً ، منهم من يؤمن بالله ، ويعلم أن الساعة حق ، ومنهم من يكذب بها، فكبر ذلك على الملك الصالح فبكى وتضرع إلى الله وحزن حزناً شديداً لما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ،ويقولون لا حياة إلا حياة الدنيا ، وإنما تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد ، فجعل ( بيدروس ) يرسل إلى من يظن فيه خيراً وأنهم أئمة في الخلق ، فجعلوا يكذبون بالساعة حتى كادوا أن يحولوا الناس عن الحق وملة الحواريين ، فلما رأى ذلك الملك الصالح دخل بيته وأغلقه عليه ، ولبس مسحاً وجعل تحته رماداً فجلس عليه ، فدأب ليله ونهاره زماناً يتضرع إلى الله تعالى ويبكي ، ويقول : أي رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث إليهم آية تبين لهم [ بطلان ما هم عليه ] ، ثم إن الرحمن الرحيم الذي يكره هلكة العباد أراد أن يظهر الفتية أصحاب الكهف ويبين للناس شأنهم ويجعلهم آية وحجة عليهم ليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها ، ويستجيب لعبده الصالح بيدروس ويتم نعمته عليه ،وأن يجمع من كان تبدد من المؤمنين فألقى الله في نفس رجل من أهل ذلك البلد الذي فيه الكهف ، وكان اسم ذلك الرجل ( أولياس ) أن يهدم ذلك البنيان الذي على فم الكهف فيبني به حظيرة لغنمه فاستأجر غلامين فجعلا ينزعان تلك الحجارة ويبنيان تلك الحظيرة ، حتى نزعا ما على فم الكهف وفتحا باب الكهف وحجبهم الله عن الناس بالرعب ، فلما فتحا باب الكهف أذن الله ذو القدرة والسلطان محيي الموتى للفتية أن يجلسوا بين ظهراني الكهف ،فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم طيبة أنفسهم فسلم بعضهم على بعض ، فكأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون فيها إذا أصبحوا من ليلتهم ، ثم قاموا إلى الصلاة فصلوا كالذي كانوا يفعلون لا يرى في وجوههم ولا ألوانهم شيء ينكرونه كهيئتهم حين رقدوا ، وهم يرون دقيانوس في طلبهم فلما قضوا صلاتهم قالوا ليمليخا صاحب نفقاتهم : أنبئنا ما الذي قال الناس في شأننا عشية أمس عند هذا الجبار ؟ وهو يظنون أنهم رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون ، وقد تخيل إليهم أنهم قد ناموا أطول مما كانوا ينامون ، حتى يتساءلوا بينهم فقال بعضهم لبعض : كم لبثتم نياماً ؟ قالوا : لبثنا يوماً أو بعض يوم ، ثم قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم ، وكل ذلك في أنفسهم يسير ، فقال لهم يمليخا : التمستم في المدينة فلم توجدوا ، وهو يريد أن يؤتى بكم اليوم ،فتذبحون للطواغيت أو يقتلكم فما شاء الله بعد ذلك فعل ، فقال لهم مكسلمينا : يا اخوتاه اعلموا أنكم ملاقو الله فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم عدو الله . ثم قالوا ليمليخا : انطلق إلى المدينة فتسمع ما يقال علينا بها ، وما الذي يذكر عند دقيانوس ، وتلطف ولا تشعرن بك أحداً ، وابتغ لنا طعاما ً فائتنا به ، وزدنا على الطعام الذي جئنا به ، فقد أصبحنا جياعاً ، ففعل يمليخا كما كان يفعل ووضع ثيابه وأخذ الثياب التي يتنكر فيها وأخذ ورقاً [ من نفقتهم التي كانت معهم والتي ضربت بطابع دقيانوس ، فكانت كخفاف الربع ، فانطلق يمليخا خارجاً ] فلما مر بباب الكهف رأى الحجارة منزوعة عن باب الكهف فعجب منها ثم مر ولم يبال بها حتى أتى باب المدينة مستخفياً فصد عن الطريق تخوفاً أن يراه أحد من أهلها فيعرفه ولا يشعر أن دقيانوس وأهله قد هلكوا قبل ذلك بثلثمائة سنة ، فلما أتى يمليخا باب المدينة رفع بصره فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان إذا كان الإيمان ظاهراً فيها ، فلما رآها عجب وجعل ينظر إليها مستخفياً وجعل ينظر يميناً وشمالاً ، ثم ترك ذلك الباب فتحول إلى باب آخر من أبوابها فرأى مثل ذلك فجعل يخيل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرف ، ورأى ناساً كثيراً محدثين لم يكن يراهم قبل ذلك فجعل يمشي ويتعجب ويخيل إليه أنه حيران ، ثم رجع إلى الباب الذي أتى منه فجعل يتعجب بينه وبين نفسه ويقول : يا ليت شعري ما هذا ؟ أما عشية أمس كان المسلمون يخفون هذه العلامة ويستخفون بها ، وأما اليوم فإنها ظاهرة ، لعلي نائم ؟ ثم يرى أنه ليس بنائم ، فأخذ كساءه فجعله على رأسه ثم دخل المدينة فجعل يمشي بين ظهري سوقها فيسمع ناساً يحلفون باسم عيسى ابن مريم فزاده فرقاً ورأى أنه حيران ، فقام مسنداً ظهره إلى جدار من جدر المدينة ، يقول في نفسه : والله ما أدري ما هذا أما عشية أمس فليس على ظهر الأرض إنسان يذكر عيسى ابن مريم إلا قتل ، وأما الغداة فاسمعهم وكل إنسان يذكر اسم عيسى ولا يخاف أحداً ، ثم قال في نفسه : لعل هذه ليست بالمدينة التي أعرف ، والله ما أعرف مدينة قرب مدينتنا ، فقام كالحيران ثم لقي فتى فقال له : ما اسم هذه المدينة يا فتى ؟ قال : اسمها ( أفسوس ) ، فقال في نفسه : لعل بي مساً أو أمراً أذهب عقلي ، والله يحق لي أن أسرع الخروج منها قبل أن أخزى فيها أو يصيبني شر فأهلك ثم إنه أفاق فقال : والله لو عجلت الخروج من المدينة قبل أن يفطن بي لكان أيسر بي ، فدنا من الذين يبيعون الطعام فأخرج الورق التي كانت معه فأعطاها رجلاً منهم ، فقال : بعني بهذه الورق طعاماً فأخذها الرجل فنظر إلى ضرب الورق ونقشها فعجب منها ثم طرحها إلى رجل من أصحابه فنظر إليها ثم جعلوا يتطارحونها بينهم من رجل إلى رجل يتعجبون منها ، ثم جعلوا يتشاورون بينهم ويقول بعضهم لبعض : إن هذا أصاب كنزاً خبيئاً في الأرض منذ زمان ودهر طويل فلما رآهم يمليخا يتشاورون من أجله فرق فرقاً شديداً ، وجعل يرتعد ويظن أنهم قد فطنوا به وعرفوه ، وأنهم إنما يريدون إن يذهبوا به إلى ملكهم دقيانوس ، وجعل أناس آخرون يأتونه فيتعرفونه [ فلا يعرفونه ] ، فقال لهم وهو شديد الفرق منهم : افضلوا علي قد أخذتم ورقي ، فأمسكوها وأما طعامكم فلا حاجة لي به ، فقالوا له : من أنت يا فتى ، وما شأنك ؟ والله لقد جئت كنزاً من كنوز الأولين ، وأنت تريد أن تخفيه عنا ، فانطلق معنا وأرنا وشاركنا فيه . نخف عليك ما وجدت ، فإنك إن لم تفعل نأت بك إلى السلطان فنسلمك إليه فيقتلك ، فلما سمع قولهم قال في نفسه : قد وقعت في كل شيء كنت أحذر منه ، فقالوا : يا فتى إنك والله لا تستطيع أن تكتم ما وجدت ،فجعل يمليخا لا يدري ما يقول لهم وما يرجع إليهم ، وفرق حتى ما [ وجد ما ] يخبر إليهم شيئاً ، فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه فطرحوه في عنقه ، ثم جعلوا يقودونه في سكك المدينة [ صغيرهم وكبيرهم ] حتى سمع به من فيها [ فسألوه : ما الخبر ؟ ] ، فقيل : هذا رجل عنده كنز ، فاجتمع إليه أهل المدينة صغيرهم وكبيرهم فجعلوا ينظرون إليه ، ويقولون : والله ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة ، وما رأيناه فيها قط وما نعرفه قط ، فجعل يمليخا لا يدري ما يقول لهم ، فلما اجتمع إليه أهل المدينة فرق فسكت فلم يتكلم ، وكان مستيقناً أن أباه وإخوته بالمدينة ، وأن حسبه ونسبه من أهل المدينة من عظماء أهلها وأنهم سيأتونه إذا سمعوا به فبينا هو قائم كالحيران ينتظر متى يأتيه بعض أهله فيخلصه من أيديهم إذ اختطفوه وانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها اللذين يدبران أمراها ، وهما رجلان صالحان اسم أحدهما ( أريوس ) واسم الآخر ( طنطيوس ) ، فلما انطلق به إليهما ظن يمليخا أنه ينطلق به إلى دقيانوس الجبار ، فجعل يلتفت يميناً وشمالاً ، وجعل الناس يسخرون منه كما يسخرون من المجنون ، وجعل يمليخا يبكي ثم رفع رأسه إلى السماء فقال في نفسه : اللهم إله السماء وإله الأرض أفرغ اليوم علي صبراً وأولج معي روحاً منك تؤيدني به عند هذا الجبار ، وجعل يبكي ويقول في نفسه : فرق بيني وبين إخوتي يا ليتهم يعلمون ما لقيت ولو أنهم يعلمون فيأتوني فنقوم جميعاً بين يدي هذا الجبار ، فإنا كنا تواثقنا لنكونن معاً ، لا نكفر بالله ولا نشرك به شيئاً ، فرق بيني وبينهم فلن يروني ولن أراهم أبداً ، وكنا تواثقنا أن لا نفترق في حياة ولا موت أبداً ، يحدث به نفسه يمليخا ، فيما أخبر أصحابه حين رجع إليهم ، حتى انتهى إلى الرجلين الصالحين ( أريوس ) و ( طنطيوس ) فلما رأى يمليخا أنه لا يذهب به إلى دقيانوس أفاق وذهب عنه البكاء ، فأخذ أريوس [ وطنطيوس ] الورق فنظرا إليها وعجبا منها ، ثم قال له أحدهما : أين الكنز الذي وجدت يا فتى ؟ فقال يمليخا : ما وجدت كنزاً ولكن هذا ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها ، ولكن و الله ما أدري ما شأني وما أقول لكم ، فقال أحدهم : فمن أنت ؟ فقال يمليخا : أما أنا فكنت أرى أني من أهل هذه المدينة ، فقالوا : ومن أبوك ومن يعرفك فيها ، فأنبأهم باسم أبيه ، فلم يجدوا أحداً يعرفه ولا أباه ، فقال له أحدهما : أنت رجل كذاب لا تنبئنا بالحق ، فلم يدر يمليخا ما يقول لهم ، غير أنه نكس رأسه [ وأطرق بصره] إلى الأرض ، فقال بعض من حوله : هذا رجل مجنون ، وقال بعضهم : ليس بمجنون ولكنه يحمق نفسه عمداً لكي ينفلت منكم ، فقال له أحدها ونظر إليه نظراً شديداً : أتظن أنا نرسلك ونصدقك بأن هذا مال أبيك ونقش هذا الورق وضربها أكثر من ثلثمائة سنة ، وإنما أنت غلام شاب أتظن أنك تأفكنا وتسخر بنا ونحن شمط كما ترى ، وحولك سراة أهل المدينة وولاة أمرها ، وخزائن هذه البلدة بأيدينا ، وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار ، وإني لأظنني سآمر بك فتعذب عذاباً شديداً ، ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدته . فلما قال ذلك قال لهم يمليخا : أنبئوني عن شيء أسألكم عنه فإن فعلتم صدقتكم عما عندي ، فالوا : سل لا نكتمك شيئاً ، قال لهم : ما فعل الملك دقيانوس ؟ قالوا : لا نعرف اليوم على وجه الأرض ملكاً يسمى دقيانوس ، ولم يكن إلا ملك هلك منذ زمان ودهر طويل وهلكت بعده قرون كثيرة ، فقال يمليخا : إني إذاً لحيران وما يصدقني أحد من الناس بما أقول ، لقد كنا فتية [ على دين واحد وهو الإسلام ] وإن الملك أكرهنا على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمس فنمنا ، فلما انتبهنا خرجت لأشتري لهم طعاماً وأتجسس الأخبار فإذا أنا كما ترون ، فانطلقوا معي إلى الكهف الذي في جبل بنجلوس أريكم أصحابي ، فلما سمع أريوس ما يقول يمليخا ، قال : يا قوم لعل هذه آية من آيات الله جعلها الله لكم على يدي هذا الفتى ،فانطلقوا بنا معه يرينا أصحابه ، فانطلق معه أريوس و أسطيوس وانطلق معهم أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم نحو أصحاب الكهف لينظروا إليهم ، ولما رأى الفتية أصحاب الكهف يمليخا قد احتبس عنهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتي به ظنوا أنه قد أخذ فذهب به إلى ملكهم دقيانوس ، فبينما هم يظنون ذلك ويتخوفونه إذ سمعوا الأصوات وجلب الخيل مصعدة نحوهم ، فظنوا أنهم رسل الجبار دقيانوس بعث إليهم ليؤتى لهم ، فقاموا إلى الصلاة وسلم بعضهم على بعض ، وأوصى بعضهم بعضاً ، وقالوا : انطلقوا بنا نأت أخانا يمليخا فإنه الآن بين يدي الجبار ينتظر متى نأتيه ، فبينما هم يقولون ذلك وهم جلوس بين ظهري الكهف لم يروا إلا أريوس وأصحابه وقوفاً على باب الكهف . وسبقهم يمليخا فدخل عليهم وهو بيكي فلما رأوه يبكي بكوا معه ، ثم سألوه عن شأنه فأخبرهم ، وقص عليهم النبأ كله ، فعرفوا عند ذلك أنهم كانوا نياماً بأمر الله ذلك الزمان كله بأمر الله ، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للنا س وتصديقاً للبعث ، وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها ، ثم دخل على أثر يمليخا أريوس فرأى تابوتاً من نحاس مختوماً بخاتم من فضة فقام بباب الكهف ثم دعا رجلاً من عظماء أهل المدينة ففتح التابوت عندهم ، فوجدوا فيه لوحين من رصاص مكتوباً فيهما : أن مكسلمينا ، و مخشلمينا ، ويمليخا ، ومرطونس ، و كشطونس ، ويبرونس ، وديموس ، وبطيوس ، وحالوش كانوا فتية هربوا من مهلكهم دقيانوس الجبار مخافة أن يفتهم عن دينهم فدخلوا هذا الكهف ، فلما أخبر بمكانهم أمر بالكهف فسد عليهم بالحجارة وإنا كتبنا شأنهم وخبرهم ليعلمه من بعدهم إن عثر عليهم فلما قرؤوه وعجبوا ، وحمدوا الله الذي أراهم آية البعث فيهم ، ثم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه ثم دخلوا على الفتية إلى الكهف فوجدوهم جلوساً بين ظهرانيهم مشرقة وجوههم لم تبل ثيابهم ، فخر أريوس وأصحابه سجوداً ، وحمدوا الله الذي أراهم آية من آياته ، ثم كلم بعضهم بعضاً وأنبأهم الفتية عن الذي لقوا من ملكهم دقيانوس [ من إكراههم على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت وإخفاء إيمانهم عنه وهربهم إلى الكهف ] ، ثم إن أريوس وأصحابه بعثوا بريداً إلى ملكهم الصالح بيدروس أن عجل إلينا لعلك تنظر إلى آية من آيات الله جعلها الله في ملكك ، وجعلها آية للعالمين لتكون لهم نوراً وضياءً وتصديقاً للبعث ، فاعجل إلى فتية بعثهم الله عز وجل ، وقد كان توفاهم منذ أكثر من ثلثمائة سنة ، فلما أتى الملك الخبر رجع إليه عقله وذهب همه فقال : أحمدك الله رب السموات والأرض ، وأعبدك ، وأسبح لك ، تطولت علي ورحمتنى فلم تطفئ النور الذي كنت جعلته لآبائي للعبد الصالح اسطنطينوس الملك ، فلما نبأ به أهل المدينة ركبوا إليه وساروا معه حتى أتوا مدينة أفسوس ، فتلقاهم أهل المدينة وساروا معه حتى صعدوا نحو الكهف ، فلما رأى الفتية بيدروس فرحوا به وخروا سجداً على وجوههم ، وقام بيدروس فاعتنقهم وبكى ، وهم جلوس بين يديه على الأرض يسبحون الله ويحمدونه ، ثم قال الفتية لبيدروس : نستودعك الله [ إيمانك وخواتيم أعمالك ] والسلام عليك ورحمة الله ، حفظك الله وحفظ ملكك ، ونعيذ بالله من شر الإنس والجن . فبينما الملك قائم إذ رجعوا إلى مضاجعهم فناموا وتوفى الله تعالى أنفسهم ، وقام الملك إليهم فجعل ثيابهم عليهم وأمر أن يجعل كل رجل منهم في تابوت من ذهب فلما أمسى ونام أتوه في المنام ، فقالوا له : إننا لم نخلق من ذهب ولا من فضة ولكنا خلقنا من تراب وإلى التراب نصير فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله منه ، فأمر الملك حينئذ بتابوت من ساج فجعلوا فيه وحجبهم الله حين خرجوا من عندهم بالرعب فلم يقدر أحد على أن يدخل عليهم فأمر الملك فجعل على باب الكهف مسجداً يصلى فيه وجعل لهم عيداً عظيماً وأمر أن يؤتى كل سنة .
وقيل : إن يمليخا لما حمل إلى الملك الصالح قال له الملك : من أنت قال : أنا رجل من أهل هذه المدينة ، وذكر أنه خرج أمس أو منذ أيام ، وذكر منزله وأقواماً لم يعرفهم أحد ، وكان الملك قد سمع أن فتية فقدوا في الزمن الأول وأن أسماءهم مكتوبة على اللوح بالخزانة ، فدعا باللوح وقد نظر في أسمائهم فإذا هو من أولئك القوم ، وذكر أسماء الآخرين فقال يمليخا هم أصحابي ، فلما سمع الملك ذلك ركب ومن معه من القوم فلما أتوا باب الكهف قال يمليخا : دعوني حتى أدخل على أصحابي فأبشرهم فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم ، فدخل فبشرهم ، فقبض الله أرواحهم وأعمى عليهم أثرهم فلم يهتدوا إليهم ، وذلك قوله عز وجل :
" إذ أوى الفتية إلى الكهف " أي : صاروا إلى الكهف ، يقال : أوى فلان إلى موضع كذا ، أي : اتخذه منزلاً إلى الكهف ، وهو غار في جبل بنجلوس واسم الكهف : ( خيرم ) .
" فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة " . ومعنى الرحمة : الهداية في الدين . وقيل : الرزق ، " وهيئ لنا " ، يسر لنا ، " من أمرنا رشداً " ، أي : ما يلتمس من رضاك وما فيه رشدنا ، وقال ابن عباس : رشداً أي : مخرجاً من الغار في سلامة.
10."إذ أوى الفتية إلى الكهف"يعني فتية من أشراف الروم أرادهم دقيانوس على الشرك فأبوا وهربوا إلى الكهف ، "فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمةً" توج لنا المغفرة والرزق والأمن من العدو. "وهيئ لنا من أمرنا"من الأمر الذي نحن عليه من مفارقة الكفار . "رشداً"نصير بسببه راشدين مهتدين ، أو اجعل أمرانا كله رشداً كقولك:رأيت منك أسداً وأصل التهيئة إحداث هيئة الشيء .
10. When the young men Red for refuge to the Cave and said: Our Lord! Give us mercy from Thy presence and shape for us right conduct in our plight
10 - Behold, the youths betook themselves to the cave: they said, our Lord bestow on us mercy from thyself, and dispose of our affair for us in the right way