[الإسراء : 72] وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً
72 - (ومن كان في هذه) أي الدنيا (أعمى) عن الحق (فهو في الآخرة أعمى) عن طريق النجاة وقراءة القرآن (وأضل سبيلا) أبعد طريقا عنه ونزل في ثقيف وقد سألوه صلى الله عليه وسلم أن يحرم واديهم وألحوا عليه
اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أشير إليه بقوله هذه ، فقال بعضهم : أشير بذلك إلى النعم التي عددها تعالى ذكره بقوله " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " فقال " ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا " .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن محمد بن أبي موسى ، قال : سئل عن هذه الآية " ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا " فقال : قال " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" قال : من عمي عن شكر هذه النعم في الدنيا، فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا. وقال آخرون : بل معنى ذلك : ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن قدرة الله فيها وحججه ، فهو قي الآخرة أعمى .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي بن داود، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله " ومن كان في هذه أعمى " يقول : من عمي عن قدرة الله في الدنيا " فهو في الآخرة أعمى " .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى - وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " في هذه أعمى " قال : الدنيا .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله " ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى " يقول : من كان في هذه الدنيا أعمى عما عاين فيها من نعم الله وخلقه وعجائبه " فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا " فيما يغيب عنه من أمر الآخرة وأعمى .
حدثنا محمد ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة " ومن كان في هذه أعمى " في الدنيا فيما أراه الله من آياته من خلق السماوات والأرض والجبال والنجوم " فهو في الآخرة " الغائبة التي لم يرها " أعمى وأضل سبيلا " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب : قال : قال ابن زيد ، وسئل عن قول الله تعالى " ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا " فقرأ " إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين " " وفي أنفسكم أفلا تبصرون "وقرأ" ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون " وقرأ حتى بلغ " وله من في السماوات والأرض كل له قانتون " قال : كل له مطيعون ، إلا ابن آدم . قال : فمن كانت في هذه الآيات التي يعرف أنها منا، ويشهد عليها وهو يرى قدرتنا ونعمتنا أعمى، فهو في الآخرة التي لم يرها أعمى وأضل سبيلا.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : معنى ذلك : ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن حجج الله على أنه المنفرد بخلقها وتدبيرها، وتصريف ما فيها، فهو في أمر الآخرة التي لم يرها ولم يعاينها، وفيما هو كائن فيها أعمى وأضل سبيلا. يقول : وأضل طريقا منه قي أمر الدنيا التي قد عاينها ورآها. وإنما قلنا : ذلك أولى تأويلاته بالصواب ، لأن الله تعالى ذكره لم يخص في قوله " ومن كان في هذه " الدنيا " أعمى " عمى الكافر به عن بعض حججه عليه فيها دون بعض ، فيوجه ذلك إلى عماه عن نعمه بما أنعم به عليه من تكريمه بني آدم ، وحمله إياهم في البر والبحر، وما عدد في الآية التي ذكر فيها نعمه عليهم ، بل عم بالخبر عن عماه في الدنيا ، فهم كما عتم تعالى ذكره . واختلفت القراء في قراءة قوله " فهو في الآخرة أعمى " فكسرت القرأة جميعا أعني الحرف الأول قوله " ومن كان في هذه أعمى " . وأما قوله " فهو في الآخرة أعمى " فإن عامة قراء الكوفيين أمالت أيضا قوله " فهو في الآخرة أعمى " . وأما بعض قراء البصرة فإنه فتحه ، وتأوله بمعنى : فهو في الآخرة أشد عمى . واستشهد لصحة قراءته بقوله " وأضل سبيلا " . وهذه القراءة هي أولى القراءتين في ذلك بالصواب للشاهد الذي ذكرنا عن قارئه كذلك ، وإنما كره من كره قراءته كذلك ظنا منه أن ذلك مقصود به قصد عمى العينين الذي لا يوصف أحد بأنه أعمى من آخر أعمى ، إذ كان عمى البصر لا يتفاوت ، فيكون أحدهما أزيد عمى من الآخر، إلا بإدخال أشد أو أبين ، فليس الأمر في ذلك كذلك . وإنما قلنا: ذلك من عمى القلب الذي يقع فيه التفاوت ؟ ، فإنما عني به عمى قلوب الكفار، عن حجج الله التي قد عاينتها أبصارهم ، فلذلك جاز ذلك وحسن . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
22535 ا- حدثنا الحسن بن يحيي ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجايد " فهو في الآخرة أعمى " قال : أعمى عن حجته في الآخرة .
قوله تعالى: "ومن كان في هذه أعمى" أي في الدنيا عن الاعتبار وإبصار الحق. "فهو في الآخرة" أي في أمر الآخرة "وأعمى". وقال عكرمة: جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسألوه عن هذه الآية فقال: اقرأوا ما قبلها ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر - إلى - تفضيلا. قال ابن عباس: من كان في هذه النعم والآيات التي رأى أعمى فهو عن الآخرة التي بها عليه في الدنيا فهو عن نعم الآخرة أعمى. وقيل: المعنى من عمي عن النعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا فهو عن نعم الآخرة أعمى. وقيل: المعنى من كان في الدنيا التي أمهل فيها وفسح له ووعد بقبول التوبة أعمى فهو في الآخر التي لا توبة فيها أعمى. وقال الحسن: من كان في هذه الدنيا كافراً ضالاً فهو في الآخرة أعمى، كما قال: "ونحشره يوم القيامة أعمى" (طه: 124) الآيات. وقال: "ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم". وقيل: المعنى في قوله: فهو في الآخرة أعمى في جميع الأقوال: أشد عمى، لأنه من عمى القلب، ولا يقال مثله في عمى العين. قال الخليل وسيبويه: لأنه خلقة بمنزلة اليد والرجل، فلم يقل ما أعماه كما لا يقال ما أيداه. الأخفش: لم يقل في ذلك لأنه على أكثر من ثلاثة أحرف، وأصله أعمى. وقد أجاز بعض النحويين ما أعماه وما أعشاه، لأن فعله عمي وعشي. وقال الفراء: حدثني بالشأم شيخ بصرى أنه سمع العرب تقول: ما أسود شعره. قال الشاعر:
ما في المعالي لكم ظل ولا ثمر وفي المخازي لكم أشباح أشياخ
أما الملوك فأنت اليوم ألأمهم لؤما وأبيضهم سربال طباخ
وأمال أبو بكر وحمزة والكسائي وخلف الحرفين أعمى وأعمى وفتح الباقون.
وأمال أبو عمرو الأول وفتح الثاني. "وأضل سبيلاً" يعني أنه لا يجد طريقاً إلى الهداية.
يخبر تبارك وتعالى عن يوم القيامة أنه يحاسب كل أمة بإمامهم, وقد اختلفوا في ذلك فقال مجاهد وقتادة بنبيهم وهذا كقوله تعالى "ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط" الاية وقال بعض السلف هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن زيد لكتابهم الذي أنزل على نبيهم من التشريع واختاره ابن جرير وروي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: بكتبهم فيحتمل أن يكون أراد هذا وأن يكون أراد ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله " يوم ندعوا كل أناس بإمامهم " أي بكتاب أعمالهم وكذا قال أبو العالية والحسن والضحاك وهذا القول هو الأرجح لقوله تعالى "وكل شيء أحصيناه في إمام مبين" وقال تعالى: "ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه" الاية ويحتمل أن المراد بإمامهم أي كل قوم بمن يأتمون به فأهل الإيمان ائتموا بالأنبياء عليهم السلام وأهل الكفر اتئموا بأئمتهم كما قال "وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار" وفي الصحيحين "لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فيتبع من كان يعبد الطواغيت" الحديث وقال تعالى " وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون * هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون " وهذا لا ينافي أن يجاء بالنبي إذا حكم الله بين أمته فإنه لا بد أن يكون شاهداً على أمته بأعمالها كقوله تعالى "وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء" وقوله تعالى: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً" ولكن المراد ههنا بالإمام هو كتاب الأعمال ولذا قال تعالى: " يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم " أي من فرحته وسروره بما فيه من العمل الصالح يقرأه ويحب قراءته كقوله: " فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه * إني ظننت أني ملاق حسابيه * فهو في عيشة راضية * في جنة عالية * قطوفها دانية * كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية * وأما من أوتي كتابه بشماله " الايات, وقوله تعالى "ولا يظلمون فتيلاً" قد تقدم أن الفتيل هو الخيط المستطيل في شق النواة. وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثاً في هذا فقال: حدثنا محمد بن يعمر ومحمد بن عثمان بن كرامة قالا: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن السدي عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: " يوم ندعوا كل أناس بإمامهم " قال: "يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمد له في جسمه ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤة يتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون اللهم آتنا بهذا وبارك لنا في هذا فيأتيهم فيقول لهم أبشروا فإن لكل رجل منكم مثل هذا, وأما الكافر فيسود وجهه ويمد له جسمه ويراه أصحابه فيقولون أعوذ بالله من هذا أو من شر هذا اللهم لا تأتنا به فيأتيهم فيقولون اللهم اخزه فيقول أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا" ثم قال البزار لا يروى إلا من هذا الوجه, وقوله تعالى: "ومن كان في هذه أعمى" الاية, قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد "ومن كان في هذه" أي في الحياة الدنيا "أعمى" أي عن حجة الله وآياته وبيناته " فهو في الآخرة أعمى " أي كذلك يكون "وأضل سبيلاً" أي وأضل منه كما كان في الدنيا عياذاً بالله من ذلك.
ولم يذكر أصحاب الشمال تصريحاً، ولكنه ذكر سبحانه ما يدل على حالهم القبيح فقال: 72- "ومن كان في هذه أعمى" أي من كان من المدعوين في هذه الدنيا أعمى: أي فاقد البصيرة. قال النيسابوري: لا خلاف أن المراد بهذا العمى عمى القلب، وأما قوله: "فهو في الآخرة أعمى" فيحتمل أن يراد به عمى البصر كقوله: " ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا " وفي هذا زيادة العقوبة، ويحتمل أن يراد عمى القلب. وقيل المراد بالآخرة عمل الآخرة: أي فهو في عمل، أو في أمر الآخرة أعمى، وقيل المراد من عمي عن النعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا فهو عن نعم الآخرة أعمى، وقيل من كان في الدنيا التي تقبل فيها التوبة أعمى فهو في الآخرة التي لا توبة فيها أعمى، وقيل من كان في الدنيا أعمى عن حجج الله فهو في الآخرة أعمى. وقد قيل إن قوله: "فهو في الآخرة أعمى" أفعل تفضيل: أي أشد عمى وهذا مبني على أنه من عمي القلب إذ لا يقال ذلك في عمى العين. قال الخليل وسيبويه: لأنه خلقه بمنزلة اليد والرجل، فلا يقال ما أعماه كما لا يقال ما أيداه. وقال الأخفش: لا يقال فيه ذلك لأنه أكثر من أحرف. وقد حكى الفراء عن بعض العرب أنه سمعه يقول ما أسود شعره، ومن ذلك قول الشاعر:
أما الملوك فأنت اليوم ألأمهم لؤما وأبيضهم سربال طباخ
والبحث مستوفى في النحو. وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي وخلف "أعمى" بالإمالة في الموضعين وقرأهما أبو عمرو ويعقوب والباقون بغير إمالة، وأمال أبو عبيد الأول دون الثاني "وأضل سبيلاً" يعني أن هذا أضل سبيلاً من الأعمى لكونه لا يجد طريقاً إلى الهداية، بخلاف الأعمى فقد يهتدي في بعض الأحوال.
72 - " ومن كان في هذه أعمى " ، اختلفوا في هذه الإشارة ، فقال قوم : هي راجعة إلى النعم التي عددها الله تعالى فبهذه الآيات من قوله : " ربكم الذي يزجي لكم الفلك " إلى قوله " تفضيلاً " يقول : و من كان منكم في هذه النعم التي قد عاين أعمى ،" فهو في " ، في أمر ، " الآخرة " ، التي لم يعاين ولم ير، " أعمى وأضل سبيلاً " ، يروى هذا عن ابن عباس .
وقال الآخرون : هي راجعة إلى الدنيا، يقول : من كان في هذه أعمى القلب عن رؤية قدرة الله وآياته ورؤية الحق ، فهو في الآخرة أعمى ، وأضل سبيلاً ، أي : أخطأ طريقاً .
وقيل : من كان في هذه الدنيا أعمى عن الاعتبار ، فهو في الآخرة أعمى عن الاعتذار .
وقال الحسن : من كان في هذه الدنيا ضالاً كافراً ، فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً ، لأنه في الدنيا تقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل توبته .
وأمال بعض القراء هذين الحرفين ، وفتحهما بعضهم ، وكان أبو عمر يكسر الأول ويفتح الثاني ، فهو في الآخرة أشد عمى ، لقوله : " وأضل سبيلاً " .
72."ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى"أيضاً مشعر بذلك فإن الأعمى لا يقرأ الكتاب ،والمعنى ومن كان في هذه الدنيا أعمى القلب لا يبصر رشده كان في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة."وأضل سبيلاً"منه في الدنيا لزوال الاستعداد فقدان الآلة والمهلة .وقيل لأن الاهتداء بعد لا ينفعه والأعمى مستعار من فاقد الحاسة .وقيل الثاني للتفضيل من عمي بقلبه كالأجهل والأبله ولذلك لم يملهأبو عمرو و يعقوب، فإن أفعل التفضيل تمامه بمن فكانت ألفه في حكم المتوسطة كما في أعمالكم بخلاف النعت ، فإن ألفه واقعة ف الطرف لفظاً وحكماً فكانت معرضة للإمالة من حيث إنها تصير ياء في التثنية ، وقد أمالهما حمزة و الكسائي و أبو بكر وقرأ ورش بين بين فيهما .
72. Whoso is blind here wilt be blind in the Hereafter, and yet further from the road.
72 - But those who were blind in this world, will be blind in the hereafter, and most astray from the path.