[الإسراء : 5] فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً
5 - (فإذا جاء وعد أولاهما) اولى مرتي بالفساد (بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد) أصحاب قوة في الحرب والبطش (فجاسوا) ترددوا لطلبكم (خلال الديار) وسط دياركم ليقتلوكم ويسبوكم (وكان وعدا مفعولا) وقد أفسدوا الأولى بقتل ذكريا فبعث عليهم جالوت وجنوده فقتلوهم وسبوا أولادهم موخربوا بيت المقدس
وكان فساد بني إسرائيل في الأرض المرة الأولى:
حدثني به هارون ، قال : ثنا عمرو بن حماد ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي صالح ، وعن أبي مالك ، عن ابن عباس ، وعن مرة، عن عبد الله: أن الله عهد إلى بني إسرائيل في التوراة " لتفسدن في الأرض مرتين " فكان أول الفسادين : قتل زكريا، فبعث الله عليهم ملك النبط ، وكان يدعى صحابين ، فبعث الجنود، وكانت أساورته من أهل فارس ، فهم أولو بأس شديد، فتحصنت بنو إسرائيل ، وخرج فيهم بختنصر يتيما مسكينا، إنما خرج يستطعم ، وتلطف حتى دخل المدينة فأتى مجالسهم ، فسمعهم يقولون : لو يعلم عدونا ما قذف في قلوبنا من الرعب بذنوبنا ما أرادوا قتالنا، فخرج بختنصر حين سمع ذلك منهم ، واشتد القيام على الجيش ، فرجعوا، وذلك قول الله " فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا " ثم إن بني إسرائيل تجهزوا ، فغزوا النبط ، فاصابوا منهم واستنقذوا ما في أيديهم ، فذلك قول الله" ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا " يقول : عدداً.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان إفسادهم الذي يفسدون في الأرض مرتين : قتل زكريا ويحيى بن زكريا، سلط الله عليهم سابور ذا الأكتاف ملكا من ملوك فارس ،من قتل زكريا، وسلط عليهم بختنصرمن قتل يحيى .
حدثنا عصام بن رواد بن الجراح ، قال : ثنا أبى، قال : ثنا سفيان بن سعيد الثوري ، قال : ثنا منصور بن المعتمر، عن ربعي بن حراش ، قال : سمعت حذيفة بن اليمان يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني إسرائيل لما اعتدوا وعلوا، وقتلوا الأنبياء، بعث الله عليهم ملك فارس بختنصر، وكان الله ملكه سبع مئة سنة، فسار إليهم حتى دخل بيت المقدس فحاصرها وفتحها ، وقتل على دم زكريا سبعين ألفا، ثم سبى أهلها وبني الأنبياء، وسلب حلي بيت المقدس ، واستخرج منها سبعين ألفا ومئة ألف عجلة من حلي حتى أورده بابل ، قال حذيفة: قلت : يا رسول الله لقد كان بيت المقدس عظيما عند الله ؟ قال : أجل بناه لسليمان بن داود من ذهب ودر وياقوت وزبرجد، وكان بلاطه بلاطة من ذهب وبلاطة من فضه ، وعمده ذهبا، أعطاه الله ذلك ، وسخر له الشياطين يأتونه بهده الأشياء في طرفة عين ، فسار بختنصر بهذه الأشياء حتى نزل بها بابل ، فاقام بنو إسرائيل في يديه مئة سنة تعذبهم المجوس وأبناء المجوس ، فيهم الأنبياء وأبناء الأنبياء، ثم إن الله رحمهم ، فأوحى إلى ملك من ملوك فارس يقال له كورس ، وكان مؤمنا، أن سر إلى بقايا بني إسرائيل حتى تستنفذ هم ، فسار كورس ببني إسرائيل وحلي بيت المقدس حتى رده إليه ، فاقام بنو إسرائيل مطيعين لله مئة سنة، ثم إنهم عادوا في المعاصي ، فسلط الله عليهم أبطيانحوس ، فغزا بابناء من غزا مع بختنصر، فغزا بني إسرائيل حتى أتاهم بيت المقدس ، فسبى أهلها، وأحرق بيت المقدس ، وقالى لهم : يا بني إسرائيل إن عدتم في المعاصي عدنا عليكم بالسباء، فعادوا في المعاصي ، فسير الله عليهم السباء الثالث ملك رومية، يقال له قاقس بن إسبايوس ، فغزاهم في البر والبحر، فسباهم وسبى حلي بيت المقدس ، وأحرق بيت المقدس بالنيران ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا من صنعة حلي بيت المقدس ، ويرده المهدي إلى بيت المقدس ، وهو ألف سفينة وسبع مئة سفينة، يرسى بها على يافا حتى تنقل إلى بيت المقدس ، وبها يجمع الله الأولين والاخرين.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : كان مما أنزل الله على موسى في خبره عن بني إسرائيل ، في حديثهم ما هم فاعلون بعده ، فقال "وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا" . . . إلى قوله "وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا" فكانت بنو إسرائيل ، وفيهم الأحداث والذنوب ، وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم ، متعطفا عليهم محسنا اليهم ، فكان مما أنزل بهم في ذنوبهم ما كان قدم إليهم في الخبر على لسان موسى مما أنزل بهم في ذنوبهم . فكان أول ما أنزل بهم من تلك الوقائع ، أن ملكا منهم كان يدعى صديقة، وكان الله إذا ملك الملك عليهم ، بعث نبيا يسدده ويرشده ، ويكون فيما بينه وبين الله ، ويحدث إليه في أمرهم ، لا ينزل عليهم الكتب ، إنما يؤمرون باتباع التوراة والأحكام التي فيها، وينهونهم عن المعصية، ويدعونهم إلى ما تركوا من الطاعة، فلما ملك ذلك الملك ، بعث الله معه شعياء بن أمصيا، وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى، وشعياء الذي بشربعيسى ومحمد، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا، فلما انقضى ملكه عظمت فيهم الأحداث ، وشعياء معه ، بعث الله عليهم سنحاريب ملك بابل ، ومعه ست مئة ألف راية، فاقبل سائرا حتى نزل نحو بيت المقدس ، والملك مريض في ساقه قرحة، فجاء النبي شعياء، فقال له : يا ملك بني إسرائيل إن سنحاريب ملك بابل قد نزل بك هو وجنوده ست مئة ألف راية، وقد هابهم الناس وفرقوا منهم ، فكبر ذلك على الملك ، فقال : يا نبي الله هل أتاك وحي من الله فيما حدث ، فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده فقال له النبي عليه السلام : لم ياتني وحي أحدث إلي في شانك . فبينا هم على ذلك ، أوحى الله إلى شعياء النبي : أن ائت ملك بني إسرائيل ، فمره أن يوصي وصيته ، ويستخلف على ملكه من شاء من أهل بيته ، فاتى النبي شعياء ملك بني إسرائيل صديقة، فقال له : إن ربك قد أوحى إلي أن آمرك أن توصي وصيتك ، وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك ، فإنك ميت ، فلما قال ذلك شعياء لصديقة، أقبل على القبلة، فصلى وسبح ودعا وبكى، فقال وهويبكي ويتضرع إلى الله بقلب مخلص وتوكل وصبر وصدق وظن صادق : اللهم رب الأرباب ، وإله الآلهة، قدوس المتقدسين ، يا رحمن يا رحيم ، المترحم الرءوف الذي لا تاخذه سنة ولا نوم ، اذكرني بعملي وفعلي وحسن قضافي على بني إسرائيل وذلك كله كان منك ، فانت أعلم به من نفسي ، سري وعلانيتي لك وإن الرحمن استجاب له وكان عبدا صالحا، فاوحى الله إلى شعياء أن يخبر صديقة الملك أن ربه قد استجاب له وقبل منه ورحمه ، وقد رأى بكاءه ، وقد أخر أجله خمس عشرة سنة، وأنجاه من عدوه سنحاريب ملك بابل وجنوده ، فاتى شعياء النبي إلى ذلك الملك فاخبره بذلك ، فلما قال له ذلك ذهب عنه الوجع ، وانقطع عنه الشر والحزن ، وخر ساجدا وقال : يا إلهي وإله آبائي ، لك سجدت وسبحت وكرمت وعظمت ، أنت الذي تعطي الملك من تشاء، وتنزعه ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء، عالم الغيب والشهادة، أنت الأول والآخر، والظاهر والباطن ، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين ، أنت الذي أجبت دعوتي ورحمت تضرعي فلما رفع رأسه ، أوحى الله إلى شعياء أن قل للملك صديقة فيامر عبدا من عبيده بالتينة، فياتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى، ويصبح وقد برأ، ففعل ذلك فشفي ، وقال الملك لشعياء النبي : سل ربك أن يجعل لنا علما بما هوصانع بعدونا هذا، قال : فقال الله لشعياء النبي : قل له : إني قد كفيتك عدوك ، وأنجيتك منه ، وإنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنحاريب وخمسة من كتابه ، فلما أصبحوا جاءهم صارخ ينبئهم ، فصرخ على باب المدينة: يا ملك بني إسرائيل ، إن الله قد كفاك عدوك فاخرج ، فإن سنحاريب ومن معه قد هلكوا، فلما خرج الملك التمس سنحاريب ، فلم يوجد في الموتى،
فبعث الملك في طلبه ، فادركه الطلب في مغارة وخمسة من كتابه ، أحدهم بختنصر، فجعلوهم في الجوامع ، ثم أتوا بهم ملك بني إسرائيل ، فلما رآهم خر ساجدا من حين طلعت الشمس حتى كانت العصر، ثم قال لسنحاريب : كيف ترى فعل ربنا بكم ؟ ألم يقتلكم بحوله وقوته ، ونحن وأنتم غافلون ؟ فقال سنحاريب له : قد أتاني خبر ربكم ، ونصره إياكم ، ورحمته التي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي ، فلم أطع مرشدا، ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي ، ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم ، ولكن الشقوة غلبت علي وعلى من معي ، فقال ملك بني إسرائيل : الحمد لله رب العزة الذي كفاناكم بما شاء، إن ربنا لم يبقك ومن معك لكرامة بك عليه ، ولكنه إنما أبقاك ومن معك لما هو شر لك ، لتزدادوا شقوة في الدنيا، وعذابا في الآخرة، ولتخبروا من وراءكم بما لقيتم من فعل ربنا، ولتنذروا من بعدكم ، ولولا ذلك ما أبقاكم ، فلدمك ودم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلته . ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه ، فقذف في رقابهم الجوامع ، وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس إيليا، وكان يرزقهم في كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم ، فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل القتل خير مما يفعل بنا، فافعل ما أمرت فنقل بهم الملك إلى سجن القتل ، فأوحى الله إلى شعياء النبي أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم ، وليكرمهم ويحملهم حتى يبلغوا بلادهم ، فبلغ النبي شعياء الملك ذلك ، ففعل ، فخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل ، فلما قدموا جمع الناس فاخبرهم كيف فعل الله بجنوده ، فقال له كهانه وسحرته : يا ملك بابل قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ، ووحي الله إلى نبيهم ، فلم تطعنا، وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم ، فكان أمرسنحاريب مما خوفوا، ثم كفاهم الله تذكرة وعبرة ، ثم لبث سنحاريب بعد ذلك سبع سنين ، ثم مات .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما مات سنحاريب استخلف بختنصر ابن ابنه على ما كان عليه جده يعمل بعمله ، ويقضي بقضائه ، فلبث سبع عشرة سنة، ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقة، فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا الملك ، حتى قتل بعضهم بعضا عليه ، ونبيهم شعياء معهم لا يذعنون إليه ، ولا يقبلون منه ، فلما فعلوا ذلك ، قال الله فيما بلغنا لشعياء: قم في قومك أوح على لسانك فلما قام النبي أنطق الله لسانه بالوحي فقال : يا سماء استمعي ، ويا أرض انصتي ، فإن الله يريد أن يقص شان بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته ، واصطفاهم لنفسه ، وخصهم بكرامته ، وفضلهم على عباده ، وفضلهم بالكرامة، وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها ، فاوى شاردتها ، وجمع ضالتها، اجبر كسيرها، وداوى مريضها، وأسمن مهزولها، وحفظ سمينها، فلما فعل ذلك بطرت ، فتناطحت كباشها فقتل بعضها بعضأ، حتى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه اخر كسير، فويل لهذه الأمة الخاطئة، وويل لهؤلاء القوم الخاطئين الذين لا يدرون أين جاءهم الحين ، إن البعير ربما يذكر وطنه فينتابه ، وإن الحمار ربما يذكر الارقي الذي شبع عليه فيراجعه ، وإن الثور ربما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه ، وإن هؤلاء القوم لا يدرون من حيث جاءهم الحين ، وهم أولو الألباب والعقول ، ليسوا ببقر ولا حمير، وإني ضارب لهم مثلا فليسمعوه : قل لهم : كيف ترون في أرض كانت خواء زمانا، خربة مواتا لا عمران فيها، وكان لها رب حكيم قوي ، فاقبل عليها بالعمارة، وكره أن تخرب أرضه وهو قوي ، أو يقال ضيع وهو حكيم ، فاحاط عليها جدارا، ،وشيد فيها قصرا، وأنبط فيها نهرا ، وصف فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب ، وألوان الثمار كلها ، وولى ذلك واستحفظه قيما ذا رأي وهمة ، حفيظا قويا أمينا، وتانى طلعها وانتظرها، فلما أطلعت جاء طلعها خروبا، قالوا : بئست الأرض هذه ، نرى أن يهدم جدرانها وقصرها ، ويدفن نهرها، ويقبض قيمها ، ويحرق غراسها حتى تصير كما كانت أول مرة ، خربة مواتا لا عمران فيها، قال الله لهم : فإن الجدار ذمتي ، وإن القصر شريعتي ، وإن النهر كتابي ، وإن القيم نبيي ، وإن الغراس هم ، وإن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة، وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم ، وإنه مثل ضربه الله لهم يتقربون إلي بذبح ألبقر والغنم ، وليس ينالني اللحم ولا اكله ، ويدعون أن يتقربوا بالتقوى والكف عن ذبح الأنفس التي حرمتها، فأيديهم مخضوبة منها، وثيابهم متزملة بدمائها ، يشيدون لي البيوت مساجد ، ويطهرون أجوافها ، وينجسون قلوبهم وأجسامهم ويدنسونها ، ويزوقون لي البيوت والمساجد ويزينونها ، ويخربون عقولهم وأحلامهم ويفسسدونها ، فأي حأجة لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها، وأي حاجة إلى تزويق المساجد ولست أدخلها، إنما آمرت برفعها لأذكر فيها وأسبح فيها، ولتكون معلما لمن أراد أن يصلي فيها، يقولون : لو كان الله يقدر على أن يجمع ألفتنا لجمعها، ولو كان الله يقدر على أن يفقه قلوبنا لأفقهها، فاعمد إلى عودين يابسين ، ثم ائت بهما ناديهما في أجمع ما يكونون ، فقل للعودين : إن الله يأمركما أن تكونا عوداواحدا ، فلما قال لهما ذلك ، اختلطا فصارا واحدا ،فقال الله : قل لهم : إني قدرت على ألفة العيدان اليابسة وعلى أن أؤلف بينها، فكيف لا أقدر على أن أجمع ألفتهم إن شئت ، أم كيف لا أقدر على أن أفقه قلوبهم ، وأنأ الذي صورتها؟ يقولون : صمنا فلم يرفع صيامنا، وصلينا فلم تنور صلاتنا، وتصدقنا فلم تزك صدقاتنا، ودعونا بمثل حنين الحمام ، وبكينا بمثل عواء الذئب ، في كل ذلك لا نسمع ، ولا يستجاب لنا، قال الله : فسلهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم ، ألست أسمع السامعين ، وأبصر الناظرين ، وأقرب المجيبين ، وأرحم الراحمين ؟ ألأن ذات يدي قست ، كيف ويداي مبسوطتان بالخير، أنفق كيف أشاء، ومفاتيح الخزائن عندي لا يفتحها ولا يغلقها غيري ، ألا وإن رحمتي وسعت كل شيء ، إنما يتراحم المتراحمون بفضلها، أو لأن البخل يعتريني ، أولست أكرم الأكرمين والفتاح بالخيرات ، أجود من أعطى ، وأكرم من سئل ؟ لو أن هؤلاء القوم نظروا لأنفسهم بالحكمة التي نورت في قلوبهم فنبذوها ، واشتروا بها الدنيا ، إذن لأبصروا من حيث أتوا ، وإذن لأيقنوا أن أنفسهم هي أعدى العداة لهم ، فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور، ويتقوون عليه .بطعمة الحرام ، وكيف أنور صلالهم ، وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادني ، وينتهك محارمي ، أم كيف تزكو عندي صدقاتهم وهم يتصدقون بأموال غيرهم ، وإنما أوجر عليها أهلها المغصوبين ، أم كيف أستجيب لهم دعاءهم وإنما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد، وإنما أستجيب للداعي اللين ، وإنما أسمع من قول المستضعف المسكين ، وإن من علامه رضاي رضا المساكين ، فلو رحموا المساكين ، وقربوا الضعفاء ، ؟أنصفوا المظلوم ، ونصروا المغصوب ، وعدلوا للغائب ، وأدوا إلى الأرملة واليتيم والمسكين ، وكل ذي حق حقه ، ثم لو كان ينبغي أن أكلم البشر إذن لكلمتهم ، وإذن لكنت نور أبصارهم ، وسمع، آذانهم ، ومعقول قلوبهم ، وإذن لدعمت أركانهم ، فكنت قوة أيديهم وأرجلهم ، وإذن لبثت ألسنتهم وعقولهم ، يقولون لما سمعوا كلامي ، وبلغتهم رسالاتي بأنها أقاويل منقولة ، وأحاديث متوارثة ، وتآليف مما تؤلف السحرة والكهنة، وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا ، وأن يطالعوا على الغيب بما توحي إليهم الشياطين طلعوا، وكلهم يستخفي بالذي يقول ويسر، وهم يعلمون أني أعلم غيب السموات والأرض ، وأعلم ما يبدون وما يكتمون ، وإني قد قضيت يوم خلقت السموات والأرض قضاء أثبته على نفسي ، وجعلت دونه أجلا مؤجلا، لا بد أنه واقع ، فإن صدقوا بما ينتحلون من علم الغيب ، فليخبروك متى أنفذه ، أو في أي زمان يكون ، وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاءون ، فليأتوا بمثل القدرة التي بها أمضيت ، فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، وإن كانوا يقدرون على أن يقولوا ما يشاءون فليؤلفوا مثل الحكمة أدبر بها أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقين ، فإني قد قضيت يوم خلقت السموات والأرض أن أجعل النبوة في الأجراء، وأن أحول الملك في الرعاء، والعز في الأذلاء ، والقوة في الضعفاء ، والغنى في الفقراء ، والثروة في الأقلاء ، والمدائن في الفلوات ، والآجام في المفاوز، والبردى في الغيطان ، والعلم في الجهلة، والحكم في الأميين ، فسلهم متى هذا، ومن القائم بهذا، وعلى يد من أسنه ، وبن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون فإني باعث لذلك نبيا أميا، ليس أعمى من عميان ، ولا ضالا من ضالين ، وليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق ، ولا متزين بالفحش ، ولا قوال للخنا، أسدده لكل جميل ، أهب له كل خلق كريم ، أجعل السكينة لباسه ، والبر شعاره ، والتقوى ضميره ، والحكمة معقوله ، والصدق والوفاء طبيعته ، والعفو والعرف خلقه ، والعدل والمعروف سيرته ، والحق شريعته ، والهدى إمامه ، والإسلام ملته ، وأحمد اسمه ، أهدي به بعد الضلالة ، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأشهر به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغني به بعد العيلة، وأجفع به بعد الفرقة، وأؤلف به قلوبا مختلفة، وأهواء مشتتة، وأمما متفرقة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس ، تأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر، توحيدا لي ، وإيمانا وإخلاصا بي ، يصلون لي قياما وقعودا ، وركوعا وسجودا ، يقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني ، ألهمهم التكبير والتوحيد، والتسبيح والحمد والمدحة والتمجيد لي في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم ، ليهجرون ؟يهللون ، ويقدسون على رءوس الأسواق ، ويطهرون لي الوجوه والأطراف ، ويعقدون الثياب في الأنصاف ، قربانهم دماؤهم ، وأناجيلهم صدورهم ، رهبان بالليل ، ليوث بالنهار، ذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأ نا ذو الفضل العظيم . فلما فرغ نبيهم شعياء إليهم من مقالته ، عدوا عليه فيما بلغني ليقتلوه ، فهرب منهم ، فلقيته شجرة، فانفلقت فدخل فيها، وأدركه الشيطان فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها، فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها، وقطعوه في وسطها . قال أبو جعفر : فعلى القول الذي ذكرنا عن ابن عباس من رواية السدي ، وقول ابن زيد ، كان إفساد بني إسرائيل في الأرض المرة الأولى قتلهم زكريا نبي الله ، مع ما كان سلف منهم قبل ذلك وبعده ، إلى أن بعث الله عليهم من أحل على يده بهم نقمته من معاصي الله ، وعتوهم على ربهم . وأما على قول ابن إسحاق الذي روينا عنه ، فكان إفسادهم المرة الأولى ما وصف مبن قتلهم شعياء بن أمصيا نبي الله . وذكر ابن إسحاق أن بعض أهل العلم أخبره أن زكريا مات موتا ولم يقتل ، وأن المقتول إنما هو شعياء ، وأن بختنصر هو الذي سلط على بني إسرائيل في المرة الأولى بعد قتلهم شعياء
حدثنا بذلك ابن حميد ، عن سلمة عنه .
وأما إفسادهم في الأرض المرة الآخرة، فلا اختلاف بين أهل العلم أنه كان قتلهم يحيى بن زكريا وقد اختلفوا في الذي سلطه الله عليهم منتقما به منهم عند ذلك ، وأنا ذاكر اختلافهم في ذلك إن شاء الله . وأما قوله " ولتعلن علوا كبيرا" فقد ذكرنا قول من قال : يعنى به : استكبارهم على الله بالجراءة عليه ، وخلافهم أمره . وكان مجاهد يقول في ذلك ما:
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم، قال : ثنا عيسى، عنابن أبي نجيح ، عن مجاهد "ولتعلن علوا كبيرا" قال : ولتعلن الناس علوا كبيرا.
حدثنا الحارث ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وأما قوله " فإذا جاء وعد أولاهما" يعني : فإذا جاء وعد أولى المرتين اللتين يفسدون بهما في الأرض كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " فإذا جاء وعد أولاهما" قال : إذا جاء وعد أولى تينك المرتين اللتين قضينا إلى بني إسرائيل " لتفسدن في الأرض مرتين " .
وقوله " بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا" يعني تعالى ذكره بقوله " بعثنا عليكم " وجهنا إليكم ، وأرسلنا عليكم " عبادا لنا أولي بأس شديد " ، يقول : ذوي بطش في الحروب شديد . وقوله : " فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا" يقول : فترددوا بين الدور والمساكن ، وذهبوا وجاؤوا، يقال فيه : جاس القوم بين الديار وجاسوا بمعنى واحد. وجست أنا أجوس جوسا وجوسانا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، روي الخبر عن ابن عباس .
حدثني علي بن داود ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس "فجاسوا خلال الديار" قال : مشوا . وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول : معنى جاسوا : قتلوا ، ويستشهد لقوله ذلك ببيت حسان :
ومنا الذي لاقى بسيف محمد فجاس به الأعداء عرض العساكر
وجائز أن يكون معناه : فجاسوا خلال الديار، فقتلوهم ذاهبين وجائين ، فيصح التاويلان جميعا . ويعني بقوله " وكان وعداً مفعولا" وكان جوس القوم الذين نبعث عليهم خلال ديارهم وعدا من الله لهم مفعولا ذلك لا محالة، لأنه لا يخلف الميعاد . ثم اختلف أهل التاويل في الذين عنى الله بقوله "أولي بأس شديد" فيما كان من فعلهم في المرة الأولى في بني إسرايئيل حين بعثوا عليهم ، ومن الذين بعث عليهم في المرة الآخرة، وما كان من صنعهم بهم ، فقال بعضهم : كان الذي بعث الله عليهم في المرة الأولى جالوت ، وهومن أهل الجزيرة. ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بني سعد ، قال : ثنا أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس، قوله " فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا" قال : بعث الله عليهم جالوت ، فجاس خلال ديارهم ، ونحكرب عليهم الخراج والذل ، فسالوا الله أن يبعث لهم ملكا يقاتلون في سبيل الله ، فبعث الله طالوت ت فقاتلوا جالوت ، فنصر الله بني إسرائيل ، وقتل جالوت بيدي داود، ورجع الله إلى بني إسرائيل ملكهم .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله " فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا" قضاء قض الله على القوم كما تسمعون ، فبعث عليهم في الأولى جالوت الجزري ، فسبى وقتل ، وجاسوا خلال الديار كما قال الله ، ثم رجع القوم علق دخن فيهم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : أما المرة الأولى فسلط الله عليهم جالوت ، حتى بعث طالوت ومعه داود، فقتله داود . وقال آخرون : بل بعث عليهم في المرة الأولى سنحاريب ، وقد ذكرنا بعض قائلي ذلك فيما مضى ونذكر ما حضرنا ذكره ممن لم نذكره قبل .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي المعلى ، قال : سمعت سعيد بن جبير ، يقول في قوله " بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد" قال : بعث الله تبارك تعالى عليهم في المرة الأولى سنحاريب من أهل أشور ونينوى، فسالت سعيدا عنها ، فزعم أنها الموصل .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال ثني حجاج عن ابن جريج ، قال : ثني يعلى بن مسلم بن سعيد بن جبير ، أنه سمعه يقول : كان رجل من بني إسرائيل يقرأ حتى إذا بلغ " بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد" بكى وفاضت عيناه ، وطبق المصحف ، فقال ذلك ما شاء الله من الزمان ، ثم قال : أي رب أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني إسرائيل على يديه ، فأري. في المنام مسكينا ببابل ، يقال له بختنصر، فانطلق بمال وأعبد له ، وكان رجلا موسرا، فقيل له أين تريد؟ قال : أريد التجارة حتى نزل دارآ ببابل ، فاستكراها ليس فيها أحد غيره ، فجعل يدعو المساكين ويلطف بهم حتى لم يبق أحد، فقال : هل بقي مسكين غيركم ؟ قالوا : نعم ، مسكين بفج آل فلان مريض يقال له بختنصر، فقال لغلمته : انطلقوا حتى أتاه ، فقال : ما اسمك ؟ قاك : بختنصر، فقال لغلمته : احتملوه ، فنقله إليه ومرضه حتى برأ، فكساه وأعطاه نفقة، ثم آذن الإسرائيلي بالرحيل ، فبكى بختنصر، فقال الإسرائيلي : ما يبكيك ؟ قال : أبكي أنك فعلت بي ما فعلت ، ولا أجد شيئا أجزيك ، قال : بلى شيئا يسيرا، إن ملكت أطعتني ، فجعل الآخر يتبعه ويقول : تستهزئ بي ! ولا يمنعه أن يعطيه ما سأله ، إلا أنه يرى أنه يستهزىء به ، فبكى الإسرائيلي وقال : لقد علمت ما يمنعك أن تعطيني ما سألتك ، إلا أن الله يريد أن ينفذ ما قد قضاه وكتب في كتابه وضرب الدهر من ضربه . فقال يوما صيحون ، وهو ملك فارس ببابل : لو أنا بعثنا طليعة إلى الشام ! قالوا : وما ضرك لو فعلت ؟ قال : فمن ترون ؟ قالوا : فلان ، فبعث رجلا وأعطاه مئة ألف ، وخرج بختنصر في مطبخه لم يخرج إلا لياكل في مطبخه ، فلما قدم الشام ورأى صاحب الطليعة أكثر أرض الله فرسا ورجلا جلدا، فكسر ذلك في ذرعه ، فلم يسال ، قال : فجعل بختنصر يجلس مجالس أهل الشام فيقول : ما يمنعكم أن تغزوا بابل ، فلو غزوتموها ما دون بيت مالها شيء ، قالوا : لا نحسن القتال ، قال : فلو أنكم غزوتم ، قالوا : إنا لا نحسن القتال ولا نقاتل ! حتى أنفذ مجالس أهل الشام ، ثم رجعوا فأخبر الطليعة ملكهم بما رأى، وجعل بختنصر يقول لفوارس الملك : لو دعاني الملك لأخبرته غير ما أخبره فلان ، فرفع ذلك إليه ، فدعاه فاخبره الخبر وقال : إن فلانا لما رأى أكثر أرض الله فرسا ورجلا جلدا ، كبر ذلك في روعه ولم يسالهم عن شيء ، لاني لم أدع مجلسا بالشام إلا جالست أهله ، فقلت لهم كذا وكذا، وقالوا لي كذا وكذا الذي ذكر سعيد بن جبير أنه قال لهم قال الطليعة لبختنصر: إنك فضحتني لك مئة ألف وتنزع عما قلت ، قال ؟ لو أعطيتني بيت مال بابل ما نزعت ، ضرب الدهر من ضربه ، فقال الملك : لو بعثنا جريدة خيل إلى الشام ، فإن وجدوا مساغا ساغوا، وإلا انثنوا ما قدروا عليه ، قالوا : ما ضرك لو فعلت ؟ قال ؟ فمن ترون ؟ قالوا : فلان ، قال : بل الرجل الذي أخبرني ما أخبرني ، فدعا بختنصر وأرسله ، وانتخب معه أربعة آلاف من فرسانهم ، فانطلقوا فجاسوا خلال الديار، فسبوا ما شاء الله ولم يخربوا ولم يقتلوا . ومات صيحون الملك ، قالوا : استخلفوا رجلا ! قالوا : على رسلكم حتى تأتي أصحابكم فإنهم فرسانكم ، لن ينقضوا عليكم شيئا، أمهلوا، فامهلوا حتى جاء بختنصر بالسبي وما معه ، فقسمه في الناس ، فقالوا : ما رأينا أحدا أحق بالملك من هذا ، فملكوه .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول : ظهر بختنصرعلى الشام ، فخرب بيت المقدس وقتلهم ، ثم أتى دمشق ، فوجد بها دما يغلي على كبا : أي كناسة، فسالهم ما هذا الدم ؟ قالوا : أدركنا اباءنا على هذا وكلما ظهر عليه الكبا ظهر، قال : فقتل على ذلك الدم سبعين ألفا من المسلمين وغيرهم ، فسكن . وقال اخرون : يعني بذلك قوما من أهل فارس ، قالوا : ولم يكن في المرة الأولى قتال . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبوعاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد "فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار" قال : من جاءهم من فارس يتجسسون أخبارهم ، ويسمعون حديثهم ، معهم بختنصر، فوعى أحاديثهم من بين أصحابه ، ثم رجعت فارس ولم يكن قتال ، ونصرت عليهم بنو إسرائيل ، فهذا وعد الأولى .
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد "بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد" جند جاءهم من فارس يتجسسون أخبارهم ، نم ذكر نحوه .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد "فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد" قال : ذلك أي من جاءهم من فارس ، ثم ذكر نحوه .
قوله تعالى : " فإذا جاء وعد أولاهما " أي أولى المرتين من فسادهم . " بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد " هم أهل بابل ، وكان عليهم بختنصر في المرة الأولى حين كذبوا إرمياء وجرحوه وحبسوه ، قاله ابن عباس وغيره وقال قتادة : أرسل عليهم جالوت فقتلهم ، فهو وقومه أولو بأس شديد . وقال مجاهد : جاءهم جند من فارس يتجسسون أخبارهم ومعهم بختنصر فوعى حديثهم من بين أصحابه ثم رجعوا إلى فارس ولم يكن قتال ،وهذا في المرة الأولى ، فكان منهم جوس خلال الديار لا قتل ، وذكر القشيري أبونصر . وذكر المهدوي عن مجاهد أنه جاءهم بختنصر فهزمه بنو إسرائيل ، ثم جاءهم ثانية فقتلهم ودمرهم تدميرا . ورواه أبو نجيح عن مجاهد ، ذكره النحاس . وقال محمد ابن إسحاق في خبر فيه طول : إن المهزوم سنحاريب ملك بابل جاء ومعه ستمائة ألف راية تحت كل راية مائة ألف فارس فنزل حول بيت المقدس فهزمه الله تعالى وأمات جميعهم إلا سنحاريب وخمسة نفر من كتابه ، وبعث ملك بني إسرائيل واسمه صديقة في طلب سنحاريب فأخذ مع الخمسة ، أحدهم بختنصر فطرح في رقابهم الجوامع وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وإيلياء ويرزقهم كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم ، ثم أطلقهم فرجعوا إلى بابل ، ثم مات سنحاريب بعد سبع سنين ، واستخلف بختنصر وعظمت الأحداث في بني إسرائيل ، واستحلوا المحارم وقتلوا نبيهم شعيا فجاءهم بختنصر ودخل هو وجنوده بيت المقدس وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم . وقال ابن عباس وابن مسعود : أول الفساد قتل زكريا . وقال ابن إسحاق : فسادهم في المرة الأولى قتل شيعا نبي الله في الشجرة ، وذلك لأنه لما مات صديقة ملكهم مرج أمرهم وتنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضا وهم لا يسمعون من نبيهم ، فقال الله تعالى له قم في قومك أوح على لسانك ، فلما فرغ مما أوحى الله إليه عدوا عليه ليقتلوه فهرب فانفلقت له شجرة فدخل فيها ، وأدركه الشيطان فأخذ هدبة من ثوبه فأراهم إياها ، فوضعوا المنشار في وسطها فنشوها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها . وذكر ابن إسحاق أن بعض العلماء أخبره أن زكريا مات موتا ولم يقتل وإنما المقتول شعيا . وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى " بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار " هو سنحاريب من أهل نينوي بالموصل ملك بابل . وهذا خلاف ما قال ابن إسحاق ، فالله أعلم وقيل : إنهم العمالقة وكانوا كفارا ، قاله الحسن . ومعنى جاسوا : عاثوا وقتلوا ، وكذلك جاسوا وهاسوا وداسوا ، قاله ابن عزيز ، وهو قول القتبي . وقرأ ابن عباس : حاسوا بالحاء المهملة . قال أبو زيد : الحوس والجوس والعوس والهوس : الطواف بالليل . وقال الجوهري : الجوس مصدر قولك جاسوا خلال الديار ، أي تخللوها فطلبوا ما فيها كما يجوس الرجل الأخبار أي يطلبها ، وكذلك الاجتياس . والجوسان بالتحريك الطوفان بالليل ، وهو قول أبي عبيدة . وقال الطبري : طافوا بين الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين وجائين فجمع بين قول أهل اللغة . قال ابن عباس ك مشوا وترددوا بين الدور والمساكن . وقال الفراء : قتلوكم بين بيوتكم ، وأنشد لحسان :
ومنا الذي لاقى بسيف محمد فجاس به الأعداء عرض العساكر
وقال قطرب : نزلوا ، قال :
فجسنا ديارهم عنوة وأبنا بادتهم موثقينا
" وكان وعدا مفعولا " أي قضاء كائنا لا خلف فيه .
يخبر تعالى أنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب, أي تقدم إليهم وأخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين, ويعلون علواً كبيراً, أي يتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس, كقوله تعالى: "وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين" أي تقدمنا إليه, وأخبرناه بذلك, وأعلمناه به. وقوله "فإذا جاء وعد أولاهما" أي أولى الإفسادتين "بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد" أي سلطنا عليكم جنداً من خلقنا أولي بأس شديد¹ أي قوة وعدة وسلطنة شديدة, فجاسوا خلال الديار, أي تملكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم, أي بينها ووسطها, وانصرفوا ذاهبين وجائين لا يخافون أحداً وكان وعداً مفعولاً. وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف في هؤلاء المسلطين عليهم من هم ؟ فعن ابن عباس وقتادة أنه جالوت الجزري وجنوده, سلط عليهم أولاً ثم أديلوا عليه بعد ذلك. وقتل داود جالوت, ولهذا قال "ثم رددنا لكم الكرة عليهم" الاية, وعن سعيد بن جبير أنه ملك الموصل سنجاريب وجنوده. وعنه أيضاً وعن غيره أنه بختنصر ملك بابل. وقد ذكر ابن أبي حاتم له قصة عجيبة في كيفية ترقيه من حال إلى حال إلى أنه ملك البلاد, وأنه كان فقيراً مقعداً ضعيفاً يستعطي الناس ويستطعمهم, ثم آل به الحال إلى ما آل, وأنه سار إلى بلاد بيت المقدس فقتل بها خلقاً كثيراً من بني إسرائيل, وقد روى ابن جرير في هذا المكان حديثاً أسنده عن حذيفة مرفوعاً مطولاً, وهو حديث موضوع لا محالة, لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث, والعجب كل العجب كيف راج عليه مع جلالة قدره وإمامته, وقد صرح شيخنا الحافظ العلامة أبو الحجاج المزي رحمه الله بأنه موضوع مكذورب, وكتب ذلك على حاشية الكتاب. وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية لم أر تطويل الكتاب بذكرها, لأن منها ما هو موضوع ومن وضع بعض زنادقتهم, ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحاً, ونحن في غنية عنها, ولله الحمد. وفيما قص الله علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله, ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم. وقد أخبره الله عنهم أنهم لما طغوا وبغوا, سلط الله عليهم عدوهم فاستباح بيضتهم, وسلك خلال بيوتهم, وأذلهم وقهرهم جزاء وفاقاً, وما ربك بظلام للعبيد, فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقاً من الأنبياء والعلماء. وقد روى ابن جرير حدثني يونس بن عبد الأعلى , حدثنا ابن وهب , أخبرني سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: ظهر بختنصر على الشام, فخرب بيت المقدس وقتلهم, ثم أتى دمشق فوجد بها دماً يغلي على كبار فسألهم, ما هذا الدم ؟ فقالوا: أدركنا آباءنا على هذا, وكلما ظهر عليه الكبار ظهر, قال: فقتل على ذلك الدم سبعين ألفاً من المسلمين وغيرهم, فسكن, وهذا صحيح إلى سعيد بن المسيب , وهذا هو المشهور, وأنه قتل أشرافهم وعلماءهم حتى إنه لم يبق من يحفظ التوراة, وأخذ منهم خلقاً كثيراً أسرى من أبناء الأنبياء وغيرهم, وجرت أمور وكوائن يطول ذكرها, ولو وجدنا ما هو صحيح أو ما يقاربه لجاز كتابته وروايته, والله أعلم. ثم قال تعالى: "إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها" أي فعليها, كما قال تعالى: "من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها". وقوله: " فإذا جاء وعد الآخرة " أي الكرة الاخرة, أي إذا أفسدتم الكرة الثانية وجاء أعداؤكم "ليسوءوا وجوهكم" أي يهينوكم ويقهروكم, "وليدخلوا المسجد" أي بيت المقدس "كما دخلوه أول مرة" أي في التي جاسوا فيها خلال الديار, "وليتبروا" أي يدمروا ويخربوا "ما علوا" أي ما ظهروا عليه "تتبيراً * عسى ربكم أن يرحمكم" أي فيصرفهم عنكم, "وإن عدتم عدنا" أي متى عدتم إلى الإفساد "عدنا" إلى الإدالة عليكم في الدنيا مع ما ندخره لكم في الاخرة من العذاب والنكال, ولهذا قال: "وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً" أي مستقراً ومحصراً وسجناً لا محيد لهم عنه. قال ابن عباس : حصيراً أي سجناً. وقال مجاهد : يحصرون فيها, وكذا قال غيره, وقال الحسن : فرشاً ومهاداً. وقال قتادة : قد عاد بنو إسرائيل, فسلط الله عليهم هذا الحي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه, يأخذون منهم الجزية عن يد وهم صاغرون.
5- "فإذا جاء وعد أولاهما" أي أولى المرتين المذكورتين "بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد" أي قوة في الحروب وبطش عند اللقاء. وقيل هو بختنصر وجنوده، وقيل جالوت، وقيل جند من فارس، وقيل جند من بابل "فجاسوا خلال الديار" أي عاثوا وترددوا، يقال جاسوا وهاسوا وداسوا بمعنى، ذكره ابن غرير والقتيبي. قال الزجاج: معناه طافوا خلال هل بقي أحد لم يقتلوه؟ قال: والجوس طلب الشيء باستقصاء. قال الجوهري: الجوس مصدر قولك جاسوا خلال الديار: أي تخللوها كما يجوس الرجل للأخبار: أي يطلبها، وكذا قال أبو عبيدة: وقال: ابن جرير: معنى جاسوا طافوا بين الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين وجائين. وقال الفراء: معناه قتلوهم بين بيوتهم وأنشد لحسان:
ومنا الذي لاقى بسيف محمد فجاس به الأعداء عرض العساكر
وقال قطرب: معناه نزلوا وأنشد قول الشاعر:
فجسنا ديارهم عنوة وأبنا بساداتهم موثقينا
وقرأ ابن عباس فحاسوا بالحاء المهملة. قال أبو زيد: الحوس والجوس والعوس والهوس: الطوف بالليل قيل الطوف بالليل هو الجوسان محركاً كذا قال أبو عبيدة. وقرئ خلل الديار ومعناه معنى خلال وهو وسط الديار "وكان" ذلك "وعداً مفعولاً" أي كائناً لا محالة.
5 - " فإذا جاء وعد أولاهما " ، يعني : أولى المرتين.
قال قتادة : إفسادهم في المرة الأولى ما خالفوا من أحكام التوراة ، وركبوا المحارم .
وقال ابن إسحاق إفسادهم في المرة الأولى قتل شعياء بين الشجرة وارتكابهم المعاصي .
" بعثنا عليكم عباداً لنا " ، قال قتادة يعني جالوت الخزري وجنوده ، وهو الذي قتله داود .
وقال سعيد بن جبير : يعني سنجاريب من أهل نينوى .
وقال ابن إسحاق : بختنصر البابلي وأصحابه . وهو الأظهر .
" أولي بأس " ، ذوي بطش ، " شديد " ، في الحرب ، " فجاسوا " ، أي : فطافوا وداروا ، " خلال الديار " ، وسطها يطلبونكم ويقتلونكم ، والجوس طلب الشيء بالاستقصاء . قال الفراء : جاسوا قتلوكم بين بيوتكم .
" وكان وعداً مفعولاً " ، قضاء كائناً لا خلف فيه .
5."فإذا جاء وعد أولاهما"وعد عقاب أولاهما. "بعثنا عليكم عباداً لنا" بختنصر عامل لهراسف على بابل وجنوده . وقيل جالوت الجزري . وقيل سنحاريب من أهل نينوى."أولي بأس شديد"ذوي قوة وبطش في الحرب شديد."فجاسوا"فترددوا لطلبكم.وقرئ بالحاء المهملة هما أخوان . "خلال الديار"وسطها للقتل والغارة فقتلوا كبارهم وسبوا صغارهم وحرقوا التوراة وخربوا المسجد .والمعتزلة لما منعوا تسليط الله الكافر على ذلك أولوا البعث بالتخلية وعدم المنع . "وكان وعداً مفعولاً"وكان وعد عقابهم لا بد أن يفعل.
5. So when the time for the first of the two came, We roused against you slaves of Ours of great might who ravaged (your) country, and it was a threat performed.
5 - When the first of the warnings came to pass, we sent against you our servants given to terrible warfare: they entered the very inmost parts of your homes; and it was a warning (completely) fulfilled.