[الإسراء : 17] وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا بَصِيرًا
17 - (وكم) أي كثيرا (أهلكنا من القرون) الأمم (من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا) عالما ببواطنها وظواهرها وبه يتعلق بذنوب
وهذا وعيد من الله تعالى ذكره مكذبي رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش ، وتهديد لهم بالعقاب ، وإعلام منه لهم ، أنهم إن لم ينتهوا عما هم عليه مقيمون من تكذيبهم رسوله عليه الصلاة والسلام أنه محل بهم سخطه ، ومنزل بهم من عقابه ما أنزل بمن قبلهم من الأمم الذين سلكوا في الكفر بالله ، وتكذيب رسله سبيلهم . يقول الله تعالى ذكره : وقد أهلكنا أيها القوم من قبلكم من بعد نوح إلى زمانكم قرونأ كثيرة كانوا من جحود آيات الله والكفر به ، وتكذيب رسله ، على مثل الذي أنتم عليه ، ولستم باكرم على الله تعالى منهم ، لأنه لا مناسبة بين أحد وبين الله جل ثناؤه ، فيعذب قوما بما لا يعذب به اخرين ، أو يعفو عن ذنوب ناس فيعاقب عليها اخرين . يقول جل ثناؤه : فانيبوا إلى طاعة الله ربكم ، فقد بعثنا إليكم رسولا ينبهكم على حججنا عليكم ، ويوقظكم من غفلتكم ، ولم نكن لنعذب قومأ حتى نبعث إليهم رسولا منبها لهم على حجج الله ، وأنتم على فسوقكم مقيمون ، وكفى بربك يا محمد. بذنوب عباده خبيرا. يقول : وحسبك يا محمد بالله خابرا بذنوب خلقه عالما، فإنه لا يخفى عليه شيء من أفعال مشركي قومك هؤلاء، ولا أفعال غيرهم من خلقه ، هو بجميع ذلك عالم خابر بصير، يقول : يبصر ذلك كله فلا يغيب عنه منه شيء ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر. وقد اختلف في مبلغ مدة القرن .
فحدثنا مجاهد بن موسى ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا حماد بن سلمة ، عن أبي محمد بن عبدالله بن أبي أوفى ، قال : القرن عشرون ومئة سنة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول قرن كان ، وآخرهم يزيد بن معاوية . وقال آخرون : بل هو مئة سنة.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا حسان بن محمد بن عبد الرحمن الحمصي أبو الصلت الطائي ، قال : ثنا سلامة بن حواس ، عن محمد بن القاسم ، عن عبد الله بن بسر المازني ، قال : وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على رأسه وقال : سيعيش هذا الغلام قرنا قلت : كم القرن ؟ قال : مئة سنة.
حدثنا حسان بن محمد ، قال : ثنا سلامة بن حواس ، عن محمد بن القاسم ، قال : ما زلنا نعد له حتى تمت مئة سنة ثم مات .
قال أبو الصلت : أخبرني سلامة أن محمد بن القاسم هذا كان ختن عبد الله بن بسر. وقال آخرون في ذلك بما:
حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري ، قال : أخبرنا عمر بن شاكر ، عن ابن سيرين ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القرن أربعون سنة. وقوله " وكفى بربك " أدخلت الباء في قوله " بربك " وهو في محل رفع ، لأن معنى الكلام : وكفاك ربك ، وحسبك ربك بذنوب عباده خبيرا، دلالة على المدح ، وكذلك تفعل العرب في كل كلام كان بمعنى المدح أو ، تدخل في الاسم الباء وألاسم المدخلة عليه الباء في موضع رفع لتدل بدخولها على المدح أو الذم كقولهم : أكرم به رجلا، وناهيك به رجلا، وجاد بثوبك ثوبا، وطاب بطعامكم طعاما، وما أشبه ذلك من الكلام ، ولو أسقطت الباء مما دخلت فيه من هذه الأسماء رفعت ، لأنها في محل رفع ، كما قال الشاعر:
ويخبرني عن غائب المرء هديه كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا
فاما إذا لم يكن في الكلام مدح أو ذم فلا يدخلون في الاسم الباء، لا يجوز أن يقال : قام باخيك ، وأنت تريد: قام أخوك ، إلا أن تريد: قام رجل آخر به ، وذلك معنى غير المعنى الأول .
قوله تعالى : " وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح " أي كم من قوم كفروا حل به البوار . يخوف كفار مكة ، وقد تقدم القول في القرن في أول سورة الأنعام ، والحمد لله " وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا " خبيرا عليما بهم بصيرا يبصر أعمالهم ، وقد تقدم .
يقول تعالى منذراً كفار قريش في تكذيبهم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم, بأنه قد أهلك من المكذبين للرسل من بعد نوح, ودل هذا على أن القرون التي كانت بين آدم ونوح على الإسلام كما قال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام, ومعناه أنكم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم وقد كذبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق, فعقوبتكم أولى وأحرى. وقوله: "وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً" أي هو عالم بجميع أعمالهم: خيرها وشرها لا يخفى عليه منها خافية سبحانه وتعالى.
ثم ذكر سبحانه أن هذه عادته الجارية مع القرون الخالية فقال 17- "وكم أهلكنا من القرون" أي كثيراً ما أهلكنا منهم، فكم مفعول أهلكنا، ومن القرون بيان لـكم وتمييز له: أي كم من قوم كفروا من بعد نوح كعاد وثمود، فحل بهم البوار ونزل بهم سوط العذاب، وفيه تخويف لكفار مكة. ثم بخاطب رسوله بما هو ردع للناس كافة فقال: "وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً" قال الفراء: إنما يجوز إدخال الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه أو يذم به، كقولك كفاك، وأكرم به رجلاً، وطاب بطعامك طعاماً، ولا يقال قام بأخيك وأنت تريد قام أخوك. في الآية بشارة عظيمة لأهل الطاعة وتخويف شديد لأه لامعصية، لأن العلم التام والخبرة الكاملة والبصيرة النافذة تقتضي إيصال الجزاء إلى مستحقه بحسب استحقاقه، ولا ينافيه مزيد التفضل على من هو أهل لذلك، والمراد بكونه سبحانه خبيراً بصيراً أنه محيط بحقائق الأشياء ظاهراً وباطناً لا تخفى عليه منها خافية.
وقد أخرج البيهقي في دلائل النبوة وابن عساكر عن سعيد المقبري "أن عبد الله بن سلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن السواد الذي في القمر، فقال: كانا شمسين قال الله: "وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل" فالسواد الذي رأيت هو المحو". وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى هذا بأطول منه. قال السيوطي: وإسناده واه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف عن علي في قوله: "فمحونا آية الليل" قال: هو السواد الذي في القمر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وجعلنا آية النهار مبصرة" قال: منيرة "لتبتغوا فضلاً من ربكم" قال: جعل لكم سبحاً طويلاً. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فصلناه" قال: بيناه. وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير بسند حسن عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "طائر كل إنسان في عنقه". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ألزمناه طائره في عنقه" قال: سعادته وشقاوته وما قدر الله له وعليه فهو لازمه أين كان. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أنس في قوله: "طائره" قال: كتابه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: عمله "ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً" قال: هو عمله الذي أحصي عليه فأخرج له يوم القيامة ما كتب له من العمل فقرأه منشوراً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: " اقرأ كتابك " قال، سيقرأ يومئذ من لم يكن قارئاً في الدنيا. وأخرج ابن عبد البر في التمهيد عن عائشة في قوله: "ولا تزر وازرة وزر أخرى" قال: سألت خديجة عن أولاد المشركين فقال: هم من آبائهم، ثم سألته بعد ذلك فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين، ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت "ولا تزر وازرة وزر أخرى" فقال: هم على الفطرة أو قال في الجنة. قال السيوطي: وسنده ضعيف. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له: يا رسول الله إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين، قال: هم منهم" وفي ذلك أحاديث كثيرة وبحث طويل. وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية غالب الأحاديث الواردة في أطفال المشركين، ثم نقل كلام أهل العلم في المسألة فليرجع إليه. وأخرج إسحاق بن راهويه وأحمد وابن حبان وأبو نعيم في المعرفة والطبراني وابن مردويه والبيهقي في كتاب الاعتقاد عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة، ثم قال: فيأخذ الله مواثيقهم ليطيعنه ويرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار، قال: فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها يسحب إليها" وإسناده عند أحمد، هكذا حدثنا علي بن عبد الله حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن أبي قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع. وأخرج نحوه إسحاق ين راهويه وأحمد وابن مردويه عن أبي هريرة، وهو عند أحمد بالإسناد المذكور عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة. وأخرج قاسم بن أصبغ والبزار وأبو يعلى وابن عبد البر في التمهيد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه، وجعل مكان الأحمق المعتوه. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والطبراني وأبو نعيم عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يؤتى يوم القيامة بالمسموح عقلاً وبالهالك في الفترة، وبالهالك صغيراً" فذكر معناه مطولاً. وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريح عن ابن عباس في قوله: "أمرنا مترفيها" قال: بطاعة الله فعصوا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن شهر بن حوشب قال: سمعت ابن عباس يقول في الآية "أمرنا مترفيها" بحق فخالفوه، فحق عليهم بذلك التدمير. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عنه في الآية قال: سلطنا شرارنا فصوا فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب وهو كقوله: "وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها". وأخرج البخاري وابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا نقول للحي إذا كثروا في الجاهلية قد أمر بنو فلان.
17 - قوله : " وكم أهلكنا من القرون " أي : المكذبة ، " من بعد نوح " ، يخوف كفار مكة ، " وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً " ، قال عبد الله بن أبي أوفى : القرن مائة وعشرون سنة ، فبعث الله صلى الله عليه وسلم في أول قرن ، وكان في آخره يزيد بن معاوية .
وقيل : مائة سنة . وروي عن محمد بن القاسم عن عبد الله بن بسر المازني "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على رأسه وقال : سيعيش هذا الغلام قرناً " قال محمد بن القاسم فما زلنا نعد له حتى تم له مائة سنة ، ثم مات .
قال الكلبي : ثمانون سنة . وقيل : أربعون سنة .
17."وكم أهلكنا"وكثيراً أهلكنا."من القرون"بيان لكم وتمييز له ."من بعد نوح"كعاد وثمود."وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً"يدرك بواطنها وظواهرها فيعاقب عليها، وتقديم الخبير لتقديم متعلقه.
17. How many generations have we destroyed since Noah! And Allah sufficeth as knower and Beholder of the sins of His slaves.
17 - How many generations have we destroyed after Noah? and enough is thy Lord to note and see the sins of his servants.