[النحل : 53] وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ
53 - (وما بكم من نعمة فمن الله) لا يأتي بها غيره وما شرطية أو موصولة (ثم إذا مسكم) أصابكم (الضر) الفقر والمرض (فإليه تجأرون) ترفعون أصواتكم بالاستغاثة والدعاء ولا تدعون غيره
اختلف أهل العربية في وجه دخول الفاء في قوله "فمن الله" فقال بعض البصريين : دخلت الفاء ، لأن ما بمنزلة من فجعل الخبر بالفاء . وقال بعض الكوفيين : ما في معنى جزاء ، ولها فعل مضمر كأنك قلت : ما يكن بكم من نعمة فمن الله ، لأن الجزاء لا بد له من فعل مجزوم ، إن ظهر فهو جزم ، وإن لم يظهر فهو مضمر ، كما قال الشاعر :
إن العقل في أموالنا لا نضق به ذراعا وإن صبرا فنعرف للصبر
وقال : أراد : إن يكون العقل فأضمره ، قال : وإن جعلت ما بكم في معنى الذي جاز ، وجعلت صلته بكم و ما في موضع رفع بقوله : "فمن الله" وأدخل الفاء ، كما قال ( إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ) وكل اسم وصل مثل من وما والذي ، فقد يجوز دخول الفاء في خبره لأنه مضارع للجزاء والجزاء قد يجاب بالفاء ، ولا يجوز أخوك فهو قائم ، لأنه اسم غير موصول ، وكذلك تقول : ما لك لي ، فإن قلت :ما لك ، جاز أن تقول : ما لك فهو لي ، وإن ألقيت الفاء فصواب .
وتأويل الكلام : ما يكن بكم في أبدانكم أيها الناس من عافية وصحة وسلامة ، وفي أموالكم من نماء ، فالله المنعم عليكم بذلك لا غيره ، لأن ذلك إليه وبيده "ثم إذا مسكم الضر" يقول : إذا أصابكم في أبدانكم سقم ومرض ، وعلة عارضة ،وشدة من عيش "فإليه تجأرون" يقول : فإلى الله تصرخون بالدعاء وتستغيثون به ، ليكشف ذلك عنكم . وأصله : من جؤار الثور ، يقال منه :جأر الثور يجأر جؤارا ، وذلك إذا رفع صوتاً شديداً من جوع أو غيره ،ومنه قول الأعشى :
وما أيبلي على هيكل بناه وصلب فيه وصارا
يراوح من صلوات المليـ طورا سجودا وطورا جؤارا
يعني بالجؤار : الصياح إما بالدعاء ، وإما بالقراءة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ،قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ،قال : حدثنا الحسن قال :حدثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال :حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ،جميعاً عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ،في قوله : "فإليه تجأرون" قال : تضرعون دعاء .
حدثنا القاسم ، قال :حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ،عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : الضر :السقم .
قوله تعالى: " وما بكم من نعمة فمن الله " قال الفراء. ( ما) بمعنى الجزاء. والباء في ( بكم) متعلقة بفعل مضمر، تقديره: وما يكن بكم. " من نعمة " أي صحة جسم وسعة رزق وولد فمن الله. وقيل: المعنى وما بكم من نعمة فمن الله هي. " ثم إذا مسكم الضر " أي السقم والبلاء والقحط. " فإليه تجأرون " أي تضجون بالدعاء. يقال: جأر يجأر جؤاراً. والجؤار مثل الخوار، يقال: جأر الثور يجأر، أي صاح. وقرأ بعضهم ( عجلا جسدا له جؤار)، حكاه الأخفش . وجأر الرجل إلى الله، أي تضرع بالدعاء. وقال الأعشى يصف بقرة:
فطافت ثلاثاً بين يوم وليلة وكان النكير إن تضيف وتجأرا
يخبر تعالى أنه لا إله إلا هو, وأنه لا ينبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له, فإنه مالك كل شيء وخالقه وربه "وله الدين واصباً" قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وميمون بن مهران والسدي وقتادة وغير واحد: أي دائماً, وعن ابن عباس أيضا: أي واجباً. وقال مجاهد: أي خالصاً له, أي له العبادة وحده ممن في السموات والأرض, كقوله: " أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون " هذا على قول ابن عباس وعكرمة, فيكون من باب الخبر, وأما على قول مجاهد فإنه يكون من باب الطلب, أي ارهبوا أن تشركوا بي شيئاً وأخلصوا لي الطاعة, كقوله تعالى: "ألا لله الدين الخالص" ثم أخبر أنه مالك النفع والضر, وأن ما بالعباد من رزق ونعمة وعافية ونصر فمن فضله عليهم, وإحسانه إليهم "ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون" أي لعلمكم أنه لا يقدر على إزالته إلا هو فإنكم عند الضرورات تلجأون إليه وتسألونه وتلحون في الرغبة إليه مستغيثين به, كقوله تعالى: "وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً" وقال ههنا: "ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون * ليكفروا بما آتيناهم" قيل: اللام ههنا لام العاقبة. وقيل : لام التعليل بمعنى قيضنا لهم ذلك ليكفروا أي يستروا ويجحدوا نعم الله عليهم وأنه المسدي إليهم النعم, الكاشف عنهم النقم, ثم توعدهم قائلاً "فتمتعوا" أي اعملوا ما شئتم وتمتعوا بما أنتم فيه قليلاً "فسوف تعلمون" أي عاقبة ذلك.
ثم امتن سبحانه عليهم بأن جميع ما هم متقلبون فيه من النعم هو منه لا من غيره فقال: 53- "وما بكم من نعمة" أي ما يلابسكم من النعم على اختلاف أنواعها فمن الله: أي فهي منه، فتكون ما شرطية، ويجوز أن تكون موصولة متضمنة معنى الشرط، و "بكم" صلتها، و "من نعمة" حال من الضمير في الجار والمجرور، أو بيان لما. وقوله: "فمن الله" الخبر، وعلى كون ما شرطية يكون فعل الشرط محذوفاً أي ما يكن، والنعمة إما دينية وهي معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به، وإما دنيوية نفسانية، أو بدنية أو خارجية كالسعادات المالية وغيرها، وكل واحدة من هذه جنس تحته أنواع لا حصر لها، والكل من الله سبحانه فعلى العاقل أن لا يشكر إلا إياه، ثم بين تلون الإنسان بعد استغراقه في بحر النعم فقال: "ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون" أي إذا مسكم الضر أي مس فإلى الله سبحانه لا إلى غيره تتضرعون في كشفه فلا كاشف له إلا هو، يقال جأر يجأر جؤوراً: إذا رفع صوته في تضرع. قال الأعشى يصف بقرة:
فطافت ثلاثاً بين يوم وليلة وكان النكير أن تطيف وتجأرا
والضر: المرض والبلاء والحاجة والقحط وكل ما يتضرر به الإنسان.
53 - قوله تعالى : " وما بكم من نعمة فمن الله " ، أي : وما يكن بكم من نعمة فمن الله ، " ثم إذا مسكم الضر " ، القحط والمرض ، " فإليه تجأرون " ، تضجون وتصيحون بالدعاء والاستغاثة .
53."وما بكم من نعمة فمن الله "أي وأي شيء اتصل بكم من نعمة فهو من الله ، "وما"شرطية أو موصولة متضمنة معنى الشرط باعتبار الإخبار دون الحصول ، فإن استقرار النعمة بهم يكون سبباً للإخبار بأنها من الله لا لحصولها منه ."ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون "فما تتضرعون إلا إليه ، و الجؤار رفع الصوت في الدعاء والاستغاثة.
53. And whatever of comfort ye enjoy, it is from Allah. Then, when misfortune reacheth you, unto Him ye cry for help.
53 - And ye have no good thing but is from God: and moreover, when ye are touched by distress, unto him ye cry with groans;