[النحل : 111] يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
111 - اذكر (يوم تأتي كل نفس تجادل) تحاج (عن نفسها) لا يهمها غيرها وهو يوم القيامة (وتوفى كل نفس) جزاء (ما عملت وهم لا يظلمون) شيئا
يقول تعالى ذكره : إن ربك من بعدها لغفور رحيم "يوم تأتي كل نفس" تخاصم عن نفسها ، وتحتج عنها بما اسلفت في الدنيا من خير أو شر أو إيمان أو كفر "وتوفى كل نفس ما عملت" في الدنيا من طاعة ومعصية "وهم لا يظلمون" : يقول : وهم لا يفعل بهم إلا ما يستحقونه ويستوجبونه بما قدموه من خير أو شر فلا يجزى المحسن إلا بالإحسان ، ولا المسيء إلا بالذي أسلف من الإساءة ، لا يعاقب محسن ولا يبخس جزاء إحسانه ، ولا يثاب مسيء إلا ثواب عمله .
واختلف أهل العربية في السبب الذي من أجله قيل تجادل ، فأنث الكل ، فقال بعض نحويي البصرة : قيل ذلك لأن معنى كل نفس : كل إنسان ، وأنث لأن النفس تذكر وتؤنث ، يقال : ما جاءني نفس واحد وواحدة . وكان بعض أهل العربية يرى هذا القول من قائله غلطاً ويقول : كل إذا أضيفت إلى نكرة واحدة خرج الفعل على قدر النكرة : كل امرأة قائمة ، وكل رجم قائم ،وكل امرأتين قائمتان ، وكل رجلين قائمان ، وكل نساء قائمات ، وكل رجال قائمون ، فيخرج على عدد النكرة وتأنيثها وتذكيرها ،ولا حاجة به إلى تأنيث النفس وتذكيرها .
قوله تعالى " يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها " أي إن الله غفور رحيم في ذلك . أو ذكرهم يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها أي تخاصم وتحاج عن نفسها جاء في الخبر أن كل أحد يقول يوم القيامة : نفسي نفسي من شدة هول يوم القيامة سوى محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يسأل في أمته . وفي حديث عمر أنه قال لكعب الأحبار : يا كعب خوفنا هيجنا حدثنا نبهنا . فقال له كعب : يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبيا لأنت عليك تارات لا يهمك إلا نفسك وإن لجهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي منتخب إلا وقع جاثيا على ركبتيه ، حتى إن إبراهيم الخليل ليدلي بالخلة فيقول يا رب أنا خليلك إبراهيم لا أسألك اليوم إلا نفسي قال : يا كعب أين تجد ذلك في كتاب الله قال قوله تعالى " يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون " وقال ابن عباس في هذه ما تزال الخصومة بالناس يوم القيامة حتى تخاصم الروح الجسد فتقول الروح : رب الروح منك أنت خلقته لم تكن لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها ولا أذن أسمع بها ولا عقل أعقل به حتى جئت فدخلت في هذا الجسد فضعف عليه أنواع العذاب ونجني فيقول فيقول الجسد رب أنت خلقتني بيدك فكنت كالخشبة ليس لي يد أبطش بها ولا قدم أسعى بها ولا بصر أبصر به ولا سمع أسمع به فجاء هذا كشعاع النور فبه نطق لساني وبه أبصرت عيني وبه مشت رجلي وبه سمعت أذني فضعف عليه أنواع العذاب ونجني منه قال فيضرب الله لهما مثلا أعمى ومقعدا دخلا بستانا فيه ثمار فالأعمى لا يبصر الثمرة والمقعد لا ينالها فنادى المقعد الأعمى إيتني فاحملني آكل وأطعمك فدنا منه فحمله فأصابوا من الثمرة فعلى من يكون العذاب قال عليكما جميعا العذاب ذكره الثعلبي
هؤلاء صنف آخر كانو مستضعفين بمكة مهانين في قومهم فوافقوهم على الفتنة, ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه, وانتظموا في سلك المؤمنين, وجاهدوا معهم الكافرين, وصبروا, فأخبر تعالى أنه من بعدها, أي تلك الفعلة وهي الإجابة إلى الفتنة لغفور لهم رحيم بهم يوم معادهم "يوم تأتي كل نفس تجادل" أي تحاج "عن نفسها" ليس أحد يحاج عنها لا أب ولا ابن ولا أخ ولا زوجة "وتوفى كل نفس ما عملت" أي من خير وشر "وهم لا يظلمون" أي لا ينقص من ثواب الخير, ولا يزاد على ثواب الشر, ولا يظلمون نقيراً.
111- "يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها" قال الزجاج: يوم تأتي منتصب بقوله رحيم، أو بإضمار اذكر، أو ذكرهم أو أنذرهم، وقد استشكل إضافة ضمير النفس إلى النفس، ولا بد من التغاير بين المضاف والمضاف إليه. وأجيب بأن المراد بالنفس الأولى جملة بدن الإنسان، وبالنفس الثانية الذات، فكأن قيل يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه غيرها، ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها، فهو مجادل ومخاصم عن نفسه لا يتفرغ لغيرها يوم القيامة.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إلى المدينة قال لأصحابه: تفرقوا عني فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل، ومن لم تكن به قوة فليذهب في أول الليل، فإذا سمعتم بي قد استقرت بي الأرض فالحقوا بي، فأصبح بلال المؤذن وخباب وعمار وجارية من قريش كانت أسلمت، فأخذهم المشركون وأبو جهل، فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى، فجعلوا يضعون درعاً من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه، فإذا ألبسوها إياه قال: أحد أحد، وأما خباب فجعلوا يجرونه في الشوك، وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية، وأما الجارية فوتد لها أبو جهل أربعة أوتاد، ثم مدها فأدخل الحربة في قبلها حتى قتلها، ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بالذي كان من أمرهم، واشتد على عمار الذي كان تكلم به، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان قبلك حين قلت الذي قلت، أكان منشرحاً بالذي قلت أم لا؟ قال لا، فأنزل الله "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان". وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن أبيه قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير فتركوه، فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما وراءك؟ قال: شر ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، قال: إن عادوا فعد، فنزلت "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" قال: ذاك عمار بن ياسر "ولكن من شرح بالكفر صدراً" عبد الله بن أبي سرح. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن عساكر عن أبي مالك في قوله: "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" قال: نزلت في عمار بن ياسر، وفي الباب روايات مصرحة بأنها نزلت في عمار بن ياسر. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين قال: نزلت هذه الآية "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" في عياش بن أبي ربيعة. وأخرج ابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: في سورة النحل " فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم " ثم نسخ واستثنى من ذلك فقال: "ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا" الآية قال: وهو عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأزله الشيطان فلحق بالكفار، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم فتح مكة، فاستجار له عثمان بن عفان فأجاره النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير عن عكرمة والحسن مثله. وأخرج ابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية "ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا" فيمن كان يفتي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن مردويه عنه قال: كان قوم من أهل مكة قد أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام فنزلت فيهم "ثم إن ربك للذين هاجروا" الآية فكتبوا إليهم بذلك إن الله قد جعل لكم مخرجاً فاخرجوا، فأدركهم المشركون فقاتلوهم فنجا من نجا، وقتل من قتل. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن أن عيوناً لمسيلمة أخذوا رجلين من المسلمين فأتوه بهما، فقال لأحدهما: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله فأهوى إلى أذنيه فقال: إني أصم، فأمر به فقتل، وقال للآخر: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، فأرسله فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أما صاحبك فمضى على إيمانه، وأما أنت فأخذت بالرخصة. وهو مرسل.
111 - " يوم تأتي كل نفس تجادل " ، تخاصم وتحتج ، " عن نفسها " ، بما أسلفت من خير وشر ،مشتغلاً بها لا تتفرغ إلى غيرها ، " وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون " .
روي أن عمر بن الخطاب قال لكعب الأحبار : خوفنا ، قال : يا أمير المؤمنين ، والذي نفسي بيده ،لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبياً لأتت عليك ساعات وأنت لا تهمك إلا نفسك ، وإن لجهنم زفرةً لا يبقى ملك مقرب ، ولا نبي مرسل منتخب ،إلا وقع جاثياً على ركبتيه ، حتى إبراهيم خليل الرحمن ، يقول : يا رب لا أسألك إلا نفسي ،وإن تصديق ذلك : الذي أنزل الله عليكم " يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها " .
وروي عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال : ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة، حتى تخاصم الروح الجسد ، فتقول الروح : يا رب ، لم يكن لي يد أبطش بها ،ولا رجل أمشي بها ، ولا عين أبصر بها . ويقول الجسد : خلقتني كالخشب ليست لي يد أبطش بها ، ولا رجل أمشي بها ، ولا عين أبصر بها ،فجاء هذا كشعاع النور ،فبه نطق لساني ، وأبصرت عيني ،ومشت رجلي . فيضرب الله لهما مثلاً : أعمى ومقعد ، دخلا حائطاً فيه ثمار ، فالأعمى لا يبصر الثمر ، والمقعد لا يناله ، فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر فعليهما العذاب .
111."يوم تأتي كل نفس"منصوب بـ"رحيم"أو باذكر ."تجادل عن نفسها"تجادل عن ذاتها وتسعى في خلاصها لا يهمها شأن غيرها فتقول نفسي نفسي ."وتوفى كل نفس ما عملت"جزاء ما عملت ."وهم لا يظلمون"لا ينقصون أجورهم.
111. On the Day when every soul will come pleading for itself, and every soul will be repaid what it did, and they will not be wronged.
111 - One day every soul will come up struggling for itself, and every soul will be recompensed (fully) for all its actions, and none will be unjustly dealt with.