[النحل : 106] مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
106 - (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره) على التلفظ بالكفر فتلفظ به (وقلبه مطمئن بالإيمان) ومن مبتدأ أو شرطية والخبر أو الجواب لهم وعيد شديد دل على هذا (ولكن من شرح بالكفر صدرا) له أي فتحه ووسعه بمعنى طابت له نفسه (فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم)
قوله تعالى إلا من أكره أخرج الآيه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إلى المدينة أخذ المشركون بلالا وخبابا وعمار بن ياسر فأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية فلما رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه فقال كيف كان قلبك حين قلت أكان منشرحا بالذي قلت قال لا فأنزل الله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان
وأخرج عن مجاهد قال نزلت هذه الآية في أناس من أهل مكة آمنوا فكتب اليهم بعض الصحابة بالمدينة أن هاجروا فخرجوا يريدون المدينة فأدركتهم قريش بالطريق ففتنوهم فكفروا مكرهين ففيهم نزلت هذه الآية
اختلف أهل العربية في العامل في من من قوله "من كفر بالله" ، ومن قوله "ولكن من شرح بالكفر صدرا" فقال بعض نحويي البصرة : صار قوله "فعليهم" خبراً لقوله "ولكن من شرح بالكفر صدرا" ، وقوله "من كفر بالله من بعد إيمانه" فأخبر لهم بخبر واحد ،وكان ذلك يدل على المعنى . وقال بعض نحويي الكوفة : إنما هذان جزءان اجتمعا ، أحدهما منعقد بالآخر ، فجوابهما واحد كقول القائل : من يأتنا فمن يحسن نكرمه ، بمعنى :من يحسن ممن يأتنا نكرمه . قال : وكذلك كل جزأين اجتمعا ،الثاني منعقد بالأول ، فالجواب لهما واحد ، وقال آخر من أهل البصرة : بل قوله "من كفر بالله" مرفوع بالرد على الذين في قوله "إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله" ومعنى الكلام عنده : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ، إلا من أكره من هؤلاء ، وقلبه مطمئن بالإيمان . وهذا قول لا وجه له ، وذلك أن معنى الكلام لو كان كما قال قائل هذا القول ، لكان الله تعالى ذكره قد أخرج ممن افترى الكذب في هذه الآية الذي ولدوا على الكفر وأقاموا عليه ، ولم يؤمنوا قط ، وخص به الذين قد كانوا آمنوا في حال ، ثم راجعوا الكفر بعد الإيمان ، والتنزيل يدل على أنه لم يخصص بذلك هؤلاء دون سائر المشركين الذين كانوا على الشرك مقيمين ، وذلك أنه تعالى أخبر خبر قوم منهم أضافوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم افتراء الكذب ، فقال ( وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون ) وكذب جميع المشركين بافترائهم على الله وأخبر أنهم أحق بهذه الصفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : "إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون" ، ولو كان الذين عنوا بهذه الآية هم الذين كفروا بالله من بعد إيمانهم ، وجب أن يكون القائلون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما أنت مفتر حين بدل الله آية مكان آية ، كانوا هم الذين كفروا بالله بعد الإيمان خاصة دون غيرهم من سائر المشركين ، لأن هذه سياق الخبر عنهم ، وذلك قول إن قاله قائل ، فبين فساده مع خروجه عن تأويل جميع أهل العلم بالتأويل .
والصواب من القول في ذلك عندي أن الرافع لمن الأولى والثانية ،قوله "فعليهم غضب من الله" والعرب تفعل ذلك في حروف الجزاء إذا استأنفت أحدهما على آخر .
وذكر أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر وقوم كانوا أسلموا ، ففتنهم المشركون عن دينهم ، فثبت على الإسلام بعضهم ، وافتتن بعض .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله "من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" .... إلى آخر الآية ، وذلك أن المشركين أصابوا عمار بن ياسر فعذبوه ، ثم تركوه ،فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحدثه بالذي لقي من قريش ، والذي قال . فأنزل الله تعالى ذكره عذره "من كفر بالله من بعد إيمانه" .... إلى قوله "ولهم عذاب عظيم" .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : "من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" قال : ذكر لنا أنها نزلت في عمار بن ياسر ، أخذه بنو المغيرة فغطوه في بئر ميمون وقالوا : اكفر بمحمد ، فتابعهم على ذلك وقلبه كاره ،فأنزل الله تعالى ذكره "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا" : أي من أتى الكفر على اختيار واستحباب "فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم" .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر ، قال : "أخذ المشركون عمار بن ياسر ، فعذبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كيف تجدقلبك ؟ قال : مطمئناً بالإيمان ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : فإن عادوا فعد" .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك ، في قوله "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" قال : نزلت في عمار بن ياسر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، قال : لما عذب الأعبد أعطوهم ما سألوا إلا خباب بن الأرت ، كانوا يضجعونه على الرضف فلم يستقلوا منه شيئاً .
فتأويل الكلام إذن : من كفر بالله من بعد إيمانه ،إلا من أكره على الكفر ، فنطق بكلمة الكفر بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان ، موقن بحقيقته ، صحيح عليه عزمه ، غير مفسوح الصدر بالكفر ، لكن من شرح بالكفر صدراً فاختاره وآثره على الإيمان ، وباح به طائعاً ، فعليهم غضب من الله ، ولهم عذاب عظيم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ورد الخبر ، عن ابن عباس .
حدثني علي بن داود، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" فأخبر الله سبحانه أنه من كفر من بعد إيمانه ، فعليه غضب من الله ، وله عذاب عظيم ، فأما من أكره فتكلم به لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو من عدوه ،فلا حرج عليه ، لأن الله سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم .
فيه إحدى وعشرون مسألة :
الأولى : قوله تعالى " من كفر بالله " هذا متصل بقوله تعالى " ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها " فكان مبالغة في الوصف بالكذب ، لأن معناه لا ترتدوا عن بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم أي من كفر من بعد إيمانه وارتد فعليه غضب الله . قال الكلبي نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ومقيس بن صبابة وعبد الله بن خطل وقيس بن الوليد بن المغيرة كفروا بعد إيمانهم ثم قال " إلا من أكره " وقال الزجاج من كفر بالله من بعد إيمانه بدل ممن يفتري الكذب أي إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام فعلقه بما قبله . وقال الأخفش من ابتداء وخبره محذوف اكتفي منه بخبر من الثانية كقولك من يأتنا من يحسن نكرمه .
الثانية : قوله تعالى " إلا من أكره " هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر في قول أهل التفسير لأنه قارب بعض ما ندبوه إليه ، "قال ابن عباس : أخذه المشركون وأخذوا أباه وأمه سمية وصهيبا وبلالا وخبابا وسالما فعذبوهم ، وربطت سمية بين بعيرين ووجئ قبلها بحربة وقيل لها إنك أسلمت من أجل الرجال ، فقتلت وقتل زوجها ياسر وهما أول قتيلين في الإسلام . وأما عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف تجد قلبك ؟ قال مطمئن بالإيمان . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن عادوا فعد " و" روى منصور بن المعتمر عن مجاهد قال أول شهيدة في الإسلام أم عمار قتلها أبو جهل وأول شهيد من الرجال مهجع مولى عمر" و" روى منصور أيضا عن مجاهد قال أول من أظهر الإسلام سبعة : رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وبلال وخباب وصهيب وعمار وسمية أم عمار فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه أبو طالب وأما أبو بكر فمنعه قومه وأخذوا الآخرين فألبسوهم أدراع الحديد ثم صهروهم في الشمس حتى بلغ منهم الجهد كل مبلغ من حر الحديد والشمس فلما كان من العشي أتاهم أبو جهل ومعه حربة فجعل يسبهم ويوبخهم ، وأتى سمية فجعل يسبها ويرفث ثم طعن فرجها حتى خرجت الحربة من فمها فقتلها رضي الله عنها " قال وقال الآخرون ما سئلوا إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله ، فجعلوا يعذبونه ويقولون له ارجع عن دينك وهو يقول أحد أحد حتى ملوه ثم كتفوه وجعلوا في عنقه حبلا من ليف ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به بين أخشبي مكة حتى ملوه وتركوه قال فقال عمار : كلنا تكلم بالذي قالوا لولا أن الله تداركنا غير بلال فإنه هانت عليه نفسه في الله فهان على قومه حتى ملوه وتركوه والصحيح أن أبا بكر اشترى بلالا فأعتقه . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أن ناسا من أهل مكة آمنوا فكتب إليهم بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالمدينة أن هاجروا إلينا فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا ، فخرجوا يريدون المدينة حتى أدركتهم قريس بالطريق ففتنوهم فكفروا مكرهين ففيهم نزلت هذه الآية . ذكروا الروايتين عن مجاهد إسماعيل بن إسحاق وروى الترمذي "عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما خير عمار بين أمرين إلا اختار أرشدهما " هذا حديث حسن غريب و"روى أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة علي وعمار وسلمان بن ربيعة " قال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن صالح .
الثالثة : لما سمح الله عز وجل بالكفر به وهو أصل الشريعة عند الإكراه ولم يؤاخذ به حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها ، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يترتب عليه حكم وبه جاء الأثر المشهور" عن النبي صلى الله عليه وسلم : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " الحديث والخبر إن لم يصح سنده فإن معناه صحيح باتفاق من العلماء قاله القاضي أبو بكر بن العربي وذكر أبو محمد عبد الحق أن إسناده صحيح ، قال وقد ذكره أبو بكر الأصيلي في الفوائد وابن المنذر في كتاب الإقناع
الرابعة : أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل ، أنه لا يأثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بحكم الكفر هذا قول مالكوالكوفيين والشافعي غير محمد بن الحسن فإنه قال : إذا أظهر الشرك كان مرتدا في الظاهر وفيما بينه وبين الله تعالى على الإسلام وتبين منه امرأته ولا يصلي عليه إن مات ، ولا يرث أباه إن مات مسلما وهذا قول يرده الكتاب والسنة ، قال الله تعالى " إلا من أكره " الآية وقال " إلا أن تتقوا منهم تقاة " وقال " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض " وقال " إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان " الآية . فعذر الله المستضعفين الذين يمتنعون من ترك ما أمر الله به ، والمكره لا يكون إلا مستضعفا غير ممتنع من فعل ما أمر به ، قاله البخاري
الخامسة : ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الرخصة إنما جاءت في القول وأما في الفعل فلا رخصة فيه ، مثل أن يكرهوا على السجود لغير الله أو الصلاة لغير القبلة أو قتل مسلم أو ضربه أو أكل ماله أو الزنى وشرب الخمر وأكل الربا يروى هذا عن الحسن البصري رضي الله عنه وهو قول الأوزاعي وسحنون من علمائنا وقال محمد بن الحسن إذا قيل للأسير اسجد لهذا الصنم وإلا قتلتك فقال إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد ويكون نيته لله تعالى وإن كان لغير القبلة فلا يسجد وإن قتلوه . والصحيح أنه يسجد وإن كان لغير القبلة وما أحراه بالسجود حينئذ ففي الصحيح "عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه ، قال وفيه نزلت "فأينما تولوا فثم وجه الله " ""في رواية ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة "فإذا كان هذا مباحا في السفر في حالة الأمن لتعب النزول عن الدابة للتنفل فكيف بهذا . واحتج من قصر الرخصة على القول بقول ابن مسعود : ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان إلا كنت متكلما به فقصر الرخصة على القول ولم يذكر الفعل ، وهذا لا حجة فيه لأنه يحتمل أن يجعل للكلا مثالا وهو يريد أن الفعل في حكمه وقالت طائفة : الإكراه في الفعل والقول سواء إذا أسر الإيمان روي ذلك عن عمر بن الخطاب ومكحول وهو قول مالكوطائفة من أهل العراق روى ابن القاسم عن مالك أن من أكره على شرب الخمر وترك الصلاة أو الإفطار في رمضان أن الإثم عنه مرفوع .
السادسة : أجمع العلماء على أن من أكره على قتل غيره أنه لا يجوز له الإقدام على قتله ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره ويصبر على البلاء الذي نزل به ولا يحل له أن يفدي نفسه بغيره ، ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة .
واختلف في الزنى فقال مطرف وأصبغ وابن عبد الحكم وابن الماجشون لا يفعل أحد ذلك ، وإن قتل لم يفعله فإن فعله فهو آثم ويلزمه الحد ، وبه قال أبو ثوروالحسن قال ابن العربي الصحيح أنه يجوز الإقدام على الزنى ولا حد عليه ، خلافا لمن ألزمه ذلك لأنه رأى أنها شهوة خلقية لا يتصور الإكراه عليها ، وغفل عن السبب في باعث الشهوة وهو الإلجاء إلى ذلك ، وهو الذي أسقط حكمه ، وإنما يجب الحد على شهوة بعث عليها سبب اختياري فقاس الشيء على ضده فلم يحل بصواب من عنده ، وقال ابن خويز منداد في أحكامه : اختلف أصحابنا متى أكره الرجل على الزنى فقال بعضهم : عليه الحد لأنه إنما يفعل ذلك باختياره وقال بعضهم لا حد عليه . قال ابن خويز منداد وهو الصحيح وقال أبو حنيفة إن أكرهه غير السلطان حد ، وإن أكرهه السلطان فالقياس أن يحد ، ولكن استحسن ألا يحد ، وخالفه صاحباه فقالا لا حد عليه في الوجهين ، ولم يراعوا الانتشار ، وقالوا : متى علم أنه يتخلص من القتل بفعل الزنى جاز أن ينتشر قال ابن المنذر لا حد عليه ولا فرق بين السلطان في ذلك وغير السلطان .
السابعة : اختلف العلماء في طلاق المكره وعتاقه ، فقال الشافعي وأصحابه : لا يلزمه شيء وذكر ابن وهب عن عمر وعلي وابن عباس أنهم كانوا لا يرون طلاقه شيئا . وذكره ابن المنذر عن ابن الزبير وابن عمر وابن عباس وعطاء وطاووسوالحسنوشريح والقاسموسالمومالكوالأوزاعيوأحمدوإسحاقوأبي ثور وأجازت طائفة طلاقه روي ذلك عن الشعبيوالنخعيوأبي قلابةوالزهريوقتادةوهو قول الكوفيين . قال أبو حنيفة : طلاق المكره يلزم لأنه لم يعدم فيه أكثر من الرضا وليس وجوده بشرط في الطلاق كالهازل . وهذا قياس باطل فإن الهازل قاصد إلى إيقاع الطلاق راض به ، والمكره غير راض ولا نية له في الطلاق وقد "قال عليه السلام : إنما الأعمال بالنيات " وفي البخاري : وقال ابن عباس فيمن يكرهه اللصوص فيطلق ليس بشيء وبه قال ابن عمر وابن الزبير و الشعبيوالحسن وقال الشعبي إن أكرهه اللصوص فليس بطلاق ، وإن أكرهه السلطان فهو طلاق وفسره ابن عيينة فقال : إن اللص يقدم على قتله والسلطان لا يقتله .
الثامنة : وأما بيع المكره والمضغوط فله حالتان الأولى أن يبيع ماله في حق وجب عليه ، فذلك ماض سائغ لا رجوع فيه عند الفقهاء لأنه يلزمه أداء الحق إلى ربه من غير المبيع ، فلما لم يفعل ذلك كان بيعه اختيارا منه فلزمه . وأما بيع المكره ظلما أو قهرا فذلك بيع لا يجوز عليه وهو أولى بمتاعه يأخذه بلا ثمن ، ويتبع المشتري بالثمن ذلك الظالم فإن فات المتاع رجع بثمنه أو بقيمته بالأكثر من ذلك على الظالم إذا كان المشتري غير عالم بظلمه . قال مطرف ومن كان من المشترين يعلم حال المكره فإنه ضامن لما ابتاع من رقيقه وعروضه كالغاصب وكلما أحدث المبتاع في ذلك من عتق أو تدبير أو تحبيس فلا يلزم المكره ، وله أخذ متاعه . قالسحنون أجمع أصحابنا وأهل العراق على أن بيع المكره على الظالم والجور لا يجوز وقال الأبهري إنه إجماع .
التاسعة : وأما نكاح المكره فقال سحنون أجمع أصحابنا على إبطال نكاح المكره والمكرهة وقالوا لا يجوز المقام عليه لأنه لم ينعقد قال محمد بن سحنونوأجاز أهل العراق نكاح المكره وقالوا : لو أكره على أن ينكح امرأة بعشرة آلاف درهم وصداق مثلها ألف درهم ، أن النكاح جائز وتلزمه الألف ويبطل الفضل . قال محمد : فكما أبطلوا الزائد على الألف فكذلك يلزمهم إبطال النكاح بالإكراه . وقولهم خلاف السنة الثابتة في حديث خنساء بنت خذام الأنصارية ولأمره صلى الله عليه وسلم بالاستثمار في أبضاعهن وقد تقدم فلا معنى لقولهم .
العاشرة : فإن وطئها المكره على النكاح غير مكره على الوطء والرضا بالنكاح لزمه النكاح عندنا على المسمى من الصداق ودرئ عنه الحد . وإن قال : وطئتها على غير رضا مني بالنكاح فعليه الحد والصداق المسمى ، لأنه مدع لإبطال الصداق المسمى ، وتحد المرأة إن أقدمت وهي عالمة أنه مكره على النكاح وأما المكرهة على النكاح وعلى الوطء فلا حد عليها ولها الصداق ويحد الواطئ فاعلمه قاله سحنون .
الحادية عشرة : إذا استكرهت المرأة على الزنى فلا حد عليها لقوله " إلا من أكره " و"قوله عليه السلام : إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ولقول الله تعالى " فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " يريد الفتيات . وبهذا المعنى حكم عمر في الوليدة التي استكرهها العبد فلم يحدها . والعلماء متفقون على أنه لا حد على امرأة مستكرهة وقال مالك :إذا وجدت المرأة حاملا وليس لها زوج فقالت استكرهت فلا يقبل ذلك منها وعليها الحد ، إلا أن تكون لها بينة أو جاءت تدمي على أنها أتيت أو ما أشبه ذلك . واحتج بحديث عمر بن الخطاب إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف قال ابن المنذروبالقول الأول أقول .
الثانية عشرة : واختلفوا في وجوب الصداق للمستكرهة فقال عطاء والزهري لها صداق مثلها ، وهو قول مالكوالشافعيوأحمدوإسحاقوأبي ثور وقال الثوري إذا أقيم الحد على الذي زنى بها بطل الصداق . وروي ذلك عن الشعبي وبه قال أصحاب مالك وأصحاب الرأي قال ابن المنذر القول الأول صحيح
الثالثة عشرة : إذا أكره الإنسان على إسلام أهله لما لم يحل أسلمها ، ولم يقتل نفسه دونها ولا احتمل أذية في تخليصها والأصل في ذلك ما خرجه البخاري "عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هاجر إبراهيم عليه السلام بسارة ودخل بها قرية فيها ملك من الملوك أو جبار من الجبابرة فأرسل إليه أن أرسل بها إلي فأرسل بها فقام إليها فقامت تتوضأ وتصلي فقالت اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك فلا تسلط علي هذا الكافر فغط حتى ركض برجله " ودل هذا الحديث أيضا على أن سارة لما لم يكن عليها ملامة فكذلك لا يكون على المستكرهة ملامة ، ولا حد فيما هو أكبر من الخلوة والله أعلم .
الرابعة عشرة : وأما يمين المكره فغير لازمة عند مالكوالشافعي وأبي ثور وأكثر العلماء . قال ابن الماجشون وسواء حلف فيما هو طاعة لله أو فيما هو معصية إذا أكره على اليمين وقاله أصبغ وقالمطرف إن أكره على اليمين فيما هو لله معصية أو ليس في فعله ولا معصية فاليمين فيه ساقطة وإن أكره على اليمين فيما هو طاعة مثل أن يأخذ الوالي رجلا فاسقا فيكرهه أن يحلف بالطلاق لا يشرب خمرا ، أو لا يفسق ولا يغش في عمله أو الوالد يحلف ولده تأديبا له فإن اليمين تلزم ، وإن كان المكره قد أخطأ فيما يكلف من ذلك ، وقال به ابن حبيب وقال أبو حنيفة ومن اتبعه من الكوفيين : إنه إن حلف ألا يفعل ففعل حنث ، قالوا : لأن المكره له أن يوري في يمينه كلها ، فلما لم يور ولا ذهبت نيته إلى خلاف ما أكره عليه فقد قصد إلى اليمين . احتج الأولون بأن قالوا إذا أكره عليها فنيته مخالفة لقوله لأنه كاره لما حلف عليه .
الخامسة عشرة : قال ابن العربي ومن غريب الأمر أن علماءنا اختلفوا في الإكراه على الحنث هل يقع به أم لا ؟ وهذه مسألة عراقية سرت لنا منهم ، لا كانت هذه المسألة ولا كانوا ، وأي فرق يا معشر أصحابنا بين الإكراه على اليمين في أنها تلزم وبين الحنث في أنه لا يقع فاتقوا الله وراجعوا بصائركم ولا تغتروا بهذا الرواية فإنها وصمة في الدراية .
السادسة عشرة : إذا أكره الرجل على أن يحلف وإلا أخذ له مال كأصحاب المكس وظلمة السعاة وأهل الاعتداء فقال مالك لا تقية له في ذلك ، وإنما يدرأ المرء بيمينه عن بدنه لا ماله ، وقالابن الماجشون لا يحنث وإن درأ عن ماله ولم يخف على بدنه وقال ابن القاسم بقول مطرف ورواه عن مالك وقاله ابن الحكم وأصبغ .
قلت قول ابن الماجشون صحيح ، لأن المدافعة عن المال كالمدافعة عن النفس وهو قول الحسن وقتادةوسيأتي و"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام " وقال " كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه "و"روى أبو هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي ؟ قال : فلا تعطه مالك قال أرأيت إن قاتلني قال قاتله قال أرأيت إن قتلني قال فأنت شهيد قال أرأيت إن قتلته قال هو في النار " خرجه مسلم وقد مضى الكلام فيه . وقال مطرف وابن الماجشون وإن بدر الحالف بيمينه للوالي الظالم قبل أن يسألها ليذب بها عما خاف عليه من ماله وبدنه فحلف له فإنها تلزمه . وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ وقال أيضا ابن الماجشون فيمن أخذه ظالم فحلف له بالطلاق ألبتة من غير أن يحلفه وتركه وهو كاذب وإنما حلف خوفا من ضربه وقتله وأخذ ماله ، فإن كان إنما تبرع باليمين غلبة خوف ورجاء النجاة من ظلمه فقد دخل في الإكراه ولا شيء عليه ، وإن لم يحلف على رجاء النجاة فهو حانث .
السابعة عشرة : قال المحققون من العلماء : إذا تلفظ المكره بالكفر فلا يجوز له أن يجريه على لسانه إلا مجرى المعاريض فإن المعاريض لمندوحة عن الكذب ، ومتى لم يكن كذلك كان كافرا ، لأن المعاريض لا سلطان للإكراه عليها مثاله : أن يقال له اكفر بالله فيقول باللاهي فيزيد الياء وكذلك إذا قيل له : اكفر بالنبي فيقول هو كافر بالنبي مشددا وهو المكان المرتفع من الأرض ويطلق على ما يعمل من الخوص شبه المائدة فيقصد أحدهما بقلبه ويبرأ من الكفر ويبرأ من إثمه فإن قيل له : اكفر بالنبيء مهموزا فيقول هو كافر بالنبيء يريد بالمخبر أي مخبر كان كطليحة ومسيلمة الكذاب . أو يريد به النبيء الذي قال فيه الشاعر :
فأصبح رتما دقاق الحصى مكان النبيء من الكاثب
الثامنة عشرة : أجمع العلماء على أن من أكره على الكفر فاختار القتل أنه أعظم أجرا عند الله ممن اختار الرخصة . واختلفوا فيمن أكره على غير القتل من فعل ما لا يحل له فقال أصحاب مالك الأخذ بالشدة في ذلك واختيار القتل والضرب أفضل عند الله من الأخذ بالرخصة ذكره ابن حبيب وسحنون وذكر ابن سحنون عن أهل العراق أنه إذا تهدد بقتل أو قطع أو ضرب يخاف منه التلف فله أن يفعل ما أكره عليه من شرب خمر أو أكل خنزير فإن لم يفعل حتى قتل خفنا أن يكون آثما لأنه كالمضطر و"روى خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلت : ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا ؟ فقال : (( قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون )) " . فوصفه صلى الله عليه وسلم هذا عن الأمم السالغة على جهة المدح لهم والصبر على المكروه في ذات الله ، وأنهم لم يكفروا في الظاهر وتبطنوا الإيمان ليدفعوا العذاب عن أنفسهم . وهذه حجة من آثر الضرب والقتل والهوان على الرخصة والمقام بدار الجنان . وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة (( الأخدود )) إن شاء الله تعالى . وذكر أبو بكر محمد بن محمد بن الفرج البغدادي قال : حدثنا شريح بن يونس عن إسماعيل بن إبراهيم عن يونس بن عبيد " عن الحسن : أن عيونا لمسيلمة أخذوا رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فذهبوا بهما إلى مسيلمة ، فقال لأحدهما : أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال نعم . قال : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : نعم . فخلى عنه . وقال للآخر أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال : نعم . قال : وتشهد أني رسول الله ؟ قال : أنا أصم لا أسمع ، فقدمه وضرب عنقه . فجاء هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هلكت ! قال : (( وما أهلكك )) ؟ فذكر الحديث ، قال : (( أما صاحبك فأخذ بالثقة وأما أنت فأخذت بالرخصة . على ما أنت عليه الساعة ؟ قال : أشهد أنك رسول الله . قال : (( أنت على ما أنت عليه )) " الرخصة فيمن حلفه سلطان ظالم على نفسه أو على أن يدله على رجل أو مال رجل ، فقال الحسن : إذا خاف عليه وعلى ماله فليحلف ولا يكفر يمينه ، وهو قول قتادة إذا حلف على نفسه أو مال نفسه . وقد تقدم ما للعلماء في هذا . وذكر موسى بن معاوية أن أبا سعيد بن أشرس صاحب مالك استحلفه السلطان بتونس على رجل أراد السلطان قتله أنه ما آواه ، ولا يعلم له موضعا ، قال : فحلف له ابن أشرس ، وابن أشرس يومئذ قد علم موضعه وآواه ، فحلفه بالطلاق ثلاثا ، فحلف له ابن أشرس ، ثم قال لامرأته : اعتزلي فاعتزلته ، ثم ركب ابن أشرس حتى قدم على البهلول بن راشد القيروان ، فأخبره بالخبر ، فقال له البهلول : قال مالك إنك حانث . فقال ابن أشرس : وأنا سمعت مالكا يقول ذلك ، وإنما أردت الرخصة ، أو كلام هذا معناه ، فقال له البهلول بن راشد : قال الحسن البصري إنه لا حنث عليك . قال : فرجع ابن أشرس إلى زوجته وأخذ بقول الحسن . وذكر عبد الملك بن حبيب قال : حدثني معبد عن المسيب بن شريك عن أبي شيبة قال : سألت أنس بن مالك عن الرجل يؤخذ بالرجل ، هل ترى أن يحلف ليقيه بيمينه ؟ فقال : نعم ، ولأن أحلف سبعين يمينا وأحنث أحب إلي أن أدل على مسلم . وقال إدريس بن يحيى كان الوليد بن عبد الملك يأمر جواسيس يتجسسون الخلق يأتونه بالأخبار ، قال : فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوة فسمع بعضهم يقع في الوليد ، فرفع ذلك إليه فقال : يا رجاء ! أذكر بالسوء في مجلسك ولم تغير ! فقال : ما كان ذلك يا أمير المؤمنين ، فقال له الوليد : قل : آالله الذي لا إله إلا هو ، قال : الله الذي لا إله إلا هو ، فأمر الوليد بالجاسوس فضربه سبعين سوطا ، فكان يلقى رجاء فيقول : يا رجاء ، بك يستقى المطر ، وسبعون سوطا في ظهري ! فيقول رجاء : سبعون سوطا في ظهرك خير لك من أن يقتل رجل مسلم .
التاسعة عشرة - واختلف العلماء في حد الإكراه ، فروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : : ليس الرجل آمن على نفسه إذا أخفته أو أوثقته أو ضربته . وقال ابن مسعود : ما كلام يدرأ عني سوطين إلا كنت متكلما به .وقال الحسن : التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة ، إلا أن الله تبارك وتعالى ليس يجعل في القتل تقية . وقال النخعي : القيد إكراه ،والسجن إكراه . وهذا قول مالك ، إلا أنه قال : والوعيد المخوف إكراه وإن لم يقع إذا تحقق ظلم ذلك المتعدي وإنفاذه لما يتوعد به ، وليس عند مالك وأصحابه في الضرب والسجن توقيت ، إنما هو ما كان يؤلم من الضرب ، وما كان من سجن يدخل منه الضيق على المكره . وإكراه السلطان وغيره عند مالك إكراه . وتناقض الكوفيون فلم يجعلوا السجن والقيد إكراها على شرب الخمر وأكل الميتة ، لأنه يخاف منهما التلف . وجعلوهما إكراها في إقراره لفلان عندي ألف درهم . قال ابن سحنون : وفي إجماعهم على أن الألم والوجع الشديد إكراه ما يدل على أن الإكراه يكون من غير تلف نفس . وذهب مالك إلى أن من أكره على يمين بوعيد أو سجن أو ضرب أنه يحلف ولا حنث عليه ، وهو قول الشافعي و أحمد و أبي ثور وأكثر العلماء .
الموفية العشرين - ومن هذا الباب ما ثبت : إن من المعاريض لمندوحة عن الكذب . وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه قال : لا بأس إذا بلغ الرجل عنك شيء أن تقول : والله ، إن الله يعلم ما قلت فيك من ذلك من شيء . قال عبد الملك بن حبيب : معناه أن الله يعلم أن الذي قلت ، وهو في ظاره انتفاء من القول ، ولا حنث على من قال ذلك في يمينه ولا كذب عليه في كلامه . وقال النخعي : كان لهم كلام من ألغاز الأيمان يدرءون به عن أنفسهم ، لا يرون ذلك من الكذب ولا يخشون فيه الحنث . قال عبد الملك : وكانوا يسمون ذلك المعاريض من الكلام ، إذا كان ذلك في غير مكر ولا خديعة في حق . وقال الأعمش : كان إبراهيم النخعي إذا أتاه أحد يكره الخروج إليه جلس في مسجد بيته وقال لجاريته : قولي له هو والله في المسجد . وروى مغيرة عن إبراهيم أنه كان يجيز للرجل من البعث إذا عرضوا على أميرهم أن يقول : والله ما أهتدي إلا ما سدد لي غيري ، ولا أركب إلا ما حملني غيري ، ونحو هذا من الكلام . قل عبد الملك : يعني بقوله (( غيري )) الله تعالى ، هو مسددة وهو يحمله ، فلم يكونوا يرون على الرجل في هذا حنثا في يمينه ، ولا كذبا في كلامه ، وكانوا يكرهون أن يقال هذا في خديعة وظلم وجحدان حق فمن اجترأ وفعل أثم في خديعته ولم تجب عليه كفارة في يمينه .
الحادية والعشرون - قوله تعالى : " ولكن من شرح بالكفر صدرا " أي وسعه لقبول الكفر ، ولا يقدر أحد على ذلك إلا الله ، فهو يرد على القدرية . و(( صدرا )) نصب على المفعول . " فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم " وهو عذاب جهنم .
أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر, وشرح صدره بالكفر واطمأن به, أنه قد غضب عليه لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه, وأن لهم عذابا عظيماً في الدار الاخرة, لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الاخرة, فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة لأجل الدنيا, ولم يهد الله قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق, فطبع على قلوبهم, فهم لا يعقلون بها شيئاً ينفعهم, وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها, ولا أغنت عنهم شيئاً فهم غافلون عما يراد بهم, "لا جرم" أي لا بد ولا عجب أن من هذه صفته " أنهم في الآخرة هم الخاسرون " أي الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ـ وأما قوله: "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرهاً لما ناله من ضرب وأذى, وقلبه يأبى ما يقول, وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله.
وقد روى العوفي عن ابن عباس أن هذه الاية نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم, فوافقهم على ذلك مكرهاً, وجاء معتذراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله هذه الاية. وهكذا قال الشعبي وقتادة وأبو مالك, وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى, حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن عبد الكريم الجزري, عن أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كيف تجد قلبك ؟ " قال: مطمئناً بالإيمان. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عادوا فعد" ورواه البيهقي بأبسط من ذلك, وفيه أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم, وذكر آلهتهم بخير, فشكا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله ما تركت حتى سببتك وذكرت آلهتهم بخير, قال: "كيف تجد قلبك ؟" قال: مطمئناً بالإيمان, فقال "إن عادوا فعد", وفي ذلك أنزل الله "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاء لمهجته, ويجوز له أن يأبى كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل, حتى إنهم ليضعوا الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر, ويأمرونه بالشرك بالله فيأبى عليهم, وهو يقول: أحد, أحد. ويقول: والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها, رضي الله عنه وأرضاه. وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ فيقول: نعم. فيقول: أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول: لا أسمع. فلم يزل يقطعه إرباً إرباً وهو ثابت على ذلك. وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل, حدثنا أيوب عن عكرمة أن علياً رضي الله عنه حرق ناساً ارتدوا عن الأسلام, فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لم أكن لأحرقهم بالنار, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تعذبوا بعذاب الله" وكنت أقاتلهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" فبلغ ذلك علياً فقال: ويح أم ابن عباس, رواه البخاري.
وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا عبد الرزاق, أنبأنا معمر عن أيوب عن حميد بن هلال العدوي, عن أبي بردة قال: قدم على أبي موسى معاذ بن جبل باليمن, فإذا رجل عنده, قال: ما هذا ؟ قال: رجل كان يهودياً فأسلم, ثم تهود ونحن نريده على الإسلام منذ قال أحسبه شهرين, فقال: والله لا أقعد حتى تضربوا عنقه, فضربت عنقه, فقال: قضى الله ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه أو قال: "من بدل دينه فاقتلوه" وهذه القصة في الصحيحين بلفظ آخر. والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله, كما ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمي أحد الصحابة أنه أسرته الروم, فجاءوا به إلى ملكهم فقال له: تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي, فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلت, فقال: إذاً أقتلك, فقال: أنت وذاك, قال: فأمر به فصلب, وأمر الرماة فرموه قريباً من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى, ثم أمر به فأنزل, ثم أمر بقدر, وفي رواية ببقرة من نحاس فأحميت, وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر, فإذا هو عظام تلوح, وعرض عليه فأبى, فأمر به أن يلقى فيها, فرفع في البكرة ليلقى فيها, فبكى فطمع فيه ودعاه, فقال: إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في الله, فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله. وفي بعض الروايات أنه سجنه ومنع منه الطعام والشراب أياماً, ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه, ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل ؟ فقال: أما إنه قد حل لي, ولكن لم أكن لأشمتك بي, فقال له الملك: فقبل رأسي وأنا أطلقك, فقال: وتطلق معي جميع أسارى المسلمين ؟ قال: نعم, فقبل رأسه فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده, فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة, وأنا أبدأ, فقام فقبل رأسه رضي الله عنهما.
قوله: 106- "من كفر بالله من بعد إيمانه" قد اختلف أهل العلم في إعرابه فذهب الأكثرون على أنه بدل، إما من "الذين لا يؤمنون بآيات الله" وما بينهما اعتراض، والمعنى: إنما يفتري الكذب من كفر، واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء. ثم قال: "ولكن من شرح بالكفر صدراً" أي اعتقده وطابت به نفسه واطمأن إليه "فعليهم غضب" وإما من المبتدأ الذي هو "أولئك" أو من الخبر الذي هو "الكاذبون" وذهب الزجاج إلى الأول وقال الأخفش: إن "من" مبتدأ وخبره محذوف اكتفي منه بخبر "من" الثانية كقولك: من يأتنا منكن نكرمه، وقيل هو: أي "من" في "من كفر" منصوب على الذم وقيل إن من شرطية والجواب محذوف لأن جواب "من شرح" دال عليه، وهو كقول الأخفش، وإنما خالفه في إطلاق لفظ الشرط على "من" والجواب على خبرها فكأنه قيل على هذا: من كفر بالله فعليهم غضب إلا من أكره، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب، وإنما صح استثناء المكره من الكافر مع أنه ليس بكافر لأنه ظهر منه بعد الإيمان ما لا يظهر إلا من الكافر لولا الإكراه. قال القرطبي: أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر. وحكي عن محمد بن الحسن أنه إذا أظهر الكفر كان مرتداً في الظاهر، وفيما بينه وبين الله على الإسلام، وتبين منه امرأته ولا يصلى عليه إن مات ولا يرث أباه إن مات مسلماً، وهذا القول مردود على قائله مدفوع بالكتاب والسنة، وذهب الحسن البصري والأوزاعي والشافعي وسحنون إلى أن هذه الرخصة المذكورة في هذه الآية إنما جاءت في القول، وأما في الفعل فلا رخصة، مثل أن يكره على السجود لغير الله ويدفعه ظاهر الآية، فإنها عامة فيمن أكره من غير فرق بين القول والفعل، ولا دليل لهؤلاء القاصرين للآية على القول وخصوص السبب لا اعتبار به مع عموم اللفظ كما تقرر في علم الأصول، وجملة "وقلبه مطمئن بالإيمان" في محل نصب على الحال من المستثنى: أي إلا من كفر بإكراه، والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان لم تتغير عقيدته، وليس بعد هذا الوعيد العظيم وهو الجمع للمرتدين بين غضب الله وعظيم عذابه.
106 - " من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره " .
قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في عمار ، وذلك أن المشركين أخذوه ، وأباه ياسراً ، وأمه سمية ، وصهيباً ، وبلالاً ، وخباباً ، وسالماً ، فعذبوهم ، فأما سمية : فإنها ربطت بين بعيرين ووجيء قبلها بحربه فقتلت ، وقلت زوجها ياسر ، وهما أول قتيلين قتلا في الإسلام ، وأما عمار : فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً .
قال قتادة :" أخذ بنو المغيرة عماراً ، وغطوه في بئر ميمون ، وقالوا له : اكفر بمحمد ، فتابعهم على ذلك ، وقلبه كاره ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عماراً كفر فقال : كلا ، إن عماراً مليء إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما وراءك ؟ قال : شر يا رسول الله ، نلت منك وذكرت آلهتك ، قال : كيف وجدت قلبك ، قال مطمئناً بالإيمان ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال : إن عادوا لك فعد لهم بما قلت " ، فنزلت هذه الآية .
قال مجاهد : نزلت في ناس من أهل مكة ، آمنوا فكتب إليهم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هاجروا ، فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا ، فخرجوا يريدون المدينة ، فأدركتهم قريش في الطريق فكفروا كارهين .
وقال مقاتل : نزلت في جبر ، مولى عامر بن الحضرمي ،أكرهه سيده على الكفر فكفر مكرهاً . " وقلبه مطمئن بالإيمان " ، ثم أسلم مولى جبر ، وحسن إسلامه ، وهاجر جبر مع سيده . " ولكن من شرح بالكفر صدراً " أي : فتح صدره للكفر بالقبول واختاره ، " فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم " .
وأجمع العلماء على : أن من أكره على كلمة الكفر ، يجوز له أن يقول بلسانه ، وإذا قال بلسانه غير معتقد لا يكون كفراً ، وإن أبى أن يقول حتى يقتل كان أفضل .
واختلف أهل العلم في طلاق المكره . فذهب أكثرهم إلى أنه لا يقع .
106."من كفر بالله من بعد إيمانه"بدل من الذين لا يؤمنون وما بينهما اعتراض ، أومن "أولئك"أو من"الكاذبون"، أو مبتدأ خبره محذوف دل عليه قوله:"فعليهم غضب"ويجوز أن ينتصب بالذم وأن تكون من شرطية محذوف الجواب دل عليه قوله:"إلا من أكره"على الافتراء أو كلمة الكفر، استثناء متصل لأن الكفر لغة يعم القول والعقد كالإيمان." وقلبه مطمئن بالإيمان "لم تتغير عقدته ، وفيه دليل على أن الإيمان هو التصديق بالقلب."ولكن من شرح بالكفر صدراً" اعتقده وطاب به نفساً ."فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم"إذ لا أعظم من جرمه ، "روي أن قريشاً أكرهوا عماراً وأبويه ياسراً وسمية على الارتداد ، فربطوا سمية بين بعيرين وجيء بحربة في قبلها وقالوا : إنك أسلمت من أجل الرجال فقتلت،وقتلوا ياسراً وهما أول قتيلين في الإسلام ، وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مكرها فقيل: يا رسول الله إن عماراً كفر فقال : كلا إن عماراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه ويقول : ما لك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت . "
وهو دليل على جواز التكلم بالكفر عند الإكراه وإن كان الأفضل أن يتجنب عنه إعزازاً للدين كما فعله أبواه لما "روي أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فما تقول في فقال: أنت فخلاه، وقال للآخر ما تقول في محمد قال:رسول الله صلى الله عليه وسلم؟قال فما تقول في؟قال: أنا أصم، فأعاد عليه ثلاثاً فأعاد جوابه فقتله ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما الأول فقد أخذ رخصة الله ، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له ."
106. Whoso disbelieveth in Allah after his belief save him who is forced thereto and whose heart is still content with Faith but whoso findeth ease in disbelief: On them is wrath from Allah. Theirs will be an awful doom.
106 - Any one who, after accepting faith in God, utters unbelief, except under compulsion, his heart remaining firm in faith but such as open their breast to unbelief, on them is wrath from God, and theirs will be a dreadful penalty.