[الحجر : 24] وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ
24 - (ولقد علمنا المستقدمين منكم) أي من تقدم من الخلق من لدن آدم (ولقد علمنا المستأخرين) المتأخرين إلى يوم القيامة
قوله تعالى ولقد علمنا الآية روى الترمذي والنسائي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس قال كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناء من أحسن الناس فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل الله ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين
ك وأخرج ابن مردويه عن داود بن صالح أنه سأل سهل بن حنيف الأنصاري ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين أنزلت في سبيل الله قال لا ولكنها في صفوف الصلاة
قوله تعالى : "ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين" .
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: " ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين " فيه ثمان تأويلات: الأول: ( المستقدمين) في الخلق إلى اليوم، ولا المستأخرين، الذين لم يخلقوا بعد، قاله قتادة وعكرمة وغيرهما. الثاني: ( المستقدمين) الأموات، و ( المستأخرين) الأحياء، قاله ابن عباس و الضحاك . الثالث: ( المستقدمين) من تقدم أمة محمد، و ( المستأخرين) أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد. الرابع: ( المستقدمين) في الطاعة والخير، و ( المستأخرين) في المعصية والشر، قاله الحسن وقتادة أيضاً. الخامس: ( المستقدمين) في صفوف الحرب، و ( المستأخرين) فيها، قاله سعيد بن المسيب. السادس: ( المستقدمين) من قتل في الجهاد، و ( المستأخرين) من لم يقتل، قاله القرظي . السابع: ( المستقدمين) أول الخلق، و ( المستأخرين) آخر الخلق، قاله الشعبي . الثامن: ( المستقدمين) في صفوف الصلاة، و ( المستأخرين) فيها بسبب النساء. وكل هذا معلوم لله تعالى، فإنه عالم بكل موجود ومعدوم، وعالم بمن خلق وما هو خالقه إلى يوم القيامة. إلا أن القول الثامن هو سبب نزول الآية، لما رواه النسائي و الترمذي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: " كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناء من أحسن الناس، فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها، ويتأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت إبطه، فأنزر الله عز وجل " ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين " ". وروي عن أبي الجوزاء ولم يذكر ابن عباس. وهو أصح.
الثانية: هذا يدل على فضل أول الوقت في الصلاة وعلى فضل الصف الأول، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ". فإذا جاء الرجل عند الزوال فنزل في الصف الأول مجاور الإمام، حاز ثلاث مراتب في الفضل: أول الوقت، والصف الأول، ومجاورة الإمام. فإن جاء عند الزوال فنزل في الصف الآخر أو فيما نزل عن الصف الأول، فقد حاز فضل أول الوقت وفاته فضل الصف الأول والمجاورة. فإن جاء وقت الزوال ونزل في الصف الأول دون ما يلي الإمام فقد حاز فضل أول الوقت وفضل الصف الأول، وفاته مجاورة الإمام. فإن جاء بعد الزوال ونزل في الصف الأول فقد فاته فضيلة أول الوقت، وحاز فضيلة الصف الأول ومجاورة الإمام. وهكذا. ومجاورة الإمام لا تكون لكل أحد، وإنما هي كما قال صلى الله عليه وسلم: " ليلني منكم أولو الأحلام والنهى " الحديث. فما يلي الإمام ينبغي أن يكون لمن كانت هذه صفته، فإن نزلها غيره أخر وتقدم هو إلى الموضع، لأنه حقه بأمر صاحب الشرع، كالمحراب هو موضع الإمام تقدم أو تأخر، قاله ابن العربي .
قلت: وعليه يحمل قول عمر رضي الله عنه: تأخر يا فلان، تقدم يا فلان، ثم يتقدم فيكبر. وقد روي عن كعب أن الرجل من هذه الأمة ليخر ساجداً فيغفر لمن خلفه. وكان كعب يتوخى الصف المؤخر من المسجد رجاء ذلك، ويذكر أنه وجده كذلك في التوراة. ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول . وسيأتي في سورة ( الصافات) زيادة بيان لهذا الباب إن شاء الله تعالى.
الثالثة: وكما تدل هذه الآية على فضل الصف الأول في الصلاة، فكذلك تدل على فضل الصف الأول في القتال، فإن القيام في نحر العدو، وبيع العبد نفسه من الله تعالى لا يوازيه عمل، فالتقدم إليه أفضل، ولا خلاف فيه ولا خفاء به. ولم يكن أحد يتقدم في الحرب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان أشجع الناس. قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع ما للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه سلم.
يخبر تعالى أنه مالك كل شيء وأن كل شيء سهل عليه يسير لديه, وأن عنده خزائن الأشياء من جميع الصنوف "وما ننزله إلا بقدر معلوم" كما يشاء وكما يريد, ولما له في ذلك من الحكمة البالغة والرحمة بعباده لا على جهة الوجوب بل هو كتب على نفسه الرحمة قال يزيد بن أبي زياد عن أبي جحيفة عن عبد الله: ما من عام بأمطر من عام, ولكن الله يقسمه بينهم حيث شاء عاماً ههنا وعاماً ههنا, ثم قرأ "وإن من شيء إلا عندنا خزائنه" الاية, رواه ابن جرير, وقال أيضاً: حدثنا القاسم, حدثنا هشيم, أخبرنا إسماعيل بن سالم عن الحكم بن عتيبة في قوله: "وما ننزله إلا بقدر معلوم" قال: ما عام بأكثر مطراً من عام ولا أقل, ولكنه يمطر قوم ويحرم آخرون بما كان في البحر, قال: وبلغنا أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس, وولد آدم يحصون كل قطرة حيث تقع وما تنبت.
وقال البزار: حدثنا داود هو ابن بكير, حدثنا حيان بن أغلب بن تميم, حدثني أبي عن هشام, عن محمد بن سيرين, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خزائن الله الكلام, فإذا أراد شيئاً قال له كن فكان" ثم قال: لا يرويه إلا أغلب وليس بالقوي, وقد حدث عنه غير واحد من المتقدمين, ولم يروه عنه إلا ابنه. وقوله تعالى: "وأرسلنا الرياح لواقح" أي تلقح السحاب فتدر ماء, وتلقح الشجر فتفتح عن أوراقها وأكمامها, وذكرها بصيغة الجمع ليكون منها الإنتاج بخلاف الريح العقيم, فإنه أفردها ووصفها بالعقيم وهو عدم الإنتاج, لأنه لا يكون إلا من شيئين فصاعداً.
وقال الأعمش عن المنهال بن عمرو, عن قيس بن السكن, عن عبد الله بن مسعود في قوله: "وأرسلنا الرياح لواقح" قال: ترسل الريح فتحمل الماء من السماء, ثم تمرى السحاب حتى تدر كما تدر اللقحة, وكذا قال ابن عباس وإبراهيم النخعي وقتادة. وقال الضحاك: يبعثها الله على السحاب فتلقحه فيمتلىء ماء. وقال عبيد بن عمير الليثي: يبعث الله المبشرة فتقم الأرض قماً, ثم يبعث الله المثيرة فتثير السحاب, ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب, ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر, ثم تلا "وأرسلنا الرياح لواقح".
وقد روى ابن جرير من حديث عبيس بن ميمون عن أبي المهزم عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الريح الجنوب من الجنة, وهي التي ذكر الله في كتابه, وفيها منافع للناس" وهذا إسناد ضعيف, وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده. حدثنا سفيان, حدثنا عمرو بن دينار, أخبرني يزيد بن جعدية الليثي أنه سمع عبد الرحمن بن مخراق يحدث عن أبي ذر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق في الجنة ريحاً بعد الريح بسبع سنين, وإن من دونها باباً مغلقاً, وإنما يأتيكم الريح من ذلك الباب, ولو فتح لأذرت ما بين السماء والأرض من شيء, وهي عند الله الأذيب, وهي فيكم الجنوب".
وقوله: "فأسقيناكموه" أي أنزلناه لكم عذباً يمكنكم أن تشربوا منه لو نشاء جعلناه أجاجاً, كما نبه على ذلك في الاية الأخرى في سورة الواقعة, وهو قوله تعالى: "أفرأيتم الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ؟ * لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون", وفي قوله: "هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون". وقوله: "وما أنتم له بخازنين" قال سفيان الثوري: بما نعين, ويحتمل أن المراد وما أنتم له بحافظين, بل نحن ننزله ونحفظه عليكم ونجعله معيناً وينابيع في الأرض, ولو شاء تعالى لأغاره وذهب به, ولكن من رحمته أنزله وجعله عذباً, وحفظه في العيون والابار والأنهار وغير ذلك, ليبقى لهم في طول السنة يشربون ويسقون أنعامهم وزروعهم وثمارهم.
وقوله: "وإنا لنحن نحيي ونميت" إخبار عن قدرته تعالى على بدء الخلق وإعادته, وأنه هو الذي أحيا الخلق من العدم, ثم يميتهم ثم يبعثهم كلهم ليوم الجمع, وأخبر أنه تعالى يرث الأرض ومن عليها, وإليه يرجعون, ثم أخبر تعالى عن تمام علمه بهم أولهم وآخرهم, فقال: "ولقد علمنا المستقدمين منكم" الاية, قال ابن عباس رضي الله عنهما: المستقدمون كل من هلك من لدن آدم عليه السلام, والمستأخرون من هو حي ومن سيأتي إلى يوم القيامة, وروي نحوه عن عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة ومحمد بن كعب والشعبي وغيرهم, وهو اختيار ابن جرير رحمه الله.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى, حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه, عن رجل, عن مروان بن الحكم أنه قال: كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء, فأنزل الله "ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين", وقد ورد فيه حديث غريب جداً, فقال ابن جرير: حدثني محمد بن موسى الجرشي, حدثنا نوح بن قيس, حدثنا عمرو بن قيس, حدثنا عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت تصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم امرأة حسناء, قال ابن عباس: لا والله ما رأيت مثلها قط, وكان بعض المسلمين إذا صلوا استقدموا, يعني لئلا يروها, وبعض يستأخرون, فإذا سجدوا نظروا إليها من تحت أيديهم, فأنزل الله "ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين", وكذا رواه أحمد وابن أبي حاتم في تفسيره, ورواه الترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما, وابن ماجه من طرق عن نوح بن قيس الحداني, وقد وثقه أحمد وأبو داود وغيرهما, وحكي عن ابن معين تضعيفه, وأخرجه مسلم وأهل السنن, وهذا الحديث فيه نكارة شديدة, وقد رواه عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان, عن عمرو بن مالك وهو النكري أنه سمع أبا الجوزاء يقول في قوله: "ولقد علمنا المستقدمين منكم" في الصفوف في الصلاة " المستأخرين " فالظاهر أنه من كلام أبي الجوزاء فقط, ليس فيه لابن عباس ذكر, وقد قال الترمذي: هذا أشبه من رواية نوح بن قيس, والله أعلم, وهكذا روى ابن جرير عن محمد بن أبي معشر, عن أبيه أنه سمع عون بن عبد الله يذكر محمد بن كعب في قوله: "ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين" وأنها في صفوف الصلاة, فقال محمد بن كعب: ليس هكذا "ولقد علمنا المستقدمين منكم" الميت والمقتول " المستأخرين " من يخلق بعد "وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم" فقال عون بن عبد الله: وفقك الله وجزاك خيراً.
24- "ولقد علمنا المستقدمين منكم" هذه اللام هي الموطئة للقسم، وهكذا اللام في "ولقد علمنا المستأخرين"، والمراد من تقدم ولادة وموتاً، ومن تأخر فيهما، وقيل من تقدم طاعة ومن تأخر فيها، وقيل من تقدم في صف القتال ومن تأخر، وقيل المراد بالمستقدمين الأموات، وبالمستأخرين الأحياء، وقيل المستقدمين هم الأمم المتقدمون على أمة محمد، والمستأخرون هم أمة محمد، وقيل المستقدمون من قتل في الجهاد، والمستأخرون من لم يقتل.
24-"ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين"، قال ابن عباس: أراد بالمستقدمين الأموات وبالمستأخرين الأحياء.
قال الشعبي: الأولين والآخرين.
وقال عكرمة: المستقدمون من خلق الله والمستأخرين من لم يخلق الله.
قال مجاهد: المستقدمون القرون الأولى والمستأخرين أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الحسن: المستقدمون في الطاعة والخير، والمستأخرون المبطئون عنها.
وقيل: المستقدمون في الصفوف في الصلاة والمستأخرون فيها. وذلك أن النساء كن يخرجن إلى صلاة الجماعة فيقفن خلف الرجال، فربما كان من الرجال من في قلبه ريبة فيتأخر إلى آخر صفوف الرجال، ومن النساء من كانت في قلبها ريبة فتتقدم إلى أول صفوف النساء لتقرب من الرجال. فنزلت هذه الآية.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها".
وقال الأوزاعي: أراد المصلين في أول الوقت والمؤخرين إلى آخره.
وقال مقاتل: أراد بالمستقدمين والمستأخرين في صف القتال.
وقال ابن عيينة: أراد من يسلم ومن لا يسلم.
24."ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين "من استقدم ولادة وموتاً ومن استأخر ، أومن خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد ، أو من تقدم في الإسلام والجهاد وسبق إلى الطاعة ، أو تأخر لا يخفى علينا شيء من أحوالكم ، وهو بيان لكمال علميه بعد الاحتجاج على كما لقدرته، فإن ما يدل على قدرته دليل على علمه .وقيل رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف الأول فازدحموا عليه فنزلت .وقيل إن امرأة حسناء كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم بعض القوم لئلا ينظر إليها وتأخر بعض ليبصرها فنزلت .
24. And verily We know the eager among you and verily We know the laggards.
24 - To us are known those of you who hasten forward, and those who lag behind.