[إبراهيم : 36] رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
36 - (رب إنهن) أي الأصنام (أضللن كثيرا من الناس) بعبادتهم لها (فمن تبعني) على التوحيد (فإنه مني) من أهل ديني (ومن عصاني فإنك غفور رحيم) هذا قبل علمه أنه تعالى لا يغفر الشرك
يقول تعالى ذكره : "و" اذكر يا محمد "إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا" يعني الحرم ، بلداً آمناً أهله وسكانه "واجنبني وبني أن نعبد الأصنام" يقال منه : جنبته الشر فأنا أجنبه جنباً وجنبته الشر ، فأنا أجنبه تجنيباً ، وأجنبته ذلك فأنا أجنبه إجناباً ، ومن جنبت قول الشاعر : ‌
وتنفض مهده شفقاً عليه وتجنبه قلائصنا الصعابا
ومعنى ذلك : أبعدني وبني من عبادة الأصنام ، والأصنام : جمع صنم ، والصنم : هو التمثال المصور ، كما قال رؤبة بن العجاج في صفة امرأة :
وهنانة كالزون يجلى صنمه تضحك عن أشنب عذب ملثمه
وكذلك كان مجاهد يقول .
حدثني المثنى قال ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد "وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام" قال : فاستجاب الله لإبراهيم دعوته في ولده ، قال : فلم يعبد أحد من ولده صنماً بعد عودته . والصنم : التمثال المصور ، ما لم يكن صنماً فهو وثن ، قال : واستجاب الله له ، وجعل هذا البلد آمناً ، ورزق أهله من الثمرات ، وجعله إماماً ، وجعل من ذريته من يقيم الصلاة ، وتقبل دعاءه ، فأراه مناسكه ، وتاب عليه .
حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، قال : كان إبراهيم التيمي يقص ويقول في قصصه : من يأمن من البلاء بعد خليل الله إبراهيم ، حين يقول : رب "اجنبني وبني أن نعبد الأصنام" .
وقوله : "رب إنهن أضللن كثيرا من الناس" يقول : يا رب إن الأصنام أضللن ، يقول : أزلن كثيراً من الناس عن طريق الهدى وسبيل الحق حتى عبدوهن ، وكفروا بك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : "إنهن أضللن كثيرا من الناس" ، يعني الأوثان .
حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة : "إنهن أضللن كثيرا من الناس" قال : الأصنام .
وقوله : "فمن تبعني فإنه مني" ، يقول: فمن تبعني على أنا عليه من الإيمان بك وإخلاص العبادة لك ، وفراق عبادة الأوثان ، فإنه مني . يقول : فإنه مستن بسنتي ، وعامل بمثل عملي ، "ومن عصاني فإنك غفور رحيم" ، يقول : ومن خالف أمري فلم يقبل مني ما دعوته إليه ، وأشرك به ، فإنه غفور لذنوب المذنبين الخطائين بفضلك ، رحيم بعبادك تعفو عمن تشاء منهم .
كما حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم" ، اسمعوا إلى قول خليل الله إبراهيم ، لا والله ما كانوا طعانين ولا لعانين ، وكان يقال : إن من أشر عباد الله كل طعان لعان ، قال نبي الله ابن مريم عليه السلام : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) .
حدثنا المثنى قال : حدثنا أصبغ بن الفرج ، قال : أخبرني ابن وهب ، قال : حدثنا عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة ، ، حدثه عن عبد الرحمن بن جبير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول إبراهيم : "رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم" ، وقال عيسى : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) . فرفع يديه ثم قال : اللهم أمتي ، اللهم أمتي ، وبكى ، فقال الله تعالى : يا جبرئيل اذهب إلى محمد ، وربك أعلم ، فاسأله ما يبكيه ؟ فأتاه جبرئيل فسأله ، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال ، قال : فقال الله : يا جبرئيل اذهب إلى محمد وقل له : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك .
قوله تعالى: " رب إنهن أضللن كثيرا من الناس " لما كانت سبباً للإضلال أضاف الفعل إليهن مجازاً، فإن الأصنام جمادات لا تفعل. " فمن تبعني " في التوحيد. " فإنه مني " أي من أهل ديني. " ومن عصاني " أي أصر على الشرك. " فإنك غفور رحيم " قيل: قال هذا قبل أن يعرفه الله أن الله لا يغفر أن يشرك به. وقيل: غفور رحيم لم تاب من معصيته قبل الموت. وقال مقاتل بن حيان: ( ومن عصاني) فيما دون الشرك.
يذكر تعالى في هذا المقام محتجاً على مشركي العرب بأن البلد الحرام بمكة إنما وضعت أول ما وضعت على عبادة الله وحده لا شريك له, وأن إبراهيم الذي كانت عامرة بسببه آهلة تبرأ ممن عبد غير الله, وأنه دعا لمكة بالأمن فقال: "رب اجعل هذا البلد آمناً" وقد استجاب الله له فقال تعالى: " أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا " الاية, وقال تعالى: " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا " وقال في هذه القصة "رب اجعل هذا البلد آمناً" فعرفه لأنه دعا به بعد بنائها, ولهذا قال: "الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق" ومعلوم أن إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة, فأما حين ذهب بإسماعيل وأمه وهو رضيع إلى مكان مكة فإنه دعا أيضاً فقال: "رب اجعل هذا البلد آمناً" كما ذكرناه هنالك في سورة البقرة مستقصى مطولاً.
وقوله: "واجنبني وبني أن نعبد الأصنام" ينبغي لكل داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته, ثم ذكر أنه افتتن بالأصنام خلائق من الناس, وأنه تبرأ ممن عبدها ورد أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم, كقول عيسى عليه السلام "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم" وليس فيه أكثر من الرد إلى مشيئة الله تعالى لا تجويز وقوع ذلك. وقال عبد الله بن وهب: حدثنا عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه عن عبد الرحمن بن جرير, عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول إبراهيم عليه السلام "رب إنهن أضللن كثيراً من الناس" الاية, وقول عيسى عليه السلام "إن تعذبهم فإنهم عبادك" الاية, ثم رفع يديه ثم قال: "اللهم, أمتي, اللهم أمتي, اللهم أمتي" وبكى فقال الله: اذهب يا جبريل إلى محمد, وربك أعلم, وسله ما يبكيك ؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله, فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال, فقال الله: اذهب إلى محمد فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك.
36- "رب إنهن أضللن كثيراً من الناس" أسند الإضلال إلى الأصنام مع كونها جمادات لا تعقل، لأنها سبب لضلالهم فكأنها أضلتهم، وهذه الجملة تعليل لدعائه لربه، ثم قال: "فمن تبعني" أي من تبع ديني من الناس فصار مسلماً موحداً "فإنه مني" أي من أهل ديني: جعل أهل ملته كنفسه مبالغة " ومن عصاني " فلم يتتابعني ويدخل في ملتي " فإنك غفور رحيم " قادر على أن تغفر له، قيل قال هذا قبل أن يعلم أن الله لا يغفر أن يشرك به كما وقع منه الاستغفار لأبيه وهو مشرك، كذا قال ابن الأنباري، وقيل المراد عصيانه هنا فيما دون الشرك، وقيل إن هذه المغفرة مقيدة بالتوبة من الشرك.
"رب إنهن أضللن كثيراً من الناس"، يعني: ضل بهن كثير من الناس عن طريق الهدى حتى عبدوهن، وهذا من المقلوب نظيره قوله تعالى: "إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه" (آل عمران-175)، أي: يخوفهم بأوليائه.
وقيل: نسب الإضلال إلى الأصنام لأنهن سبب فيه، كما يقول القائل: فتنتني الدنيا، نسب الفتنة إلى الدنيا لأنها سبب الفتنة.
"فمن تبعني فإنه مني"، أي: من أهل ديني، "ومن عصاني فإنك غفور رحيم"، قال السدي: معناه: ومن عصاني ثم تاب.
وقال مقاتل بن حيان: ومن عصاني فيما دون الشرك.
وقيل: قال ذلك قبل أن يعلمه الله أنه لا يغفر الشرك.
36."رب إنهن أضللن كثيراً من الناس "فلذلك سألت منك العصمة واستعذت بك من إضلالهن ، وإسناد الإضلال إليهم باعتبار السببية كقوله تعالى : "وغرتهم الحياة الدنيا".."فمن تبعني"على ديني ."فإنه مني"أي بعضي لا ينفك عني في أمر الدين. "ومن عصاني فإنك غفور رحيم"تقدر أن تغفر له وترحمه ابتداء ، او بعد التوفيق للتوبة.وفيه دليل على أن كل ذنب فلله أن يغفره حنى الشرك إلا أن الوعيد فرق بينه وبين غيره .
36. My Lord! Lo! they have led many of mankind astray. But whoso followeth me, he verity is of me. And whoso disobeyeth me, still Thou art Forgiving, Merciful.
36 - O my Lord they have indeed led astray many among mankind; he then who follows my (ways) is of me, and he that disobeys me, but thou art indeed oft forgiving, most merciful.