[إبراهيم : 17] يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ
17 - (يتجرعه) يبتلعه مرة بعد مرة لمرارته (ولا يكاد يسيغه) يزدرده لقبحه وكراهته (ويأتيه الموت) أي أسبابه المقتضية له من أنواع العذاب (من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه) بعد ذلك العذاب (عذاب غليظ) قوي متصل
قالأبو جعفر : يقول عز ذكره : "من ورائه" ، من أمام كل جبار "جهنم" ، يردونها .
و وراء في هذا الموضع ، يعني: أمام ، كما يقال : إن الموت من ورائك ، أي قدامك ، وكما قال الشاعر :
‌أتوعدني وراء بني رياح كذبت لتقصرن يداك دوني
يعني : وراء بني رياح ، قدام بني رياح وأمامهم .
وكان بعض نحويي أهل البصرة يقول : إنما يعني بقوله : "من ورائه" ، أي من أمامه ، لأنه وراء ما هو فيه ، كما يقول لك : وكل هذا من ورائك ، أي سيأتي عليك ، وهو من وراء ما أنت فيه ، لأن ما أنت فيه قد كان قبل ذلك وهو من ورائه . وقال : ( وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ) ، من هذا المعنى ، أي كان وراء ما هم فيه أمامهم .
وكان بعض تحويي أهل الكوفة يقول : أكثر ما يجوز هذا في الأوقات ، لأن الوقت يمر عليك ، فيصير خلفك إذا جزته ، وكذلك ( وكان وراءهم ملك ) ، لأنهم بجوزونه فيصير وراءهم .
وكان بعضهم يقول : هو من حروف الأضداد ، يعني وراء ، يكون قداماً وخلفاً .
وقوله : " ويسقى من ماء صديد " ، يقول : ويسقى من ماء ، ثم بين ذلك الماء حل ثناؤه وما هو ، فقال : هو صديد ، ولذلك رد الصديد في إعرابه على الماء ، لأنه بيان عنه .
و الصديد ، هو القيح والدم .
وكذلك تأوله أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ـ وحدثني الحارث قال ، حدثنا الحسن قال ، حدثنا ورقاء ، وحدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ،عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "من ماء صديد" ، قال : قيح ودم .
حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن ابي نجيح ،عن مجاهد مثله .
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ويسقى من ماء صديد" ، و الصديد ، ما يسيل من لحمه وجلده .
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ،عن قتادة في قوله : "ويسقى من ماء صديد" ، قال : ما يسيل من بين لحمه وجلده .
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا هشام ، عمن ذكره ، عن الضحاك : "ويسقى من ماء صديد" ، قال : يعني بالصديد ما يخرج من جوف الكافر ،قد خالط القيح والدم .
وقوله : "يتجرعه" ، يتحساه ، "ولا يكاد يسيغه" ، يقول : ولا يكاد يزدرده من شدة كراهته ، وهو مسيغه من شدة العطش .
والعرب تجعل لا يكاد ، فيما قد فعل وفيما لم يفعل . فأما ما قد فعل ، فمنه هذا ، لأن الله جل ثناؤه جعل لهم ذلك شراباً . وأما ما لم يفعل وقد دخلت فيه كاد فقوله : ( حتى إذا أخرج يده لم يكد يراها ) فهو لا يراها .
وبنحو ما قلنا من أن معنى قوله : "ولا يكاد يسيغه" ، وهو يسغيه ، جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ذكر الرواية بذلك :
حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا إبراهيم أبو إسحاق الطالقاني قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبيد الله بن بسر ، عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : "ويسقى من ماء صديد * يتجرعه" ، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره ، يقول عز وجل : ( وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ) ، ويقول : ( وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب ) .
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا معمر ، عن ابن المبارك قال ، حدثنا صفوان بن عمرو ، عن عبيد الله بن بسر ، عن أبي امامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : "ويسقى من ماء صديد" ، فذكر مثله ، إلا أنه قال : ( سقوا ماء حميما ) .
حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال ، حدثنا حيوة بن شريح الحمصي قال ، حدثنا بقية ، عن صفوان بن عمرو قال ، حدثني عبيد الله بن بسر ، عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله سواءً .
وقوله : "ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت" ، فإنه يقول : ويأتيه الموت من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وشماله ، ومن كل موضع من أعضاء جسده ، "وما هو بميت" ، لأنه لا تخرج نفسه فيموت فيستريح ، ولا يحيى لتعلق نفسه بالحناجر ، فلا ترجع إلى مكانها ، كما :
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : "يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت" ، قال : تعلق نفسه عند حنجرته ، فلا تخرج من فيه فيموت ، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه ، فيجد لذلك راحة ، فتنفعه الحياة .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال حدثنا يزيد بن هرون قال ، حدثنا العوام بن حوشب ، عن إبراهيم التيمي قوله : "ويأتيه الموت من كل مكان" ، قال : من تحت كل شعرة في جسده .
وقوله : "ومن ورائه عذاب غليظ" ، يقول : ومن وراء ما هو فيه من العذاب ، يعني أمامه وقدامه ، "عذاب غليظ" .
" يتجرعه " ( إبراهيم: 16) قال: يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره يقول الله: " وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم " ( محمد: 15) ويقول الله: " وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب " ( الكهف: 29) خرجه الترمذي ، وقال: حديث غريب، وعبيد الله بن بسر الذي روى عنه صفوان بن عمرو حديث أبي أمامة لعله أن يكون أخا عبد الله بن بسر. " يتجرعه " أي يتحساه جرعاً لا مرة واحدة لمرارته وحرارته. " ولا يكاد يسيغه " أي يبتلعه، يقال: جرع الماء واجترعته وتجرعه بمعنى. وساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغاً إذا كان سلساً سهلاً، وأساغه الله إساغةً. و ( يكاد) صلة، أي يسيغه بعد إبطاء، قال الله تعالى: " وما كادوا يفعلون " ( البقرة: 71) أي فعلوا بعد إبطاء، ولهذا قال: " يصهر به ما في بطونهم والجلود " ( الحج: 20) فهذا يدل على الإساغة. وقال ابن عباس: يجيزه ولا يمر به. " ويأتيه الموت من كل مكان " قال ابن عباس: أي يأيته أسباب الموت من كل جهة عن يمينه وشماله، ومن فوقه وتحته ومن قدامه وخلفه، كقوله: " لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل " ( الزمر: 16). وقال إبراهيم التيمي: يأتيه من كل مكان من جسده حتى من أطراف شعره، للآلام التي في كل مكان من جسده. وقال الضحاك : إنه ليأتيه الموت من كل ناحية ومكان حتى من إبهام رجليه. وقال الأخفش : يعني البلايا التي تصيب الكافر في النار سماها موتاً، وهي من أعظم الموت. وقيل: إنه لا يبقى عضو من أعضائه إلا وكل به نوع من العذاب، لو مات سبعين مرة لكان أهون عليه من نوع منها في فرد لحظة، إما حية تنهشه، أو عقرب تلبسه، أو نار تسفعه، أو قيد برجليه، أو غل في عنقه، أو سلسلة يقرب بها، أو تابوت يكون فيه، أو زقوم أو حميم، أو غير ذلك من العذاب.وقال محمد بن كعب: إذا دعا الكافر في جهنم بالشراب فرآه مات موتات، فإذا دنا منه مات موتات، فإذا شرب منه مات موتات، فذلك قوله: " ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ". قال الضحاك : لا يموت فيستريح. وقال ابن جريج: تعلق روحه في حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة، ونظيره قوله: " لا يموت فيها ولا يحيا " ( طه: 74). وقيل: يخلق الله في جسده آلاماً كل واحد منها كألم الموت. وقيل: ( وما هو بميت) لتطاول شدائد الموت به، وامتداد سكراته عليه، ليكون ذلك زيادة في عذابه.
قلت: ويظهر من هذا أنه يموت، وليس كذلك، لقوله تعالى: " لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها " ( فاطر: 36) وبذلك وردت السنة، فأحوال الكفار أحوال من استولى عليه سكرات الموت دائماً، والله أعلم. " ومن ورائه " أي من أمامه. " عذاب غليظ " أي شديد متواصل الآلام من غير فتور، ومنه قوله " وليجدوا فيكم غلظة " ( التوبة: 123) أي شدة وقوة. وقال فضيل بن عياض في قول الله تعالى: " ومن ورائه عذاب غليظ " قال: حبس الأنفاس.
يخبر تعالى عما توعدت به الأمم الكافرة رسلهم من الإخراج من أرضهم والنفي من بين أظهرهم, كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به: "لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا" الاية. وكما قال قوم لوط: "أخرجوا آل لوط من قريتكم" الاية, وقال تعالى إخباراً عن مشركي قريش: "وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً". وقال تعالى: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" وكان من صنعه تعالى أنه أظهر رسوله ونصره, وجعل له بسبب خروجه من مكة أنصاراً وأعواناً وجنداً يقاتلون في سبيل الله تعالى, ولم يزل يرقيه تعالى من شيء إلى شيء حتى فتح له مكة التي أخرجته, ومكن له فيها, وأرغم أنوف أعدائه منهم ومن سائر أهل الأرض حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً, وظهرت كلمة الله ودينه على سائر الأديان في مشارق الأرض ومغاربها في أيسر زمان, ولهذا قال تعالى: " فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الأرض من بعدهم " وكما قال: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون ", وقال تعالى: "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز", وقال تعالى: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر" الاية, " قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ", وقال تعالى: "وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون" وقوله: "ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد" أي وعيدي هذا لمن خاف مقامي بين يدي يوم القيامة وخشي من وعيدي وهو تخويفي وعذابي كما قال تعالى: " فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى " وقال "ولمن خاف مقام ربه جنتان".
وقوله: "واستفتحوا" أي استنصرت الرسل ربها على قومها, قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: استفتحت الأمم على أنفسها كما قالوا: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم" ويحتمل أن يكون هذا مراداً وهذا مراداً, كما أنهم استفتحوا على أنفسهم يوم بدر واستفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنصر, وقال الله تعالى للمشركين: "إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم" الاية, والله أعلم, "وخاب كل جبار عنيد" أي متجبر في نفسه عنيد معاند للحق, كقوله تعالى: " ألقيا في جهنم كل كفار عنيد * مناع للخير معتد مريب * الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد " وفي الحديث "إنه يؤتى بجهنم يوم القيامة, فتنادي الخلائق, فتقول: إني وكلت بكل جبار عنيد" الحديث أي خاب وخسر حين اجتهد الأنبياء في الابتهال إلى ربها العزيز المقتدر.
وقوله: " من ورائه جهنم " وراء هنا بمعنى أمام, كقوله تعالى: "وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً" وكان ابن عباس يقرؤها: وكان أمامهم ملك, أي من وراء الجبار العنيد جهنم, أي هي له بالمرصاد يسكنها مخلداً يوم المعاد, ويعرض عليها غدواً وعشياً إلى يوم التناد "ويسقى من ماء صديد" أي في النار ليس له شراب إلا من حميم وغساق, فهذا حار في غاية الحرارة, وهذا بارد في غاية البرد والنتن, كما قال: " هذا فليذوقوه حميم وغساق * وآخر من شكله أزواج " وقال مجاهد وعكرمة: الصديد من القيح والدم. وقال قتادة: هو ما يسيل من لحمه وجلده, وفي رواية عنه: الصديد ما يخرج من جوف الكافر قد خالط القيح والدم. وفي حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: قلت يا رسول الله ما طينة الخبال ؟ قال "صديد أهل النار". وفي رواية "عصارة أهل النار".
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق, أنبأنا عبد الله, أخبرنا صفوان بن عمرو عن عبيد الله بن بسر, عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " ويسقى من ماء صديد * يتجرعه " قال: "يقرب إليه فيكرهه, فإذا أدني منه شوى وجهه, ووقعت فروة رأسه, فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره" يقول الله تعالى: "وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم" ويقول: "وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه" الاية, وهكذا رواه ابن جرير من حديث عبد الله بن المبارك به. ورواه هو وابن أبي حاتم من حديث بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو به.
وقوله: "يتجرعه" أي يتغصصه ويتكرهه, أي يشربه قهراً وقسراً لا يضعه في فمه حتى يضربه الملك بمطراق من حديد, كما قال تعالى: "ولهم مقامع من حديد" "ولا يكاد يسيغه" أي يزدرده لسوء طعمه ولونه وريحه وحرارته أو برده الذي لا يستطاع "ويأتيه الموت من كل مكان" أي يألم له جميع بدنه وجوارحه وأعضائه. قال عمرو بن ميمون بن مهران: من كل عظم وعصب وعرق. وقال عكرمة: حتى من أطراف شعره, وقال إبراهيم التيمي: من موضع كل شعرة, أي من جسده حتى من أطراف شعره. وقال ابن جرير: "ويأتيه الموت من كل مكان" أي من أمامه وخلفه, وفي رواية: وعن يمينه وشماله, ومن فوقه ومن تحت أرجله, ومن سائر أعضاء جسده.
وقال الضحاك عن ابن عباس "ويأتيه الموت من كل مكان" قال: أنواع العذاب الذي يعذبه الله بها يوم القيامة في نار جهنم, ليس منها نوع إلا يأتيه الموت منه لو كان يموت, ولكن لا يموت لأن الله تعالى قال: "لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها" ومعنى كلام ابن عباس رضي الله عنه أنه ما من نوع من هذه الأنواع من العذاب إلا إذا ورد عليه اقتضى أن يموت منه لو كان يموت, ولكنه لا يموت ليخلد في دوام العذاب والنكال, ولهذا قال تعالى: "ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت".
وقوله: "ومن ورائه عذاب غليظ" أي وله من بعد هذه الحال عذاب آخر غليظ, أي مؤلم صعب شديد أغلظ من الذي قبله, وأدهى وأمر, وهذا كما قال تعالى عن شجرة الزقوم: " إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم * طلعها كأنه رؤوس الشياطين * فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون * ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم * ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم " فأخبر أنهم تارة يكونون في أكل زقوم, وتارة في شرب حميم, وتارة يردون إلى جحيم, عياذاً بالله من ذلك, وهكذا قال تعالى: " هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون * يطوفون بينها وبين حميم آن ", وقال تعالى: " إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم * كالمهل يغلي في البطون * كغلي الحميم * خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم * ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم * ذق إنك أنت العزيز الكريم * إن هذا ما كنتم به تمترون ", وقال: " وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال * في سموم وحميم * وظل من يحموم * لا بارد ولا كريم ", وقال تعالى: " هذا وإن للطاغين لشر مآب * جهنم يصلونها فبئس المهاد * هذا فليذوقوه حميم وغساق * وآخر من شكله أزواج " إلى غير ذلك من الايات الدالة على تنوع العذاب عليهم, وتكراره وأنواعه, وأشكاله مما لا يحصيه إلا الله عز وجل جزاءً وفاقاً "وما ربك بظلام للعبيد".
و 17- "يتجرعه" في محل جر على أنه صفة لماء، أو في محل نصب على أنه حال، وقيل هو استئناف مبني على سؤال، والتجرع التحسي: أي يتحساه مرة بعد مرة لا مرة واحدة لمرارته وحرارته "ولا يكاد يسيغه" أي يبتلعه، يقال ساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغاً: إذا كان سهلاً، والمعنى: ولا يقارب إساغته، فكيف تكون الإساغة؟ بل يغص به فيطول عذابه بالعطش تارة، ويشربه على هذه الحال أخرى، وقيل إنه يسيغه بعد شدة وإبطاء، كقوله: "وما كادوا يفعلون" أي يفعلون بعد إبطاء، كما يدل عليه قوله تعالى في آية أخرى "يصهر به ما في بطونهم" "ويأتيه الموت من كل مكان" أي تأتيه أسباب الموت من كل جهة من الجهات، أو من كل موضع من مواضع بدنه. وقال الأخفش: المراد بالموت هنا البلايا التي تصيب الكافر في النار، سماها موتاً لشدتها "وما هو بميت" أي والحال أنه لم يمت حقيقة فيستريح، وقيل تعلق نفسه في حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فيحيا، ومثله قوله تعالى: "لا يموت فيها ولا يحيا"، وقيل معنى وما هو بميت: لتطاول شدائد الموت به وامتداد سكراته عليه. والأولى تفسير الآية بعدم الموت حقيقة لما ذكرنا من قوله سبحانه: "لا يموت فيها ولا يحيا" وقوله: "لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها" " ومن ورائه عذاب غليظ " أي من أمامه، أو من بعده عذاب شديد، وقيل هو الخلود، وقيل حبس النفس.
"يتجرعه": أي: يتحساه ويشربه، لا بمرة واحدة، بل جرعة جرعة، لمرارته وحرارته، "ولا يكاد يسيغه"، و"يكاد": صلة، أي: لا يسيغه، كقوله تعالى: "لم يكد يراها" (النور-40) أي: لم يرها.
قال ابن عباس- رضي الله عنهما-: لا يجيزه.
وقيل: معناه يكاد لا يسيغه، ويسيغه فيغلي في جوفه.
أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا محمد بن أحمد بن الحارث، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن صفوان بن عمرو، عن عبيد الله بن بسر، عن أبي أمامة - رضي الله عنه - "عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " ويسقى من ماء صديد * يتجرعه "، قال: يقرب إلى فيه فيتكرهه،فإذاأدني منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره يقول اللله عز وجل " وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم"" (محمد-15) ويقول " وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه" (الكهف-29).
وقوله عز وجل " ويأتيه الموت من كل مكان " يعني: يجد هم الموت وألمه من كل مكان من أعضائه.
قال إبراهيم التيمي: حتى من تحت كل شعره من جسده.
وقيل: يأتيه الموت من قدامه ومن خلفه، ومن فوقه ومن تحته، وعن يمينه وعن شماله.
"وما هو بميت"، فيستريح، قال ابن جريج: تعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتتفعه الحياة. ونظيرها " ثم لا يموت فيها ولا يحيا " (الأعلى-13).
" ومن ورائه "، أمامه، "عذاب غليظ"، شديد، وقيل: العذاب الغليظ الخلود في النار.
17."يتجرعه"يتكلف جرعه وهو صفة لماء أو حال من الضمير في "يسقى""ولا يكاد يسيغه"ولا يقارب أن يسيغه فكيف يسيغه بل يغص به فيطول عذابه ، والسوغ جواز الشراب على الحلق بسهولة وقبول نفس ."ويأتيه الموت من كل مكان"أي أسبابه من الشدائد فتحيط به من جميع الجهات . وقيل من كل مكان من جسده حتى من أصول شعره وإبهام رجله ."وما هو بميت"فيستريح"ومن ورائه "ومن بين يديه"عذاب غليظ"أي يستقبل في كل وقت عذاباً أشد مما هو عليه.وقيل هو الخلود في النار . وقيل حبس الأنفاس .وقيل الآية منقطعة عن قصة الرسل نازلة في أهل مكة طلبوا الفتح الذي هو المطر في سنيهم التي أرسل الله تعالى عليهم بدعوة رسوله ، فخيب رجاءهم فلم يسقهم ووعد لهم أن يسقيهم في جهنم بدل سقياهم صديد أهل النار.
17. Which he sippeth but can hardly swallow, and death cometh unto him from every side while yet he cannot die, and before him is a harsh doom.
17 - In gulps will he sip it, but never will he be near swallowing it down his throat: death will come to him from every quarter, yet will he not die: and in front of him will be a chastisement unrelenting.