[النصر : 3] فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا
3 - (فسبح بحمد ربك) أي متلبساً بحمده (واستغفره إنه كان توابا) وكان صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة يكثر من قول: سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه ، وعلم بها أنه قد اقترب أجله وكان فتح مكة في رمضان سنة ثمان وتوفي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة عشر
قوله : " فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا " .
قوله تعالى:" فسبح بحمد ربك واستغفره" أي إذا صليت فأكثر من ذلك. وقيل: معنى سبح: صل، عن ابن عباس. (بحمد ربك) أي حامداً له على ما آتاك من الظفر والفتح (واستغفره) أي سل الله لغفران. وقيل:(فسبح) المراد به: التنزيه، أي نزهه عما لا يجوز عليه مع شكرك له. (واستغفره) أي سل الله الغفران مع مداومة الذكر. والأول أظهر. روى الأئمة- واللفظ للبخاري- عن عائشة رضي الله عنها قالت:
ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد ان نزلت عليه سورة" إذا جاء نصر الله والفتح" إلا يقول: (سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي). وعنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر ان يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي). يتأول القرآن. وفي غير الصحيح: وقالت ام سلمة :
كان النبي صلىالله عليه وسلم آخر امره لا يقوم ولا يقعد ولا يجيء ولا يذهب إلا قال (سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه- قال- فإني أمرت بها- ثم قرأ " إذا جاء نصر الله والفتح" إلى آخرها. وقال ابو هريرة: اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها، حتى تورمت قدماه، ونحل جسمه، وقل تبسمه، وكثر بكاؤه. وقال عكرمة: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قط أشد اجتهاداً في امور الآخرة ما كان منه عند نزولها. وقال مقاتل : لما نزلت قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه، ومنهم أبو بكر وعمر وسعد بن ابي وقاص، ففرحوا واستبشروا، وبكى العباس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : (ما يبكيك يا عم؟) قال : نعيت إليك نفسك. قال:(إنه لكما تقول) فعاش بعدها ستين يوماً، ما رئي فيها ضاحكاً مستبشراً. وقيل: نزلت في منى بعد أيام التشريق، في حجة الوداع، فبكى عمر والعباس، فقيل لهما: إن هذا يوم فرح، فقالا : بل فيه نعي الني صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدقتما، نعيت إلي نفسي. وفي البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كان عمر بن الخطاب يأذن لأهل بدر، ويأذن لي معهم. قال: فوجد بعضهم من ذلك، فقالوا: يأذن لهذا الفتى معنا ومن أبنائنا من هو مثله! فقال لهم عمر: إنه من قد علمتم. قال: فأذن لهم ذات يوم، وأذن لي معهم، فسألهم عن هذه السورة " إذا جاء نصر الله والفتح" فقالوا: أمر الله جل وعز نبيه صلى الله عليه وسلم إذا فتح عليه أن يستغفره، وأن يتوب إليه. فقال : ما تقول يا ابن عباس؟ قلت: ليس كذلك، ولكن اخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم حضور أجله، فقال " إذا جاء نصر الله والفتح" فذلك علامة موتك." فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا" فقال عمر رضي الله عنه : تلومنني عليه؟ وفي البخاري فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول. ورواه الترمذي، قال: كان عمر يسألني مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلمن فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتسأله ولنا بنون مثله؟ فقال له عمر: إنه من حيث نعلم. فسأله عن هذه الآية: " إذا جاء نصر الله والفتح" فقلت: إنما هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعلمه إياه، وقرأ السورة الى آخرها. فقال له عمر: والله ما أعلم منها إلا ما تعلم. قال: هذا حديث حسن صحيح. فإن قيل: فماذا يغفر للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يؤمر بالاستغفار؟ قيل له: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (رب اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري كله، وما انت اعلم به منى. اللهم اغفر لي خطئي وعمدي وجهلي وهزلي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ماقدمت وما أخرت، وما اعلنت وما أسررت، انت المقدم وانت المؤخر، انك على كل شيء قدير، فكان صلى الله عليه وسلم يستقصر نفسه لعظم ما انعم الله به عليه، ويرى قصوره عن القيام بحق ذلك ذنوباً. ويحتمل أن يكون بمعنى: كن متعلقاً به، سائلاً راغباً، متضرعاً على رؤية التقصير في أداء الحقوق، لئلا ينقطع إلى رؤية الأعمال. وقيل: الاستغفار تعبد يجب إتيانه، لا للمغفرة، بل تعبداً. وقيل: ذلك تنبيه لأمته، لكيلا يأمنوا ويتركوا الاستغفار. وقيل: (واستغفره) أي استغفر لأمتك. " إنه كان توابا" أي على المسبحين والمستغفرين، يتوب عليهم ويرحمهم، ويقبل توبتهم. وإذا كان عليه السلام وهو معصوم يؤمر بالاستغفار، فما الظن بغيره؟ روى مسلم عن عائشة قالت:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول: (سبحان الله وبحمده، أستغفر الله واتوب إليه). قالت: فقلت يا رسول الله، أراك تكثر من قول (سبحان الله وبحمده، أسغفر الله واتوب إليه)؟ فقال: (خبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده، أستغفر الله واتوب إليه، فقد رأيتها:" إذا جاء نصر الله والفتح" -فتح مكة- " ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا" " وقال ابن عمر: نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع، ثم نزلت " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي" [المائدة:3] فعاش بعدهما النبي صلى الله عليه وسلم ثمانين يوماً. ثم نزلت آية الكلالة، فعاش بعدها خمسين يوماً. ثم نزل : " لقد جاءكم رسول من أنفسكم"[ التوبة:128] فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوماً. ثم نزل" واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله" [البقرة:281] فعاش بعدها أحدا وعشرين يوماً. وقال مقاتل سبعة أيام. وقيل غير هذا مما تقدم في البقرة بيانه والحمدلله.
قال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل , حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر, فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال عمر : إنه ممن قد علمتم, فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم, فقال: ما تقولون في قول الله عز وجل: "إذا جاء نصر الله والفتح" ؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا, وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً, فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت: لا , فقال: ما تقول ؟ فقلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له, قال: "إذا جاء نصر الله والفتح" فذلك علامة أجلك "فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً" فقال عمر بن الخطاب : لا أعلم منها إلا ما تقول, تفرد به البخاري . وروى ابن جرير عن محمد بن حميد عن مهران عن الثوري عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس , فذكر مثل هذه القصة أو نحوها.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن فضيل , حدثنا عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت "إذا جاء نصر الله والفتح" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعيت إلي نفسي" فإنه مقبوض في تلك السنة, تفرد به أحمد : وروى العوفي عن ابن عباس مثله وهكذا قال مجاهد وأبو العالية والضحاك وغير واحد إنها أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي إليه. وقال ابن جرير : حدثني إسماعيل بن موسى , حدثنا الحسن بن عيسى الحنفي , عن معمر عن الزهري عن أبي حازم عن ابن عباس قال : " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة إذ قال: الله أكبر! الله أكبر! جاء نصر الله والفتح! جاء أهل اليمن ـ قيل يا رسول الله وما أهل اليمن ؟ قال ـ قوم رقيقة قلوبهم, لينة طباعهم, الإيمان يمان, والفقه يمان, والحكمة يمانية" ثم رواه ابن عبد الأعلى عن ابن ثور عن معمر عن عكرمة مرسلاً.
وقال الطبراني : حدثنا زكريا بن يحيى , حدثنا أبو كامل الجحدري , حدثنا أبو عوانة عن هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت "إذا جاء نصر الله والفتح" حتى ختم السورة قال: " نعيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه حين نزلت, قال: فأخذ بأشد ما كان قط اجتهاداً في أمر الاخرة, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك جاء الفتح ونصر الله, وجاء أهل اليمن فقال رجل: يا رسول الله وما أهل اليمن ؟ قال: قوم رقيقة قلوبهم, لينة طباعهم, الإيمان يمان, والفقه يمان". وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع عن سفيان عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس قال: لما نزلت "إذا جاء نصر الله والفتح" علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد نعيت إليه نفسه, فقيل إذا جاء نصر الله والفتح السورة كلها, حدثنا وكيع عن سفيان عن عاصم عن أبي رزين أن عمر سأل ابن عباس عن هذه الاية "إذا جاء نصر الله والفتح" قال: لما نزلت نعيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه.
وقال الطبراني : حدثنا إبراهيم بن أحمد بن عمر الوكيعي , حدثنا أبي , حدثنا جعفر بن عون عن أبي العميس , عن أبي بكر بن أبي الجهم عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال: آخر سورة نزلت من القرآن جميعاً "إذا جاء نصر الله والفتح". وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا محمد بن جعفر , حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري الطائي , عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لما نزلت هذه السورة "إذا جاء نصر الله والفتح" قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها فقال: "الناس حيز وأنا وأصحابي حيز ـ وقال ـ لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية" فقال له مروان : كذبت, وعنده رافع بن خديج وزيد بن ثابت قاعدان معه على السرير, فقال أبو سعيد : لو شاء هذان لحدثاك, ولكن هذا يخاف أن تنزعه عن عرافة قومه. وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة. فرفع مروان عليه الدرة ليضربه فلما رأيا ذلك قالا: صدق. تفرد به أحمد .
وهذا الذي أنكره مروان على أبي سعيد ليس بمنكر, فقد ثبت من رواية ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح: "لا هجرة ولكن جهاد ونية, ولكن إذا استنفرتم فانفروا" أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما فالذي فسر به بعض الصحابة من جلساء عمر رضي الله عنهم أجمعين من أنه قد أمرنا إذا فتح الله علينا المدائن والحصون أن نحمد الله ونشكره ونسبحه, يعني نصلي له ونستغفره. معنى مليح صحيح وقد ثبت له شاهد من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وقت الضحى ثماني ركعات, فقال قائلون: هي صلاة الضحى, وأجيبوا بأنه لم يكن يواظب عليها فكيف صلاها ذلك اليوم, وقد كان مسافراً لم ينو الإقامة بمكة, ولهذا أقام فيها إلى آخر شهر رمضان قريباً من تسعة عشر يوماً, يقصر الصلاة ويفطر هو وجميع الجيش, وكانوا نحواً من عشرة آلاف, قال هؤلاء: وإنما كانت صلاة الفتح.
قالوا: فيستحب لأمير الجيش إذا فتح بلداً أن يصلي فيه أول ما يدخله ثماني ركعات, وهكذا فعل سعد بن أبي وقاص يوم فتح المدائن, ثم قال بعضهم: يصليها كلها بتسليمة واحدة, والصحيح أنه يسلم من كل ركعتين كما ورد في سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم يوم الفتح من كل ركعتين, وأما ما فسر به ابن عباس وعمر رضي الله تعالى عنهما من أن هذه السورة نعي فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم روحه الكريمة, واعلم أنك إذا فتحت مكة وهي قريتك التي أخرجتك ودخل الناس في دين الله أفواجاً, فقد فرغ شغلنا بك في الدنيا فتهيأ للقدوم علينا والوفود إلينا, فالاخرة خير لك من الدنيا, ولسوف يعطيك ربك فترضى, ولهذا قال: "فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً".
قال النسائي أخبرنا عمرو بن منصور حدثنا محمد بن محبوب , حدثنا أبو عوانة عن هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت "إذا جاء نصر الله والفتح" إلى آخر السورة قال: نعيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه حين أنزلت فأخذ في أشد ما كان اجتهاداً في أمر الاخرة, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: "جاء الفتح وجاء نصر الله وجاء أهل اليمن, فقال رجل: يا رسول الله وما أهل اليمن ؟ قال: قوم رقيقة قلوبهم لينة قلوبهم, الإيمان يمان والحكمة يمانية والفقه يمان" وقال البخاري : حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" يتأول القرآن وأخرجه بقية الجماعة إلا الترمذي من حديث منصور به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن الشعبي عن مسروق قال: قالت عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في آخر أمره من قوله: "سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه" وقال: "إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أمتي وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره إنه كان تواباً, فقد رأيتها " إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا " ورواه مسلم من طريق داود بن أبي هند به. وقال ابن جرير : حدثنا أبو السائب حدثنا حفص حدثنا عاصم عن الشعبي , عن أم سلمة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: "سبحان الله وبحمده فقلت: يا رسول الله رأيتك تكثر من سبحان الله وبحمده, لا تذهب ولا تجيء ولا تقوم ولا تقعد إلا قلت: سبحان الله وبحمده قال: إني أمرت بها ـ فقال: "إذا جاء نصر الله والفتح" إلى آخر السورة " , غريب, وقد كتبنا حديث كفارة المجلس من جميع طرقه وألفاظه في جزء مفرد فيكتب ههنا.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله قال لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا جاء نصر الله والفتح" كان يكثر إذا قرأها وركع أن يقول: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك, اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الرحيم" ثلاثاً تفرد به أحمد . ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن عمرو بن مرة عن شعبة عن أبي إسحاق به, والمراد بالفتح ههنا فتح مكة قولاً واحداً, فإن أحياء العرب كانت تتلوم بإسلامها فتح مكة يقولون إن ظهر على قومه فهو نبي, فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجاً, فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيماناً, ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام و لله الحمد والمنة.
وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة قال: لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة, يقولون دعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي الحديث, وقد حررنا غزوة الفتح في كتابنا السيرة فمن أراده فليراجعه هناك ولله الحمد والمنة وقال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا أبو إسحاق عن الأوزاعي , حدثني أبو عمار حدثني جار لجابر بن عبد الله قال قدمت من سفر فجاءني جابر بن عبد الله فسلم علي , فجعلت أحدثه عن افتراق الناس وما أحدثوا, فجعل جابر يبكي ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس دخلوا في دين الله أفواجاً وسيخرجون منه أفواجاً". آخر تفسير سورة النصر, و لله الحمد والمنة.
3- "فسبح بحمد ربك" هذا جواب الشرط، وهو العامل فيه، والتقدير: فسبح بحمد ربك إذا جاء نصر الله. وقال مكي: العامل في إذا هو جاء، ورجحه أبو حيان وضعف الأول بأن ما جاء بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبلها، وقوله: "بحمد ربك" في محل نصب على الحال: أي فقل سبحان الله ملتبساً بحمده، أو حامداً له. وفيه الجمع بين تسبيح الله المؤذن بالتعجب مما يسره الله له مما لم يكن يخطر بباله ولا بال أحد من الناس، وبين الحمد له على جميل صنعه له وعظيم منته عليه بهذه النعمة التي هي النصر والفتح لأم القرى التي كان أهلها قد بلغوا في عداوته إلى أعلى المبالغ حتى أخرجوه منه بعد أن افتروا عليه من الأقوال الباطلة، والأكاذيب المختلفة ما هو معروف من قولهم: هو مجنون، هو ساحر، هو شاعر، هو كاهن، ونحو ذلك. ثم ضم سبحانه إلى ذلك أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار: أي اطلب منه المغفرة لذنبك هضماً لنفسك واستقصاراً لعملك، واستدراكاً لما فرط منك من ترك ما هو الأولى، وقد كان صلى الله عليه وسلم يرى قصوره عن القيام بحق الله ويكثر من الاستغفار والتضرع وإن كان قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وقيل إن الاستغفار منه صلى الله عليه وسلم ومن سائر الأنبياء هو تعبد تعبدهم الله به، لا لطلب المغفرة لذنب كائن منهم. وقيل إنما أمره الله سبحانه بالاستغفار تنبيهاً لأمته وتعريضاً بهم، فكأنهم هم المأمورون بالاستغفار. وقيل إن الله سبحانه أمره بالاستغفار لأمته لا لذنبه. وقيل المراد بالتسبيح هنا الصلاة. والأولى حمله على معنى التنزيه مع ما أشرنا إليه من كون فيه معنى التعجب سروراً بالنعمة، وفرحاً بما هيأه الله من نصر الدين، وكبت أعدائه ونزول الذلة بهم وحصول القهر لهم. قال الحسن: أعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أنه قد اقترب أجله فأمر بالتسبيح والتوبة ليختم له في آخر عمره بالزيادة في العمل الصالح، فكان يكثر أن يقول: سبحانك الله وبحمدك اغفر لي إنك أنت التواب. قال قتادة ومقاتل: وعاش صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السور سنتين، وجملة "إنه كان تواباً" تعليل لأمره صلى الله عليه وسلم بالاستغفار: أي من شأنه التوبة على المستغفرين له يتوب عليهم ويرحمهم بقبول توبتهم، وتواب من صيغ المبالغة، فقيه دلالة على أنه سبحانه مبالغ في قبول توبة التائبين. وقد حكى الرازي في تفسيره اتفاق الصحابة على أن هذه السورة دلت على نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن عمر سألهم عن قول الله "إذا جاء نصر الله والفتح" فقالوا: فتح المدائن والقصور، قال: فأنت يا ابن عباس ما تقول؟ قال: قلت مثل ضرب لمحمد صلى الله عليه وسلم نعيت له نفسه. وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم يدخل هذا معنا ولنا أبناءه مثله؟ فقال عمر: إنه من قدم علمتم، فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم، فقال: ما تقولون في قول الله عز وجل "إذا جاء نصر الله والفتح"؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً، فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت لا، فقال: ما تقول؟ فقلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له، فقال: "إذا جاء نصر الله والفتح" فذلك علامة أجلك "فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً" فقال عمر: لا أعلم منها إلا ما تقول. وأخرج ابن النجار عن سهل بن سعد عن أبي بكر أن سورة "إذا جاء نصر الله والفتح" حين أنزلت على رسول الله أن نفسه نعيت إليه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول: سبحان الله وبحمده، وأستغفره وأتوب إليه، فقلت: يا رسول الله أراك تكثر من قول سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه، فقال: خبرني ربي أني سأرى علامة من أمتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله وأتوب إليه، فقد رأيتها "إذا جاء نصر الله والفتح" فتح مكة " ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا "" وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك، الله اغفر لي يتأول القرآن" يعني إذا جاء نصر الله والفتح، وفي الباب أحاديث. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: "لما نزلت "إذا جاء نصر الله والفتح" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاء أهل اليمن هم أرق قلوباً، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية". وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة إذ قال: الله أكبر قد جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن، قوم رقيقة قلوبهم لينة طاعتهم، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية". وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس دخلوا في دين الله أفواجاً وسيخرجون منه أفواجاً". وأخرج الحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: "تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً" قال: ليخرجن منه أفواجاً كما دخلوا فيه أفواجاً".
3- "فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً"، فإنك حينئذ لاحق به.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو النعمان، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فقال بعضهم: لم تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: إنه ممن قد علمتم، قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم، قال: وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني، فقال: ما تقولون في قوله: "إذا جاء نصر الله والفتح" حتى ختم السورة؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا جاء نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري، ولم يقل بعضهم شيئاً، فقال لي: يا ابن عباس أكذالك تقول؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه به، "إذا جاء نصر الله والفتح" فتح مكة، فذلك أجلك "فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً"، فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثني عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي يتأول القرآن".
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا محمد بن المثنى، حدثني عبد الأعلي، حدثنا داود عن عامر، عن مسروق، عن عائشة، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول: سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه، قالت: يا رسول الله، أراك تكثر من قول: سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه؟ فقال: أخبرني ربي أني سأرى علامةً في أمتي، فإذا رأيتها أكثر من قول: سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه، فقد رأيتها: "إذا جاء نصر الله والفتح". فالفتح: فتح مكة، " ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا "".
قال ابن عباس: لما نزلت هذه السورة علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه نعيت إليه نفسه.
قال الحسن: أعلم أنه قد اقترب أجله فأمر بالتسبيح والتوبة، ليختم له بالزيادة في العمل الصالح.
قال قتادة ومقاتل: عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة سنتين.
3-" فسبح بحمد ربك " فتعجب لتيسير الله ما لم يخطر ببال أحد حامداً له ، أو فصل له حامداً على نعمه ." روي أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة بدأ بالمسجد فدخل الكعبة وصلى ثمان ركعات " ، أو فنزهه تعالى عما كانت الظلمة يقولون فيه حامداً له على أن صدق وعده ، أو فأثن على الله تعالى بصفات الجلال حامداً له على صفات الإكرام . " واستغفره " هضماً لنفسك واستقصاراً لعملك واستدراكاً لما فرط منك من الالتفات إلى غيره ،وعنه عليه الصلاة والسلام " إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة " . وقيل استغفره لأمتك ،وتقديم التسبيح على الحمد ثم الحمد على الاستغفار على طريق النزول من الخالق إلى الخلق . كما قيل ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله ." إنه كان تواباً " لمن استغفره مذ خلق المكلفين ، والأكثر على أن السورة" نزلت قبل فتح مكة ، وأنه نعي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لما قرأها بكى العباس رضي الله عنه ، فقال عليه الصلاة والسلام ما يبكيك ، فقال : نعيت إليك نفسك ، فقال إنها لكما تقول " ، ولعل ذلك لدلالتها على تمام الدعوة وكمال أمر الدين فهي كقوله تعالى : " اليوم أكملت لكم دينكم " أو لأن الأمر بالاستغفار تنبيه على ذو الأجل ، ولهذا سميت سورة التوديع .
وعنه عليه الصلاة والسلام " من قرأ سورة إذا جاء أعطي من الأجر كمن شهد مع محمد عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة شرفها الله تعالى " .
3. Then hymn the praises of thy Lord, and seek forgiveness of Him. Lo! He is ever ready to show mercy.
3 - Celebrate the Praises of thy Lord, and pray for His Forgiveness: for He is Oft Returning (in Grace and Mercy).