[هود : 38] وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ
38 - (ويصنع الفلك) حكاية حال ماضية (وكلما مر عليه ملأ) جماعة (من قومه سخروا منه) استهزؤوا به (قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون) إذا نجونا وغرقتم
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ويصنع نوح السفينة ، وكلما مر عليه جماعة من كبراء قومه ،"سخروا منه" ، يقول : هزئوا من نوح ، ويقولون له : أتحولت نجاراً بعد النبوة ، وتعمل السفينة في البر ؟ فيقول لهم نوح : "إن تسخروا منا" إن تهزأوا منا اليوم ، فإنا نهزأ منكم في الآخرة ، كما تهزأون منا في الدنيا ،"فسوف تعلمون" ، إذا عاينتم عذاب الله ، من الذي كان إلى نفسه مسيئاً منا .
وكانت صنعة نوح السفينة ، كما :
حدثني المثنى ، وصالح بن مسمار قالا ، حدثنا ابن ابي مريم قال ، أخبرنا موسى بن يعقوب قال ، حدثني فائد مولى عبيد الله بن علي بن أبي رافع : أن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة أخبره : أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"لو رحم الله أحداً من قوم نوح ، لرحم أم الصبي !" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كان نوح مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله ، حتى كان آخر زمانه ، غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب ،ثم قطعها ، ثم جعل يعمل سفينة ، ويمرون فيسألونه ، فيقول : أعملها سفينة ! فيسخرون منه ويقولون : تعمل سفينة في البر ! فكيف تجري ؟ فيقول : سوف تعلمون . فلما فرغ منها ، وفار التنور ، وكثر الماء في السكك ، خشيت أم الصبي عليه ، وكانت تحبه حباً شديداً ، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه . فلما بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثي الجبل . فلما بلغها الماء خرجت ، حتى استوت على الجبل ، فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بين يديها حتى ذهب بها الماء . فلو رحم الله منهم أحداً لرحم أم الصبي" .
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن طول السفينة ثلثمئة ذراع ، وعرضها خمسون ذراعاً ، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً ، وبابها في عرضها .
حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا مبارك ، عن الحسن قال : كان طول سفينة نوح ألف ذراع ، وعرضها ستمئة ذراع .
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن مفضل بن فضالة ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس قال : قال الحواريون لعيسى ابن مريم : لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينة فحدثنا عنها ! فانطلق بهم حتى انتهى بهم إلى كثيب من تراب ، فأخذ كفا من ذلك التراب بكفه ، قال : أتدرون ما هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : هذا كعب حام بن نوح . قال : فضرب الكثيب بعصاه ، قال : قم بإذن الله ، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه قد شاب ، قال له عيسى : هكذا هلكت ؟ قال : لا ، ولكن مت وأنا شاب ، ولكنني ظننت أنها الساعة ، فمن ثم شبت . قال : حدثنا عن سفينة نوح ! قال : كان طولها ألف ذراع ومئتي ذراع ، وعرضها ستمئة ذراع ، وكانت ثلاث طبقات : فطبقة فيها الدواب والوحش ، وطبقة فيها الإنس ، وطبقة فيها الطير ، فلما كثر أرواث الدواب ، أوحى الله إلى نوح أن اغمز ذنب الفيل ، فغمز فوقع منه خنزير وخنزيرة ، فأقبلا على الروث . فلما وقع الفأر بجرز السفينة يقرضه ، أوحى الله إلى نوح : أن اضرب بين عيني الأسد ، فخرج من منخره سنور وسنورة ، فأقبلا على الفأر . فقال له عيسى : كيف علم نوح أن البلاد قد غرقت ؟ قال : بعث الغراب يأتيه بالخبر ، فوجد جيفةً فوقع عليها ، فدعا عليه بالخوف ، فلذلك لا يألف البيوت . قال : ثم بعث الحمامة ، فجاءت بورق زيتون بمنقارها ، وطين برجليها ، فعلم أن البلاد قد غرقت . قال : فطوقها الخضرة التي في عنقها ، ودعا لها أن تكون في أنس وأمان ،فمن ثم تألف البيوت . قال : فقلنا ، يا رسول الله ، ألا ننطلق به إلى أهلينا فيجلس معنا ويحدثنا ؟ قال : كيف يتبعكم من لا رزق له ؟ قال : فقال له عد بإذن الله ! قال : فعاد تراباً .
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن عبيد بن عمير الليثي : أنه كان يحدث أنه بلغه : أنهم كانوا يبطشون به ـ يعني قوم نوح ـ فيخنقونه حتى يغشى عليه ، فإذا أفاق قال : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ، حتى إذا تمادوا في المعصية ، وعظمت في الأرض منهم الخطيئة ، وتطاول عليه وعليهم الشأن ، واشتد عليه منهم البلاء ، وانتظر النجل بعد النجل ، فلا يأتي قرن إلا كان أخبث من القرن الذي قبله ، حتى أن كان الآخر منهم ليقول : قد كان هذا مع آبائنا ومع أجدادنا هكذا مجنوناً ! لا يقبلون منه شيئاً ، حتى شكا ذلك من أمرهم نوح إلى الله تعالى ، كما قص الله علينا في كتابه : ( رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا * فلم يزدهم دعائي إلا فرارا ) ، إلى آخر القصة ، حتى قال : ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ) ، إلى آخر القصة . فلما شكا ذلك منهم نوح إلى الله واستنصره عليهم ، أوحى الله إليه : "واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا" ، أي :بعد اليوم ، "إنهم مغرقون" ، فأقبل نوح على عمل الفلك ، ولهي عن قومه ، وجعل يقطع الخشب ، ويضرب الحديد ، ويهيىء عدة الفلك من القار وغيره مما لا يصلحه إلا هو ، وجعل قومه يمرون به وهو في ذلك من عمله ، فيسرخون منه ويستهزئون به ، فيقول : "إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم" ، قال : ويقولون فيما بلغني : يا نوح قد صرت نجاراً بعد النبوة ! قال : وأعقم الله أرحام النساء فلا يولد لهم ولد . قال : ويزعم أهل التوارة أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج ، وأن يصنعه أزور ،وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه ، وأن يجعله طوله ثمانين ذراعاً ، وأن يجعله ثلاثة أطباق ،سفلاً ، ووسطاً ، وعلواً ، وأن يجعل فيه كوىً . ففعل نوح كما أمره الله ، حتى إذا فرغ منه ، وقد عهد الله إليه : "إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل" ، وقد جعل التنور آية فيما بينه وبينه ، فقال : ( إذا جاء أمرنا وفار التنور فاسل فيها من كل زوجين اثنين ) ، واركب . فلما فار التنور ، حمل نوح في الفلك من أمره الله ، وكانوا قليلاً ، كما قال الله ، وحمل فيها من كل زوجين اثنين مما فيه الروح والشجر ، ذكر وأنثى ، فحمل فيه بنيه الثلاثة سام ، وحام ، ويافث ، ونساءهم ، وستة أناس ممن لاكان آمن به ، فكانوا عشرة نفر : نوح وبنوه وأزواجهم ، ثم أدخل ما أمره به من الدواب ، وتخلف عنه ابنه يام ، وكان كافراً .
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الحسن بن دينار ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس قال : سمعته يقول : كان أول ما حمل نوح في الفلك من الدواب الذرة ،وآخر ما حمل الحمار . فلما أدخل الحمار رأسه وأدخل صدره ، تعلق إبليس بذنبه ، فلم تستقل رجلاه ، فجعل نوح يقول : وبحك ! ادخل ! فينهض فلا يستطيع ، حتى قال نوح : ويحك ادخل ! وإن كان الشيطان معك ! قال : كلمة زلت عن لسانه ، فلما قالها نوح خلى الشيطان سبيله ، فدخل ودخل الشيطان معه . فقال له نوح : ما أدخلك علي يا عدو الله ؟ فقال : ألم تقل : ادخل وإن كان الشيطان معك ؟ قال : اخرج عني يا عدو الله ! فقال : مالك بد من أن تحملني ! فكان ، فيما يزعمون ، في ظهر الفلك ، فلما اطمأن نوح في الفلك ، وأدخل فيه من آمن به ، وكان في الشهر ... من السنة التي دخل فيها نوح ، بعد ستمئة سنة من عمره ، لسبع عشرة ليلة مضت من الشهر . لما دخل وحمل معه من حمل ، تحرك ينابيع الغوط الأكبر ، وفتح أبواب السماء ، كما قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر ) . فدخل نوح ومن معه اللك ، وغطاه عليه وعلى من معه بطبقه . فكان بين أن أرسل الله الماء ، وبين أن احتمل الماء الفلك ، أربعون يوماً وأربعون ليلة ، ثم احتمل الماء ، كما تزعم أهل التوارة ، وكثر الماء واشتد وارتفع . يقول الله لمحمد : ( وحملناه على ذات ألواح ودسر ) ، و الدسر ، المسامير ، مسامير الحديد ـ فجعلت الفلك تجري به ، وبمن معه ي موج كالجبال ، ونادى نوح ابنه الذي هلك فيمن هلك ، وكان في معزل ، حين رأى نوح من صدق موعد ربه ما رأى فقال : ( يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ) ، وكان شقياً قد أضمر كفراً . قال : ( سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ) ، وكان عهد الجبال وهي حرز من الأمطار إذا كانت ، فظن أن ذلك كما كان يعهد . قال نوح : ( لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ) ، وكثر الماء حتى طغى ، وارتفع فوق الجبال ، كما تزعم أهل التوارة ، بخمسة عشر ذراعاً ، فباد ما على وجه الأرض من الخلق ، من كل شيء فيه الروح أو شجر ، فلم يبق شيء من الخلائق إلا نوح ومن معه في الفلك ، وإلا عوج بن عنق ، فيما يزعم أهل الكتاب ، فكان بين أن أرسل الله الطوفان ، وبين أن غاض الماء ، ستة أشهر وعشر ليال .
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الحسن بن دينار ، عن علي بن زيد بن جدعان ـ قال ابن حميد ، قال سلمة ، وحدثني علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران قال : سمعته يقول : لما آذى نوحاً في الفلك عذرة الناس ،أمر أن يمسح ذنب الفيل فمسحه ، فخرج منه خنزيران ،وكفى ذلك عنه . وإن الفأر توالدت في الفلك ، فلما آذته ، أمر أن يأمر الأسد يعطس فعطس ، فخرج من منخريه هران يأكلان عند الفأر .
حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس قال : لما كان نوح في السفينة ، قرض الفأر حبال السفينة ، فشكا نوح ، فأوحى الله إليه ، فمسح ذنب الأسد ، فخرج سنوران . وكان في السفينة عذرة ، فشكا ذلك إلى ربه ، فأوحى الله إليه ، فمسح ذنب الفيل ، فخرج خنزيران .
حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني قال ، حدثنا الأسود بن عامر قال ، أخبرنا سفيان بن سعيد ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، بنحوه .
حدثت عن المسيب ، عن أبي روق عن الضحاك قال ، قال سليمان القراسي : عمل نوح السفينة في أربعمئة سنة ، وأنبت الساج أربعين سنة ، حتى كان طوله أربعمئة ذراع ، والذراع إلى المنكب .
قوله تعالى: " ويصنع الفلك " أي وطفق يصنع. قال زيد بن أسلم: مكث نوح صلى الله عليه وسلم مائة سنة يغرس الشجر ويقطعها وييبسها، ومائة سنة يعملها. وروى ابن القاسم عن ابن أشرس عن مالك قال: بلغني أن قوم نوح ملؤوا الأرض، حتى ملؤوا السهل والجبل، فما يستطيع هؤلاء أن ينزلوا إلى هؤلاء، ولا هؤلاء أن يصعدوا إلى هؤلاء، فمكث نوح يغرس الشجر مائة عام لعمل السفينة، ثم جمعها ييبسها مائة عام، وقومه يسخرون، وذلك لما رأوه يصنع من ذلك، حتى كان من قضاء الله فيهم ما كان. وروي عن عمرو بن الحارث قال: عمل نوح سفينته ببقاع دمشق، وقطع خشبها من جبل لبنان. وقال القاضي أبو بكر بن العربي : لما استنقذ الله سبحانه وتعالى من في الأصلاب والأرحام من المؤمنين أوحى الله إليه. ( أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فاصنع الفلك) قال: يا رب ما أنا بنجار، قال: ( بلى فإ، ذلك بعيني) فأخذ القدوم فجعله بيده، وجعلت يده لا تخطيء، فجعلوا يمرون به ويقولون: هذا الذي يزعم أنه نبي صار نجاراً، فعملها في أربعين.
وحكى الثعلبي و أبو نصر القشيري عن ابن عباس قال: اتخذ نوح السفينة في سنتين. زاد الثعلبي : وذلك لأنه لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله إليه أن صنعها كجؤجؤ الطائر. وقال كعب: بناها في ثلاثين سنين، والله أعلم. المهدوي : وجاء في الخبر أن الملائكة كانت تعلمه كيف يصنعها. واختلفوا في طولها وعرضها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما كان طولها ثلثمائة ذراع، وعرضها خمسون، وسمكها ثلاثون ذراعاً، وكانت من خشب الساج، وكذا قال الكلبي وقتادة وعكرمة كان طولها ثلثمائة ذراع، والذراع إلى المنكب. قال سلمان الفارسي. وقال الحسن البصري : إن طول السفينة ألف ذراع ومائتا ذراع، وعرضها ستمائة ذراع. وحكاه الثعلبي في كتاب العرائس . وروي علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال قال الحواريون لعيسى عليه السلام: لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينة يحدثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفا من ذلك التراب، قال أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا كعب حام بن نوح قال فضرب الكثيب بعصاه وقال: قم بإذن الله فإذا هو قائم ينفض التراب من رأسه، وقد شاب، فقال له عيسى: أهكذا هلكت؟ قال: لا بل مت وأنا شاب، ولكنني ظننت أنها السعاة فمن ثم شبت. قال: أخبرنا عن سفينة نوح؟ قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات، طبقة فيها الدواب والوحش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير. وذكر باقي الخبر على ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. وقال الكلبي فيها حكاه النقاش: ودخل الماء فيها أربعة أذرع، وكان لها ثلاثة أبواب، باب فيه السباع والطير، وباب فيه الوحش، وباب فيه الرجال والنساء. ابن عباس جعلها ثلاث بطون، البطن الأسفل للوحوش والسباع والدواب، والأوسط للطعام والشراب، وركب هو في البطن الأعلى، وحمل معه جسد آدم عليه السلام معترضاً بين الرجال والنساء، ثم دفنه بعد ببيت المقدس، وكان إبليس معهم في الكوثل. وقيل: جاءت الحية والعقرب لدخول السفينة فقال نوح: لا أحملكما، لأنكما سبب الضرر والبلاء، فقالتا: احملنا فنحن نضمن لك ألا نضر أحداً ذكرك، فمن قرأ حين يخاف مضرتهما " سلام على نوح في العالمين " ( الصافات: 79) لم تضراه، ذكره القشيري وغيره. وذكر الحافط ابن عساكر في التاريخ له مرفوعاً من حديث أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قال حين يمسي صلى الله عليه نوح وعلى نوح السلام لم تلدغه عقرب تلك الليلة ". قوله تعالى: " وكلما " ظرف. " مر عليه ملأ من قومه سخروا منه ". قال الأخفش و الكسائي يقال: سخرت به ومنه. وفي سخريتهم منه قولان: أحدهما - أنهم كانوا يرونه يبني سفينته في البر، فيسخرون به ويستهزئون ويقولون: يا نوح صرت بعد النبوة نجاراً. الثاني - لما رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بنيت قالوا: يا نوح ما تصنع؟ قال: أبني بيتاً يمشي على الماء، فعجبوا من قوله وسخروا منه، ومياه البحار هي بقية الطوفان. " قال إن تسخروا منا " أي من فعلنا اليوم عند بناء السفينة. " فإنا نسخر منكم " غداً عند الغرق. والمراد بالسخرية هنا الاستجهال، ومعناه إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلونا.
يخبر تعالى أنه أوحى إلى نوح لما استعجل قومه نقمة الله بهم وعذابه لهم فدعا عليهم نوح دعوته التي قال الله تعالى مخبراً عنه أنه قال: "رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً" "فدعا ربه أني مغلوب فانتصر" فعند ذلك أوحى الله إليه "أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن" فلا تحزن عليهم ولا يهمنك أمرهم "واصنع الفلك" يعني السفينة "بأعيننا" أي بمرأى منا "ووحينا" أي تعليمنا لك ما تصنعه "ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون" فقال بعض السلف: أمره الله تعالى أن يغرز الخشب ويقطعه وييبسه فكان ذلك في مائة سنة ونجرها في مائة سنة أخرى وقيل في أربعين سنة والله أعلم. وذكر محمد بن إسحاق عن التوراة: أن الله أمره أن يصنعها من خشب الساج وأن يجعل طولها ثمانين ذراعاً وعرضها خمسين ذراعاً وأن يطلي باطنها وظاهرها بالقار وأن يجعل لها جؤجؤاً أزورا يشق الماء, وقال قتادة كان طولها ثلاثمائة ذراع في عرض خمسين وعن الحسن طولها ستمائة ذارع وعرضها ثلثمائة وعنه مع ابن عباس طولها ألف ومائتا ذراع في عرض ستمائة وقيل طولها ألفا ذارع وعرضها مائة ذراع فالله أعلم, قالوا كلهم وكان ارتفاعها في السماء ثلاثين ذراعاً ثلاث طبقات كل طبقة عشرة أذرع فالسفلى للدواب والوحوش والوسطى للإنس والعليا للطيور وكان بابها في عرضها ولها غطاء من فوقها مطبق عليها.
وقد ذكر الإمام أبو جعفر بن جرير أثراً غريباً من حديث علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن عبد الله بن عباس أنه قال: قال الحواريون لعيسى ابن مريم: لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينة فحدثنا عنها قال فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفاً من ذلك التراب بكفه فقال أتدرون ما هذا ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا كعب حام بن نوح. قال فضرب الكثيب بعصاه قال قم بإذن الله فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه قد شاب قال له عيسى عليه السلام: أهكذا هلكت ؟ قال: لا. ولكني مت وأنا شاب ولكني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت, قال حدثنا عن سفينة نوح ؟ قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وكانت ثلاث طبقات فطبقة فيها الدواب والوحوش وطبقة فيها الإنس وطبقة فيها الطير فلما كثر روث الدواب أوحى الله عز وجل إلى نوح عليه السلام أن اغمز ذنب الفيل فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث فلما وقع الفأر بجوف السفينة يقرضها وحبالها أوحى الله إليه أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وسنورة فأقبلا على الفأر, فقال له عيسى عليه السلام: كيف علم نوح أن البلاد قد غرقت ؟ قال: بعث الغراب يأتيه بالخبر فوجد جيفة فوقع عليها فدعا عليه بالخوف فلذلك لا يألف البيوت.
قال: ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجليها فعلم أن البلاد قد غرقت قال فطوقها الخضرة التي في عنقها ودعا لها أن تكون في أنس وأمان فمن ثم تألف البيوت قال فقلنا يا رسول الله: ألا ننطلق به إلى أهلينا فيجلس معنا ويحدثنا ؟ قال: كيف يتبعكم من لا رزق له ؟ قال فقال له: عد بإذن الله فعاد تراباً, وقوله: "ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه" أي يهزءون به ويكذبون بما يتوعدهم به من الغرق "قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم" الاية وعيد شديد وتهديد أكيد "من يأتيه عذاب يخزيه" أي يهينه في الدنيا "ويحل عليه عذاب مقيم" أي دائم مستمر أبداً .
38- "ويصنع الفلك" أي وطفق يصنع الفلك، أو وأخذ يصنع الفلك، وقيل: هو حكاية حال ماضية لاستحضار الصورة، وجملة "وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه" في محل نصب على الحال: أي استهزأوا به لعمله السفينة. قال الأخفش والكسائي: يقال: سخرت به ومنه. وفي وجه سخريتهم منه قولان: أحدهما: أنهم كانوا يرونه يعمل السفينة، فيقولون: يا نوح صرت بعد النبوة نجاراً. والثاني: أنهم لما شاهدوه يعمل السفينة، وكانوا لا يعرفونها قبل ذلك، قالوا: يا نوح ما تصنع؟ قال: أمشي بها على الماء فعجبوا من قوله، وسخروا به. ثم أجاب عليهم بقوله: "إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون" وهذا الكلام مستأنف على تقدير سؤال كأنه قيل: فماذا قال لهم؟ والمعنى: إن تسخروا منا بسبب عملنا للسفينة اليوم فإنا نسخر منكم غداً عند الغرق. ومعنى السخرية هنا: الاستجهال، أي إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلون، واستجهاله لهم باعتبار إظهاره لهم ومشافهتهم، وإلا فهم عنده جهال قبل هذا وبعده، والتشبيه في قوله: "كما تسخرون" لمجرد التحقق والوقوع، أو التجدد والتكرر، والمعنى: إنا نسخر منكم سخرية متحققة واقعة كما تسخرون منا كذلك، أو متجددة متكررة كما تسخرون منا كذلك، وقيل معناه: نسخر منكم في المستقبل سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق، وفيه نظر فإن حالهم إذ ذاك لا تناسبه السخرية إذ هم في شغل شاغل عنها.
38-قوله تعالى: "ويصنع الفلك" فلما أمره الله تعالى أن يصنع الفلك أقبل نوح عليه السلام على عمل الفلك ولها عن قومه، وجعل يقطع الخشب ويضرب الحديد ويهيء عدة الفلك من القار وغيره، وجعل قومه يمرون به وهو في عمله ويسخرون منه، ويقولون: يا نوح قد صرت نجارا بع النبوة؟ وأعقم الله أرحام نسائهم فلا يولد لهم ولد.
وزعم أهل التوراة: أن الله أمره أني يصنع الفلك من خشب الساج، وأن يصنعه أزور، وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه، وأن يجعل طوله ثمانين ذراعا وعرضه خمسين ذراعا وطوله في السماء ثلاثين ذراعا، والذراع إلى المنكب، وأن يجعله ثلاثة أطباق سفلى ووسطى وعليا ويجعل فيه كوى، ففعله نوح كما أمره الله عز وجل.
وقال ابن عباس: اتخذ نوح السفينة في سنتين وكان طول السفينة ثلثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعا وطولها في السماء ثلاثون ذراعا، وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاثة بطون، فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام، وفى البطن الأوسط الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد.
قولا قتادة: كان بابها في عرضها.
وروى عن الحسن: كان طولها ألفا ومائتي ذراع وعرضها ست مائة ذراع. والمعروف الأول: أن طولها ثلثمائة ذراع.
وعن زيد بن أسلم قال: مكث نوح عليه السلام مائة سنة يغرس الأشجار ويقطعها، ومائة سنة يعمل الفلك.
وقيل: غرس الشجر أربعين سنة وجففه أربعين سنة.
وعن كعب الأحبار أن نوحا عمل السفينة في ثلاثين سنة، وروى أنها كانت ثلاث
طبقات، الطبقة السفلى للدواب والوحوش، والطبقة الوسطى فيها الإنس، والطبقة العليا فيها الطير، فلما كثرت أرواث الدواب أوحى الله إلى نوح أن اغمز ذنب الفيل فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة، فأقبلا على الروث، فلما وقع القار بجوف السفينة فجعل يقرضها ويقرض حبالها، فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وسنورة، فأقبلا على الفار.
قوله تعالى: "وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه"، كانوا يقولون: إن هذا الذى يزعم أنه نبي قد صار نجارا، وروي أنهم كانوا يقولون له: يا نوح ماذا تصنع؟ فيقول أصنع بيتا يمشي على الماء، فيضحكون منه، "قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم"، إذا عاينتم عذاب الله، "كما تسخرون"، فإذا قيل: كيف تجوز السخرية من النبي؟ قيل: هذا على ازدواج الكلام، يعني إن تستجهلوني فإني استجهلكم إذا نزل العذاب بكم، وقيل: معناه إن تسخروا منا فسترون عاقبة سخريتكم
38."ويصنع الفلك"حكاية حال ماضية ."وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه"استهزؤوا به لعمله السفينة فإنه كان يعملها في برية بعيدة من الماء أوان عزته، وكانوا يضحكون منه ويقولون له:صرت نجاراً بعدما كنت نبياً ."قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون"إذا أخذكم الغرق في الدنيا والحرق قي الآخرة .وقيل المراد بالسخرية الاستجهال.
38. And he was building the ship, and every time that chieftains of his people passed him, they made mock of him. He said: Though ye make mock of us, yet we mock at you even as ye mock;
38 - Forthwith he (starts) constructing the Ark: every time that the chiefs of his people passed by him, they threw ridicule on him. he said: if ye ridicule us now, we (in our turn) can look down on you with ridicule likewise