[الفيل : 4] تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ
4 - (ترميهم بحجارة من سجيل) طين مطبوخ
وقوله : " ترميهم بحجارة من سجيل " يقول تعالى ذكر ه : ترمي هذه الطير الأبابيل التي أرسلها الله على أصحاب الفيل ، أصحاب الفيل ، بحجارة من سجيل .
وقد بينا معنى سجيل في موضع غير هذا ، غير أنا نذكر بعض ما قيل من ذلك في هذا الوضع ، من أقوال من لم نذكره في ذلك الموضع .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال :ثنا مهران ، عن سفيان ، عن السدي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس " حجارة من سجيل " قال : طين في حجارة .
حدثني الحسين بن محمد الذارع ، قال : ثنا يزيد بن زريع ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس " ترميهم بحجارة من سجيل " قال : من طين .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال :ثنا سفيان ، عن السدي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس " حجارة من سجيل " قال : سنك وكل .
حدثني الحسين بن محمد الذراع ، قال :ثنا يزيد بن زريع ، عن عمارة بن أبي حفصة ، عن عكرمة " ترميهم بحجارة من سجيل " قال : من طين .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن شرقي ، قال : سمعت عكرمة يقول " ترميهم بحجارة من سجيل " قال : سنك وكل .
حدثني يعقوب ، قال :ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن عكرمة ،قال : كانت ترميهم بحجارة معها ، قال : فإذا أصاب أحدهم خرج به الجدري ، قال : كان أول بوم رؤي فيه الجدري ، قال : لم ير قبل ذلك اليوم ولا بعده .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن وموسى بن أبي عائشة ، قال : ذكر أبو الكنود ، قال :دون الحمصة وفق العدسة .
حدثنا ابن بشار ، قال :ثنا أبو أحمد ، قال :ثنا سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة ، قال كانت الحجارة التي رموا بها أكبر من العدسة ، وأصغر من الحمصة .
قال : ثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : ثنا إسرائيل ، عن موسى بن أبي عائشة عن عمران ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن سفيان عن السدي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : سجيل بالفرسية : سنك وكل ، حجر وطين .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر بن سابط ، قال : هي بالأعجية : سنك وكل .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كانت مع كل طير ثلاثة أحجار : حجران في رجليه ، وحجر في منقاره ، فجعلت ترميهم بها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة " حجارة من سجيل " قال : هي من طين .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : هي طير بيض ، خرجت من قبل البحر ، مع كل طير ثلاثة أحجار : حججران في رجليه ، وحجر في منقاره ، ولا يصيب شيئاً إلا هشمه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا عمرو بن الحارث بن يعقوب أن أباه أخبره أنه بلغه أن التي رت بالحجارة كانت تحلها بأفواهها ، ثم إذا ألقتها نفط لها الجلد .
وقال آخرون : معنى ذلك : ترميهم بحجارة من سماء الدنيا .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله " ترميهم بحجارة من سجيل " قال : السماء الدناي ، قال : والسماء الدنيا اسمها سجيل ، وهي التي أنزل الله جل وعز على قوم لوط .
قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال ، أنه بلغه أن الطير التي رمت بالحجارة ، أنها طير تخرج من البحر ، وأن سجيل : السماء الدنيا . وهذا القول الذي قاله ابن زيد لا نعرف لصحته وجهاً في خبر ولا عقل ولا لغة ، وأسماء الأشياء لا تدرك إلا من لغة سائره ، أو خبر من الله تعالى ذكره .
وكان السبب الذي من أجله حلت عقوبة الله تعالى بأصحاب الفيل ، سير أبرهة الحبشي بجنده معه الفيل ، إلى البيت الحرام لتخريبه .
وكان الذي دعاه إلى ذلك فيما :
حدثنا به ابن حميد ، قال : ثنا سلمة بن الفضل ، قال : ثنا ابن إسحاق ( إن أبرهة بنى كنيسة بصنعاء ، وكان نصرانياً فسماها القليس ، لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض ، وكتب إلى النجاشي ملك الحبشة : إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة ، لم يبن مثلها لملك كان قبلك ، وليست بمنته حتى أصرف إليها حاج العرب . فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك للنجاشي ، عضب رجل من النساة أحد بني فقيم ، ثم أحد بني مالك ، فخرج حتى أتى القليس ، فقعد فيها ، ثم خرج فلحق بأرضه ، فأخبر أبرهة بذلك ، فقال : من صنع هذا ؟ فقيل : صنعه رجل منم أهل هذا البيت ، الذي تحج العرب إليه بمكة ، لما سمع من قولك : اصرف إليه حاج العرب ، فغضب ، فجاء فقعد فيها ، أي أنها ليست لذلك بأهل ، فغضب عند ذلك أبرهة ، وحلف ليسيرن إلى البيت فيهدمه ، وعند أبرهة رجال من العرب قد قدموا عليه يلتمسون فضله ، منهم محمد بن خزاعي بن حزابة الذكواني ، ثم السلمي ، في نفر من قومه ، معه أخ له يقال له قيس بن خزاعي ، فبينما هم عنده ، غشيهم عبد لأبرهة ، فبعث إليهم فيه بغذائه ، وكان يأكل الخصى ، فلما أتى القوم بغذائه ، قالوا : والله لئن أكلنا هذا لا تزال تسبنا به العرب ما بقينا ، فقال محمد بن خزاعي ، فجاء أبرهة فقال : أيها الملك ، إن هذا يوم عيد لنان ، لا نأكل فيه إلا الجنوب والأيدي . فقال له له أبرهة : فسنبعث إليكم ما أحببتم ، فإنما أكرمتم بغذائي ، لمنزلتكم عندي .
ثم إن أبرهة توج محمد بن الخزاعي ، وأمره على مضر ، وأمره أن يسير في الناس ، يدعوهم إلى حج القليس ، كنيسته التي بناها ، فسار محمد بن خزاعي ، حتى إذا نزل ببعض أرض بني كنانة ، وقد بلغ أهل تهامة أمره ، وما جاء له ، بعثوا إليه رجلاً من هذيبل يقال له عروة بن حياض الملاصي ، فرماه بسهم فقتله ، وكان مع محمد بن خزاعي أخوه قيس بن خزاعي ، فهرب حين قتل أخوه ، فلحق بأبرهة ، فأخبره بقتله ، فزاد ذلك أبرهة غضباً وحنقاً ، وحلف ليغزون بني كنانة ، وليهدمن البيت .
ثم إن أبرهة حين أجمع السير إلى البيت ، أمر الحبشان فتهيأت وتجهزت ، وخرج معه بالفيل .وسمعت العرب بذلك ، فأغظموه ، وفظعوا به ، ورأوا جهادة حقاً عليهم ، حيهن سمعواى أنه يريد هدمم الكعبة ، بيت الله الحرام ، فخرج رجل كان من أشراف أهل اليمين وملوكهم ، يقال له ذو نفر ، فدعا قومه ومن أجبه من سائر العرب ، إلى حرب أبرهة ، وجهاده عن بيت الله ، وام يريد من هدمه وإخرابه ، فأجابه من أجابه إلى ذلك ، وعرض له ، وقاتله ، فهزم وتفرق أصحابه ، وأخذ له ذو نفر أسيراً ، فلما أراد قتله ، قال ذو نفر : أيها الملك لا تقتلني ، فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيراً لك من قتلي ، فتركه من القتل ، وحبسه عنده في وثاق ، وكان أبرهة رجلاً حلمياً .
ثم مضى أبرهة على وجه ذلك يريد ما خرج له ، حتى إذا كان بأرض خثعم ، عرض له نفيل بن حبيب الخثعي في قبيلي خثعم : شهران ، وناهس ، ونمن معه من قبائل العرب ، فقالتله فهزه أبرهة ، وأخذ له أسيراً ، فأتي به ، فلما هم بقتله ، قال له نفيل : أيها الملك لا تقتلني ، فإني دليلك بأرض العرب . وهاتان يداي لك على قبيلي خثعم : شهران ، وناهس ، بالسمع والطاعة ، فأعفاه وخلى سبيله ، وخرج به عه ، يدله على الطريق ، حتى إذا مر بالطائف ، خرج إليه مسعود بن معتب في رجال ثقيف ، فقال : أيها اللك إنما نحن عبيدك ، سامعون لك مطيعون ، ليس لك عندنا خلاف ، وليس بيتنا هذا بالبيت الذي تريد ، يعنون اللات ، إنما تري البيت الذي بمكة ، يعنون الكعبة ، ونحن نبعث عك من يدلك . فتجاوز عنهم ، وبعثوا معهم أبا رغال ، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله المغس ، فلما أنزله به مات أبو رغال هناك ، فرجمت العرب قبره ، فهو القبر الذي ترجم الناس بالمغمس .
ولما نزل أبرهة المغمس بعث رجلاً من الحبشة ، يقال له الأسود بن مقصود على خيل له حتى انتهى إلى كة ، فساق إليه أموال مكة من قريش وغيرهم ، وأصاب فيها مئتي بعير لعبد المطلب بن هاش ، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها ، وهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان معهم بالحرم من سائر الناس بقتاله ، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به ، فتركوا ذلك ، وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة ، وقال له : سل عن ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به ، فتركوا ذلك ، وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة ، وقال له : سل عن سيد هذا البلد وشريفهم ، ثم قل له : إن الملك يقول لكم : إني لم آت لحربكم ، إنما جئت لهدم البيت ، فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم ، فإن لم يرد حربي فأتني به .
فلما دخل حناطة مكة ، سأل عن سيد قريش وشريفها ، فقيل : عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن قصي ، فجاءه ، فقال له ما أمره بن أبرهة ، قال له عبد المطلب : والله ام نريد حربه ، وما لنا بذلك من طاقة ، هاذ بيت الله الحرام ، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام ، أو كما قال ، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه ، وإن يخل بينه وبينه ، فوالله مام عندنا له من دافع عنه ، أو كما قال ، فقال له حناطة : فانطلق إلى الملك ، فإنه قد أمرني أن آتيه بك ، فانطلق معه عب المطلب ، ومعه بعض بنيه ، حتى أتى العسكر ، فسأل عن ذي نفر ، وكان له صديقاً ، فدل عليه ، فجاءه وهو في محبسه ، فقال : يا ذا نفر ، هل عندك غناء فما نزل بنا ؟ فقال له ذو نفر ، وكان له صديقاً : وما غناء رجل أسير في يدي ملك ينتظر أن يقتله غدواً أو عشياً ؟ ما عندي غناء في شيء مما نزل بك إلا أن أنيساً سائق الفيل لي حديث ، فسأرسل إليه ، فأوصيه بك ، وأغظم عليه حقك ، وأسأله أن يستأذن لك على الملك ، فتكلمه بما تريد ، ويشفع لك عنده بخير ، إن قدر على ذلك حقك ، وأسأله أن يستأذن لك على الملك ، فتكلمه بما تريد ، ويشفع لك عنده بخير ، إن قر على ذلك . قال : حسبي . فبعث ذو نفر إلى أنيس ، فجاء به ، فقال : يا أنيس إن عبد المطلب سيد قريش ، وصاحب عير كة ، يطعم الناس بالسهل والوحوش في رءوس الجبال ، وقد أصاب اللك له مئتي بعير ، فاستأذن له علهي ، وانفعه عنده بما استطعت ، فقال : أفعل .
فكلم أنيس أبرهة ، فقال : أيها الملك ، هذا سيد قريش ببابك ، يستأذن علك ، وهو صاحب عير مكة ، يطعم الناس بالسهل ، والوحوش في رءوس الجبال ، فأذن له عليك ، فليكلمك بحاجته ، وأحسن إليه قال : فأذن له أبرهة ، وكان عبد المطلب رجلاً عظيماً وسياً جسيمماً ، فلما فرآه أبرهة أجله وأكرمه أن يجلس تحته ، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير لكه ، فنزل أبرهة عن سريره ، فجلس على بساطه ، فأجلسه عه عليه إلى جنبه ، ثم قال لتوجمانه :قل له ما حاجتك إلى الملك، فقال له ذلك الترجمان ، فقال له عبد المطلب : حاجتي إلى اللك أن يرد علي مئتي بعير أصابها لي ، فلما قال له ذلك ، قال أبرهة لترجمانه : قل له : قد كنت أعجبتني حين رايتك ، ثم زهدت فيك حين كلمتني ، أتكلني في مئتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه فلا تكلني فيه ؟ قال له عبد المطلب : إني أنا رب الإبل وإن للبيت رباً سيمنعه ، قال : ما كان ليمنع نمي ، قال : فأنت وذاك ، اردد إلي إبلي .
وكان فيما زعم بعض أهل العلم قد ذهب عليه الصلاة والسلام عبد المطلب إلى أبرهة حين بعث إليه حناطة بعمر بن نفائة بن عي بن الديل بن بكر بن عبد مناف بن كنانة ، وهو يومئذ سيد بني كنانة ، و خويلد بن وائلة الهذلي وهو يومئذ سيد هذيل ، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة ، على أن يرجع عنهم ، ولا يعدم البيت ، فأبى عليهم ، والله أعلم .
وكان أبرهة ، قد رد على عبد المطلب الإبل التي أصاب له ، فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش ، فأخبرهم الخبر ، وأمرهم بالخروج من مكة ، والتحرز في شعف الجبال والشعاب ، تخوفاً عليهم من معرة الجيش ، ثم قام عبد المطلب ، فأخذ بحلقة الباب ، باب الكعبة ، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ، ويستصرونه على أبرهة وجنده ، فقال عبد المطلب ، وهو آخذ بحلقة باب الكعبة .
يا رب لا أرجو له سواكا
يا رب فامنع نهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا
انعهم أن يخربوا قراكا .
وقال أيضاً .
لا هم إن العبد يمنع رحله فانع حلالك .
لا يغلبن صليبهم ومحالهم غدوا محالك
فلئن فعلت فربما أولى فأمر ما بدا لك
ولئن فعلت فإنه أمر تتم به فعالك
وقال أيضاً :
وكنت إذا أتى باغ بسلم نرجي أن تكون لنا كذلك
فولوا لم ينلوا غير خزي وكان الحين يهلكهم هنالك
ولم أسمع بأرجس من رجال أرادوا العز فانتهكوا حرامك
جروا جموع بلادهم والفيل كي يسبوا عيالك
ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة ، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال ، فتحرزوا فيها ، ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها ، فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة ، وهيأ فيله ، وعبا جيشه ، وكان اسم الفيل محموداً ، وأبرهة جمع لهدم البيت ، ثم الانصراف إلى اليين ، فلما وجهوا الفيل ، أقبل نفيل بن حبيب الخثعي ، حتى قام إلى جنبه ، ثم أخذ بأذنه فقال : ابرك محمود ، وارجع راشداً من حيث جئت ، فإنك في بلد الله الحرام ، ثم أرسل أذنه ، فبرك الفيل ، وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد في الجبل . وضربوا الفيل ليقوم فأبى ، وضربوا في رأسه بالطبرزين ليقومم فأبى ، فأدخلوا محاجن لهم في مرافه ، فبرزغوه بها ليقول ، فأبى ، فوجهوه راجعاً إلى اليمين ، فقام يهرول ، ووجهوه إلى الشام ، ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى المشرق ، ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى مكة فبرك ، وأرسل الله عليهم طيراً من البحر ، أمثال الخطاطيف ، مع كل طير ثلاثة أحجار يحلها : حجر في منقاره ، وحجران في رجليه ثل الحمص والعدس ، لا يصيب منهم أحد إلا هلك ، وليس كلهم أصابت ، وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا ويسألون عن نفيل بن حبيب ، ليدلهم على الطريق إلى اليمين ، فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته :
أين المفر والإله الطالب والأشرم المغلوب غير الغالب
فخرجوا يتساقطون بكل طريق ، ويهلكون على كل منهل ، فاصيب ابرهة في جسده ، وخرجوا به عهم فسقطت أنامله أنملة أنملة ، كلما سقطت أنملة أتبعتها مدة تمث قيحاً ودماً ، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ طير ، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون .
حدثنا ابن حميد ، قال ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يعقوب بن عتبة نب المغيرة بن الأخنس ، أنه حدث أن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام ، وأنه أول ما رؤي بها مرار الشجر : الحرمل والحنظل والعشر ، ذلك العام .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :ثنا سعيد ، عن قتادة قوله " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " أقبل أبرهة الأشرم من الحبشة يوماً ومن معه من عداد أهل اليمين إلى بيت الله ليهدمه من أجل بيعة لهم أصابها العرب بأرض اليمن ، فأقبلوا بفيلهم ، حتى إذا كانوا بالصفاح برك ، فكانوا إذا وجهوه إلى بيت الله ألقى بجرانه الأرض ، وإذا وجهوه إلى بلدهم انطلق وله هرولة ، حتى إذا كان بنخلة اليانية بعث الله عليهم طيراً أبابيل ، والأبابيل : الكثيرة ، مع كل طير ثلاثة أحجار : حجران في رجليه ، وحجر في منقاره ، فجعلت ترميهم بها حتى جعلهم الله عز وجل كعصف مأكول ، قال : فنجا أبو يكسوم وهو أبرهة ، فجعل كلما قدم أرضاً تساقط بعص لحمه ، حتى أتى قومه ، فأخبرهم الخبر ثم هلك .
قوله تعالى:" ترميهم بحجارة من سجيل"
في الصحاح: (حجارة من سجيل) قالوا: حجارة من طين، طبخت بنار جهنم، مكتوب فيها أسماء القوم، لقوله تعالى:" لنرسل عليهم حجارة من طين * مسومة" [الذاريات:33-34]. وقال عبد الرحمن بن أبزي: (من سجيل): من السماء، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط. وقيل من الجحيم. وهي (سجين) ثم أبدلت اللام نوناً، كما قالوا في أصيلان أصيلال. قال ابن مقبل:
ضرباً تواصت به الأبطال سجينا
وإنما هو: سجيلاً. وقال الزجاج: " من سجيل" أي مما كتب عليهم أن يعذبوا به، مشتق من السجل. وقد مضى القول في سجيل في (هود) مستوفى. قال عكرمة: كانت ترميهم بحجارة معها، فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجدري لم ير قبل ذلك اليوم. وكان الحجر كالحمصة وفوق العدسة. وقال ابن عباس: كان الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده، فكان ذلك أول الجدري. وقراءة العامة" ترميهم" بالتاء، لتأنيث جماعة الطير. وقرأ الأعرج وطلحة (يرميهم) بالياء، أي يرميهم الله، دليله قوله تعالى:" ولكن الله رمى" [الأنفال:17] ويجوز أن يكون راجعاً إلى الطير، لخلوها من علامات التأنيث، ولأن تأنيثها غير حقيقي.
هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة, ومحو أثرها من الوجود فأبادهم الله وأرغم أنوفهم وخيب سعيهم وأضل عملهم, وردهم بشر خيبة, وكانوا قوماً نصارى وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالاً مما كان عليه قريش من عبادة الأوثان, ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال ولسان حال القدر يقول: لم ننصركم يا معشر قريش على الحبشة لخيرتكم عليهم, ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سنشرفه ونعظمه ونوقره ببعثة النبي الأمي محمد صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء.
وهذه قصة أصحاب الفيل على وجه الإيجاز والاختصار والتقريب: قد تقدم في قصة أصحاب الأخدود أن ذا نواس, وكان آخر ملوك حمير وكان مشركاً وهو الذي قتل أصحاب الأخدود, وكانوا نصارى وكانوا قريباً من عشرين ألفاً فلم يفلت منهم إلا دوس ذو ثعلبان فذهب فاستغاث بقيصر ملك الشام, وكان نصرانياً, فكتب له إلى النجاشي ملك الحبشة لكونه أقرب إليهم, فبعث معه أميرين أرياط وأبرهة بن الصباح أبا يكسوم في جيش كثيف, فدخلوا اليمن فجاسوا خلال الديار واستلبوا الملك من حمير وهلك ذو نواس غريقاً في البحر, واستقل الحبشة بملك اليمن وعليهم هذان الأميران أرياط وأبرهة, فاختلفا في أمرهما وتصاولا وتقاتلا وتصافا فقال أحدهما للاخر: إنه لا حاجة بنا إلى اصطدام الجيشين بيننا ولكن ابرز إلي وأبرز إليك, فأينا قتل الاخر استقل بعده بالملك, فأجابه إلى ذلك فتبارزا وخلف كل واحد منهما قناة, فحمل أرياط على أبرهة فضربه بالسيف فشرم أنفه وفمه وشق وجهه, وحمل عتودة مولى أبرهة على أرياط فقتله ورجع أبرهة جريحاً فداوى جرحه فبرأ واستقل بتدبير جيش الحبشة باليمن.
فكتب إليه النجاشي يلومه على ما كان منه ويتوعده ويحلف ليطأن بلاده ويجزن ناصيته, فأرسل إليه أبرهة يترفق له ويصانعه وبعث مع رسوله بهدايا وتحف وبجراب فيه من تراب اليمن وجز ناصيته, فأرسلها معه ويقول في كتابه ليطأ الملك على هذا الجراب فيبر قسمه, وهذه ناصيتي قد بعثت بها إليك فلما وصل ذلك إليه أعجبه منه ورضي عنه وأقره على عمله, وأرسل أبرهة يقول للنجاشي إني سأبني لك كنيسة بأرض اليمن لم يبن قبلها مثلها, فشرع في بناء كنيسة هائلة بصنعاء رفيعة البناء عالية الفناء مزخرفة الأرجاء سمتها العرب القليس لارتفاعها لأن الناظر إليها تكاد تسقط قلنسوته عن رأسه من ارتفاع بنائها, وعزم أبرهة الأشرم على أن يصرف حج العرب إليها كما يحج إلى الكعبة بمكة, ونادى بذلك في مملكته فكرهت العرب العدنانية والقحطانية ذلك, وغضبت قريش لذلك غضباً شديداً حتى قصدها بعضهم وتوصل إلى أن دخلها ليلاً, فأحدث فيها وكر راجعاً, فلما رأى السدنة ذلك الحدث رفعوا أمره إلى ملكهم أبرهة, وقالوا له إنما صنع هذا بعض قريش غضباً لبيته الذي ضاهيت هذا به, فأقسم أبرهة ليسيرن إلى بيت مكة وليخربنه حجراً حجراً.
وذكر مقاتل بن سليمان أن فتية من قريش دخلوها فأججوا فيها ناراً وكان يوماً فيه هواء شديد, فاحترقت وسقطت إلى الأرض, فتأهب أبرهة لذلك وسار في جيش كثيف عرمرم لئلا يصده أحد عنه, واستصحب معه فيلاً عظيماً كبير الجثة لم ير مثله, يقال له محمود, وكان قد بعثه إليه النجاشي ملك الحبشة لذلك, ويقال كان معه أيضاً ثمانية أفيال, وقيل اثنا عشر فيلاً غيره فالله أعلم. يعني ليهدم به الكعبة بأن يجعل السلاسل في الأركان وتوضع في عنق الفيل ثم يزجر ليلقي الحائط جملة واحدة, فلما سمعت العرب بمسيره أعظموا ذلك جداً ورأوا أن حقاً عليهم المحاجبة دون البيت, ورد من أراده بكيد, فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر, فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله, وما يريده من هدمه وخرابه, فأجابوه وقاتلوا أبرهة فهزمهم لما يريده الله عز وجل من كرامة البيت وتعظيمه وأسر ذو نفر, فاستصحبه معه ثم مضى لوجهه حتى إذا كان بأرض خثعم اعترض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قومه شهران وناهس فقاتلوه, فهزمهم أبرهة وأسر نفيل بن حبيب فأراد قتله ثم عفا عنه واستصحبه معه ليدله في بلاد الحجاز.
فلما اقترب من أرض الطائف خرج إليه أهلها ثقيف وصانعوه خيفة على بيتهم الذي عندهم الذي يسمونه اللات, فأكرمهم وبعثوا معه أبا رغال دليلاً, فلما انتهى أبرهة إلى المغمس وهو قريب من مكة نزل به. وأغار جيشه على سرح أهل مكة من الإبل وغيرها فأخذوه, وكان في السرح مائتا بعير لعبد المطلب, وكان الذي أغار على السرح بأمر أبرهة أمير المقدمة, وكان يقال له الأسود بن مقصود فهجاه بعض العرب فيما ذكره ابن إسحاق , وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وأمره أن يأتيه بأشرف قريش وأن يخبره أن الملك لم يجى لقتالكم إلا أن تصدوه عن البيت, فجاء حناطة فدل على عبد المطلب بن هاشم وبلغه عن أبرهة ما قال, فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة, هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه, وإن يخل بينه وبينه فو الله ما عندنا دفع عنه, فقال له حناطة فاذهب معي إليه, فذهب معه.
فلما رآه أبرهة أجله, وكان عبد المطلب رجلاً جسيماً حسن المنظر, ونزل أبرهة عن سريره وجلس معه على البساط وقال لترجمانه: قل له ما حاجتك ؟ فقال للترجمان: إن حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي, فقال أبرهة لترجمانه: قل له لقد كنت أعجبتني حين رأيتك, ثم قد زهدت فيك حين كلمتني, أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه ؟ فقال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل وإن للبيت رباً سيمنعه. قال: ما كان ليمتنع مني. قال: أنت وذاك, ويقال إنه ذهب مع عبد المطلب جماعة من أشراف العرب فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عن البيت, فأبى عليهم ورد أبرهة على عبد المطلب إبله, ورجع عبد المطلب إلى قريش فأمرهم بالخروج من مكة والتحصن في رؤوس الجبال تخوفاً عليهم من معرة الجيش, ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة, وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرون على أبرهة وجنده, فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لا هم إن المرء يمـ ــنع رحله فامنع حالك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبداً محالك
قال ابن إسحاق : ثم أرسل عبد المطلب حلقة الباب ثم خرجوا إلى رؤوس الجبال, وذكر مقاتل بن سليمان أنهم تركوا عند البيت مائة بدنة مقلدة لعل بعض الجيش ينال منها شيئاً بغير حق فينتقم الله منهم, فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله, وكان اسمه محموداً, وعبأ جيشه فلما وجهوا الفيل نحو مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنبه, ثم أخذ بإذنه وقال: ابرك محمود وارجع راشداً من حيث جئت, فإنك في بلد الله الحرام ثم أرسل أذنه فبرك الفيل وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد في الجبل, وضربوا الفيل ليقوم فأبى, فضربوا في رأسه بالطبرزين وأدخلوا محاجن لهم في مراقه فنزعوه بها ليقوم فأبى, فوجهوه راجعاً إلى اليمن فقام يهرول, ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك, ووجهوه إلى مكة فبرك. وأرسل الله عليهم طيراً من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس ولا يصيب منهم أحداً إلا هلك. وليس كلهم أصابت وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق ويسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق, هذا ونفيل على رأس الجبل مع قريش وعرب الحجاز ينظرون ماذا أنزل الله بأصحاب الفيل من النقمة, وجعل نفيل يقول:
أين المفر والإله الطالب والأشرم المغلوب ليس الغالب
قال ابن اسحاق وقال نفيل في ذلك أيضاً:
ألا حييت عنايا ودينا نعمناكم مع الإصباح عينا
ودينة لو رأيت ولا تريه لدى جنب المحصب ما رأينا
إذاً لعذرتني وحمدت أمري ولم تأس على ما فات بينا
حمدت الله إذ أبصرت طيراً وخفت حجارة تلقى علينا
فكل القوم تسأل عن نفيل كأن علي للحبشان دينا
وذكر الواقدي بإسناده أنهم لما تعبئوا لدخول الحرم وهيئوا الفيل جعلوا لا يصرفونه إلى جهة من سائر الجهات إلا ذهب فيها, فإذا وجهوه إلى الحرم ربض وصاح, وجعل أبرهة يحمل على سائس الفيل وينهره ويضربه ليقهر الفيل على دخول الحرم, وطال الفصل في ذلك, هذا وعبد المطلب وجماعة من أشراف مكة فيهم المطعم بن عدي وعمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم ومسعود بن عمرو الثقفي على حراء ينظرون ما الحبشة يصنعون, وماذا يلقون من أمر الفيل وهو العجب العجاب, فبينما هم كذلك إذ بعث الله عليهم طيراً أبابيل أي قطعاً قطعاً صفراً دون الحمام وأرجلها حمر, ومع كل طائر ثلاثة أحجار وجاءت فحلقت عليهم وأرسلت تلك الأحجار عليهم فهلكوا. وقال محمد بن كعب جاؤوا بفيلين فأما محمود فربض وأما الاخر فتشجع فحصب.
وقال وهب بن منبه : كان معهم فيلة فأما محمود وهو فيل الملك فربض ليقتدي به بقية الفيلة, وكان فيها فيل تشجع فحصب فهربت بقية الفيلة. وقال عطاء بن يسار وغيره. ليس كلهم أصابه العذاب في الساعة الراهنة بل منهم من هلك سريعاً ومنهم من جعل يتساقط عضواً عضواً وهم هاربون, وكان أبرهة ممن تساقط عضواً عضواً حتى مات ببلاد خثعم وقال ابن إسحاق : فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون على كل منهل وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة حتى قدموا به صنعاء, وهو مثل فرخ الطائر, فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون. وذكر مقاتل بن سليمان أن قريشاً أصابوا مالاً جزيلاً من أسلابهم وما كان معهم, وأن عبد المطلب أصاب يومئذ من الذهب ما ملأ حفرة. قال ابن اسحاق : وحدثني يعقوب بن عتبة أنه حدث أن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام, وأنه أول ما رؤي به مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعشر ذلك العام, وهكذا روي عن عكرمة من طريق جيد.
قال ابن أسحاق : فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم كان فيما يعد به على قريش من نعمته عليهم وفضله مارد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم فقال: "ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأرسل عليهم طيراً أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل * فجعلهم كعصف مأكول" "لإيلاف قريش * إيلافهم رحلة الشتاء والصيف * فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" أي لئلا يغير شيئاً من حالهم التي كانوا عليها لما أراد الله بهم من الخير لو قبلوه.
قال ابن هشام : الأبابيل الجماعات ولم تتكلم العرب بواحدة. قال: وأماالسجيل فأخبرني يونس النحوي وأبو عبيدة أنه عند العرب الشديد الصلب. قال: وذكر بعض المفسرين أنهما كلمتان بالفارسية جعلتهما العرب كلمة واحدة, وإنما هو سنج وجل يعني بالسنج الحجر والجل الطين. يقول الحجارة من هذين الجنسين الحجر والطين. قال: والعصف ورق الزرع الذي لم يقضب واحدته عصفة, انتهى ما ذكره, وقد قال حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله وأبو سلمة بن عبد الرحمن "طيراً أبابيل" قال الفرق, وقال ابن عباس والضحاك : أبابيل يتبع بعضها بعضاً. وقال الحسن البصري وقتادة : الأبابيل الكثيرة. وقال مجاهد : أبابيل شتى متتابعة مجتمعة وقال ابن زيد الأبابيل المختلفة تأتي من ههنا ومن ههنا أتتهم من كل مكان, وقال الكسائي : سمعت بعض النحويين يقول: واحد الأبابيل إبيل.
وقال ابن جرير : حدثني عبد الأعلى , حدثني داود عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل أنه قال في قوله تعالى: " وأرسل عليهم طيرا أبابيل " هي الأقاطيع كالإبل المؤبلة, وحدثنا أبو كريب : حدثنا وكيع عن ابن عون عن ابن سيرين عن ابن عباس "وأرسل عليهم طيراً أبابيل" قال: لهم خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الكلب. وحدثنا يعقوب بن إبراهيم : حدثنا هشيم , أخبرنا حصين عن عكرمة في قوله تعالى: "طيراً أبابيل" قال: كانت طيراً خضراً خرجت من البحر لها رؤوس كرؤوس السباع وحدثنا ابن بشار : حدثنا ابن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن أبي سفيان عن عبيد بن عمير "طيراً أبابيل" قال: هي طيور سود بحرية في مناقيرها وأظافرها الحجارة, وهذه أسانيد صحيحة.
وقال سعيد بن جبير : كانت طيراً خضراً لها مناقير صفر تختلف عليهم, وعن ابن عباس ومجاهد وعطاء : كانت الطير الأبابيل مثل التي يقال لها عنقاء مغرب. ورواه عنهم ابن أبي حاتم : وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة , حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة , حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن عبيد بن عمير قال: لما أراد الله أن يهلك أصحاب الفيل بعث عليهم طيراً أنشئت من البحر أمثال الخطاطيف كل طير منها يحمل ثلاثة أحجارمجزعة حجرين في رجليه وحجراً في منقاره, قال: فجاءت حتى صفت على رؤوسهم ثم صاحت وألقت ما في أرجلها ومناقيرها, فما يقع حجر على رأس رجل إلا خرج من دبره, ولا يقع على شيء من جسده إلا خرج من الجانب الاخر, وبعث الله ريحاً شديدة فضربت الحجارة فزادتها شدة فأهلكوا جميعاً, وقال السدي عن عكرمة عن ابن عباس : حجارة من سجيل, قال طين في حجارة سنك وكل وقد قدمنا بيان ذلك بما أغنى عن إعادته ههنا.
وقوله تعالى: "فجعلهم كعصف مأكول" قال سعيد بن جبير : يعني التبن الذي تسميه العامة هبور, وفي رواية عن سعيد : ورق الحنطة, وعنه أيضاً: العصف التبن والمأكول القصيل يجز للدواب, وكذلك قال الحسن البصري , وعن ابن عباس : العصف القشرة التي على الحبة كالغلاف على الحنطة.
وقال ابن زيد : العصف ورق الزرع وورق البقل إذا أكلته البهائم فراثته فصار دريناً والمعنى أن الله سبحانه وتعالى أهلكهم ودمرهم بكيدهم وغيظهم, لم ينالوا خيراً, وأهلك عامتهم ولم يرجع منهم مخبر إلا وهو جريح كما جرى لملكهم أبرهة فإنه انصدع صدره عن قلبه حين وصل إلى بلده صنعاء, وأخبرهم بما جرى لهم ثم مات فملك بعده ابنه يكسوم ثم من بعده أخوه مسروق بن أبرهة, ثم خرج سيف بن ذي يزن الحميري إلى كسرى فاستعانه على الحبشة فأنفذ معه من جيوشه فقاتلوا معه فرد الله إليهم ملكهم, وما كان في آبائهم من الملك وجاءته وفود العرب بالتهنئة, وقد قال محمد بن إسحاق : حدثنا عبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة عن عائشة قالت: لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان ورواه الواقدي عن عائشة مثله, ورواه أيضاً عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: كانا مقعدين يستطعمان الناس عند أساف ونائلة حيث يذبح المشركون ذبائحهم.
(قلت): كان اسم قائد الفيل أنيساً. وقد ذكر الحافظ أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة من طريق ابن وهب عن ابن لهيعة عن عقيل بن خالد عن عثمان بن المغيرة قصة أصحاب الفيل, ولم يذكر أن أبرهة قدم من اليمن وإنما بعث على الجيش رجلاً يقال له شمر بن مقصود, وكان الجيش عشرين ألفاً, وذكر أن الطير طرقتهم ليلاً فأصبحوا صرعى, وهذا السياق غريب جداً وإن كان أبو نعيم قد قواه ورجحه على غيره, الصحيح أن أبرهة الأشرم الحبشي قدم مكة كما دل على ذلك السياقات والأشعار, وهكذا روي عن ابن لهيعة عن الأسود عن عروة أن أبرهة بعث الأسود بن مقصود على كتيبة معهم الفيل, ولم يذكر قدوم أبرهة نفسه, والصحيح قدومه ولعل ابن مقصود كان على مقدمة الجيش والله أعلم. ثم ذكر ابن إسحاق شيئاً من أشعار العرب فيما كان من قصة أصحاب الفيل فمن ذلك شعر عبد الله بن الزبعري :
تنكلوا عن بطن مكة إنها كانت قديماً لا يرام حريمها
لم تخلق الشعرى ليالي حرمت إذ لا عزيز من الأنام يرومها
سائل أمير الجيش عنها ما رأى فلسوف ينبي الجاهلين عليمها
ستون ألفاً لم يؤوبوا أرضهم بل لم يعش بعد الإياب سقيمها
كانت بها عاد وجرهم قبلهم والله من فوق العباد يقيمها
وقال أبو قيس بن الأسلت الأنصاري المدني :
ومن صنعه يوم فيل الحبو ش إذ كل ما بعثوه رزم
محاجنهم تحت أقرابه وقد شرموا أنفه فانخرم
وقد جعلوا سوطه مغولا إذا يمموه قفاه كلم
فولى وأدبر أدراجه وقد باء بالظلم من كان ثم
فأرسل من فوقهم حاصباً يلفهم مثل لف القزم
يحض على الصبر أحبارهم وقد ثأجوا كثؤاج الغنم
وقال أبو الصلت بن ربيعة الثقفي , ويروى لأمية بن أبي الصلت بن أبي ربيعة :
إن آيات ربنا باقيات ما يماري فيهن إلا الكفور
خلق الليل والنهار فكل مستبين حسابه مقدور
ثم يجلو النهار رب رحيم بمهاة شعاعها منشور
حبس الفيل بالمغمس حتى صار يحبو كأنه معقور
لازماً حلقه الجران كما قطر من ظهر كبكب محذور
حوله من ملوك كندة أبطال ملاويث في الحروب صقور
خلفوه ثم ابذعروا جميعاً كلهم عظم ساقه مكسور
كل دين يوم القيامة عند الله إلا دين الحنيفة بور
وقد قدمنا في تفسير سورة الفتح " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أطل يوم الحديبية على الثنية التي تهبط به على قريش بركت ناقته فزجروها فألحت, فقالوا: خلأت القصواء أي حرنت, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل ـ ثم قال ـ والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم إليها ثم زجرها فقامت " . والحديث من أفراد البخاري وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: "إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين, وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ألا فليبلغ الشاهد الغائب". آخر تفسير سورة الفيل, ولله الحمد والمنة.
4- "ترميهم بحجارة من سجيل" الجملة في محل نصب صفة لطير. قرأ الجمهور "ترميهم" بالفوقية. وقرأ أبو حنيفة وأبو معمر وعيسى وطلحة بالتحتية، واسم الجمع يذكر ويؤنث. وقيل: الضمير في القراءة الثانية لله عز وجل. قال الزجاج: "من سجيل" أي مما كتب عليهم العذاب به، مشتقاً من السجل. قال في الصحاح قالوا: هي حجارة من طين طبخت بنار جهنم مكتوب فيها أسماء القوم. قال عبد الرحمن بن أبزى: "من سجيل" من السماء، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط، وقيل: من الجحيم التي هي سجين، ثم أبدلت النون لاماً، ومنه قول ابن مقبل:
ضرباً تواصت به الأبطال سجيلا
وإنما هو سجيناً. قال عكرمة: كانت ترميهم بحجارة معها، فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجدري، وكان الحجر كالحمصة وفوق العدسة، وقد قدمنا الكلام في سجيل في سورة هود.
4- "ترميهم بحجارة من سجيل"، قال ابن عباس وابن مسعود: صاحت الطير ورمتهم بالحجارة، فبعث الله ريحاً فضربت الحجارة فزادتها شدة فما وقع منها حجر على رجل إلا خرج على الجانب الآخر، وإن وقع على رأسه خرج من دبره.
4-" ترميهم بحجارة " وقرئ بالياء على تذكير الطير لأنه اسم جمع ، أو إسناده إلى ضمير ربك " من سجيل " من طين متحجر معرب سنككل وقيل من السجل وهو الدلو الكبير ، أو الاسجال وهو الارسال ، أو من السجل ومعناه من جملة العذاب المكتوب المدون .
4. Which pelted them with stones of baked clay
4 - Striking them with stones of baked clay.